الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نطافاناسطلس خمسا وعشرين سنة، ثم أساراثون تسع سنين، ثم ملك فسامرس عشر سنين، ثم أوفاينواس أربعا وأربعين سنة، ثم ساياقور اثنتي عشرة سنة، ثم سخس الحبشي اثنتي عشرة سنة ثم طراحوش الحبشي عشرين سنة، ثم أمراس الحبشي اثنتي عشرة سنة، ثم استطافينياس سبع سنين، ثم باخفاسوس ست سنين، ثم ياخو ثمان سنين، ثم فساماملطيقوش أربعا وأربعين سنة، ثم بحنوقا ست سنين، ثم فسامرتاس سبع عشرة سنة، ثم وافرس خمسا وعشرين سنة، ثم أماسلس اثنتين وأربعين سنة.
وملك بعد هؤلاء: مصر خمسة ملوك من ملوك بابل، وهم: أمرطيوش ست سنين، ثم ما فرطاس سبع سنين، ثم أوخرس اثنتي عشرة سنة، ثم فساموت مدّة سنتين، ثم ملك موتاطوس سبع سنين.
ثم ملك ثلاثة ملوك من أثور، وهم: الجرامقة الذين ملكوا الموصل والجزيرة، وهم:
نافاطانبوش ثلاث عشرة سنة، ثم طوس سبع سنين، ثم نافاطانيناس ثمان عشرة سنة.
ثم انتقل ملك مصر منهم: إلى الإسكندر بن فيليبس اليوناني، وهذه أسماء رومية، ولعلها أو بعضها متداخل فيما تقدّم ذكره ممن ملك بعد دلوكة.
وبين بخت نصر، وبين الطوفان ألفا سنة وثلثمائة وست وخمسون سنة وأشهر، ويجتمع من حساب ما وقع في التوراة، أنّ بين الطوفان، وبين خراب بيت المقدس على يد بخت نصر من السنين، ألفا وستمائة وأربعا وثمانين سنة، وهذا خلاف ما نقله المسعوديّ، والله تعالى أعلم بالصواب.
ذكر مدينة الإسكندرية
هذه المدينة من أعظم مدائن الدنيا وأقدمها وضعا، وقد بنيت غير مرّة، فأوّل ما بنيت بعد كون الطوفان في زمان مصرايم بن بيصر بن نوح، وكان يقال لها: إذ ذاك مدينة رقودة، ثم بنيت بعد ذلك مرّتين.
فلما كان في أيام اليونانيين، جدّدها الإسكندر بن فيليبس المقدونيّ الذي قهر دارا، وملك ممالك الفرس بعد تخريب بخت نصر مدينة منف، بمائة وعشرين سنة شمسية، فعرفت به، ومنذ جدّدها الإسكندر المذكور انتقل تخت المملكة من مدينة منف إلى الإسكندرية، فصارت دار المملكة بديار مصر، ولم تزل على ذلك حتى ظهر دين الإسلام، وقدم عمرو بن العاص بجيوش المسلمين، وفتح الحصن والإسكندرية، وصارت ديار مصر أرض إسلام، فانتقل تخت الملك حينئذ من الإسكندرية إلى فسطاط مصر، وصار الفسطاط من بعد الإسكندرية دار مملكة ديار مصر.
وسأقص عليك من أخبار الإسكندرية ما وصل إليه علمي، إن شاء الله تعالى.
ذكر أبو الحسن المسعوديّ في كتاب أخبار الزمان: أنّ الكوكة، وهي أمّة في غابر الدهر من أهل أيلة ملكوا الأرض وقسموها على ثلاثين كورة، وأربعة أقسام، كل قسم عمل، وبنوا في كل عمل، مدينة بها ملك يجلس على منبر من ذهب، وله بربا، وهي بيت الحكمة، وله هيكل على اسم كوكب فيه أصنام من ذهب، وجعلوا الإسكندرية واسمها رقودة، خمس عشرة كورة، وجعلوا فيها كبار الكهنة، ونصبوا في هياكلها من أصنام الذهب أكثر مما نصبوا في غيرها، فكان ما بها مائتا صنم من ذهب، وقسموا الصعيد ثمانين كورة على أربعة أقسام وثلاثين مدينة فيها جميع العجائب.
وذكر بطليموس في كتاب الأقاليم ووصف الجزائر والبحار والمدن: أنّ مدينة الإسكندرية لبرج الأسد ودليلها المرّيخ، وساعاتها أربع عشرة ساعة، وطولها ستون درجة ونصف درجة يكون ذلك أربع ساعات مستوية وثلث عشر ساعة.
وقال ابن وصيف شاه في ذكر أخبار مصرايم بن بيصر بن نوح، وعلمهم أيضا عمل الطلسمات، وكانت تخرج من البحر دواب تفسد زرعهم وجنانهم وبنيانهم، فعملوا لها الطلسمات، فغابت، ولم تعد وبنوا على غير البحر مدنا منها مدينة رقودة مكان الإسكندرية، وجعلوا في وسطها قبة على أساطين من نحاس مذهب، والقبة مذهبة ونصبوا فوقها، مرآة من أخلاط شتى، قطرها خمسة أشبار وارتفاع القبة مائة ذراع، فكانوا إذا قصدهم قاصد من الأمم التي حولهم، فإن كان مما يهمهم، وكان من البحر عملوا لتلك المرآة عملا، فألقت شعاعها على ذلك الشيء فأحرقته، فلم تزل إلى أن غلب البحر عليها.
ويقال: إنّ الإسكندر إنما عمل المنارة تشبيها بها، وكان عليها أيضا مرآة يرى فيها من يقصدهم من بلاد الروم، فاحتال عليهم بعض ملوكهم، ووجه إليها من أزالها، وكانت من زجاج مدبر.
قال: وذكر بعض القبط أنّ رجلا من بني الكهنة الذين قتلهم، ايساد ملك مصر سار إلى ملك كان في بلاد الإفرنجة، فذكر له كثرة كنوز مصر وعجائبها، وضمن له أن يوصله إلى ملكها وأموالها ويرفع عنه أذى طلسماتها حتى يبلغ جميع ما يريد، فلما اتصل صا بن مرقونس أخي ايساد، وهو ملك مصر يومئذ، أنّ صاحب بلاد الإفرنجة يتجهز إليه عمد إلى جبل بين البحر الملح وشرقيّ النيل، فأصعد إليه أكثر كنوزه، وبنى عليها قبابا مصفحة بالرصاص، وظهر صاحب بلاد الإفرنجة في ألف مركب، فكان لا يمرّ بشيء من أعلام مصر ومنازلها إلا هدمه، وكسر الأصنام بمعونة ذلك الكاهن، حتى أتى الإسكندرية الأولى فعاث فيها، وفيما حولها وهدم أكثر معالمها إلى أن دخل النيل من ناحية رشيد، وصعد إلى منف، وأهل النواحي يحاربونه، وهو ينهب ما مرّ به، ويقتل ما قدر عليه إلى أن طلب المدائن الداخلة لأخذ كنوزها، فوجدها ممتنعة بالطلسمات الشداد، والمياه العميقة والخنادق
والشداخات، فأقام عليها أياما كثيرة، فلم يمكنه الوصول إليها وغضب على الكاهن، فقتله من أجل أنّ جماعة من أصحابه هلكوا، فاجتمع أهل النواحي، وقتلوا من أصحابه الذين بالمراكب خلقا، وأحرقوا بعض المراكب، وقام أهل مصر بسحرهم وتهاويلهم فأتت رياح أغرقت أكثر مراكبه حتى نجا بنفسه، وقد خرج فعاد الناس إلى منازلهم وقراهم، ورجع الملك صا إلى مدينة منف، وأقام بها، وتجهز لغزو بلدان الروم، وبعث إليها وخرّب الجزائر فهابته الملوك، وتتبع الكهنة فقتل منهم خلقا كثيرا، وأقام ملكا سبعا وستين سنة، ومات وعمره مائة وسبعون سنة، ودفن بمنف في وسطها تحت الأرض، ومعه الأموال والجواهر والتماثيل والطلسمات، كما فعل آباؤه منها: أربعة آلاف مثقال ذهبا على صور حيوانات برّية وبحرية، وتمثال عقاب من حجر أخضر، وتمثال تنين من ذهب، وزبروا عليها اسمه، وغلبته الملوك وسيرته، وعهد إلى ابنه تدراس.
قال: ولما جلست جورياق ابنة طوطيس، أوّل فراعنة مصر، وهو فرعون إبراهيم الخليل عليه السلام على سرير الملك بعد قتلها لأبيها، وعدت الناس بالإحسان، وأخذت في جمع الأموال، فاجتمع لها ما لم يجتمع لملك، وقدّمت الكهنة وأهل الحكمة، ورؤساء السحرة، ورفعت أقدارهم، وأمرت بتجديد الهياكل وصار من لم يرضها إلى مدينة أتريب، وملكوا عليها رجلا من ولد أتريب يقال له: إيداخس، فعقد على رأسه تاجا، واجتمع إليه جماعة، فأنفذت إليه جيشا فهزموه، وقتلوا أكثر أصحابه فهرب إلى الشام، وبها الكنعانيون فاستغاث بملكهم، فجهزه بجيش عظيم ففتحت جورياق الخزائن وفرّقت الأموال وقوّت السحر، فعملوا أعمالهم وتقدّم إيداخس بجيوش الكنعانيين، وعليها قائد منهم يقال له:
جيرون.
فلما نزلوا أرض مصر بعثت ظئرا لها من عقلاء النساء، إلى القائد سرّا عن إيداخس تعرّفه رغبتها في تزوّجه، وأنها لا تختار أحدا من أهل بيتها، وأنه إن قتل إيداخس تزوّجت به وسلمته ملك مصر، ففرح بذلك، وسمّ إيداخس بسمّ أنفذته إليه فقتله، وبعثت إليه بعد قتل إيداخس أنه لا يجوز أن أتزوّجك حتى يظهر قومك في بلدي، وتبني لي مدينة عجيبة، وكان افتخارهم حينئذ بالبنيان وإقامة الأعلام، وعمل العجائب، وقالت: انتقل من موضعك إلى غربيّ بلدي فثم آثار لنا كثيرة، فاقتف تلك الأعمال وابن عليها، ففعل، وبنى مدينة في صحراء الغرب، يقال لها: قيدومة، وأجرى إليها من النيل نهرا وغرس حولها غروسا كثيرة، وأقام بها منارا عاليا فوقه منظر مصفح بالذهب والفضة والزجاج والرخام، وهي تمدّه بالأموال وتكاتب صاحبه عنه وتهاديه، وهو لا يعلم.
فلما فرغ منها قالت له: إنّ لنا مدينة أخرى حصينة كانت لأوائلنا، وقد خرّبت منها أمكنة، وتشعث حصنها، فامض إليها واعمل في إصلاحها حتى أنتقل أنا إلى هذه المدينة
التي بنيتها، فإذا فرغت من إصلاح تلك المدينة، فانفذ إليّ جيشك حتى أصير إليك وأبعد عن مدينتي وأهل بيتي فإني أكره أن تدخل عليّ بالقرب منهم، فمضى، وجدّ في عمل الإسكندرية الثانية.
وأهل التاريخ يذكرون أنّ الذي قصدها الوليد بن دومع العمليقي ثاني الفراعنة، وكان سبب قصدها أنه كان به علة فوجه إلى الأقطار ليحمل إليه من مائها حتى يرى ما يلائمه، فوجه إلى مملكة مصر غلاما، فوقف على كثرة خيراتها، وحمل إليه من مائها وألطافها، وعاد إليه فعرّفه حال مصر، فسار إليها في جيش كثيف، وكاتب الملكة يخطبها لنفسه، فأجابته وشرطت عليه أن يبني لها مدينة يظهر فيها أيده وقوّته، ويجعلها لها مهرا، فأجابها وشق مصر إلى ناحية الغرب، فبعثت إليه أصناف الرياحين والفواكه وخلقت وجوه الدواب، فمضى إلى الإسكندرية، وقد خربت بعد خروج العادية منها فنقل ما كان من حجارتها ومعالمها وعمدها، ووضع أساس مدينة عظيمة، وبعث إليها مائة ألف فاعل، وأقام في بنائها مدّة، وأنفق جميع ما كان معه من المال وكلما بنى شيئا خرج من البحر دواب فتقلعه، فإذا أصبح لم يجد من البناء شيئا، فاهتم لذلك، وكانت جورياق قد أنفذت إليه ألف رأس من المعز اللبون يستعمل ألبانها في مطبخه، وكانت مع راع تثق به يرعاها هنالك، فكان إذا أراد أن ينصرف عند المساء خرجت إليه من البحر جارية حسناء، فتتوق نفسه إليها، فإذا كلمها شرطت عليه أن تصارعه، فإن صرعها، كانت له، وإن صرعته، أخذت من المعز رأسين، فكانت طول الأيام تصرعه، وتأخذ الغنم، حتى أخذت أكثر من نصفها وتغير باقيها لشغله بحبّ الجارية عن رعيها ونحل جسمه، فمرّ به صاحبه وسأله عن حاله، فأخبره الخبر خوفا من سطوته، فلبس ثياب الراعي، وتولى رعي الغنم يومه إلى المساء، فخرجت إليه الجارية وشرطت عليه الشرط، فأجابها وصارعها فصرعها وشدّها فقالت: إن كان ولا بدّ من أخذي، فسلمني لصاحبي الأول، فإنه ألطف بي وقد عذبته مدّة، فردّها إليه، وقال له: سلها عن هذا البنيان الذي نبنيه، ويزال من ليلته من يفعل ذلك؟ وهل في ثباته من حيلة؟ فسألها الراعي عن ذلك، فقالت: إنّ دواب البحر التي تنزع بنيانكم، فقال: فهل من حيلة؟ قالت:
نعم، تعملون توابيت من زجاج كثيف بأغطية، وتجعلون فيها أقواما يحسنون التصوير، ويكون معهم صحف وأنقاش، وزاد يكفيهم أياما وتحمل التوابيت في المراكب بعد ما تشدّ بالحبال فإذا توسطوا الماء أمروا المصوّرين أن يصوّروا جميع ما يمرّ بهم، ثم ترفع تلك التوابيت فإذا وقفتم على تلك الصور فاعملوا لها أشباها من صفر أو حجارة أو رصاص وانصبوها قدّام البنيان الذي تبنونه من جانب البحر، فإنّ تلك الدواب إذا خرجت، ورأت صورها هربت، ولم تعد، فعرّف الراعي صاحبه ذلك ففعله، وتمّ البنيان وبنى المدينة.
وقال قوم: إنّ صاحب البناء والغنم هو جيرون، كان قصدهم قبل الوليد، وإنما أتاهم الوليد بعد جورياق وقهرهم وملك مصر.
وذكروا: أنّ الأموال التي كانت مع جيرون نفدت كلها في تلك المدينة، ولم تتم، فأمر الراعي أن يخبر الجارية فقالت: إنّ في المدينة التي خربت ملعبا مستديرا حوله سبعة عمد على رؤوسها تماثيل من صفر قيام، فقرّب لكل تمثال منها ثورا سمينا، ولطخ العمود الذي تحته من دم الثور، وبخره بشعر من ذنبه، وشيء من نحاتة قرونه وأظلافه، وقل له:
هذا قربانك، فأطلق لي ما عندك، ثم قس من كل عمود إلى الجهة التي يتوجه إليها وجه التمثال، مائة ذراع، واحفر عند امتلاء القمر، واستقامة زحل، فإنك تنتهي بعد خمسين ذراعا إلى بلاطة عظيمة، فلطخها بمرارة الثور، وأقلها فإنك تنزل إلى سرب طوله، خمسون ذراعا في آخره خزانة مقفلة، ومفتاح القفل تحت عتبة الباب، فخذه ولطخ الباب ببقية المرارة ودم الثور وبخره بنحاتة قرونه وأظلافه وشعر ذنبه، وأدخل فإنه يستقبلك صنم في عنقه لوح من صفر مكتوب فيه جميع ما في الخزانة فخذ ما شئت ولا تعترض ميتا تجده ولا ما عليه، وكذلك كل عمود وتمثاله فإنك تجد مثل تلك الخزانة، وهذه نواويس سبعة من الملوك وكنوزهم، فلما سمع ذلك سرّ به، وامتثله فوجد ما لا يدرك وصفه، ووجد من العجائب شيئا كثيرا، فتمّ بناء المدينة وبلغ ذلك جورياق، فساءها وكانت قد أرادت إتعابه وهلاكه بالحيلة.
ويقال: إنه وجد فيما وجد درجا من ذهب مختوما فيه مكحلة زبرجد فيها ذرور أخضر، ومعها عرق أحمر من اكتحل من ذلك الذرور بالعرق، وكان أشيب عاد شابا واسودّ شعره، وأضاء بصره حتى يدرك الروحانيين، ووجد تمثالا من ذهب إذ ظهر غيمت السماء وأمطرت، وتمثال غراب من حجر إذا سئل عن شيء صوّت وأجاب عنه، ووجد في كل خزانة عشر أعجوبات.
فلما فرغ من بناء المدينة وجه إلى جورياق يحثها على القدوم إليه، فحملت إليه فرشا فاخرا ليبسطه في المجلس الذي يجلس فيه، وقالت له: اقسم جيشك أثلاثا، فانفذ إليّ ثلثه حتى إذا بلغت ثلث الطريق، فانفذ الثلث الآخر، فإذا جزت نصف الطريق، فانفذ الثلث الباقي ليكونوا من ورائي لئلا يراني أحد إذا دخلت عليك، ولا يكون عندك إلا صبية تثق بهم يخدمونك، فإني أوافيك في جوار تكفيك الخدمة، ولا أحتشمهنّ، ففعل.
وأقامت تحمل الجهاز إليه والأموال حتى علم بمسيرها فوجه إليها ثلث جيشه، فعملت لهم الأطعمة والأشربة المسمومة، وأنزلهم جواريها وحشمها، وقدّموا إليهم الأطعمة والأشربة، والطيب وأنواع اللهو، فلم يصبح منهم أحد حيا، وسارت فلقيها الثلث الآخر، ففعلت به مثل ذلك وهي توجه إليه أنها أنفذت جيشه إلى قصرها ومملكتها يحفظونهما، وسارت حتى دخلت عليه هي وظئرها وجواريها، فنفخت ظئرها في وجهه نفخة بهت إليها، ورشت عليه ما كان معها، فارتعدت أعضاؤه وقال: من ظنّ أنه يغلب النساء، فقد كذبته
نفسه وغلبته النساء، ثم إنها فصدت عروقه وقالت: دماء الملوك شفاء، وأخذت رأسه ووجهت به إلى قصرها، ونصبته عليه وحوّلت تلك الأموال إلى مدينة منف، وبنت منارا بالإسكندرية، وزبرت عليه اسمها واسمه، وما فعلت به وتاريخ الوقت.
فلما بلغ خبرها الملوك هابوها وأطاعوها وهادوها، وعملت بمصر عجائب كثيرة، وبنت على حدّ مصر من ناحية النوبة حصنا، وقنطرة يجري ماء النيل من تحتها، واعتلت فقلدت ابنة عمها زلفى بنت مأمون وماتت.
وقال ابن خرداذبه: إنّ الإسكندرية بنيت في ثلثمائة سنة، وأنّ أهلها مكثوا سبعين سنة لا يمشون فيها بالنهار إلا بخرق سود مخافة على أبصارهم من شدّة بياض حيطانها ومنارتها العجيبة على سرطان زجاج في البحر، وإنه كان فيها سوى أهلها ستمائة ألف من اليهود خول لأهلها.
وقال ابن وصيف شاه: وكانت العمارة ممتدّة في رمال رشيد والإسكندرية إلى برقة فكان الرجل يسير في أرض مصر، فلا يحتاج إلى زاد لكثرة الفواكه والخيرات، ولا يسير إلا في ظلال تستره من حرّ الشمس، وعمل الملك صا بن قبطيم في تلك الصحاري قصورا، وغرس فيها غروسا وساق إليها من النيل أنهارا فكان يسلك من الجانب الغربيّ إلى حد الغرب في عمارة متصلة، فلما انقرض أولئك القوم بقيت آثارهم في تلك الصحارى، وخربت تلك المنازل وباد أهلها، ولا يزال من دخل تلك الصحارى يحكي ما رآه فيها من الآثار والعجائب.
وقال ابن عبد الحكم: وكان الذي بنى الإسكندرية، وأسس بناءها: ذو القرنين الروميّ، واسمه: الإسكندر، وبه سميت: الإسكندرية، وهو أوّل من عمل لوشى، وكان أبوه أوّل القياصرة، وقيل: إنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبا بن مرزبه اليونانيّ من ولد يونان بن يافث بن نوح صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان من أهل لوبية كورة من كور مصر الغربية، وقال ابن لهيعة: وأهلها روم ويقال: هو رجل من حمير. قال تبع:
قد كان ذو القرنين جدّي مسلما
…
ملكا تدين له الملوك بمحشد
بلغ المغارب والمشارق يبتغي
…
أسباب علم من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها
…
في عين ذي خلب وثأط حرمد
ويروى: قد كان ذو القرنين قبلي مسلما، وحدّثني عثمان بن صالح، حدّثني عبد الله بن وهب، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن سعد بن مسعود التجيبيّ، عن شيخين من قومه قالا: كنا بالإسكندرية فاستطلنا يومنا، فقلنا: لو انطلقنا إلى عقبة بن عامر نتحدّث عنده، فانطلقنا إليه فوجدناه جالسا في داره، فأخبرنا: إنا استطلنا يومنا، فقال: وأنا مثل ذلك! إنما خرجت حين استطلته، ثم أقبل علينا فقال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أخدمه، فإذا
أنا برجال من أهل الكتاب معهم مصاحف أو كتب فقالوا: استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرفت إليه، فأخبرته بمكانهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما لي ولهم يسألوني عما لا أدري إنما أنا عبد لا أعلم إلا ما علمني ربي» . ثم قال: «أبلغني وضوءا» فتوضأ، ثم قام إلى مسجد بيته، فركع ركعتين، فلم ينصرف حتى عرفت السرور في وجهه والبشر، ثم انصرف فقال: أدخلهم ومن وجدت بالباب من أصحابي، فأدخله قال: فأدخلتهم فلما وقفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «إن شئتم أخبرتكم عما أردتم أن تسألوني قبل أن تتكلموا وإن أحببتم تكلمتم، وأخبرتكم» ، قالوا: بلى، أخبرنا قبل أن نتكلم، قال: «أحببتم أن تسألوني عن ذي القرنين، وسأخبركم عما تجدونه مكتوبا عندكم إن أول أمره إنه غلام من الروم أعطي ملكا، فسار حتى أتى ساحل البحر من أرض مصر، فابتنى عنده مدينة يقال لها:
الإسكندرية، فلما فرغ من بنائها أتاه ملك، فعرج به حتى استقله فرفعه فقال: انظر ما تحتك، فقال: أرى مدينتي، وأرى مدائن معها، ثم عرج به، فقال: انظر! فقال: قد اختلطت مدينتي مع المدائن، فلا أعرفها، ثم زاد، فقال: انظر! فقال: أرى مدينتي وحدها ولا أرى غيرها، قال له الملك: إنما تلك الأرض كلها والذي ترى يحيط بها هو البحر، وإنما أراد بك أن يريك الأرض، وقد جعلك لك سلطانا فيها سوف يعلم الجاهل، ويثبت العالم، فسار حتى بلغ مغرب الشمس، ثم سار حتى بلغ مطلع الشمس، ثم أتى السدّين وهما جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء فبنى السدّ، ثم جاز يأجوج ومأجوج فوجد قوما وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم قطعهم فوجد أمّه قصارا يقاتلون القوم الذين وجوههم وجوه الكلاب، ووجد أمّة من الغرانيق يقاتلون القوم القصار، ثم مضى فوجد أمّة من الحيات تلتقم الحية منها الصخرة العظيمة، ثم أفضى إلى البحر المدير بالأرض فقالوا: نشهد أن أمره هكذا كما ذكرت وإنا نجده هكذا في كتابنا» «1» .
وعن خالد بن معدان الكلاعيّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذي القرنين فقال: «ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب» .
قال خالد: وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقول: يا ذا القرنين، فقال:
اللهم غفرا أما رضيتم أن تسموا بالأنبياء حتى تسميتم بالملائكة.
وقال قتادة، عن الحسن: كان ذو القرنين ملكا وكان رجلا صالحا، قال: وإنما سمي ذا القرنين لأنّ عليا رضي الله عنه سئل عن ذي القرنين، فقال: لم يكن ملكا ولا نبيا ولكن كان عبدا صالحا أحب الله فأحبه ونصح لله فنصحه الله بعثه الله عز وجل إلى قومه فضربوه على قرنيه فمات، فسمي ذا القرنين، ويقال: إنما سمي ذا القرنين لأنه
جاوز قرني الشمس من المغرب والمشرق.
ويقال: إنما سمي ذا القرنين لأنه كان له غديرتان من شعر رأسه يطأ فيهما، وقيل: بل كان له قرنان صغيران تواريهما العمامة.
وعن ابن شهاب: إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرن الشمس من مغربها وقرن الشمس من مشرقها.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: كان أوّل شأن الإسكندرية أنّ فرعون اتخذ بها مصانع ومجالس، وكان أوّل من عمرها وبنى فيها، فلم تزل على بنائه ومصانعه، ثم تداولها ملوك مصر بعده فبنت دلوكة بنت زبا منارة الإسكندرية ومنارة بوقير بعد فرعون، فلما ظهر سليمان بن داود عليهما السلام على الأرض اتخذ بها مجلسا، وبنى فيها مسجدا، ثم إن ذا القرنين ملكها، فهدم ما كان من بناء الملوك والفراعنة، وغيرهم إلا بناء سليمان لم يهدمه، ولم يغيره، وأصلح ما كان رث منه، وأقرّ المنارة على حالها، ثم بنى الإسكندرية من أوّلها بناء يشبه بعضه بعضا ثم تداولها الملوك بعده من الروم وغيرهم، ليس من ملك إلا يكون له بناء يضعه بالإسكندرية يعرف به، وينسب إليه.
قال ابن لهيعة: وبلغني أنه وجد بالإسكندرية حجر مكتوب فيه: أنا شدّاد بن عاد، وأنا الذي نصب العماد، وحيّد الأحياد، وشدّ بذراعه الواد بنيتهنّ إذ لا شيب ولا موت، وإذ الحجارة في اللين مثل الطين، وفي رواية: وكنزت في البحر كنزا على اثني عشر ذراعا لن يخرجه أحد حتى تخرجه أمّة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن لهيعة: والأحياد كالمغار، وقال أبو علي القاليّ في كتاب الأمالي، وأنشد ابن الأعرابيّ وغيره:
تسألني عن السنين كم لي
…
فقلت عمر الحسل
أو عمر نوح زمن الفطحل
…
لو أنني أوتيت علم الحكل
وعشت دهرا زمن الفطحل
…
لكنت رهن هرم أو قتل
وفي رواية:
علم سليمان كلام النمل
…
أيام كان الصخر مثل الوحل
وقال آخر: زمن الفحطل إذ السلام رطاب، وعندهم أنّ زمن الفحطل: زمان كان بعد الطوفان عظم فيه الخصب، وحسنت أحوال أهله، وقال بعضهم: زمن الفحطل زمن لم يخلف بعده، وقوله: علم الحكل، الحكل ما لا يسمع صوته من الحيوان، وهذا الرجز لرؤبة بن العجاج بن رؤبة بن لبيد بن صخر بن كثيف بن حيي بن بكر بن ربيعة بن سعد بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وذلك أنه ورد ماء لعكل، فرأى فتاة فأعجبته، فخطبها، فقالت:
أرى سنا، فهل من مال؟ قال: نعم قطعة من إبل، قالت: فهل من ورق؟ قال: لا، قالت:
يا آل عكل أكبروا أمعارا. فقال رؤبة:
لما ازدرت قدري وقلت إبلي
…
تألفت واتصلت بعكل
حظي وهزت رأسها تستبلي
…
تسألني عن السنين كم لي
فقلت لو عمرت عمر الحسل
…
أو عمر نوح زمن الفطحل
والصخر مبتلّ كطين الوحل
وفي رواية:
لو أنني أوتيت علم الحكل
…
علم سليمان كلام النمل
وسألت أبا بكر بن دريد عن زمن الفطحل، فقال: تزعم العرب أنه زمان كانت فيه الحجارة رطبة.
قال ابن عبد الحكم، ويقال: إنّ الذي بنى الإسكندرية شدّاد بن عاد، والله أعلم.
وكانت الإسكندرية ثلاث مدن بعضها إلى جنب بعض منيعة، وهي موضع المنارة وما والاها، والإسكندرية وهي موضع قصبة الإسكندرية اليوم ونفيطة، وكان على كل واحدة منهنّ سور وسور من خلف ذلك على الثلاث مدن يحيط بهنّ جميعا، وقيل: كان على الإسكندرية سبعة حصون منيعة وسبعة خنادق، قال: وإنّ ذا القرنين لما بنى الإسكندرية رخمها بالرخام الأبيض جدرها وأرضها، فكان لباسهم فيها السواد والحمرة، فمن قبل ذلك لبس الرهبان السواد من نصوع بياض الرخام، ولم يكونوا يسرجون فيها بالليل من بياض الرخام، وإذا كان القمر أدخل الرجل الذي يخيط بالليل في ضوء القمر مع بياض الرخام الخيط في ثقب الإبرة.
ويقال: بنيت الإسكندرية في ثلثمائة سنة، وسكنت ثلثمائة سنة، وخربت ثلثمائة سنة، ولقد مكثت سبعين سنة ما يدخلها أحد إلا وعلى بصره خرقة سوداء من بياض جصها وبلاطها، ولقد مكثت سبعين سنة ما يستسرج فيها، قال: وكانت الإسكندرية بيضاء تضيء بالليل والنهار، وكانوا إذا غربت الشمس لم يخرج أحد من بيته، ومن خرج اختطف وكان منهم راع يرعى على شاطىء البحر، فكان يخرج من البحر شيء فيأخذ من غنمه، فكمن له الراعي في موضع حتى خرج، فإذا جارية قد نفشت شعرها ومانعته عن نفسها فقوي عليها فذهب بها إلى منزله، فآنست به، فرأتهم لا يخرجون بعد غروب الشمس، فسألتهم فقالوا:
من خرج منا اختطف، فهيأت لهم الطلسمات، فكانت أوّل من وضع الطلسمات بمصر في الإسكندرية، وقيل: كان الرخام قد سخر لهم حتى يكون من بكرة النهار كالعجين فإذا انتصف النهار اشتدّ.
وقال المسعوديّ: ذكر جماعة من أهل العلم أنّ الإسكندر المقدونيّ، لما استقام ملكه في بلاده وسار حتى يختار أرضا صحيحة الهواء والتربة والماء، حتى انتهى إلى موضع الإسكندرية، فأصاب فيها أثر بنيان وعمدا كثيرة من الرخام وفي وسطها عمود عظيم عليه مكتوب بالقلم المسند، وهو القلم الأوّل من أقلام حمير وملوك عاد، أنا شدّاد بن عاد شدّدت بساعدي الواد، وقطعت عظيم العماد وشوامخ الجبال، والأطواد، وبنيت إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، وأردت أن أبني هنا مدينة كإرم وأنقل إليها كل ذي قدم وكرم من جميع العشائر والأمم، وذلك إذ لا خوف ولا هرم ولا اهتمام ولا سقم، فأصابني ما أعجلني، وعما أردت قطعني، ومع وقوعه طال همي وشجني، وقلّ نومي وسكني، فارتحلت بالأمس عن داري، لا لقهر ملك جبار ولا لخوف جيش جرّار، ولا عن رغبة ولا عن صغار، ولكن لتمام المقدار، وانقطاع الآثار، وسلطان العزيز الجبار، فمن رأى أثري، وعرف خبري وطول عمري ونفاد صبري وشدّة حذري، فلا يغترّ بالدنيا بعدي، فإنها غرّارة غدّارة، تأخذ منه ما تعطي، وتسترجع منه ما تؤتي، وكلام كثير يرى فناء الدنيا ويمنع من الاغترار بها والسكون إليها.
فنزل الإسكندر مفكرا يتدبر هذا الكلام، ويعتبره ثم بعث يحشر الصناع من البلاد، وخط الأساس، وجعل طولها وعرضها أميالا وجمع إليها العمد والرخام، وأتته المراكب، فيها أنواع الرخام، وأنواع المرمر والأحجار من جزيرة صقلية، وبلاد إفريقية وأقريطش، وأقاصي بحر الروم مما يلي مصبه بحر أقيانوس، وحمل إليه أيضا من جزيرة رودس، وأمر الفعلة والصناع أن يدوروا بما رسم لهم من أساس سور المدينة، وجعل على كل قطعة من الأرض خشبة قائمة، وجعل من الخشبة إلى الخشبة حبالا منوطة بعضها ببعض، وأوصل جميع ذلك بعمود من الرخام، وكان أمام مضربه وعلق على العمود جرسا عظيما مصوّتا، وأمر الناس والقوّام على البنائين والفعلة والصناع أنهم إذا سمعوا صوت ذلك الجرس، وتحرّكت الجبال، وقد علق على كل قطعة منها جرسا صغيرا حرصوا على أن يضعوا أساس المدينة دفعة واحدة من سائر أقطاره، وأحب الإسكندر أن يجعل ذلك في وقت يختاره وطالع سعد، فحرّك الإسكندر رأسه، وأخذته نعسة في حال ارتقابه بالوقت المحمود، فجاء غراب، فجلس على حبل الجرس الكبير الذي فوق العمود فحرّكه، وخرج صوت الجرس وتحرّكت الجبال، وخفق ما عليها من الأجراس الصغار، وكان ذلك معمولا بحركات هندسية وحيل حكمية، فلما رأى الصناع تلك الجبال قد تحرّكت، وسمعوا الأصوات وضعوا الأساس دفعة واحدة وارتفع الضجيج بالتحميد والتقديس، فاستيقظ الإسكندر من رقدته، وسأل عن الخبر فأخبر بذلك فأعجب! وقال: أردت أمرا وأراد الله غيره، ويأبى الله إلا ما يريد، أردت طول بقائها، وأراد الله سرعة فنائها وخرابها، وتداول الملوك إياها وإنّ الإسكندر لما أحكم بناءها، وثبت أساسها وجنّ الليل عليهم خرجت دواب البحر، فأتت
على جميع البنيان، فقال الإسكندر حين أصبح: هذا بدّ والخراب في عمارتها، وتحقق مراد الباري سبحانه من زوالها، فتطير من فعل الدواب فلم تزل البناة في كل يوم تبني وتحكم، ويوكل من يمنع الدواب إذا خرجت من البحر، فيصبحون وقد خرجت وخرّبت البنيان، فقلق الإسكندر لذلك وراعه ما رأى من البحر! فأقبل يفكر ما الذي يصنع وأيّ حيلة تنفع في ذلك حتى تدفع الأذية عن المدينة، فسنحت له الحيلة عند خلوّه بنفسه وإيراده الأمور وإصدارها، فلما أصبح دعا الصناع فاتخذوا له تابوتا من الخشب طوله عشرة أذرع في عرض خمسة أذرع، وجعلت فيه جامات من الزجاج قد أحاط بها خشب التابوت باستدارتها، وقد أمسك ذلك بالقار والزفت وغيره من الأطلية الدافعة للماء حذرا من دخول الماء إلى التابوت، وقد جعل فيها مواضع للحبال، ودخل الإسكندر في التابوت ورجلان من كتابه ممن له علم بإتقان التصوير، وأمر أن تسدّ عليه الأبواب وأن تطلى بما ذكرنا من الأطلية، وأمر بمركبين عظيمين فأخرجا إلى لجة البحر، وعلق في التابوت من أسفله مثقلات الرصاص والحديد والحجارة لتهوي بالتابوت سفلا، وجعل التابوت بين المركبين وألصقهما بخشب بينهما لئلا يفترقا، وشدّ حبال التابوت إلى المركبين وطوّل حباله، فغاص التابوت حتى انتهى إلى قرار البحر، فنظروا إلى دواب البحر وحيوانه من ذلك الزجاج الشفاف في صفاء ماء البحر فإذا بصور الشياطين على مثال الناس، وفيهم من له مثل رؤوس السباع، وفي أيديهم الفوس مع بعضهم، وفي أيدي بعضهم المناشير والمقامع يحكون بذلك صناع المدينة والفعلة، وما في أيديهم من آلات البناء، فأثبت الإسكندر ومن معه تلك الصور، وحكوها بالتصوير في القراطيس على اختلاف أنواعها وتشوّه خلقها، وقدودها ثم حرّك الحبال، فلما أحس بذلك من في المركبين جذبوا الحبال، وأخرجوا التابوت، فخرج الإسكندر، وأمر صناع الحديد والنحاس والحجارة، فعملوا تماثيل تلك الدواب على ما صوّر، فلما فرغوا منها وضعت على العمد بشاطئ البحر، ثم أمرهم فبنوا، فلما جنّ الليل ظهرت الدواب والآفات من البحر، فنظرت إلى صورها على العمد مقابلة إلى البحر، فرجعت ولم تعد بعد ذلك، فبنيت الإسكندرية وشيدت، وأمر الإسكندر أن يكتب على أبوابها: هذه الإسكندرية أردت أن أبنيها على الفلاح والنجاح واليمن والسعادة والسرور والثبات في الدهور، ولم يرد الباري عز وجل ملك السماوات والأرض، ومفني الأمم أن يثبتها كذلك، فبنيتها، وأحكمت بنيانها وشيدت سورها، وآتاني الله عز وجل من كل شيء علما وحكمة، وسهل لي وجوه الأسباب، فلم يتعذر عليّ في العالم شيء مما أردته، ولا امتنع عني شيء مما طلبته لطفا من الله عز وجل، وصنعا لي وصلاحا لعباده من أهل عصري، والحمد لله رب العالمين لا إله إلا هو رب كل شيء، ورسم بعد هذه الكتابة كلّ ما يحدث ببلده من الأحداث بعده في مستقبل الزمان من الآفات والعمران والخراب، وما يؤول أمرها إليه إلى وقت دثور العالم.