المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر العجائب التي كانت بمصر من الطلسمات والبرابي ونحو ذلك - المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار - جـ ١

[المقريزي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الاول

- ‌تقديم

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌ذكر الرءوس الثمانية

- ‌ذكر طرف من هيئة الأفلاك

- ‌ذكر صورة الأرض وموضع الأقاليم منها

- ‌ذكر محل مصر من الأرض وموضعها من الأقاليم السبعة

- ‌ذكر حدود مصر وجهاتها

- ‌ذكر بحر القلزم

- ‌ذكر البحر الرومي

- ‌ذكر اشتقاق مصر ومعناها وتعداد أسمائها

- ‌ذكر طرف من فضائل مصر

- ‌ذكر العجائب التي كانت بمصر من الطلسمات والبرابي ونحو ذلك

- ‌ذكر الدفائن والكنوز التي تسميها أهل مصر المطالب

- ‌ذكر هلاك أموال أهل مصر

- ‌ذكر أخلاق أهل مصر وطبائعهم وأمزجتهم

- ‌ذكر شيء من فضائل النيل

- ‌ذكر مخرج النيل وانبعاثه

- ‌فصل في الردّ على من اعتقد أن النيل من سيل يفيض

- ‌ذكر مقاييس النيل وزيادته

- ‌ذكر الجسر الذي كان يعبر عليه في النيل

- ‌ذكر ما قيل في ماء النيل من مدح وذم

- ‌ذكر عجائب النيل

- ‌ذكر طرف من تقدمة المعرفة بحال النيل في كل سنة

- ‌ذكر عيد الشهيد

- ‌ذكر الخلجان التي شقت من النيل

- ‌ذكر ما كانت عليه أرض مصر في الزمن الأوّل

- ‌ذكر أعمال الديار المصرية وكورها

- ‌ذكر ما كان يعمل في أراضي مصر من حفر الترع وعمارة الجسور ونحو ذلك من أجل ضبط ماء النيل وتصريفه في أوقاته

- ‌ذكر مقدار خراج مصر في الزمن الأوّل

- ‌ذكر ما عمله المسلمون عند فتح مصر في الخراج وما كان من أمر مصر في ذلك مع القبط

- ‌ذكر انتقاض القبط وما كان من الأحداث في ذلك

- ‌ذكر نزول العرب بريف مصر واتخاذهم الزرع معاشا وما كان في نزولهم من الأحداث

- ‌ذكر قبالات أراضي مصر بعد ما فشا الإسلام في القبط ونزول العرب في القرى وما كان من ذلك إلى الروك الأخير الناصري

- ‌ذكر الروك الأخير الناصري

- ‌ذكر الديوان

- ‌ذكر ديوان العساكر والجيوش

- ‌ذكر القطائع والإقطاعات

- ‌ذكر ديوان الخراج والأموال

- ‌ذكر خراج مصر في الإسلام

- ‌ذكر أصناف أراضي مصر وأقسام زراعتها

- ‌ذكر أقسام مال مصر

- ‌ذكر الأهرام

- ‌ذكر الصنم الذي يقال له أبو الهول

- ‌ذكر الجبال

- ‌ذكر الجبل المقطم

- ‌الجبل الأحمر

- ‌جبل يشكر

- ‌ذكر الرّصد

- ‌ذكر مدائن أرض مصر

- ‌ذكر مدينة أمسوس وعجائبها وملوكها

- ‌ذكر مدينة منف وملوكها

- ‌ذكر مدينة الإسكندرية

- ‌ذكر الإسكندر

- ‌ذكر تاريخ الإسكندر

- ‌ذكر الفرق بين الإسكندر وذي القرنين وأنهما رجلان

- ‌ذكر من ولي الملك بالإسكندرية بعد الإسكندر

- ‌ذكر منارة الإسكندرية

- ‌ذكر الملعب الذي كان بالإسكندرية وغيره من العجائب

- ‌ذكر عمود السواري

- ‌ذكر طرف مما قيل في الإسكندرية

- ‌ذكر فتح الإسكندرية

- ‌ذكر ما كان من فعل المسلمين بالإسكندرية وانتقاض الروم

- ‌ذكر بحيرة الإسكندرية

- ‌ذكر خليج الإسكندرية

- ‌ذكر جمل حوادث الإسكندريّة

- ‌ذكر مدينة أتريب

- ‌ذكر مدينة تنيس

- ‌ذكر مدينة صا

- ‌رمل الغرابي

- ‌ذكر مدينة بلبيس

- ‌ذكر بلد الورادة

- ‌ذكر مدينة أيلة

- ‌ذكر مدينة مدين

- ‌بقية خبر مدينة مدين

- ‌ذكر مدينة فاران

- ‌ذكر أرض الجفار

- ‌ذكر صعيد مصر

- ‌ذكر تشعب النيل من بلاد علوة ومن يسكن عليه من الأمم

- ‌ذكر البجة ويقال إنهم من البربر

- ‌ذكر مدينة أسوان

- ‌ذكر بلاق

- ‌ذكر حائط العجوز

- ‌ذكر البقط

- ‌ذكر صحراء عيذاب

- ‌ذكر مدينة الأقصر

- ‌ذكر البلينا

- ‌ذكر سمهود

- ‌ذكر إرجنّوس

- ‌ذكر أبويط

- ‌ذكر ملوى

- ‌ذكر مدينة أنصنا

- ‌ذكر القيس

- ‌ذكر دروط بلهاسة

- ‌ذكر سكر

- ‌ذكر منية الخصيب

- ‌ذكر منية الناسك

- ‌ذكر الجيزة

- ‌ذكر قرية ترسا

- ‌ذكر منية أندونة

- ‌ذكر وسيم

- ‌ذكر منية عقبة

- ‌ذكر حلوان

- ‌ذكر مدينة العريش

- ‌ذكر مدينة الفرماء

- ‌ذكر مدينة القلزم

- ‌ذكر التيه

- ‌ذكر مدينة دمياط

- ‌ذكر شطا

- ‌ذكر الطريق فيما بين مدينة مصر ودمشق

- ‌ذكر مدينة حطين

- ‌ذكر مدينة الرقة

- ‌ذكر عين شمس

- ‌المنصورة

- ‌العباسة

- ‌ذكر مدينة دندرة

- ‌ذكر الواحات الداخلة

- ‌ذكر مدينة سنتريّة

- ‌ذكر الواحات الخارجة

- ‌ذكر مدينة قوص

- ‌ذكر مدينة أسنا

- ‌ذكر مدينة أدفو

- ‌إهناس

- ‌ذكر مدينة البهنسا

- ‌ذكر مدينة الأشمونين

- ‌ذكر مدينة إخميم

- ‌ذكر مدينة العقاب

- ‌ذكر مدينة الفيوم

- ‌ذكر ما قيل في الفيوم وخلجانها وضياعها

- ‌ذكر فتح الفيوم ومبلغ خراجها وما فيها من المرافق

- ‌مدينة النحريرية

الفصل: ‌ذكر العجائب التي كانت بمصر من الطلسمات والبرابي ونحو ذلك

زاد هذا في تحامله. وقال كعب الأحبار: الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية، ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب الجزيرة والكوفة آمنة من الخراب حتى تكون الملحمة.

‌ذكر العجائب التي كانت بمصر من الطلسمات والبرابي ونحو ذلك

ذكر في كتاب عجائب الحكايات وغرائب الماجزيات أنه كان بمصر حجر من جمع كفيه عليه تقيأ جميع ما في جوده. قال القضاعي: ذكر الجاحظ وغيره: أنّ عجائب الدنيا ثلاثون أعجوبة منها بسائر الدنيا عشر أعجوبات، وهي مسجد دمشق، وكنيسة الرّها، وقنطرة سنجر، وقصر غمدان، وكنيسة رومية، وصنم الزيتون، وإيوان كسرى بالمدائن، وبيت الريح بتدمر، والخورنق، والسدير بالحيرة، والثلاثة الأحجار ببعلبك، وذكر أنها بيت المشتري والزهرة، وأنه كان لكل كوكب من السبعة بيت فيها، فتهدّمت.

(ومنها بمصر عشرون أعجوبة) فمن ذلك الهرمان، وهما أطول بناء وأعجبه ليس على وجه الدنيا بناء باليد حجر على حجر أطول منهما، وإذا رأيتهما ظننت أنهما جبلان موضوعان، ولذلك قال بعض من رآهما: ليس من شيء إلا وأنا أرحمه من الدهر إلا الهرمين فإني لأرحم الدهر منهما.

ومن ذلك صنم الهرمين، وهو بلهوية ويقال بلهيت «1» ويقال: إنه طلسم للرمل لئلا يغلب على إبليز الجيزة.

ومن ذلك بربا سمنود، وهو من أعاجيبها وذكر عن أبي عمرو الكنديّ أنه قال: رأيته وقد خزن فيه بعض عمالها قرظا فرأيت الجمل إذا دناه من بابه بحمله وأراد أن يدخله سقط كل دبيب في القرظ لم يدخل منه شيء إلى البربا، ثم خرب عند الخمسين والثلاثمائة.

ومن ذلك: بربا اخميم عجب من العجائب بما فيه من الصور، وأعاجيب وصور الملوك الذين يملكون مصر، وكان ذو النون الإخميمي يقرأ البرابي، فرأى فيها حكما عظيمة فأفسد أكثرها.

ومن ذلك بربا دندره، وهو بربا عجيب فيه ثمانون ومائة كوّة تدخل الشمس كل يوم من كوّة منها، ثم الثانية حتى تنتهي إلى آخرها، ثم تكرّر راجعة إلى موضع بدائها.

ومن ذلك حائط العجوز من العريش إلى أسوان يحيط بأرض مصر شرقا وغربا.

ومن ذلك الإسكندرية وما فيها من العجائب فمن عجائبها المنارة، والسواري، والمعلب الذي كانوا يجتمعون فيه في يوم من السنة، ثم يرمون بكرة فلا تقع في حجر أحد

ص: 58

إلا ملك مصر، وحضر عيدا من أعيادهم عمرو بن العاص، فوقعت الكرة في حجره فملك البلد بعد ذلك في الإسلام، ثم يحضر هذا الملعب ألف ألف من الناس فلا يكون فيهم أحد إلا وهو ينظر في وجه صاحبه، ثم إن قرىء كتاب سمعوه جميعا أو لعب نوع من أنواع اللعب رأوه عن آخرهم لا يتطاولون فيه بأكثر من المراتب العلية والسفلية.

ومن عجائبها: المسلتان وهما: جبلان قائمان على سرطانات نجاس في أركانها كل ركن على سرطان، فلو أراد مريد أن يدخل تحتها شيئا حتى يعبره من جانبه الآخر لفعل.

ومن عجائبها: عمودا الأعيا، وهما عمودان ملقيان وراء كل عمود منهما جبل حصبا كصبر الجمار بمنى يقبل المعنى التعب النصب بسبع حصيات حتى يلتقي على أحدهما، ثم يرمي وراءه السبع، ويقوم ولا يلتفت ويمضي لطيته فكأنما يحمل حملا لا يحس بشيء من تعبه.

ومن عجائبها: القبة الخضراء وهي: أعجب قبة ملبسة نحاسا كأنه الذهب الإبريز لا يبليه القدم ولا يخلقه الدهر.

ومن عجائبها: منية عقبة وقصر فارس وكنيسة أسفل الأرض، ثم هي مدينة على مدينة ليس على وجه الأرض مدينة بهذه الصفة سواها، ويقال: إنها إرم ذات العماد؛ سميت بذلك لأن عمدها ورخامها من البدنجنا والاصطنيدس المخطط طولا وعرضا.

ومن عجائب مصر أيضا: الجبال التي هي بصعيدها على نيلها وهي ثلاثة أجبل؛ فمنها جبل الكهف، ويقال: الكف، ومنها الطبلمون، ومنها جبل زماجيز الساحرة. يقال: إن فيه حلقة من الجبل ظاهرة مشرفة على النيل لا يصل إليها أحد يلوح فيها خط مخلوق باسمك اللهم.

ومن عجائبها: شعب «1» البوقيرات بناحية اشمون من أرض الصعيد، وهو شعب في جبل فيه صدع تأتيه البوقيرات في يوم من السنة كان معروفا فتعرض أنفسها على الصدع فكلما أدخل بوقير منها منقاره في الصدع مضى لسبيله، فلا يزال يفعل ذلك حتى يلتقي الصدع على بوقير منها، فتحبسه وتمضي كلها ولا يزال ذلك الذي يحبسه متعلقا حتى يتساقط ويتلاشى.

ومن عجائبها: عين شمس وهي هيكل الشمس وبها العمودان اللذان لم ير أعجب

ص: 59

منهما، ولا من شأنهما. طولهما في السماء نحو من خمسين ذراعا، وهما محمولان على وجه الأرض وفيهما صورة إنسان على دابة، وعلى رأسهما شبه الصومعتين من نحاس، فإذا جاء النيل قطر من رأسهما ماء وتستبينه وتراه منهما واضحا ينبع حتى يجري في أسفلهما فينبت في أصلهما العوسج، وغيره، وإذا حلت الشمس دقيقة من الجدي وهو أقصر يوم في السنة انتهت إلى الجنوبيّ منها فطلعت عليه على قمة رأسه وهي منتهى الميلين، وخط الاستواء في الواسطة منهما، ثم خطرت بينهما ذاهبة وجاثية سائر السنة كذا يقول أهل العلم بذلك.

ومن عجائبها: منف، وعجائبها وأصنامها وأبنيتها ودفائنها وكنوزها، وما يذكر فيها أكثر من أن يحصى من آثار الملوك والحكماء، والأنبياء لا يدفع ذلك.

ومن عجائبها: الفرما وهي أكثر عجائبا وأكثر آثارا.

ومن عجائبها: الفيوم.

ومن عجائبها: نيلها. ومن عجائبها: الحجر المعروف بحجر الخل يطفو على الخل، ويسبح فيه كأنه سمكة وكان يوجد بها حجر، إذا أمسكه الإنسان بكلتا يديه تقيأ كل شيء في بطنه، وكان بها خرزة، تجعلها المرأة على حقوها فلا تحبل وكان بها حجر؛ يوضع على حرف التنور فيتساقط خبزه، وكان يوجد بصعيدها حجارة رخوة تكسر فتتقد كالمصابيح.

ومن عجائبها: حوض كان بدلالات تدور من حجارة يركب فيها الواحد والأربعة، ويحرّكون الماء بشيء فيعبرون من جانب إلى جانب لا يعلم من عمله، فأخذه كافور الإخشيديّ إلى مصر فنظر إليه، ثم أخرج من الماء فألقي في البرّ وكان في أسفله كتابة لا يدري ما هي ثم بطل.

ومن عجائبها: أن بصعيدها ضيعة تعرف بدشنى، فيها سنطة إذا تهدّدت بالقطع تدبل، وتجتمع وتضمر فيقال لها: قد عفونا عنك، وتركناك فتتراجع، والمشهور وهو الموجود الآن سنطة في الصعيد إذا نزلت اليد عليها دبلت، وإذا رفعت عنها تراجعت وقد حملت إلى مصر، وشوهدت. وبها نوع من الخشب يرسب في الماء كالأبنوس وبها الخشب السنط الذي يوقد منه القدر الكثير في الزمن الطويل فلا يوجد له رماد.

وذكر ابن نصر المصري: أنه كان على باب القصر الكبير الذي يقال له باب الريحان عند الكنيسة المعلقة صنم من نحاس على خلقة الجمل، وعليه رجل راكب عليه عمامة منتكب قوسا عربية، وفي رجليه نعلان كانت الروم والقبط وغيرهم إذا تظالموا بينهم، واعتدى بعضهم على بعض تجاروا إليه حتى يقفوا بين يدي ذلك الجمل، فيقول المظلوم للظالم: انصفني قبل أن يخرج هذا الراكب الجمل، فيأخذ الحق لي منك شئت أم أبيت يعنون بالراكب النبيّ محمدا صلى الله عليه وسلم.

ص: 60

فلما قدم عمرو بن العاص غيبت الروم ذلك الجمل لئلا يكون شاهدا عليهم. قال ابن لهيعة: بلغني أن تلك الصورة في ذلك الموضع قد أتى الآن عليها سنين لا يدرى من عملها.

قال القضاعيّ: فهذه عشرون أعجوبة من جملتها ما يتضمن عدّة عجائب، فلو بسطت لجاء منها عدد كثير، ويقال: ليس من بلد فيه شيء غريب إلا وفي مصر مثله أو شبيه به. ثم تفضل مصر على البلدان بعجائبها التي ليست في بلد سواها.

وفي كتاب تحفة الألباب: أنه كان بمصر بيت تحت الأرض فيه رهبان من النصارى، وفي البيت سرير صغير من خشب تحت صبيّ ميت ملفوف في نطع أديم مشدود بحبل، وعلى السرير مثل الباطية فيها أنبوب من نحاس فيه فتيل إذا اشتعل الفتيل بالنار وصار سراجا خرج من ذلك الأنبوب الزيت الصافي الحسن الفائق حتى تمتلىء تلك الباطية، وينطفي السراج بكثرة الزيت فإذا انطفأ لم يخرج من الدهن شيء، فإذا خرج الصبي الميت من تحت السرير لم يخرج من الزيت شيء والباطية يريقها الإنسان فلا يرى تحتها شيئا، ولا موضعا فيه ثقب، وأولئك الرهبان يتعيشون من ذلك الزيت يشتريه الناس منهم فينتفعون به.

وقال الأستاذ إبراهيم بن وصيف «1» شاه: عديم الملك ابن تقطريم كان جبارا لا يطاق عظيم الخلق، فأمر بقطع الصخور ليعمل هرما كما عمل الأوّلون، وكان في وقته الملكان اللذان أهبطا من السماء، وكانا في بئر يقال له افتارة، وكانا يعلمان أهل مصر السحر.

وكان يقال: إن الملك عديم بن البودشير استكثر من علمهما، ثم انتقلا إلى بابل، وأهل مصر من القبط يقولون: إنهم شيطانان يقال لهما: مهلة وبهالة، وليس هما الملكين والملكان ببابل في بئر هناك يغشاها السحرة إلى أن تقوم الساعة. ومن ذلك الوقت عبدت الأصنام وقال قوم: كان الشيطان يظهر وينصبها لهم. وقال قوم: أوّل من نصبها بدوره وأوّل صنم أقامه صنم الشمس، وقال آخرون: بل النمرود الأوّل أمر الملوك بنصبها، وعبادتها وعديم أول من صلب، وذلك أن امرأة زنت برجل من أهل الصناعات، وكان لها زوج من أصحاب الملك، فأمر بصلبهما على منارين، وجعل ظهر كل واحد منهما إلى ظهر الآخر وزبر على المنارين اسمهما وما فعلاه، وتاريخ الوقت الذي عمل ذلك بهما فيه، فانتهى الناس عن الزنى وبنى أربع مداين، وأودعها صنوفا كثيرة من عجائب الأعمال والطلسمات، وكنز فيها كنوزا كثيرة وعمل في الشرق منارا وأقام على رأسه صنما موجها إلى الشرق مادّا يديه يمنع دواب البحر والرمال أن تتجاوز حدّه، وزبر في صدره تاريخ الوقت

ص: 61

الذي نصبه فيه ويقال: إن هذا المنار قائم إلى وقتنا هذا. ولولا هذا لغلب الماء الملح من البحر الشرقيّ على أرض مصر وعمل على النيل قنطرة في أول بلد النوبة، ونصب عليها أربعة أصنام موجهة إلى أربع جهات الدنيا في يدي كل واحد من الأصنام حربتان يضرب بهما إذا أتاهم آت من تلك الجهة فلم تزل بحالها إلى أن هدمها فرعون موسى عليه السلام، وعمل البربا على باب النوبة، وهو هناك إلى وقتنا هذا، وعمل في إحدى المدائن الأربع التي ذكرناها حوضا من صوّان أسود مملوء ماء لا ينقص طول الدهر، ولا يتغيّر ماؤه لأنه اجتلب إليه من رطوبة الهواء، وكان أهل تلك الناحية، وأهل تلك المدينة يشربون منه ولا ينقص ماؤه، وعمل ذلك لبعدهم عن النيل.

وذكر بعض كهنة القبط أن ذلك الماء ثم لقربه من البحر الملح فإن الشمس ترفع بحرّها بخار البحر فينحصر من ذلك البخار جزء بالهندسة، أو بالسحر، وتجعله ينحط ذلك في ذلك الموضع بالجوهر مثل الظل، وتمدّه بالهواء فلا ينقص بذلك ماؤه على الدهر، ولو شرب منه العالم وعمل قدحا لطيفا على مثل هذا العمل، وأهداه حوميل الملك إلى إسكندر اليوناني وملكهم عديم مائة وأربعين سنة، ومات وهو ابن سبعمائة وثلاثين سنة، ودفن في إحدى المدائن ذات العجائب وقيل: في صحراء قفط.

وذكر بعض القبط أن ناووس عديم عمل في صحراء قفط على وجه الأرض تحت قبة عظيمة من زجاج أخضر برّاق معقود على رأسها كرة من ذهب عليها طائر من ذهب موشح بجوهر منشور الجناحين يمنع من الدخول إلى القبة، وكان قطرهما مائة ذراع في مثلها وجعل جسده في وسطها على سرير من ذهب مشبك، وهو مكشوف الوجه، وعليه ثياب منسوجة بالذهب المغروز بالجوهر المنظوم، وطول القبة أربعون ذراعا، وجعل في القبة مائة وسبعين مصحفا من مصاحف الحكمة وسبع موائد بأوانيها. منها مائدة من درّ رماني أحمر وأوانيها منها ومائدة من ذهب قلموني أوانيها منها، ومائدة من حجر الشمس المضيء بآنيتها وهو الزبرجد الذي إذا نظرت إليه الأفاعي سالت أعينها ومادة من كبريت أحمر مدبر بآنيتها، ومائدة من ملح أبيض مدبر برّاق بآنيتها ومائدة من زئبق معقود وجعل في القبة جواهر كثيرة وبرابي صنعة مدبرة، وحوله سبعة أسياف، وأتراس من حديد أبيض مدبر، وتماثيل أفراس من ذهب عليها سروج من ذهب، وسبعة توابيت من دنانير عليها صورته، وجعل معه من أصناف العقاقير والسمومات والأدوية في برابي من حجارة، وقد ذكر من رأى هذه القبة أنهم أقاموا أياما فما قدروا على الوصول إليها وأنهم إذا قصدوها، وكانوا منها على ثمانية أذرع دارت القبة عن أيمانهم أو عن شمائلهم.

ومن أعجب ما ذكروه أنهم كانوا يحاذون آزاجها أزجا «1» أزجا فلا يرون غير الصورة

ص: 62

التي يرونها من الأزج الآخر على معنى واحد. وذكروا أنهم رأوا وجه الملك قدر ذراع ونصف بالكبير ولحيته كبيرة مكشوفة، وقدّروا طول بدنه عشرة أذرع وزيادة، وذكر هؤلاء الذين رأوها أنهم خرجوا لحاجة، فوجدوها اتفاقا. وأنهم سألوا أهل قفط عنها فلم يجدوا أحدا يعرفها سوى شيخ منهم.

وأوصى عديم الملك ابنه شداب بن عديم أن ينصب في كل حيز من أحياز ولايته منارا، ويزبر عليه اسمه فانحدر إلى الأشمونين، وعمل مناراتها وزبر عليها اسمه، وعمل بها ملاعب وعمل في صحرائها منارا أقام عليه صنما برأسين على اسم كوكبين كانا مقترنين في الوقت الذي خرج فيه إلى اتريب وبنى فيها قبة عظيمة مرتفعة على عمد وأساطين بعضها فوق بعض، وعلى رأسها صنما صغيرا من ذهب، وعمل هيكلا للكواكب، ومضى إلى حيز صا فعمل فيه منارا على رأسه مرآة من أخلاط تورى الأقاليم، ورجع وعمل شداب بن عديم هيكل ارمنت. وأقام فيه أصناما بأسماء الكواكب من جميع المعادن وزينه بأحسن الزينة، ونقشه بالجواهر والزجاج الملوّن وكساه الوشي والديباج، وعمل في المدائن الداخلة من أنصنا هيكلا وأقام فيه باتريب، وهيكلا شرقيّ الإسكندرية، وأقام صنما من صوّان أسود باسم زحل على عبرة النيل من الجانب الغربيّ وبنى في الجانب الشرقيّ مداين في إحداها صورة صنم قائم، وله إحليل إذا أتاه المعقود والمسحور ومن لا ينتشر ذكره فمسحه بكلتي يديه انتشر ذكره، وقوي على الباه وفي إحداها بقرة، لها ضرعان كبيران إذا انعقد لبن امرأة أتتها ومسحتها بيديها فإنه يدر لبنها، وجمع التماسيح بطلسم عمله بناحية أسيوط، فكانت تنصب من النيل إلى اخميم انصبابا فيقتلها ويستعملها جلودا في السفن وغيرها.

وعمل منقاوس الملك بيتا تدور به تماثيل بجميع العلل، وكتب على رأس كل تمثال ما يصلح من العلاج، فانتفع الناس بها زمانا إلى أن أفسدها بعض الملوك وعمل صورة امرأة مبتسمة لا يراها مهموم إلا زال همه ونسيه فكان الناس يتناوبونها، ويطوفون حولها ثم عبدوها من جملة ما عبدوه بعد ذلك.

وعمل تمثالا من صفر مذهب بجناحين لا يمرّ به زان ولا زانية إلا كشف عورته بيده، وكان الناس يمتحنون به الزناة فامتنعوا من الزنا فرقا منه. فلما ملك كلكن عشقت حظية عنده رجلا من خدمه، وخافت أن تمتحن بذلك الصنم. فأخذت في ذكر الزواني مع الملك وأكثرت من سبهنّ وذمّهنّ فذكر كلكن ذلك الصنم، وما فيه من المنافع. فقالت: صدق الملك غير أن منقاوس لم يصب في أمره لأنه أتعب نفسه وحكماءه فيما جعله لإصلاح العامة دون نفسه، وكان حكم هذا أن ينصب في دار الملك حيث يكون نساؤه وجواريه فإن اقترفت إحداهنّ ذنبا علم بها فيكون رادعا لهنّ متى عرض بقلوبهنّ شيء من الشهوة فقال:

ص: 63

كلكن صدقت، وظنّ أن هذا منها نصح، فأمر بنزع الصنم من موضعه ونقله إلى داره، فبطل عمله وعملت المرأة ما كانت همت به.

وبنى هيكلا على جبل القصير للسحرة، فكانوا لا يطلقون الرياح للمراكب المقلعة إلا بضريبة يأخذونها منهم للملك.

وبنى مناوس بن منقاوس في صحراء الغرب مدينة بالقرب من مدينة السحرة تعرف:

بقنطرة ذات عجائب، وجعل بوسطها قبة عليها كالسحابة تمطر شتاء وصيفا مطرا خفيفا، وتحت القبة مطهرة فيها ماء أخضر يداوي به من كل داء فيبريه، وعمل في شرقيها بربا لطيفا له أربعة أبواب لكل باب عضادتان في كل عضادة صورة وجه يخاطب كل واحد منهما صاحبه بما يحدث في يومه فمن دخل البربا على غير طهارة نفخا في وجهه فأصابه رعدة فظيعة لا تفارقه حتى يموت. وكانوا يقولون: إن في وسطه مهبط النور في صورة العمود من اعتنقه لم يحتجب عن نظره شيء من الروحانية وسمع كلامهم، ورأى ما يعملون، وعلى كل باب من أبواب هذه المدينة صورة راهب في يده مصحف فيه علم من العلوم. فمن أحب معرفة ذلك العلم أتى تلك الصورة، فمسحها بيديه وأمرّهما على صدره فيثبت ذلك العلم في صدره. ويقال: إن هاتين المدينتين بنيتا على اسم هرمس، وهو عطارد وأنهما بحالهما (وحكي عن رجل أنه أتى عبد العزيز بن مروان، وهو أمير مصر، فعرّفه أنه تاه في صحراء الشرق، فوقع على مدينة خراب فيها شجرة تحمل كل صنف من الفاكهة، وأنه أكل منها وتزوّد فقال له رجل من القبط: هذه إحدى مدينتي هرمس، وفيها كنوز كثيرة فوجه عبد العزيز معه جماعة معهم ماء وزاد، فأقاموا يطوفون تلك الصحاري شهرا فلم يقفوا لها على أثر.

وعملت أم ميلاطس الملك بركة عظيمة في صحراء الغرب، وجعلت في وسطها عمودا طوله ثلاثون ذراعا، وفي أعلاه قصعة من حجارة يفور منها الماء فلا ينقص أبدا.

وجعلت حول البركة أصناما من حجارة ملونة على صور الحيوانات من الوحش، والطير والبهائم، فكان كل جنس يأتي إلى صورته ويألفها فيؤخذ باليد وينتفع به.

وعملت لابنها منتزها لأنه كان يحب الصيد، فجعلت فيه مجالس مركبة على أساطين من مرمر مصفّح بالذهب مرصع بالجوهر، والزجاج الملوّن وزخرفته بالتصاوير العجيبة، والنقوش فكان الماء يطلع من فوّارات وينصب إلى أنهار قد صفحت بالفضة تجري إلى حدائق فيها بديع الفروشات، وقد أقيم حولها تماثيل تصفر بأنواع اللغات، وأرخت على المجلس ستورا من ديباج، واختارت لابنها من حسان بنات عمه وبنات الملوك وزوجته وحولته إلى هذه الجنة وبنت حول الجنة مجالس للوزراء، والكهنة، وأشراف أهل الصناعات، فكانوا يرفعون إليه جميع ما يعملونه، فإذا فرغوا من أعمالهم حمل إليهم الطعام

ص: 64

والشراب، وكان ميلاطس تقلد الملك بعد أبيه مرقوه وهو صبيّ وكانت أمه مدبرة الملك، وهي حازمة مجرّبة فأجرت الأمور على ما كانت عليه في حياة أبيه وأحسنت وعدلت في الرعية ووضعت عنهم بعض الخراج، وكانت أيامه سعيدة كلها في الخصب الكثير والسعة للناس والعدل، وكان له يوم يخرج فيه إلى الصيد، ويرجع إلى جنته فيأمر لكل من معه بالجوائز والأطعمة ويجلس للنظر يوما في مصالح الناس وقضاء حوائجهم ويخلو يوما بنسائه. وكان ملكه ثلاث عشرة سنة، وجدّر فمات.

وعمل فرسون بن قيلمون بن أتريب منارا على بحر القلزم، وعلى رأسه مرآة تجتذب بها المراكب إلى شاطىء البحر فلا يمكنها أن تبرح إلا أن تعشر فإذا عشرت سترت المرآة حتى تجوز المراكب، وأقام فرسون مائتي سنة وستين سنة؛ وعمل لنفسه ناووسا خلف الجبل الأسود الشرقي في وسطه قبة حولها اثنا عشر بيتا في كل بيت أعجوبة لا تشبه الأخرى، وزبر عليها اسمه ومدة ملكه.

وكا مرقونس الملك حكيما محبا للنجوم، والعلوم والحكمة، فعمل في أيامه درهما إذا ابتاع به صاحبه شيئا اشترط أن يزن له ما يبتاعه منه بوزن الدرهم، ولا يطلب عليه زيادة فيغترّ البائع بذلك ويقبل الشرط فإذا تم ذلك بينهما وقع في وزن الدرهم أرطال كثيرة تساوي عشرة أضعافه، وكان إذا أحب أن يدخل في وزنه أضعاف تلك الأرطال دخل، وقد وجد هذا الدرهم في كنوزهم ثم في خزائن بني أمية وكان الناس يتعجبون منه ووجدوا دراهم أخر، قيل: إنها عملت في وقته أيضا فيكون الدرهم منها في ميزان الرجل فإذا أراد أن يبتاع حاجة أخذ ذلك الدرهم، وقبله وقال: اذكر العهد وابتاع به ما أراد فإذا أخذ السلعة ومضى إلى بيته وجد الدرهم قد سبقه إلى منزله، ويجد البائع موضع ذلك الدرهم، ورقة آس أو قرطاسا أو مثل ذلك بدور الدرهم، وفي وقته عملت الآنية الزجاج التي توزن فإذا ملئت ماء أو غيره، ثم وزنت لم تزد عن وزنها الأوّل شيئا وعمل في وقته الآنية التي إذا جعل فيها الماء صار خمرا في لونه ورائحته وفعله، وقد وجد من هذه الآنية باطفيح في أمارة هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون شربة جزع بعروة زرقاء ببياض، وكان الذي وجدها أبو الحسن الصائغ الخراساني هو ونفر معه، فأكلوا على شاطىء النيل وشربوا بها الماء فوجدوه خمرا سكروا منه وقاموا ليرقصوا فوقعت الشربة، فانكسرت عدّة قطع؛ فاغتم الرجل وجاء بها إلى هارون فأسف عليها، وقال: لو كانت صحيحة لاشتريتها ببعض ملكي.

وأما الآنية النحاسية التي تجعل الماء خمرا، فإنها منسوبة إلى قلوبطرة «1» بنت بطليموس ملكة الإسكندرية فكثير، وفي وقته عملت الصور الحيثمية من الضفادع والخنافس

ص: 65

والذباب والعقارب وسائر الحشرات، وكانت إذا جعلت في موضع اجتمع إليها ذلك الجنس، ولا يقدر على مفارقة تلك الصورة حتى يقتل، وكأنه يعمل أعماله كلها بصور درج الفلك وأسمائها، وطوالعها فيتم له من ذلك ما يريده.

وعمل في صحراء الغرب ملعبا من زجاج ملوّن في وسطه قبة من زجاج أخضر صافي اللون. فإذا طلعت عليه الشمس ألقت شعاعها على مواضع بعيدة وعمل في جوانبه الأربعة أربعة مجالس عالية من زجاج كل مجلس لون ونقش عليها بغير لونها طلسمات عجيبة، ونقوشات غريبة وصورا بديعة كل ذلك من زجاج مطلق يشف، وكان يقيم في هذا الملعب الأيام وعمل له ثلاثة أعياد في كل سنة. فكان الناس يحجون إليه في كل عيد ويذبحون له ويقيمون فيه سبعة أيام، ولم يزل هذا الملعب تقصده الأمم فإنه لم يكن له نظير، ولا عمل في العالم مثله إلى أن هدمه بعض الملوك لعجزه عن عمل مثله.

وكانت أم مرقونس ابنة ملك النوبة وكان أبوها يعبد الكوكب الذي يقال له السها ويسميه إلها. سألت ابنها أن يعمل لها هيكلا يفردها به، فعمله وصفحه بالذهب والفضة، وأقام فيه صنما وأرخى عليه الستور الحرير، فكانت تدخل إليه بجواريها وحشمها وتسجد له في كل يوم ثلاث مرّات، وعملت لكل شهر عيدا تقرّب له قرابين وتبخره ليله ونهاره، ونصبت له كاهنا من النوبة يقوم به ويقرّب له ويبخره، ولم تزل بابنها حتى سجد له، ودعي إلى عبادته. فلما رأى الكاهن الأمر في عبادة الكواكب قد تم وأحكم من جهة الملك أحب أن يكون لكوكب السّها مثالا في الأرض على صورة حيوان يتعبد له، فأقام بعمل الحيلة في ذلك إلى أن اتفق أن العقبان كثرت بمصر، وأضرّت بالناس فأحضر الملك هذا الكاهن وسأله عن سبب كثرتها، فقال: إن إلهك أرسلها لتعمل لها نظيرا ليسجد له.

فقال مرقونس: إن كان يرضيه ذلك، فأنا فاعله. فقال: إن ذلك رضاه، فأمر بعمل عقاب طوله ذراعان في عرض ذراع من ذهب مسبوك وعمل عينيه من ياقوتتين، وعمل له وشاحين من لؤلؤ منظوم على أنابيب جوهر أخضر، وفي منقاره درة معلقة وسرو له بالدرّ الأحمر، وأقامه على قاعدة من فضة منقوشة قد ركبت على قائمة زجاج أزرق، وجعله في أزج عن يمين الهيكل، وألقى عليه ستور الحرير وجعل له دخنة من جميع الأفاويه والصموغ وقرّب له عجلا أسود، وبكارة الفراريج، وباكورة الفواكه والرياحين. فلما تمت له سبعة أيام دعاهم إلى السجود إليه؛ فأجابه الناس، ولم يزل الكاهن يجهد نفسه في عبادة العقاب وعمل له عيدا. فلما تم لذلك أربعون يوما نطق الشيطان من جوفه. وكان أوّل ما دعاهم إليه أن ينجز له في إنصاف الشهور بالمندل، ويرش الهيكل بالخمر العتيقة التي تؤخذ من رؤوس الخوابي، وعرّفهم أنه قد أزال عنهم العقبان وضررها، وكذلك يفعل في غيرها مما يخافون. فسرّ الكاهن بذلك، وتوجه إلى أمّ الملك يعرّفها ذلك، فسارت إلى الهيكل

ص: 66

وسمعت كلام العقاب فسرّها ذلك وأعظمته. وبلغ الملك فركب إلى الهيكل حتى خاطبه وأمره ونهاه فسجد له، وأقام له سدنة وأمر أن يزين بأصناف الزينة، وكان مرقونس يقوم بهذا الهيكل ويسجد لتلك الصورة، ويسألها عما يريد فتخبره. وعمل من الكيمياء ما لم يعمله أحد من الملوك فيقال: إنه دفن في صحراء الغرب خمسمائة دفين؛ ويقال: إنه عمل على باب مدينة صا عمودا عليه صنم في صورة امرأة جالسة وفي يدها مرآة تنظر إليها، وكان العليل يأتي إلى هذه المرأة وينظر فيها أو ينظر له أحد فيها فإن كان يموت من علته تلك رؤي ميّتا وإن كان يعيش رآه حيا، وينظر فيها أيضا للمسافر فإن رأوه مقبلا بوجهه علموا أنه راجع، وإن رأوه موليا علموا أنه يتمادى في سفره، وإن كان مريضا أو ميتا رأوه كذلك في المرآة.

وعمل بالإسكندرية صورة راهب جالس على قاعدة وعلى رأسه كالبرنس وفي يده كالعكاز فإذا مرّ به تاجر جعل بين يديه شيئا من المال على قدر بضاعته فإن تجاوزه ولو عن بعد من غير أن يضع بين يديه المال لم يقدر على الجواز وثبت قائما مكانه فكان يجتمع من ذلك مال عظيم يفرّق في الزمنى، والضعفاء والفقراء.

وعمل في زمنه كل أعجوبة ظريفة وأمر أن يزبر اسمه عليها وعلى كل علم وكل طلسم وكل صنم.

وعمل لنفسه ناووسا «1» في داخل الأرض عند جبل يقال له: سدام وعمل تحته أزجا يقال: إن طوله مائة ذراع وارتفاعه ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا، وصفحه بالمرمر، والزجاج الملوّن وسقفه بالحجارة، وعمل فيها دائرة مساطب مبلطة بزجاج على كل مسطبة أعجوبة وفي وسط الأزج دكة من زجاج على كل ركن من أركانها صورة تمنع الدنوّ إليها وبين كل صورتين منارة عليها حجر مضيء وفي وسط الدكة حوض من ذهب فيه جسده بعدما ضمده بالأدوية الماسكة، ونقل إليه ذخائره من الذهب والجوهر وغيره، وسدّ باب الأزج بالصخور والرصاص، وهيل عليها الرمال وكان ملكه ثلاثا وسبعين سنة وعمره مائتين وأربعين سنة، وكان جميلا ذا وفرة حسنة، فتنسكت نساؤه ولزمن الهيكل من بعده. وملك بعده ابنه إيساد، ثم صا بن إيساد. وقيل: صا بن مرقونس أخو إيساد فعمل مرآة في مدينة منف تري الأوقات التي تخصب فيها مصر وتجدب وبنى بداخل الواحات مدينة، ونصب قرب البحر أعلاما كثيرة.

وعمل خلف المقطم صنما يقال له: صنم الحيلة، فكان كل من تعذر عليه أمر يأتيه ويبخره فيتيسر ذلك الأمر له، وجعل بحافة البحر الملح منارا يعلم منه أمر البحر،

ص: 67

وما يحدث فيه من أقصى ما يصل إليه البصر على مسيرة أيام. وهو أوّل من اتخذها ويقال:

إنه بنى أكثر مدينة منف وكل بنيان عظيم بالإسكندرية.

ولما ملك بدارس بن صا الأحياز كلها بعد أبيه، وصفا له ملك مصر بنى في غربي مدينة منف بيتا عظيما لكوكب الزهرة، وأقام فيه صنما عظيما من لازورد مذهب، وتوجّه بذهب يلوح بزرقة وسوّره بسوارين من زبرجد أخضر، وكان الصنم في صورة امرأة لها ضفيرتان من ذهب أسود مدبر. وفي رجليها خلخالان من حجر أحمر شفاف، ونعلان من ذهب وبيدها قضيب مرجان، وهي تشير بسبابتها كأنها مسلمة على من في الهيكل، وجعل بحذائها تمثال بقرة ذات قرنين، وضرعين من نحاس أحمر مموّه بذهب موشحة بحجر اللازورد، ووجّه البقرة تجاه وجه الزهرة، وبينهما مطهرة من أخلاط الأجساد على عمود رخام مجزع، وفي المطهرة ماء مدبر يستنشق به من كل داء وفرش الهيكل بحشيشة الزهرة يبدلونها في كل سبعة أيام، وجعل في الهيكل كراسي للكهنة قد صفحت بالذهب والفضة، وقرّب لهذا الصنم ألف رأس من الضأن والمعز والوحش والطير، وكان يحضر يوم الزهرة ويطوف به وفرش الهيكل وستره، وجعل فيه تحت قبة صورة رجل راكب على فرس له جناحان ومعه حربة في سنانها رأس إنسان معلق.

ولم يزل هذا الهيكل إلى أن هدمه بخت نصر في أيام ماليق بن تدارس، وكان موحدا على دين قبطيم ومصرايم خرج في جيش عظيم في البر والبحر فغزا البربر، وأرض إفريقية، وبلاد الأندلس وأرض الإفرنج إلى البحر، وعمل في البحر أعلا ما زبر عليها اسمه ومسيره، ورجع فهابه ملوك الأرض وكان في غربي مصر مدينة يقال لها: قرميدة بها قوم قد ملكوا عليهم امرأة ساحرة فغزاهم، فلم ينل منهم قصدا، ورجع فأرادت ملكتهم إفساد مصر، فعملت من سحرها وأمرت، فألقي في النيل ففاض الماء على المزارع حتى أفسدها وكثرت التماسيح والضفادع، وفشت الأمراض في الناس، وانبثت فيهم الثعابين والعقارب، فأحضر ماليق الكهنة والحكماء في دار حكمتهم وألزمهم بالنظر لذلك. فنظروا في نجومهم فرأوا أن هذه الآفة أتتهم من ناحية الغرب، وإنّ امرأة عملته وألقته في النيل، فعلموا حينئذ أنه من فعل تلك الساحرة، واجتهدوا في دفع ذلك بما عندهم من العلم حتى انكشف عنهم الماء الفاسد، وهلكت الدواب المضرة وجهزوا قائدا في جيش إلى المدينة فلم يجدوا بها غير رجل واحد فأخذوا من الأموال والجواهر والأصنام ما لا يحصى.

فمن ذلك صورة كاهن من زبرجد أخضر على قائمة من حجر الأسباديم، وصورة روحانيّ من ذهب رأسه من جوهر أحمر، وله جناحان من دور في يده مصحف فيه كثير من علومهم في دفتين مرصعتين بجوهر، ومطهرة من ياقوت أزرق على قاعدة زجاج أخضر فيها ماء لدفع الأسقام، وفرس من فضة إذا عزم عليه بعزائمه ودخن بدخنته وركبه أحد طار به

ص: 68

فأحضر ذلك وغيره من عجائب السحرة وأصنامهم والأموال والجواهر إلى مصر، ومعهم الرجل، فسأله الملك عن أعجب أعمالهم قال: قصدهم بعض ملوك البربر بجمع كثيف، وتخاييل هائلة. فأغلق أهل مدينتنا حصنهم ولجوا إلى الأصنام، فأتى الكاهن إلى بركة عظيمة بعيدة القعر كانوا يشربون منها، فجلس على حافتها وأحاط رؤساء الكهنة بها. وأخذ يزمزم على الماء حتى فار وخرج من وسطه نار في وسطها وجه كدارة الشمس لها ضوء فخرّ الجماعة لها سجودا، وتلك الصورة تعظم حتى صعدت وخرقت القبة، وسمع منها قد كفيتم شرّ عدوّكم، فقاموا وإذا بعدوّهم قد هلك وسائر من معه وذلك أن صورة الشمس التي ظهرت من الماء مرّت فصاحت عليهم صيحة هلكوا بها.

ولما ملك كلكن مصر بعد أبيه خريبا؛ كان النمرود في وقته، فاتصل بنمرود خبر حكمته وسحره فاستزاره، ووجه إليه أن يلقاه، وكان النمرود يسكن سواد العراق وغلب على كثير من الأمم فأقبل كلكن على أربعة أفراس تحمله لها أجنحة قد أحاطب به كالنار، وحوله صور هائلة؛ فدخل بها وهو متوشح بثعبان ومحزم ببعضه وذلك التنين فأغرفاه، ومعه قضيب آس أخضر كلما حرّك التنين رأسه ضربه بالقضيب، فلما رأى النمرود ذلك هاله، واعترف له بجليل الحكم.

وتقول القبط: إن كلكن كان يرتفع فيجلس على الهرم الغربيّ في قبة تلوح على رأسه، وكان أهل البلد إذا دهمهم أمر اجتمعوا حول الهرم، ويقولون: إنه ربما أقام على رأس الهرم أياما لا يأكل ولا يشرب، ثم إنه استتر مدّة حتى توهموا أنه هلك فطمع الملوك في مصر.

وقصدها ملك من المغرب. يقال له: سادوم في جيش عظيم إلى أن بلغ وادي هيبب، فأقبل كلكن وجللهم من سحره بشيء كالغمام شديد الحرارة، وهم تحته أياما لا يدرون أين يتوجهون، ثم ارتفع وصار بمصر يعرّفهم ما عمل وأمرهم، فخرجوا. فإذا بالقوم ودوابهم قد ماتوا فهابه جميع الكهنة وصوّروه في سائر الهياكل وبنى هيكلا لزحل من صوان أسود في ناحية الغرب وجعل له عيدا.

(وفي أيام دارم بن الريان) وهو الفرعون الرابع الذي يقال له عند القبط: دريموش، ظهر معدن فضة على ثلاثة أيام من النيل فأثاروا منه شيئا عظيما وعمل صنما على اسم القمر لأن طالعه كان برج السرطان، ونصبه على القصر الرخام الذي بناه أبوه في شرقيّ النيل، ونصب حوله أصناما كلها من الفضة وألبسها الحرير الأحمر، وعمل للصنم عيدا كلما دخل برج السرطان. ولمّا ولى اكسايس الملك بعد أبيه معدان بن معاديوس بن دارم بن دريموس وهو الفرعون السادس أقام أعلاما كثيرة حول منف، وجعل عليها أساطين يمشي من بعضها إلى بعض، وعمل برقودة وصا ومدائن الصعيد، وأسفل الأرض أعلاما، ومنائر للوقود،

ص: 69

وطلسمات كثيرة، وعمل كودة من فضة ونقش عليها صورة الكواكب ودهنها بالدهن الصينيّ، وأقامها على منار في وسط منف، وعمل في هيكل أبيه روحاني زحل من ذهب أسود مدبر، وعمل في وقته ميزانا يعتبر به الناس كفتاه من ذهب، وعلاقته من فضة، وسلاسله من ذهب فكان معلقا في هيكل الشمس، وكتب على إحدى كفتيه: حق، والأخرى: باطل، وتحته فصوص قد نقش عليها أسماء الكواكب، فيدخل الظالم والمظلوم يأخذ كل منهما فصا من تلك الفصوص ويسمى عليه ما يريده، ويجعل أحد الفصين في كفة، والآخر في كفة، فتثقل كفة الظالم، وترتفع كفة المظلوم، ومن أراد سفرا أخذ فصين وذكر على أحدهما اسم السفر، وعلى الآخر الإقامة، وجعل كل واحد في كفة فإن ثقلا جميعا ولم يرتفع أحدهما على الآخر لم يسافر، وإن ارتفعا سافر، وإن ارتفع أحدهما أخر السفر، ثم سافر وكذا من عليه دين ومن له غائب أو ينظر في صلاح أمره وفساده.

ويقال: إن بخت نصر لمّا دخل إلى مصر حمل هذا الميزان معه فيما حمل إلى بابل، وجعله في بيت من بيوت النار. وعمل في أيامه تنورا أيضا يشوي فيه من غير نار، ويطبخ فيه بغير نار، وسكينا تنصب فإذا رآها شيء من البهائم أقبل حتى يذبح نفسه بها. وعمل ماء يستحيل نارا وزجاجا يستحيل هواء، وشيئا من النيرنجيات والنواسيس.

(وأما البرابي) فذكر ابن وصف شاه: أن سوريد الذي بنى الأهرام هو الذي بنى البرابي كلها، وعمل فيها الكنوز وزبر عليها علوما ووكل بها روحانية تحفظها ممن يقصدها.

وقال في كتاب الفهرست: وبمصر أبنية يقال لها: البرابي من الحجارة العظيمة الكبيرة، وهي على أشكال مختلفة، وفيها مواضع الصحن والسحق والحل والعقد والتقطير تدل على أنها عملت لصناعة الكيمياء، وفي هذه الأبنية نقوش وكتابات لا يدرى ما هي وقد أصيبت تحت الأرض فيها هذه العلوم مكتوبة في التوز، وهي صفائح الذهب والنحاس وفي الحجارة.

وذكر الحسن بن أحمد الهمداني أن برابي مصر تنسب إلى براب بن الدرمسيل بن نحويل بن خنوخ بن قار بن آدم عليه السلام.

وذكر أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني، في كتاب الإشارات الباقية عن القرون الخالية: أن كنيسة في بعض قرى مصر قد شاهدها الموثوق بقولهم المأخوذ برأيهم المأمون من جهتهم الرواية عنهم فيها سرداب ينزل إليه بنيف وعشرين مرقاة، وفيه سرير تحته رجل وصبيّ مشدودين في نطع وفوقه ثور رخام في جوفه باطية زجاج يدخلها قنينة من نحاس في جوفها فتيلة كتان توقد فيصب فيها زيت فلا يلبث إلا أن تمتلىء الباطية الزجاج زيتا، وتفيض إلى الثور الرخام، فينفق على تلك الكنيسة وقناديلها.

ص: 70

وذكر الجهانيّ: أنه صار إليه من وثق به ورفع الباطية عن الثور وأفرغ الزيت من الباطية والثور جميعا وأطفأ النار وأعادها جميعا إلا الزيت فإنه صبّ زيتا من عنده وأبدله فتيلة أخرى وأشعلها، فما لبث الزيت أن فاض إلى الباطية الزجاج ثم فاض إلى الثور الرخام من غير مدد ولا عنصر.

وذكر الجهانيّ: أنه إذا أخرج الميت من تحت السرير انطفأت النار، ولم يفض الزيت.

وذكر عن أهل القرية: أن المرأة المتوهمة في نفسها حملا تحمل ذلك الصبيّ، وتضعه في حجرها فيتحرّك ولدها في البطن إن كان الحمل حقيقة، أو تيأس إن لم تحس بحركة.

قال المؤلف رحمه الله: أخبرني داود بن رزق الله بن عبد الله وكانت له سياحات كثيرة بأراضي مصر ومعرفة أحوالها أنه عبر في مغارة كبيرة يقال لها: مغارة شقلقيل بالوجه القبلي فإذا فيها كوم عظيم من سندروس وأنه تخطاه ومضى فإذا شيء كثير إلى الغاية من السمك، وجميعها ملفوفة بثياب كأنها قد كفنت بعد الموت، وأنه أخذ منها سمكة وفتشها فإذا في فمها دينار عليه كتابة لا يحسن قراءتها. وأنه صار يأخذها سمكة سمكة، ويخرج من فم كل واحدة دينارا حتى اجتمع له من ذلك عدّة دنانير. وأنه أخذ تلك الدنانير ورجع ليخرج حتى جاء إلى الكوم السندروس، وإذا به ارتفع حتى سدّ عليه الموضع، فعاد إلى السمك، وأعاد الدنانير إلى مواضعها، وخرج فإذا السندروس كما كان أوّلا بحيث يتجاوزه، ويخرج. فعاد وأخذ الدنانير، ومشى يخرج بها فإذا السندروس قد ارتفع حتى سدّ عليه الموضع. فعاد إلى السمك، وأعاد الدنانير إلى موضعها، وخرج فإذا السندروس على حاله كما كان أوّلا بحيث يتجاوزه ويخرج. وأنه كرّر أخذ الدنانير، وإعادتها مرارا.

والحال على ما ذكر حتى خشي الهلاك، فتركها وخرج. فلما كان مدّة سكن موضعها، فرأى حجلا في جدار، وقد قوّر، ووضع حجر آخر فحاول الحجر الآخر حتى رفعه فإذا تحته ستة دنانير من تلك الدنانير التي وجدها في أفواه السمك، فأخذ منها واحدا وترك البقية في موضعها، وأعاد الحجر على الحجر، وقدّر الله بعد ذلك أنه ركب النيل ليعدّي من البرّ الشرقيّ إلى البرّ الغربيّ.

قال: فلما توسط البحر وإذا بالأسماك تثب من الماء، وتلقي أنفسها في المركب حتى كدنا نغرق من كثرتها، فصاح الركاب خوفا من الهلاك قال: فتذكرت الدينار الذي معي، وأنّ هذا ربما كان بسببه فأخرجته من جيبي وألقيته في الماء فتواثبت الأسماك من المركب، وألقت نفسها في الماء حتى لم يبق منها شيء.

ص: 71

قلت: وأخبرني قديما بعض من لا أتهمه أنه، ظفر بطلسم من هذا المعنى، وأنه عنده وأراد أن يريني السمك يثب من الماء فلم يقدر لي أن أرى ذلك.

قال ابن عبد الحكم: لما أغرق الله آل فرعون، بقيت مصر بعد غرقهم ليس فيها من أشراف أهلها أحد. ولم يبق بها إلا العبيد، والأجراء والنساء. فاتفق من بمصر من النساء أن يولين منهم أحدا، وأجمع رأيهنّ أن يولينّ امرأة منهنّ يقال لها: دلوكة بنت زبا، وكان لها عقل ومعرفة وتجارب، وكانت في شرف منهنّ وموضع وهي يومئذ بنت مائة وستين سنة.

فملكوها، فخافت أن يتناولها الملوك فجمعت نساء الأشراف، وقالت لهنّ: إنّ بلادنا لم يكن يطمع فيها أحد ولا يمدّ عينه إليها، وقد هلك أكابرنا وأشرافنا وذهب السحرة الذين كنا نقوى بهم، وقد رأيت أن أبني حصنا أحدق به جميع بلادنا، فأضع عليه المحارس من كل ناحية فإنا لا نأمن من أن يطمع فينا الناس، فبنت جدارا أحاطت به على جميع أرض مصر كلها، المزارع والمدائن والقرى، وجعلت دونه خليجا يجري فيه الماء، وأقامت القناطر والترع، وجعلت فيه محارس ومسالح على كل ثلاثة أميال محرس ومسلحة، وفيما بين ذلك محارس صغار على كل ميل، وجعلت في كل محرس رجالا وأجرت عليهم الأرزاق، وأمرتهم أن يحرسوا بالأجراس فإذا أتاهم آت يخافونه ضرب بعضهم إلى بعض الأجراس، فأتاهم الخبر من أي وجه كان في ساعة واحدة، فنظروا في ذلك فمنعت بذلك مصر من أرادها وفرغت من بنائه في ستة أشهر، وهو الجدار الذي يقال له: جدار العجوز بمصر، وقد بقيت بالصعيد منه بقايا كثيرة.

قال المسعودي وقيل: إنما ينته خوفا على ولدها، وكان كثير القنص فخافت عليه سباع البرّ والبحر، واغتيال من جاور أرضهم من الملوك والبوادي، فحوّطت الحائط من التماسيح، وغيرها. وقد قيل غير ما وصفنا. فملكتهم ثلاثين سنة في قول. قال المؤلف رحمه الله: قد بقي من حائط العجوز هذا في بلاد الصعيد بقايا. أخبرني الشيخ المعمر محمد بن المسعودي: أنه سار في بلاد الصعيد على حائط العجوز ومعه رفقة فاقتلع أحدهم منها لبنة فإذا هي كبيرة جدا تخالف المعهود الآن من اللبن في المقدار، فتناولها القوم واحدا بعد واحد يتأمّلونها، وبينما هم في رؤيتها إذ سقطت إلى الأرض، فانفلقت عن حبة فول في غاية الكبر الذي يتعجب منه لعدم مثله في زماننا، فقشروا ما عليها فوجدوها سالمة من السوس، والعيب، كأنها قريبة عهد بحصادها لم يتغير فيها شيء البتة فأكلها الجماعة قطعة قطعة. وكأنها إنما خبئت لهم من الزمن القديم، والأعصر الخالية. إنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها.

قال ابن عبد الحكم: وكان ثم عجوز ساحرة يقال لها: بدور وكانت السحرة تعظمها، وتقدّمها في علمهم وسحرهم فبعثت إليها دلوكة ابنة زبا: إنا قد احتجنا إلى سحرك، وفزعنا

ص: 72

إليك، ولا نأمن أن يطمع فينا الملوك، فاعملي لنا شيئا نغلب به من حولنا. فقد كان فرعون يحتاج إليك، فكيف وقد ذهب أكابرنا، يعني في الغرق مع فرعون موسى وبقي أقلنا، فعملت بربا من حجارة في وسط مدينة منف، وجعلت لها أربعة أبواب كل باب منها إلى جهة القبلة، والبحر والغرب والشرق، وصوّرت فيه صور الخيل، والبغال والحمير والسفن والرجال، وقالت لهم: قد عملت لكم عملا يهلك به كل من أرادكم من كل جهة تؤتون منها برّا أو بحرا، وهذا يغنيكم عن الحصن، ويقطع عنكم مؤنة من أتاكم من كل جهة فإنهم إن كانوا في البرّ على خيل أو بغال أو إبل أو في سفن أو رجالة، تحركت هذه الصور من جهتهم التي يأتون منها فما فعلتم بالصور من شيء أصابهم ذلك في أنفسهم على ما تفعلون بهم. فلما بلغ الملوك حولهم أنّ أمرهم قد صار إلى ولاية النساء، طمعوا فيهم، وتوجهوا إليهم، فلما دنوا من عمل مصر تحرّكت تلك الصور التي في البربا فطفقوا لا يهيجون تلك الصور بشيء، ولا يفعلون بها شيئا إلا أصاب ذلك الجيش الذي كان أقبل إليهم مثله إن كان خيلا. فما فعلوا بتلك الخيل المصوّرة في البربا من قطع رؤوسها أو سوقها أو فقء عيونها أو بقر بطونها أثر مثل ذلك بالخيل التي أرادتهم، وإن كانت سفنا أو رجالة، فمثل ذلك وكانوا أعلم الناس بالسحر، وأقواهم عليه وانتشر ذلك فتبادرهم الناس، وكان نساء أهل مصر حين غرق فرعون وقومه، ولم يبق إلا العبيد والأجراء لم يصبرن عن الرجال. فطفقت المرأة تعتق عبدها، وتتزوّجه وتتزوّج الأخرى أجيرها، وشرطن على الرجال أن لا يفعلوا شيئا إلا بإذنهنّ، فأجابوهنّ في ذلك فكان أمر النساء على الرجال.

قال يزيد بن حبيب: إنّ نساء القبط على ذلك إلى اليوم اتباعا لمن مضى منهم. لا يبيع أحد منهم، ولا يشتري إلا قال: استأمر امرأتي فملكتهم دلوكة بنت زبا عشرين سنة. تدبر أمرهم بمصر حتى بلغ صبيّ من أبناء أكابرهم، وأشرافهم يقال له: دركون بن بلوطس، فملكوه عليهم فلم تزل مصر ممتنعة بتدبير تلك العجوز نحوا من أربعمائة سنة.

وكلما انهدم من ذلك البربا الذي صوّر فيه الصور لم يقدر أحد على إصلاحه إلا تلك العجوز، وولدها وولد ولدها، وكانوا أهل بيت لا يعرف ذلك غيرهم فانقطع أهل ذلك البيت، وانهدم من البربا موضع في زمان لقاس بن مرنيوس. فلم يقدر أحد على إصلاحه، ومعرفة علمه وبقي على حاله وانقطع ما كان يقهرون به الناس. وبقوا كغيرهم إلا أنّ الجمع كثير والمال عندهم. فلما قدم بخت نصر بيت المقدس وظهر على بني إسرائيل، وسباهم، وخرج بهم إلى أرض بابل قصد مصر، وخرب مدائنها، وقراها، وسبى جميع أهلها ولم يترك بها شيئا، حتى بقيت مصر أربعين سنة خرابا ليس فيها ساكن يجري نيلها ويذهب لا ينتفع به ثم ردّ أهل مصر إليها بعد أربعين سنة، فعمروها ولم تزل مقهورة من يومئذ.

ص: 73

وقال بعض الحكماء: رأيت البرابي وأخذت أتأملها، فوجدتها مستحكمة على جميع أشكال الفلك، والذي ظهر لي أنه لم يعملها حكيم واحد بل تولى عملها قوم بعد قوم، حتى تكاملت في دور كامل. وهو ستة وثلاثون ألف سنة شمسية، لأنّ مثل هذه الأعمال لا تعمل إلا بالأرصاد، ولا يتكامل رصد المجموع في أقل من هذه المدّة المذكورة، وكانوا يجعلون الكتاب حفرا، ونقرا في الصخور، ونقشا في الحجارة، وحلقة مركبة في البنيان، وربما كان الكتاب هو الحفر إذا كان متضمنا لأمر جسيم، أو عهدا لأمر عظيم، أو موعظة يرتجى نفعها أو إحياء شرف يريدون تخليد ذكره.

وقد كتب غير المصريين كذلك كما كتبوا على قبة غمدان، وعلى باب القيروان، وعلى باب سمرقند، وعلى عمود مأرب، وعلى ركن المستقرّ، وعلى الأبلق المفرد، وعلى باب الرها، وكانوا يعمدون إلى الأماكن الشريفة، والمواضع المذكورة فيضعون الخط في أبعد المواضع من الدثور وأمنعها من الدروس، وأجدر أن يراها من مرّ بها، ولا ينسى على طول الدهر.

وقال المسعوديّ: واتخذت دلوكة بمصر البرابي والصور وأحكمت آلات السحر، وجعلت في البرابي صور من يرد من كل ناحية ودوابهم إبلا كانت أو خيلا، وصورت فيها من يرد من البحر في المراكب من بحر الغرب، والشام وجمعت في هذه البرابي العظيمة المشيدة البنيان أسرار الطبيعة، وخواص الأحجار، والنباتات والحيوانات، وجعلت ذلك في أوقات فلكية واتصالها بالمؤثرات العلوية، وكانوا إذا ورد إليهم جيش من نحو الحجاز، واليمن عوّرت تلك الصور التي في البريا من الإبل وغيرها فيتعوّر ما في ذلك الجيش وينقطع عنهم ناسه، وحيوانه وإذا كان الجيش من نحو الشام فعل في تلك الصور التي من تلك الجهة التي أقبل منها جيش الشام ما فعل بما وصفنا. فيحدث في ذلك الجيش من الآفات في ناسه وحيوانه ما صنع في تلك الصور التي من تلك الجهة، وكذلك من ورد من جيوش الغرب، ومن ورد في البحر من رومية والشام، وغير ذلك من الممالك. فهابهم الملوك والأمم ومنعوا ناحيتهم من عدوّهم واتصل ملكهم بتدبير هذه العجوز وإتقانها لزمّ أقطار المملكة وأحكامها السياسية.

وقد تكلم من سلف وخلف في هذه الخواص وأسرار الطبيعة التي كانت ببلاد مصر وهذا الخبر من فعل العجوز مستفيض لا يشكون فيه والبرابي بمصر من صعيدها وغيره باقية إلى هذا الوقت وفيها أنواع الصور مما إذا صوّرت في بعض الأشياء أحدثت أفعالا على حسب ما رسمت له، وصنعت من أجله على حسب قولهم في الطبائع والله أعلم بكيفية ذلك.

قال: وأخبرني غير واحد من بلاد اخميم من صعيد مصر عن أبي الفيض ذي النون بن

ص: 74

إبراهيم المصريّ «1» الإخميميّ الزاهد: وكان حكيما وكانت له طريقة يأتيها، ونحلة يقصدها، وكان ممن يقرّ على أخبار هذه البرابي وامتحن كثيرا مما صوّر فيها ورسم عليها من الكتابة، والصور، قال: رأيت في بعض البرابي كتابا تدبرته فإذا هو: احذر العبيد المعتقين، والأحداث والجند المتعبدين، والنبط المستعربين، ورأيت في بعضها كتابا تدبرته فإذا فيه: يقدّر المقدّر والقضاء يضحك. وفي آخره كتابة تثبتها في ذلك العلوم فوجدتها:

تدبر بالنجوم ولست تدري

ورب النجم يفعل ما يريد

قال: وكانت هذه الأمة التي اتخذت هذه البرابي لهجة بالنظر في أحكام النجوم من المواظبين على معرفة أسرار الطبيعة، وكان عندها مما دلت عليه أحكام النجوم: أنّ طوفانا سيكون في الأرض، ولم يقطع على ذلك الطوفان ما هو؟ أنار تأتي على الأرض فتحرق ما عليها؟ أو ماء يغرقها، أو سيف يبيد أهلها، فخافت دثور العلوم، وفناءها بفناء أهلها، فاتخذت هذه البرابي ورسمت فيها علومها من الصور والتماثيل والكتابة، وجعلت بنيانها نوعين طينا وحجارة وفرزت ما بني بالطين مما بني بالحجارة، وقالت: إن كان هذا الطوفان نارا استحجر ما بني بالطين، وإن كان الطوفان الوارد ماء أذهب ما بنينا بالطين، ويبقى ما بني بالحجارة، وإن كان الطوفان سيفا بقي كل من النوعين مما هو من الطين وما هو من الحجر. وهذا ما قيل، والله أعلم. إنه كان قبل الطوفان، وإنّ الطوفان الذي كانوا يرقبونه ولم يعينوه أنار هو أم ماء أم سيف. كان سيفا أتى على جميع أهل مصر من أمّة غشيتها، وملك نزل عليها فأباد أهلها.

ومنهم من رأى أن ذلك الطوفان كان وباء عمّ أهلها. ومصداق ذلك ما يوجد ببلاد تنيس من التلال المتقذرة من الناس من صغير وكبير، وذكر وأنثى، كالجبال العظام، وهي المعروفة ببلاد تنيس من أرض مصر بذات الكوم، وما يوجد ببلاد مصر، وصعيدها من الناس المنكسين بعضهم على بعض في الكهوف والغيران والنواويس، ومواضع كثيرة من الأرض لا يدرى من أي الأمم هم، فلا النصارى تخبر عنهم أنهم من أسلافهم، ولا اليهود تقول إنهم من أوائلهم ولا المسلمون يدرون من هؤلاء، ولا تاريخ ينبئ عن حالهم، وعليهم أثوابهم وكثيرا ما يوجد في تلك البرابي والجبال من حليتهم. والبرابي ببلاد مصر بنيان قاتم عجيب كالبربا التي بأخميم والتي بسمنود وغير ذلك.

ص: 75