المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر مدينة تنيس - المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار - جـ ١

[المقريزي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الاول

- ‌تقديم

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌ذكر الرءوس الثمانية

- ‌ذكر طرف من هيئة الأفلاك

- ‌ذكر صورة الأرض وموضع الأقاليم منها

- ‌ذكر محل مصر من الأرض وموضعها من الأقاليم السبعة

- ‌ذكر حدود مصر وجهاتها

- ‌ذكر بحر القلزم

- ‌ذكر البحر الرومي

- ‌ذكر اشتقاق مصر ومعناها وتعداد أسمائها

- ‌ذكر طرف من فضائل مصر

- ‌ذكر العجائب التي كانت بمصر من الطلسمات والبرابي ونحو ذلك

- ‌ذكر الدفائن والكنوز التي تسميها أهل مصر المطالب

- ‌ذكر هلاك أموال أهل مصر

- ‌ذكر أخلاق أهل مصر وطبائعهم وأمزجتهم

- ‌ذكر شيء من فضائل النيل

- ‌ذكر مخرج النيل وانبعاثه

- ‌فصل في الردّ على من اعتقد أن النيل من سيل يفيض

- ‌ذكر مقاييس النيل وزيادته

- ‌ذكر الجسر الذي كان يعبر عليه في النيل

- ‌ذكر ما قيل في ماء النيل من مدح وذم

- ‌ذكر عجائب النيل

- ‌ذكر طرف من تقدمة المعرفة بحال النيل في كل سنة

- ‌ذكر عيد الشهيد

- ‌ذكر الخلجان التي شقت من النيل

- ‌ذكر ما كانت عليه أرض مصر في الزمن الأوّل

- ‌ذكر أعمال الديار المصرية وكورها

- ‌ذكر ما كان يعمل في أراضي مصر من حفر الترع وعمارة الجسور ونحو ذلك من أجل ضبط ماء النيل وتصريفه في أوقاته

- ‌ذكر مقدار خراج مصر في الزمن الأوّل

- ‌ذكر ما عمله المسلمون عند فتح مصر في الخراج وما كان من أمر مصر في ذلك مع القبط

- ‌ذكر انتقاض القبط وما كان من الأحداث في ذلك

- ‌ذكر نزول العرب بريف مصر واتخاذهم الزرع معاشا وما كان في نزولهم من الأحداث

- ‌ذكر قبالات أراضي مصر بعد ما فشا الإسلام في القبط ونزول العرب في القرى وما كان من ذلك إلى الروك الأخير الناصري

- ‌ذكر الروك الأخير الناصري

- ‌ذكر الديوان

- ‌ذكر ديوان العساكر والجيوش

- ‌ذكر القطائع والإقطاعات

- ‌ذكر ديوان الخراج والأموال

- ‌ذكر خراج مصر في الإسلام

- ‌ذكر أصناف أراضي مصر وأقسام زراعتها

- ‌ذكر أقسام مال مصر

- ‌ذكر الأهرام

- ‌ذكر الصنم الذي يقال له أبو الهول

- ‌ذكر الجبال

- ‌ذكر الجبل المقطم

- ‌الجبل الأحمر

- ‌جبل يشكر

- ‌ذكر الرّصد

- ‌ذكر مدائن أرض مصر

- ‌ذكر مدينة أمسوس وعجائبها وملوكها

- ‌ذكر مدينة منف وملوكها

- ‌ذكر مدينة الإسكندرية

- ‌ذكر الإسكندر

- ‌ذكر تاريخ الإسكندر

- ‌ذكر الفرق بين الإسكندر وذي القرنين وأنهما رجلان

- ‌ذكر من ولي الملك بالإسكندرية بعد الإسكندر

- ‌ذكر منارة الإسكندرية

- ‌ذكر الملعب الذي كان بالإسكندرية وغيره من العجائب

- ‌ذكر عمود السواري

- ‌ذكر طرف مما قيل في الإسكندرية

- ‌ذكر فتح الإسكندرية

- ‌ذكر ما كان من فعل المسلمين بالإسكندرية وانتقاض الروم

- ‌ذكر بحيرة الإسكندرية

- ‌ذكر خليج الإسكندرية

- ‌ذكر جمل حوادث الإسكندريّة

- ‌ذكر مدينة أتريب

- ‌ذكر مدينة تنيس

- ‌ذكر مدينة صا

- ‌رمل الغرابي

- ‌ذكر مدينة بلبيس

- ‌ذكر بلد الورادة

- ‌ذكر مدينة أيلة

- ‌ذكر مدينة مدين

- ‌بقية خبر مدينة مدين

- ‌ذكر مدينة فاران

- ‌ذكر أرض الجفار

- ‌ذكر صعيد مصر

- ‌ذكر تشعب النيل من بلاد علوة ومن يسكن عليه من الأمم

- ‌ذكر البجة ويقال إنهم من البربر

- ‌ذكر مدينة أسوان

- ‌ذكر بلاق

- ‌ذكر حائط العجوز

- ‌ذكر البقط

- ‌ذكر صحراء عيذاب

- ‌ذكر مدينة الأقصر

- ‌ذكر البلينا

- ‌ذكر سمهود

- ‌ذكر إرجنّوس

- ‌ذكر أبويط

- ‌ذكر ملوى

- ‌ذكر مدينة أنصنا

- ‌ذكر القيس

- ‌ذكر دروط بلهاسة

- ‌ذكر سكر

- ‌ذكر منية الخصيب

- ‌ذكر منية الناسك

- ‌ذكر الجيزة

- ‌ذكر قرية ترسا

- ‌ذكر منية أندونة

- ‌ذكر وسيم

- ‌ذكر منية عقبة

- ‌ذكر حلوان

- ‌ذكر مدينة العريش

- ‌ذكر مدينة الفرماء

- ‌ذكر مدينة القلزم

- ‌ذكر التيه

- ‌ذكر مدينة دمياط

- ‌ذكر شطا

- ‌ذكر الطريق فيما بين مدينة مصر ودمشق

- ‌ذكر مدينة حطين

- ‌ذكر مدينة الرقة

- ‌ذكر عين شمس

- ‌المنصورة

- ‌العباسة

- ‌ذكر مدينة دندرة

- ‌ذكر الواحات الداخلة

- ‌ذكر مدينة سنتريّة

- ‌ذكر الواحات الخارجة

- ‌ذكر مدينة قوص

- ‌ذكر مدينة أسنا

- ‌ذكر مدينة أدفو

- ‌إهناس

- ‌ذكر مدينة البهنسا

- ‌ذكر مدينة الأشمونين

- ‌ذكر مدينة إخميم

- ‌ذكر مدينة العقاب

- ‌ذكر مدينة الفيوم

- ‌ذكر ما قيل في الفيوم وخلجانها وضياعها

- ‌ذكر فتح الفيوم ومبلغ خراجها وما فيها من المرافق

- ‌مدينة النحريرية

الفصل: ‌ذكر مدينة تنيس

تصفيرات، بكرة ونصف النهار وعند غروب الشمس، وأقام فيها أصناما وعجائب كثيرة، وبنى مدنا كثيرة، وأقام فيها رجلا يقال له: برسان، يعمل الكيمياء، وضرب منها دنانير في كل دينار، سبعة مثاقيل عليها صورته، وعاش أتريب ملكا ثلثمائة وستين سنة، وبلغ من العمر خمسمائة سنة، وعمل له ناوس في جبل بالشرق، حفر له تحته سرب بطن بالزجاج والمرمر، وجعل على سرير من ذهب مرصع، وحملت إليه ذخائره وجعلوا على بابه صورة تنين لا يدنو منه أحد إلا أهلكه، وسوّروا عليه الرمال، وزبروا عليه اسمه وتاريخ وقته.

وقال ابن الكنديّ: أربع كور بمصر ليس على وجه الأرض أفضل منها، ولا تحت السماء لهنّ نظير: كورة الفيوم، وكورة أتريب، وكورة سمنود، وكورة أنصنا؛ وكورة أتريب من جملة كور أسفل الأرض، وهي مائة وثماني قرى.

وكان يقال: مدائن السحرة من ديار مصر سبع وهي: أرمنت، وبيا، وبوصير، وأنصنا، وصان، وأتريب، وصا.

‌ذكر مدينة تنيس

«1»

تنيس: بكسر التاء المنقوطة باثنتين من فوقها وكسر النون المشدّدة وياء آخر الحروف وسين مهملة: بلدة من بلاد مصر في وسط الماء، وهي من كورة الخليج سميت بتنيس بن حام بن نوح، ويقال: بناها قليمون من ولد أتريب بن قبطيم، أحد ملوك القبط في القديم.

قال ابن وصيف شاه: وملكت بعد أتريب، ابنته، فدبرت الملك وساسته بأيد وقوّة خمسا وثلاثين سنة، وماتت، فقام بالملك من بعدها، ابن أختها، قليمون الملك، فردّ الوزراء إلى مراتبهم، وأقام الكهان على مواضعهم ولم يخرج الأمر عن رأيهم، وجدّ في العمارات وطلب الحكم.

وفي أيامه بنيت تنيس الأولى التي غرّقها البحر، وكان بينه وبينها شيء كثير وحولها الزرع والشجر والكروم وقرى ومعاصر للخمر وعمارة لم يكن أحسن منها، فأمر الملك أن يبنى له في وسطها مجالس، وينصب له عليها قباب وتزين بأحسن الزينة والنقوش، وأمر بفرشها وإصلاحها، وكان إذا بدا النيل يجري، انتقل الملك إليها، فأقام بها إلى النوروز، ورجع وكان للملك بها أمناء يقسمون المياه، ويعطون كل قرية قسطها، وكان على تلك القرى، حصن يدور بقناطر، وكان كل ملك يأتي يأمر بعمارتها والزيادة فيها ويجعلها له منتزها.

ص: 326

ويقال: إنّ الجنتين اللتين ذكرهما الله تعالى في كتابه العزيز إذ يقول: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ

[الكهف/ 32] الآيات، كانتا لأخوين من بيت الملك أقطعهما ذلك الموضع، فأحسنا عمارته وهندسته وبنيانه، وكان الملك يتنزه فيهما، ويؤتي منهما بغرائب الفواكه والبقول، ويعمل له من الأطعمة والأشربة ما يستطيبه، فعجب بذلك المكان أحد الأخوين، وكان كثير الضيافة والصدقة، ففرّق ماله في وجوه البرّ، وكان الآخر ممسكا يسخر من أخيه إذا فرّق ماله، وكلما باع من قسمه شيئا اشتراه منه حتى بقي لا يملك شيئا، وصارت تلك الجنة لأخيه واحتاج إلى سؤاله، فانتهره وطرده، وعيره بالتبذير، وقال: قد كنت أنصحك بصيانة مالك، فلم تفعل، ونفعني إمساكي فصرت أكثر منك مالا وولدا، وولى عنه مسرورا بماله وجنته، فأمر الله تعالى البحر، فركب تلك القرى، وغرّقها جميعها، فأقبل صاحبها يولول ويدعو بالثبور ويقول: يا ليتني لم أشرك بي أحدا، قال الله جل جلاله: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ

[الكهف/ 43] .

وفي زمان قليمون الملك، بنيت دمياط، وملك قليمون تسعين سنة، وعمل لنفسه ناوسا في الجبل الشرقيّ، وحوّل إليه الأموال والجواهر وسائر الذخائر، وجعل من داخله تماثيل تدور بلواليب في أيديها سيوف من دخل قطعته، وجعل عن يمينه ويساره، أسدين من نحاس مذهب بلوالب، من أتاه حطماه، وزبر عليه: هذا قبر قليمون بن أتريب بن قبطيم بن مصر عمّر دهرا، وأتاه الموت فما استطاع له دفعا، فمن وصل إليه فلا يسلبه ما عليه وليأخذ من بين يديه.

ويقال: إنّ تنيس أخ لدمياط.

وقال المسعوديّ في كتاب مروج الذهب وغيره: تنيس كانت أرضا لم يكن بمصر مثلها استواء وطيب تربة، وكانت جنانا ونخلا وكرما وشجرا ومزارع، وكانت فيها مجار على ارتفاع من الأرض، ولم ير الناس بلدا أحسن من هذه الأرض، ولا أحسن اتصالا من جنانها وكرومها، ولم يكن بمصر كورة يقال إنها تشبهها إلا الفيوم، وكان الماء منحدرا إليها لا ينقطع عنها صيفا ولا شتاء يسقون جنانهم إذا شاءوا، وكذلك زروعهم وسائره يصب إلى البحر من جميع خلجانه، ومن الموضع المعروف بالأشتوم، وقد كان بين البحر وبين هذه الأرض مسيرة يوم، وكان فيما بين العريش وجزيرة قبرس، طريق مسلوك إلى قبرس، تسلكه الدواب يبسا ولم يكن بين العريش وجزيرة قبرس في البحر سير طويل، حتى علا الماء الطريق الذي كان بين العريش وقبرس، فلما مضت لدقلطيانوس من ملكه مائتا وإحدى وخمسون سنة، هجم الماء من البحر على بعض المواضع التي تسمى اليوم: بحيرة تنيس، فأغرقه وصار يزيد في كل عام، حتى أغرقها بأجمعها، فما كان من القرى التي في قرارها غرق، وأما الذي كان منها على ارتفاع من الأرض فبقي منه تونة وبورا وغير ذلك مما هو

ص: 327

باق إلى هذا الوقت، والماء محيط بها، وكان أهل القرى التي في هذه البحيرة ينقلون موتاهم إلى تنيس، فنبشوهم واحدا بعد واحد، وكان استحكام غرق هذه الأرض بأجمعها قبل أن تفتح مصر بمائة سنة. قال: وقد كان لملك من الملوك التي كانت دارها، الفرما مع أركون من أراكنة: البلينا، وما اتصل بها من الأرض، حروب عملت فيها خنادق وخلجان فتحت من النيل إلى البحر يمتنع بها كل واحد من الآخر، وكان ذلك داعيا لتشعب الماء من النيل واستيلائه على هذه الأرض.

وقال في كتاب أخبار الزمان: وكانت تنيس عظيمة لها مائة باب، وقال ابن بطلان:

تنيس بلد صغير على جزيرة في وسط البحر، ميله إلى الجنوب عن وسط الإقليم الرابع، خمس درج، وأرضه سبخة، وهواؤه مختلف، وشرب أهله من مياه مخزونة في صهاريج تملأ في كل سنة عند عذوبة مياه البحر بدخول ماء النيل إليها، وجميع حاجاتها مجلوبة إليها في المراكب، وأكثر أغذية أهلها السمك والجبن وألبان البقر، فإنّ ضمان الجبن السلطانيّ سبعمائة دينار حسابا عن كل ألف قالب دينار ونصف، وضمان السمك عشرة آلاف دينار، وأخلاق أهلها سهلة منقادة، وطبائعهم مائلة إلى الرطوبة والأنوثة.

قال أبو السريّ الطبيب: إنه كان يولد بها في كل سنة مائتا مخنث، وهم يحبون النظافة والدماثة والغناء واللذة، وأكثرهم يبيتون سكارى، وهم قليلو الرياضة لضيق البلد، وأبدانهم ممتلئة الأخلاط وحصل بها مرض يقال له: الفواق التنيسيّ، فلما فتحت دمياط، سار إليها المسلمون، فبرز إليهم نحو عشرين ألفا من العرب المتنصرة والقبط والروم، فكانت بينهم حروب آلت إلى وقوع أبي ثور في أيدي المسلمين، وانهزام أصحابه، فدخل المسلمون البلد وبنوا كنيستها جامعا، وقسموا الغنائم وساروا إلى الفرما، فلم تزل تنيس بيد المسلمين، إلى أن كانت إمرة بشر بن صفوان الكلبيّ على مصر من قبل يزيد بن عبد الملك في شهر رمضان سنة إحدى ومائة، فنزل الروم تنيس، فقتل مزاحم بن مسلمة المراديّ أميرها في جمع من الموالي، وفيهم يقول الشاعر:

ألم تربع فيخبرك الرجال

بما لاقى بتنيس الموالي

وكانت تنيس مدينة كبيرة، وفيها آثار كثيرة للأوائل، وكان أهلها مياسير أصحاب ثراء، وأكثرهم حاجة، وبها يحاك ثياب الشروب التي لا يصنع مثلها في الدنيا، وكان يصنع فيها للخليفة ثوب يقال له: البدنة لا يدخل فيه من الغزل سداء ولحمة غير أوقيتين، وينسج باقيه بالذهب بصناعة محكمة لا تحوج إلى تفصيل ولا خياطة تبلغ قيمته ألف دينار، وليس في الدنيا طراز ثوب كتان يبلغ الثوب منه، وهو سادج بغير ذهب مائة دينار عينا، غير طراز تنيس ودمياط، وكان النيل إذا أطلق يشرب منه من بمشارق الفرما من ناحية جرجير، وفاقوس من خليج تنيس، فكانت من أجلّ مدن مصر، وإن كانت شطا، وديفو، ودميرة،

ص: 328

وتونة، وما قاربها من تلك الجزائر يعمل بها الرفيع فليس ذلك يقارب التنيسيّ والدمياطيّ، وكان الحمل منها إلى ما بعد سنة ستين وثلثمائة، يبلغ من عشرين ألف دينار إلى ثلاثين ألف دينار لجهاز العراق، فلما تولى الوزير يعقوب بن كلس تدبير المال استأصل ذلك بالنوائب، وكان يسكن بمدينة تنيس ودمياط نصارى تحت الذمّة، وكان أهل تنيس يصيدون السماني وغير ذلك من الطير على أبواب دورهم، والسماني طائر يخرج من البحر، فيقع في تلك الشباك، وكانت السفن تركب من تنيس إلى الفرما وهي على ساحل البحر.

ولما مات هارون الرشيد، وقام من بعده ابنه محمد الأمين، وأراد الغدر والنكث بالمأمون، كان على مصر، حاتم بن هرثمة بن أعين من قبل الأمين، فلما ثار عليه أهل تنو، ونمي بعث إليهم السريّ بن الحكم، وعبد العزيز بن الوزير الجرويّ، فغلبا بعد الثمانية من شوّال سنة أربع وتسعين ومائة، ثم ولي الأمير جابر بن الأشعث الطائيّ مصر، وصرف حاتم بن هرثمة، وكان جابر لينا، فلما تباعد ما بين محمد الأمين وبين أخيه عبد الله المأمون، وخلع محمد أخاه من ولاية العهد، وترك الدعاء له على المنابر، وعهد إلى ابنه موسى، ولقبه بالشديد ودعى له، تكلم الجند بمصر بينهم في خلع محمد غضبا للمأمون، فبعث إليهم جابر ينهاهم عن ذلك، ويخوّفهم عواقب الفتن، وأقبل السريّ بن الحكم يدعو الناس، إلى خلع محمد، وكان ممن دخل إلى مصر في أيام الرشيد من جند، الليث بن الفضل، وكان خاملا فارتفع ذكره بقيامه في خلع محمد الأمين.

وكتب المأمون إلى أشراف مصر يدعوهم إلى القيام بدعوته، فأجابوه وبايعوا المأمون في رجب سنة ست وتسعين ومائة، ووثبوا بجابر، فأخرجوه وولوا عباد بن محمد، فبلغ ذلك محمد الأمين، فكتب إلى رؤساء الحوف بولاية ربيعة بن قيس الجرشيّ، وكان رئيس قيس الحوف، فانقاد أهل الحوف كلهم معه، يمنها وقيسها، وأظهروا دعوة الأمين، وخلع المأمون، وساروا إلى الفسطاط لمحاربة أهلها واقتتلوا، فكانت بينهما قتلى، ثم انصرفوا وعادوا مرارا إلى الحرب، فعقد عباد بن محمد لعبد العزيز الجرويّ، وسيره في جيش ليحارب القوم في دارهم، فخرج في ذي القعدة سنة سبع وتسعين ومائة، وحاربهم بعمريط، فانهزم الجرويّ، ومضى في قومه من لخم وجذام إلى فاقوس، فقال له قومه: لم لا تدعو لنفسك فما أنت بدون هؤلاء الذين غلبوا على الأرض؟ فمضى فيهم إلى تنيس، فنزلها ثم بعث بعماله يجبون الخراج من أسفل الأرض، فبعث ربيعة بن قيس يمنعه من الجباية، وسار أهل الحوف في المحرّم سنة ثمان وتسعين إلى الفسطاط، فاقتتلوا، وقتل جمع من الفريقين، وبلغ أهل الحوف قتل الأمين، فتفرّقوا.

وولي إمرة مصر، مطلب بن عبد الله الخزاعيّ من قبل المأمون، فدخلها في ربيع الأوّل، وولى عبد العزيز الجرويّ شرطته، ثم عزله وعقد له على حرب أسفل الأرض، ثم

ص: 329

صرف المطلب، وولى العباس بن موسى بن عيسى في شوّال، فولي عبد العزيز الشرطة، فلما ثار الجند وأعادوا المطلب في المحرّم سنة تسع وتسعين، هرب الجرويّ إلى تنيس، وأقبل العباس بن موسى بن عيسى من مكة إلى الحوف، فنزل ببلبيس، ودعا قيسا إلى نصرته، ثم مضى إلى الجرويّ بتنيس، فأشار عليه أن ينزل دار قيس، فرجع إلى بلبيس في جمادى الآخرة، وبها مات مسموما في طعام دسه إليه المطلب على يد قيس، فدان أهل الأحواف للمطلب، وبايعوه، وسارعوا إلى جب عميرة وسالموه عند ما لقوه، وبعث إلى الجرويّ يأمره بالشخوص إلى الفسطاط فامتنع من ذلك، وسار في مراكبه حتى نزل شطنوف، فبعث إليه المطلب السريّ بن الحكم في جمع من الجند يسألونه الصلح، فأجابهم إليه، ثم اجتهد في الغدر بهم، فتيقظوا له، فمضى راجعا إلى بنا، فاتبعوه وحاربوه.

ثم عاد، فدعاهم إلى الصلح ولاطف السريّ، فخرج إليه في زلاج وخرج الجرويّ في مثله، فالتقيا في وسط النيل مقابل سندفا، وقد أعدّ الجرويّ في باطن زلاجة الحبال، وأمر أصحابه بسندفا إذا لصق بزلاج السريّ، أن يجرّوا الحبال إليهم، فلصق الجرويّ بزلاج السريّ، فربطه في زلاجه، وجرّ الحبال، وأسر السريّ، ومضى به إلى تنيس، فسجنه بها، وذلك في جمادى الأولى، ثم كرّ الجرويّ وقاتل، فلقيه جموع المطلب بسفط سليط في رجب، فظفر، ولما عزل عمر بن ملاك عن الإسكندرية، ثار بالأندلسيين، ودعا للجرويّ، فأقبل عبد الله بن موسى بن عيسى إلى مصر طالبا بدم أخيه العباس في المحرّم سنة مائتين، فنزل على عبد العزيز الجرويّ، فسار معه في جيوش كثيرة العدد في البرّ والبحر حتى نزل الجيزة، فخرج إليه المطلب في أهل مصر، فحاربوه في صفر، فرجع الجرويّ إلى شرقيون، ومضى عبد الله بن موسى إلى الحجاز، وظهر المطلب على أنّ أبا حرملة فرجا الأسود، هو الذي كاتب عبد الله بن موسى، وحرّضه على المسير، فطلبه ففرّ إلى الجرويّ، وجدّ المطلب في أمر الجرويّ، فأخرج الجرويّ السريّ بن الحكم من السجن، وعاهده وعاقده على أن يثور بالمطلب ويخلعه، فعاهده السريّ على ذلك فأطلقه، وألقى إلى أهل مصر أنّ كتاب ورد بولايته فاستقبله الجند من أهل خراسان، وعقدوا له عليهم وامتنع المصريون من ولايته، فنزل داره بالحمراء، وأمدّه قيس بجمع منهم وحارب المصريين فهزمهم، وقتل منهم، فطلب المطلب منه الأمان، فأمنه، وخرج من مصر.

واستبدّ السريّ بن الحكم، بأمر مصر في مستهل شهر رمضان «1» ، فلما قتل الأندلسيون، عمر بن ملاك بالإسكندرية، سار إليها الجرويّ في خمسين ألفا، فبعث السريّ إلى تنيس بعثا، فكرّ الجرويّ راجعا إلى تنيس في محرّم سنة إحدى ومائتين، فلما ثار الجند بالسريّ في شهر ربيع الأوّل، وبايعوا سليمان بن غالب، قام عباد بن محمد عليه وخلعه،

ص: 330

وقام بالأمر عليّ بن حمزة بن جعفر بن سليمان بن عليّ بن عبد الله بن عباس، في مستهل شعبان، فامتنع عباد أن يبايعه، ولحق بالجرويّ، ثم لحق به أيضا سليمان بن غالب، فكان معه وعاد السريّ إلى ولايته مصر، في شعبان وقوي سلطانه.

فلما كان في المحرّم سنة اثنتين مائتين، ورد كتاب المأمون إليه يأمره، بالبيعة لوليّ عهده عليّ بن موسى»

الرضى، فبويع له بمصر، وقام في فساد ذلك إبراهيم بن المهديّ ببغداد، وكتب إلى وجوه الجند بمصر، يأمرهم بخلع المأمون، ووليّ عهده وبالوثوب على السريّ، فقام بذلك الحارث بن زرعة بن محرّم بالفسطاط، وعبد العزيز بن الوزير الجرويّ بأسفل الأرض، ومسلمة بن عبد الملك الطحاويّ الأزديّ بالصعيد، وخالفوا السريّ، ودعوا إلى إبراهيم بن المهديّ، وعقدوا على ذلك الأمر لعبد العزيز بن عبد الرحمن الأزديّ، فحاربه السريّ، وظفر به في صفر ولحق كل من كره بيعة عليّ الرضى بالجرويّ، لمنعته بتنيس وشدّة سلطانه، فسار إلى الإسكندرية، وملكها ودعى له بها وببلاد الصعيد، ثم سار في جمع كبير لمحاربة السريّ، واستعدّ كل منهما لصاحبه بأعظم ما قدر عليه، فبعث إليه السريّ ابنه ميمونا، فالتقيا بشطنوف، فقتل ميمون في جمادى الأولى سنة ثلاث ومائتين، وأقبل الجرويّ على مراكبه إلى الفسطاط ليحرقها، فخرج إليه أهل المسجد، وسألوه الكف، فانصرف عنها وحارب الإسكندرية غير مرّة، وقتل بها من حجر أصابه من منجنيقه في آخر صفر سنة خمس ومائتين.

ومات السريّ بعده بثلاثة أشهر في آخر جمادى الأولى، وقام بعده الجرويّ ابنه عليّ بن عبد العزيز الجرويّ، فحارب أبا نصر محمد بن السريّ أمير مصر بعد أبيه بشطنوف، ثم التقيا بدمنهور، فيقال: إنّ القتلى بينهما يومئذ كانوا سبعة آلاف، وانهزم ابن السريّ إلى الفسطاط، فتبعته مراكب ابن الجوريّ، ثم عادت فدخل أبو حرملة فرج بينهما حتى اصطلحا، ومات ابن السريّ في شعبان سنة ست ومائتين، فولي بعده أخوه عبيد الله بن السريّ، فكف عن ابن الجرويّ.

وبعث المأمون، مخلد بن يزيد بن مزيد الشيبانيّ إلى مصر في جيش من ربيعة، فامتنع عبيد الله بن السريّ من التسليم له، ومانعه فاقتتلوا، وانضم عليّ بن الجرويّ إلى خالد بن يزيد، وأقام له الأنزال وأغاثه، وسار حتى نزل على خندق عبيد الله بن السريّ، فاقتتلا في شهر ربيع الأوّل سنة سبع ومائتين، وجرت بينهما حروب بعد ذلك آلت إلى ترفع خالد إلى أرض الحوف، فكره ذلك ابن الجرويّ، ومكر به حتى أخرجه من عمله إلى غربيّ النيل فنزل نهيا، وانصرف ابن الجرويّ إلى تنيس، فصار خالد في ضرّ وجهد، وعسكر له

ص: 331

ابن السريّ في شهر رمضان وأسره وأخرجه من مصر إلى مكة في البحر.

وبعث المأمون، بولاية عبيد الله بن السريّ، على ما في يده وهو فسطاط مصر، وصعيدها وغربيها، وبولاية عليّ بن عبد العزيز الجرويّ تنيس مع الحوف الشرقيّ، وضمنه خراجه، وأقبل ابن الجرويّ على استخراج خراجه من أهل الحوف فمانعوه، وكتبوا إلى ابن السريّ يستمدّونه عليه، فأمدّهم بأخيه، فالتقيا بكورة بنا في بلقينة، فاقتتلوا في صفر سنة تسع ومائتين، وامتدّت الحروب بينهما إلى أثناء ربيع الأوّل وهم منتصفون، فانصرف ابن الجرويّ فيمن معه إلى دمياط، فسار ابن السريّ إلى محلة شريقون، ونهبها وبعث إلى تنيس ودمياط فملكها، ولحق ابن الجرويّ بالفرما، وسار منها إلى العريش، فنزل فيما بينها وبين غزة، ثم عاد وأغار على الفرما في جمادى الآخرة، ففرّ أصحاب ابن السريّ من تنيس، وسار ابن الجرويّ إلى شطنوف، فخرج إليه ابن السريّ، واقتتلا، فكانت لابن الجرويّ في أوّل النهار، ثم أتاه كمين ابن السريّ فانهزم، وذلك في رجب، فمضى إلى العريش، وسار ابن السريّ إلى تنيس ودمياط، ثم أقبل ابن الجرويّ في المحرّم سنة عشر ومائتين، وملك تنيس ودمياط بغير قتال، فبعث إليه ابن السريّ البعوث فحاربهم.

فبينما هم في ذلك إذ قدم عبد الله بن طاهر، فتلقاه ابن الجرويّ بالأموال والأنزال، وانضم إليه ونزل معه ببلبيس، فامتنع ابن السريّ، ودافع ابن طاهر، فتراخى له وبعث، فجبى المال، ونزل زفتا، وبعث إلى شطنوف عيسى الجلوديّ على جسر عقده من زفتا، وجعل ابن الجرويّ على سفنه التي جاءته من الشام لمعرفته بالحرب، فهزم مراكب ابن السريّ في المحرّم سنة إحدى عشرة، وصالح ابن طاهر عبيد الله بن السريّ في صفر، وخلع عليه، وأجازه بعشرة آلاف دينار، وأقرّه بالخروج إلى المأمون، فسكنت فتن مصر بعبد الله بن طاهر.

وفي سنة سبع وسبعين وثلثمائة، ولدت بتنيس، معزى جديا له قرون عدّة، ورأسه مع صدره وبدنه، ومقدّمه بصوف أبيض، ومؤخره بشعر أسود، وذنبه ذنب شاة.

وولدت امرأة سخلة لها رأس مدوّر، ولها يدان ورجلان وذنب.

ولثلاث بقين من ذي الحجة من هذه السنة، حدث بتنيس رعد وبرق وريح شديدة وسواد عظيم في الجوّ، ثم ظهر وقت السحر في السماء عمود نار احمرّت منه السماء والأرض أشدّ حمرة وخرج غبار ودخان يأخذ بالأنفس، فلم يزل إلى الرابعة من النهار حتى ظهرت الشمس، ولم يزل كذلك خمسة أيام.

وفي سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، حضر عند قاضي تنيس أبي محمد عبد الله بن أبي الريس رجل وامرأة فطالبت المرأة الرجل بفرض واجب عليه، فقال الرجل: تزوّجت

ص: 332

بها منذ خمسة أيام، فوجدت لها ما للرجال وما للنساء! فبعث إليها القاضي امرأة لتشرف عليها، فأخبرت أن لها فوق القبل: ذكرا بخصيتين، والفرج تحتها، والذكر أقلف، وإنها رائعة الحسن، فطلقها الزوج.

قال أبو عمرو الكنديّ: حدّثني أبو نصر أحمد بن عليّ، قال: حدّثني يس بن عبد الأحد قال: سمعت أبي يقول: لما دخل عبد الله بن طاهر مصر كنت فيمن دخل عليه، فقال: حدّثنا عبد الله بن لهيعة عن أبي قبيل عن سبيع، قال: يا أهل مصر كيف بكم إذا كان في بلدكم فتن، فوليكم فيها الأعرج، ثم الأصفر، ثم الأمرد، ثم يأتي رجل من ولد الحسين لا يدفع، ولا يمنع تبلغ راياته البحر الأخضر، يملأها عدلا، فقلت: كان ذلك، كانت الفتنة، فوليها السريّ وهو الأعرج، والأصفر ابنه أبو النصر، والأمرد عبيد الله بن السريّ، وأنت عبد الله بن طاهر بن الحسين، ثم إن عبد الله بن طاهر سار إلى الإسكندرية، وأصلح أمرها، وأخرج ابن الجرويّ إلى العراق، ثم قدم بالأفشين إلى مصر في ذي الحجة سنة خمس عشرة، وقد أمر الأفشين أن يطالبه بالأموال التي عنده، فإن دفعها إليه وإلا قتله، فطالبه، فلم يدفع إليه شيئا، فقدّمه بعد الأضحى بثلاث فقتله.

وفي جمادى الآخرة سنة تسع عشرة ومائتين، ثار يحيى بن الوزير في تنيس، فخرج إليه المظفر بن كندر أمير مصر، فقاتله في بحيرة تنيس، وأسره وتفرّق عنه أصحابه.

وفي سنة تسع وثلاثين ومائتين، أمر المتوكل ببناء حصن على البحر بتنيس، فتولى عمارته، عنبسة بن إسحاق أمير مصر، وأنفق فيه وفي حصن دمياط والفرما مالا عظيما.

وفي سنة تسع وأربعين ومائتين عذبت بحيرة تنيس صيفا وشتاء، ثم عادت ملحا صيفا وشتاء، وكانت قبل ذلك تقيم ستة أشهر عذبة وستة أشهر مالحة.

وفي سنة ثمان وأربعين وثلثمائة، وصلت مراكب من صقلية، فنهبوا مدينة تنيس. وفي سنة ثمان وسبعين وثلثمائة، صيد بأشتوم تنيس حوت طوله ثمانية وعشرون ذراعا ونصف من ذلك، طول رأسه، تسعة أذرع، ودائر بطنه مع ظهره، خمسة عشر ذراعا، وفتحة فمه، تسعة وعشرون شبرا، وعرض ذنبه، خمسة أذرع ونصف، وله يدان يجذف بهما طول كل يد، ثلاثة أذرع، وهو أملس أغبر غليظ الجلد مخطط البطن ببياض وسواد ولسانه أحمر، وفيه خمل كالريش طوله نحو الذراع يعمل منه أمساط شبه الذبل، وله عينان كعيني البقر.

فأمر أمير تنيس أبو إسحاق بن لوبة به فشق بطنه، وملح بمائة أردب ملح ورفع فكه الأعلى بعود خشب طويل، وكان الرجل يدخل إلى جوفه بقفاف الملح، وهو قائم غير منحن وحمل إلى القصر حتى رآه العزيز بالله. وفي ليلة الجمعة ثامن عشر ربيع الأوّل سنة تسع وسبعين وثلثمائة، شاهد أهل تنيس، تسعة أعمدة من نار تلتهب في آفاق السماء من ناحية الشمال، فخرج الناس إلى ظاهر البلد يدعون الله تعالى، حتى أصبحوا فخبت تلك النيران، وفيها صيد

ص: 333

ببحيرة تنيس، حوت طوله ذراع ونصفه الأعلى فيه، رأس وعينان وعنق وصدره على صورة أسد ويداه في صدره بمخالبه ونصفه الأدنى صورة حوت بغير قشر فحمل إلى القاهرة. وفي سنة سبع وتسعين وثلثمائة ولدت جارية بنتا برأسين، أحدهما بوجه أبيض مستدير، والآخر بوجه أسمر فيه سهولة في كل وجه عينان، فكانت ترضعهما، وكلاهما مركب على عنق واحد في جسد واحد بيدين ورجلين وفرج ودبر، فحملت إلى العزيز حتى رآها ووهب لأمها جملة من المال، ثم عادت إلى تنيس وماتت بعد شهور.

وفي سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وصل إلى تنيس من شواني صقلية نحو أربعين مركبا، فحصروها يومين، وأقلعوا ثم وصل إليها من صقلية أيضا في سنة ثلاث وسبعين نحو أربعين مركبا فقاتلوا أهل تنيس حتى ملكوها. وكان محمد بن إسحاق صاحب الأسطول قد حيل بينه وبين مراكبه، فتحيز في طائفة من المسلمين إلى مصلى تنيس، فلما اجنهم الليل، هجم بمن معه البلد على الفرنج، وهم في غفلة، فأخذ منهم مائة وعشرين، فقطع رؤوسهم، فأصبح الفرنج إلى المصلى وقاتلوا من بها من المسلمين، فقتل من المسلمين نحو السبعين، وسار من بقي منهم إلى دمياط، فمال الفرنج على تنيس وألقوا فيها النار، فأحرقوها، وساروا وقد امتلأت أيديهم بالغنائم والأسرى إلى جهة الإسكندرية بعد ما أقاموا بتنيس، أربعة أيام.

ثم لما كانت سنة ست وسبعين وخمسمائة نزل فرنج عسقلان في عشر حراريق «1» على أعمال تنيس، وعليها رجل منهم، يقال له: المعز، فأسر جماعة، وكان على مصر، الملك العادل من قبل أخيه الملك الناصر، صلاح الدين يوسف، عند ما سار إلى بلاد الشام، ثم مضى المعز، وعاد فأسر ونهب، فثار به المسلمون، وقاتلوه فظفرهم الله به وقبضوا عليه، وقطعوا يديه ورجليه وصلبوه.

وفي سنة سبع وسبعين وخمسمائة، انتدب السلطان لعمارة قلعة تنيس، وتجديد الآلات بها عندما اشتدّ خوف أهل تنيس من الإقامة بها، فقدّر لعمارة سورها القديم على أساساته الباقية مبلغ ثلاثة آلاف دينار عن ثمن أصناف وآجر.

وفي سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، كتب بإخلاء تنيس، ونقل أهلها إلى دمياط، فأخليت في صفر من الذراري والأثقال، ولم يبق بها سوى المقاتلة في قلعتها.

وفي شوّال من سنة أربع وعشرين وستمائة، أمر الملك الكامل، محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، بهدم مدينة تنيس، وكان من المدن الجليلة تعمل بها الثياب السرية، وتصنع بها كسوة الكعبة.

ص: 334

قال الفاكهيّ في كتاب أخبار مكة: ورأيت كسوة مما يلي الركن الغربيّ، يعني من الكعبة، مكتوبا عليها، مما أمر به السريّ بن الحكم وعبد العزيز بن الوزير الجرويّ، بأمر الفضل بن سهل ذي الرياستين «1» ، وطاهر بن الحسين سنة سبع وتسعين ومائة، ورأيت شقة من قباطي مصر في وسطها إلا أنهم كتبوا في أركان البيت بخط دقيق أسود، مما أمر به أمير المؤمنين، المأمون سنة ست ومائتين، ورأيت كسوة من كسا المهديّ مكتوبا عليها: بسم الله بركة من الله لعبد الله المهديّ محمد أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، مما أمر به إسماعيل بن إبراهيم أن يصنع في طراز تنيس على يد الحكم بن عبيدة سنة اثنتين وستين ومائة، ورأيت كسوة من قباطي مصر مكتوبا عليها: بسم الله، بركة من الله مما أمر به عبد الله المهديّ محمد أمير المؤمنين أصلحه الله محمد بن سليمان أن يصنع في طراز تنيس كسوة الكعبة على يد الخطاب بن مسلمة عامله سنة تسع وخمسين ومائة.

قال المسبحيّ في حوادث سنة أربع وثمانين وثلثمائة: وفي ذي القعدة ورد يحيى بن اليمان من تنيس ودمياط والفرما بهديته، وهي أسفاط وتخوت وصناديق مال، وخيل وبغال وحمير وثلاث مظال، وكسوتان للكعبة.

وفي ذي الحجة سنة اثنتين وأربعمائة وردت هدية تنيس الواردة في كل سنة منها خمس نوق مزينة ومائة رأس من الخيل بسروجها ولجمها وتجافيف وصناعات عدّة، وثلاث قباب دبيقية بمراتبها، ومتحرقات وبنود، وما جرى الرسم بحمله من المتاع والمال والبز.

ولما قدم الحاكم استدعت أخته، السيدة سيدة الملك إلى عامل تنيس عن الحاكم بأن يحمل مالا كان اجتمع قبله، ويعجل توجيهه، وقيل: إنه كان ألف ألف دينار، وألفي ألف درهم اجتمعت من ارتفاع البلد لثلاث سنين، وأمره الحاكم بتركها عنده، فحمل ذلك إليها وبه استعانت على ما دبرت.

وفي سنة خمس عشرة وأربعمائة ورد الخبر على الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله، أبي هاشم عليّ بن الحاكم بأمر الله: أن السودان وغيرهم ثاروا بتنيس، وطلبوا أرزاقهم وضيقوا على العامل، حتى هرب، وأنهم عاثوا في البلد وأفسدوا، ومدّوا أيديهم إلى الناس، وقطعوا الطرقات وأخذوا من المودع ألفا وخمسمائة دينار، فقام الجرجراي وقعد، وقال:

كيف يفعل هذا بخزانة السلطان؟ وساءنا فعل هذا بتنيس، أو بيت المال وسير خمسين فارسا للقبض على الجناة، وما زالت تنيس مدينة عامرة ليس بأرض مصر مدينة أحسن منها، ولا أحصن من عمارتها إلى أن خرّبها الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب في سنة أربع وعشرين وستمائة، فاستمرّت خرابا، ولم يبق منها إلا رسومها في وسط البحيرة، وكان

ص: 335