الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دينار، ثغر أسوان: خمسة وعشرون ألف دينار، ثغر عيذاب: يجري في غير هذا الديوان.
وقال في متجدّدات سنة ثمان وثمانين وخمسمائة: والذي انعقد عليه ارتفاع الديوان السلطانيّ ثلثمائة ألف وأربعة وخمسون ألفا وأربعة وأربعون دينارا، والذي يميز زائد الارتفاع لسنة سبع وثمانين وخمسمائة على ارتفاع سنة ست وثمانين اثنان وعشرون ألفا وأربعمائة وخمسة وأربعون دينارا، والذي انساق من البواقي للسنة المذكورة أحد وثلاثون ألفا وستمائة واثنان وعشرون دينارا والذي اشتمل عليه متحصل ديوان الخاص الملكي الناصري بالديار المصرية لسنة سبع وثمانين اثنان وعشرون ألفا وأربعمائة وخمسة وأربعون دينارا؛ والذي انساق من البواقي للسنة المذكورة أحد وثلاثون ألفا وستمائة واثنان وعشرون دينارا والذي اشتمل عليه متحصل ديوان الخاص الملكي الناصري بالديار المصرية لسنة سبع وثمانين وخمسمائة ثلثمائة ألف وأربعة وخمسون ألفا وأربعمائة وأربعة وخمسون دينارا ونصف وثلث وثمن.
ذكر الروك الأخير الناصري
«1»
وكان الجندي، إقطاعه بمفرده، وله تبع واحد من عشرين ألف درهم إلى ثلاثين، وفيهم من إقطاعه خمسة عشر ألفا وأقلهم عشرة آلاف، وذلك سوى الضيافة، وبلغ خمسة آلاف درهم في الإقطاع الثقيل، وكان الجنديّ يخرج إلى السكان بطوالة خيل، ويخرج مقدّم الحلقة كأمير عشرة، وتكون مضافته إذا نزل حوله، وأكثرهم يأكل على سماطه ولا يمكن الأمير أن يأكل إلا وجميع أجناده معه، ويأخذ غلمان أجناده كل يوم الطعام من مطبخه، وإذا رأى نارا توقد سأل عنها فيقال: إن فلانا اشتهى كذا، فيغضب ممن لا يأكل عنده، ومع ذلك كانت أشكالهم بشعة وملابسهم غير خائلة.
فلما أفضت السلطنة إلى المنصور لاجين «2» : راك «3» البلاد وذلك أن أرض مصر كانت أربعة وعشرين قيراطا، فيختص السلطان منها بأربعة قراريط، ويختص الأجناد بعشرة قراريط، ويختص الأمراء بعشرة قراريط، وكان الأمراء يأخذون كثيرا من إقطاعات الأجناد فلا يصل إلى الأجناد منها شيء، ويصير ذلك الإقطاع في دواوين الأمراء، ويحتمي بها قطاع الطريق وتثور بها الفتن، ويقوم بها الهوشات ويمنع منها الحقوق والمقرّرات الديوانية،
وتصير مأكلة لأعوان الأمراء ومستخدميهم، ومضرّة على أهل البلاد التي تجاورها، فأبطل السلطان ذلك، وردّ تلك الإقطاعات على أربابها وأخرجها بأسرها من دواوين الأمراء.
وأوّل ما بدأ به ديوان الأمير سيف الدين منكوتمر نائب السلطنة، فأخرج منه ما كان فيه من هذه الإقطاعات، وكان يتحصل له منها مائة ألف أردب غلة في كل سنة، واقتدى به جميع الأمراء، وأخرجوا ما في إقطاعاتهم من ذلك فبطلت الحمايات، وجعل السلطان في هذا الروك للأمراء والأجناد أحد عشر قيراطا، وأفرد تسعة قراريط ليخدم بها عسكر أو يقطعهم إياها ثم رتب أوراقا بتكفية الأمراء والأجناد بعشرة قراريط، ووفر قيراطا لزيادة من عساه يطلب زيادة لقلة متحصل إقطاعه، وأفرد لخاص السلطان عدّة أعمال جليلة، وأفرد للنائب منكوتمر لتفرقة المثالات في تابعيه، فتنكرت قلوب الأمراء حتى كان من المنصور لاجين، ونائبه منكوتمر ما كان.
فلما كانت الأيام الناصرية راك الناصر محمد البلاد، قال جامع السيرة الناصرية: وفي سنة خمس عشرة وسبعمائة اختار السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون أن يروك الديار المصرية، وأن يبطل منها مكوسا كثيرة، ويفضل لخاص مملكته شيئا كثيرا من أراضي مصر، وكان سبب ذلك أنه اعتبر كثيرا من أخباز المماليك والحاشية الذين كانوا للملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير سلار وسائر المماليك البرحية، فإذا هي ما بين ألف دينار إلى ثمانمائة دينار، وخشي من قطع أخباز المذكورين، فولد له الرأي مع القاضي فخر الدين محمد بن فضل الله ناظر الجيش أن يروك ديار مصر، ويقرّر إقطاعات مما يختار، ويكتب بها مثالات سلطانية، فتقدّم الفخر، ناظر الجيش، فعمل أوراقا بما عليه عبر النواحي ومساحتها.
وعين السلطان لكل إقليم من أقاليم ديار مصر أناسا، وكتب مرسوما للأمير بدر الدين جيكل بن البابا أن يخرج لناحية الغربية ومعه أعزل الحاجب ومن الكتاب المكين بن فرويته، وأن يخرج الأمير عز الدين إيدمر الخطيريّ إلى ناحية الشرقية، ومعه الأمير ايتمش المجدي، ومن الكتاب أمين الدولة ابن قرموط، وأن يخرج الأمير بلبان الصرخدي والقليجي وابن طرنطاي، وبيبرس الجمدار إلى ناحية المنوفية والبحيرة، وأن يخرج البليلي والمرتيني إلى الوجه القبلي، وندب معهم كتابا ومستوفين وقياسين، فساروا إلى حيث ذكر، فكان كل منهم إذا نزل بأوّل عمله طلب مشايخ كل بلد ودللائها وعدولها وقضاتها وسجلاتها التي بأيدي مقطعيها، وفحص عن متحصلها من عين وغلة وأصناف، ومقدار ما تحتوي عليه من الفدن ومزروعها وبورها، وما فيها من ترايب وبواق وغرس ومستبحر، وعبرة الناحية وما عليها لمقطعيها من غلة ودجاج وخراف وبرسيم وكشك وكعك، وغير ذلك من الضيافة فإذا حرّر ذلك كله ابتدأ بقياس تلك الناحية وضبط بالعدول والقياسين وقاضي العمل ما يظهر بالقياس الصحيح، وطلب مكلفات تلك القرية وغنداقها وفضل ما فيها من الخاص السلطاني وبلاد
الأمراء وإقطاعات الأجناد والرزق حتى ينتهي إلى آخر عمله.
ثم حضروا بعد خمسة وسبعين يوما وقد تحرّر في الأوراق المحضرة حال جميع ضياع أرض مصر، ومساحتها وعبرة أراضيها وما يتحصل عن كل قرية من عين وغلة وصنف، فطلب السلطان الفخر ناظر الجيش والتقيّ الأسعد بن أمين الملك المعروف بكاتب سرلغي وسائر مستوفي الدولة وألزمهم بعمل أوراق تشتمل على بلاد الخاص السلطاني التي عينها لهم، وعلى إقطاعات الأمراء، وأضاف على عبرة كل بلد ما كان على فلاحيها من ضيافة لمقطعيها وأضاف إلى العبرة ما في الإقطاع من الجوالي، وكتب مثالات للأجناد بإقطاعات على هذا الحكم فاعتدّ منها بما كان يصرف في كلف حمل الغلال من النواحي إلى ساحل القاهرة، وما كان عليها من المكس، وأبطل السلطان عدّة مكوس: منها مكس ساحل الغلة، وكان جلّ متحصل الديوان وعليه إقطاعات الأمراء والأجناد ويتحصل منه في السنة أربعة آلاف ألف وستمائة ألف درهم وعليه أربعمائة مقطع لكل منهم من عشرة آلاف إلى ثلاثة آلاف ولكل من الأمراء من أربعين ألف إلى عشرة آلاف، وكانت جهة عظيمة لها متحصل كثير جدّا، وينال القبط منها منافع كثيرة لا تحصى، ويحلّ بالناس من ذلك بلاء شديد وتعب عظيم من المغارم والظلم. فإن مظالمها كانت تتعدّد ما بين نواتية «1» تسرق وكيالين تبخس وشادّين «2» وكتاب يريد كل منهم شيئا، وكان مقرّر الأردب: درهمين للسلطان، ويلحقه نصف درهم غير ما ينهب ويسرق، وكان لهذه الجهة مكان يعرف بخص الكيالة في ساحل بولاق يجلس فيه شاد وستون متعمما ما بين كتاب ومستوفين وناظر، وثلاثون جنديا مباشرون، ولا يمكن أحدا من الناس أن يبيع قدحا من غلة في سائر النواحي بل تحمل الغلات حتى تباع في خص الكيالة ببولاق.
ومما أبطل أيضا نصف السمسرة، وهو عبارة عن أن من باع شيئا من الأشياء فإنه يعطي أجرة الدلال على ما تقرّر من قديم عن كل مائة درهم درهمين، فلما ولي ناصر الدين الشيخي الوزارة قرّر على كل دلال من دلالته درهما من كل درهمين. فصار الدلال يعمل معدّله ويجتهد حتى ينال عادته وتصير الغرامة على البائع، فتضرّر الناس من ذلك وأوذوا فلم يغاثوا حتى أبطل ذلك السلطان، ومما أبطل رسوم الولاية وكانت جهة تتعلق بالولاة المقدّمين، فيجبيها المذكورون من عرفاء الأسواق وبيوت الفواحش، ولهذه الجهة ضامن وتحت يده عدّة صبيان وعليها جند مستقطعون وأمراء وغيرهم، وكانت تشتمل على ظلم شنيع وفساد، قبيح وهتك قوم مستوزين وهجم لبيوت أكثر الناس، ومما أبطل مقرّر الحوائص والبغال من المدينة وسائر أعمال مصر كلها من الوجه القبلي والبحري، فكان على
كل من الولاة والمقدّمين مقرر يحمل في كل قسط من أقساط السنة إلى بيت المال عن ثمن حياصة ثلثمائة درهم، وعن ثمن بغل خمسمائة درهم وعلى هذه الجهة عدّة مقطعين ويفضل منها ما يحمل، وكان يصيب الناس من هذه الجهة ما لا يوصف ويحلّ بهم من عسف الرقاصين ما يهون معه الموت، ومن ذلك مقرّر السجون، وهو عبارة عما يؤخذ من كل من يسجن فللسجان على حكم المقرّر ستة دراهم سوى كلف أخرى، وعلى هذه الجهة عدّة مقطعين ويرغب فيها الضمان ويتزايدون في مبلغ ضمانها لكثرة ما يتحصل منها فإنه كان لو تخاصم رجل مع امرأته أو ابنه رفعه الوالي إلى السجن فبمجرّد ما يدخل السجن، ولو لم يقم به إلا لحظة واحدة أخذ منه المقرّر، وكذلك كان على سجن القضاة أيضا.
ومن ذلك مقرّر طرح الفراريج: ولها ضمان عدّة في سائر نواحي أرض مصر يطرحون على الناس الفراريج فيمرّ بضعفاء الناس من ذلك بلاء عظيم، وتقاسي الأرامل من العسف والظلم شيئا كثيرا، وكان على هذه الجهة عدّة مقطعين، ولا يمكن أحدا من الناس في جميع الأقاليم أن يشتري فروجا فما فوقه إلا من الضامن ومن عثر عليه أنه اشترى أو باع فروجا من سوى الضامن جاءه الموت من كل مكان، وما هو بميت.
ومن ذلك مقرّر الفرسان: وهو عبارة عما يجيبه ولاة النواحي من سائر البلاد فلا يؤخذ درهم مقرّر حتى يغرم عليه صاحبه درهمين ويقاسي الناس فيه أهوالا صعبة.
ومن ذلك مقرّر الأقصاب والمعاصر: وهو ما يجبى من مزارعي قصب السكر، ومن المعاصر ورجال المعاصر.
ومن ذلك مقرّر رسوم الأفراح: ويجبي من سائر النواحي ولهذه الجهة عدّة ضمان ولا يعرف لهذه الجهة أصل البتة، وإنما يجبي بضرائب ينال الناس فيها مع المقرّر غرامات وروعات.
ومن ذلك حماية المراكب: وهي عبارة عما يؤخذ من كل مركب بتقرير معين يعرف بمقرّر الحماية وكانت هذه الجهة أشدّ ما ظلم به الناس فيؤخذ من كل من ركب البحر للسفر حتى من السؤال والمكدين.
ومن ذلك حقوق القينات: وهو عبارة عما يجمع من الفواحش والمنكرات فيجبيه مهتار الطشتخاناه السلطانية من أوباش الناس.
ومن ذلك شدّ الزعماء: وهي جهة مفردة وحقوق السودان وكشف المراكب ومقرّر ما على كل جارية، أو عبد حين نزولهم بالخانات لعمل الفاحشة فيؤخذ من كل ذكر وأنثى مقرّر معين، ومتوفر الجراريف، وهو ما يجبي من سائر النواحي فيحمل ذلك مهندسوا البلاد إلى بيت المال بإعانة الولاة لهم في تحصيل ذلك وعلى هذه الجهة عدّة مقطعين من الجند.
ومقرّر المشاعلية وهو عبارة عما يؤخذ عن كسح الأفنية وحمل ما يخرج منها من الوسخ إلى الكيمان، فكان إذا امتلأ سراب جامع أو مدرسة أو مسمط أو تربة أو منزل من منازل سائر الناس لا يمكنه ولو بلغ من العظمة ما عسى أن يبلغ التعرّض لذلك حتى يأتيه ضامن الجهة، ويقاوله على كسح ذلك بما يريد وكان من عادة الضامن الإشطاط في السوم، وطلب أضعاف القيمة فإن لم يرض رب المنزل بما طلب الضامن وإلا تركه وانصرف فلا يقدر على مقاساة ترك الوسخ ويضطرّ إلى سؤاله ثانيا، فيعظم تحكمه ويشتدّ بأسه إلى أن يرضيه بما يختار حتى يتمكن من كسح فنائه ورفع ما هنالك من الأقذار.
ومن ذلك إبطال المباشرين من النواحي: وكانت بلاد مصر كلها من الوجهين القبليّ والبحري ما من بلد صغير وكبير إلا وفيه عدّة من كتاب وشادّ ونحو ذلك، فأبطل السلطان المباشرين وتقدّم منعهم من مباشرة النواحي إلا من بلد فيها مال السلطان فقط، فأراح الله سبحانه الخلق بإبطال هذه الجهات من بلاء لا يقدر قدره ولا يمكن وصفه.
ولما أبطل السلطان، هذه الجهات، وفرغ من تعيين الإقطاعات للأمراء والأجناد أفرز لخاص السلطان من بلاد أرض مصر عدّة نواح، مما كان في إقطاعات البرجية وهي الجيزة وأعمالها وهو والكوم الأحمر، ومنفلوط والمرج والخصوص، وغير ذلك مما بلغ عشرة قراريط من الإقليم، وصار لإقطاعات الأمراء والأجناد، وغيرهم أربعة عشر قيراطا، ومكر الأقباط فيما أمكنهم المكر فيه، فبدأوا بأن أضعفوا عسكر مصر، ففرّقوا الإقطاع الواحد في عدّة جهات، فصار بعض الجبي في الصعيد وبعضه في الشرقية، وبعضه في الغربية إتعابا للجنديّ، وتكثيرا للكلفة، وأفردوا جوالي «1» الذمّة من الخاص، وفرّقوها في البلاد التي أقطعت للأمراء والأجناد.
فإن النصارى كانوا مجتمعين في ديوان واحد كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى، فصار نصارى كل بلد يدفعون جاليتهم إلى مقطع تلك الضيعة، فاتسع مجال النصارى، وصاروا يتنقلون في القرى، ولا يدفعون من جزيتهم إلا ما يريدون، فقلّ متحصل هذه الجهة بعد كثرته، وأفردوا ما بقي من جهات المكوس «2» برسم الحوائج خاناه التي تصرف للسماط ليتناولوا ذلك ويوردوا منه ما شاءوا، ثم يتولوا صرف ما يحصل منه في جهات تستهلك بالأكل، وصارت جهات المكوس مما يتحدّث فيه الوزير، وشاد الدواوين.
ثم نظر السلطان فيما كان بيد الأميرين بيبرس الجاشنكير، وسلار نائب السلطنة من البلاد، فأخذ ما كان باسم كل منهما وباسم حواشيه، ولم يدع من ذلك شيئا مما كانوا قد
وقفوه حتى حله، وجعل الجميع إقطاعات، واعتدّ في سائر الإقطاعات بما كان يستهديه المقطع من فلاحه، فحسب ذلك وأقامه من جملة عبر الإقطاع وأبطل الهدية، فلم يتهيأ له الفراغ من ذلك إلى آخر السنة، فلما أهلّ المحرّم من سنة ست عشرة وسبعمائة، وقد نظمت الحسبانات على ثلث مغلّ سنة خمس عشرة. جلس السلطان في الإيوان الذي استجدّه بقطعة الجبل، وقد تقدّم لسائر نقباء الأجناد على لسان نقيب الجيش بالحضور بأجنادهم، وجعل للعرض في كل يوم أميرين من الأمراء المقدّمين بمضافيهما، فكان الأمير مقدّم الألف يقف، ومعه مضافوه، وناظر الجيش يستدعيهم من تقدمة ذلك الأمير بأسمائهم على قدر منازلهم، فيقدّم نقيب الجيش، الواحد بعد الواحد من يد نقيبه إلى ما بين يدي السلطان، فإذا مثل بحضرته سأله السلطان بنفسه من غير واسطة عن اسمه، وأصله وجنسه، ووقت حضوره إلى ديار مصر، ومع من قدم، وإلى من صار من الأمراء وغيرهم، وعن مشاهده التي حضرها في الغزو، وعما يعرفه من صناعة الحرب وغير ذلك من الاستقصاء، فإذا انتهى استفهامه إياه ناوله بيده مثالا من غير تأمّل بحسب ما قسم الله له، فلم يمرّ به في مدّة العرض أحد إلا وقد عرفه وأشار إلى الأمراء بذكر شيء من خبره.
هذا وقد تقدّم إلى سائر الأمراء بأسرهم بأن يحضروا إلى الإيوان عند العرض، ولا يعارض أحد منهم السلطان في شيء يفعله، فكانوا يحضرون وهم سكوت لا يتكلم أحد منهم خوفا من مخالفة السلطان لما يقوله، وأخذ السلطان في مواربة الأمراء فما أثنوا على أحد في مجلس العرض إلا وأعطاه السلطان مثالا بإقطاع رديء، فلما عملوا ذلك أمسكوا عن الكلام معه جملة، وانفرد بالاستبداد بأموره دونهم، فما عرف منه أنه قدّم إليه أحد إلا وسأله: إن كان مملوكا عمن أقدمه من التجار، وسائر ما تقدّم، وإن كان شيخا فعن أصله وسنه وكم مصاف حضرها؟ حتى أتى على الجميع وأفرد المشايخ العاجزين فلم يعطهم إقطاعات، وجعل لكل منهم مرتبا يقوم به، فانتهى العرض في طول المحرّم، وتوفر كثير من مثالات الأجناد فبلغ عدّة مائتي مثال، ثم أخذ في عرض أطباق المماليك السلطانية، ووفر من جوامكهم كثيرا، وقطع عدّة رواتب من رواتبهم، وعوّضهم عن ذلك إقطاعات، وجعل جهة مكس قطيا لضعفاء الأجناد ممن قطع خبزه فجعل لك منهم في السنة ثلاثة آلاف درهم.
وكان لبيبرس، وسلار الجوكندار، تعلقات كثيرة في بيت المال وفي الأعمال كالجيزة والإسكندرية من متجر، وحمايات فارتجع ذلك وأبطله وما شابهه، وأضاف ما لم يقطعه إلى ديوان الخاص، ومما أمر به في مدّة العرض أن لا يردّ أحد مثالا أخذه من السلطان ولو استقله، ولا يشفع أمير في جنديّ، وإنّ من خالف ذلك ضرب وحبس ونفي وقطع خبزه، فعظمت مهابة السلطان وقويت حرمته، ولم يجسر أحد أن يردّ عليه مثالا أخذ من السلطان، ولا استطاع أمير أن يتكلم لأحد، وصار كثير ممن كان إقطاعه مثلا ألف دينار إلى إقطاع مائتي دينار، ونحوها وكثير ممن كان إقطاعه قليلا إلى إقطاع معتبر، فإنه كان يعطي المثال
من غير تأمّل كيفما وقعت يده عليه.
وقدّر الله سبحانه وتعالى أنّ السلطان كان من جملة صبيان مطبخه، رجل مضحك يهزل بحضرته، فيضحك منه، ويعجب به ولا يعترض فيما يقول من السخف، فجلس السلطان في بعض أيام العرض في البستان بقلعة الجبل، وعنده الخاصة من الأمراء فدخل هذا المضحك، وأخذ في السخرية على عادته ليضحك السلطان، إلى أن قال: وجدت بعض أجناد الروك الناصريّ، وهو راكب الإكديش، وخرجه خلفه ورمحه فوق كتفه يقصد بهذا السخرية، والطعن، فغضب السلطان غضبا شديدا وصاح: خذوه وعرّوه ثيابه، فتبادره الأعوان، وجرّوه برجله، ونزعوا ثيابه وربطوه في الساقية مع القواديس، وأكثروا من ضرب الأبقار حتى أسرعت بدوران الساقية، فصار المسكين ينقلب مع القواديس ويغطس في المادة تارة ويرقى أخرى ثم ينتكس، والماء يمرّ عليه مقدار ساعة إلى أن انقطع حسه، وأشرف على الهلاك، واشتدّ رعب الأمراء لما رأوا من قوّة غضب السلطان.
ثم تقدّم الأمير طغاي الدوادار في طائفة من الأمراء الخاصكية، واعتذروا عن هذا المسكين بأنه لم يرد إلا أن يضحك السلطان من كلامه، ولم يقصد عيب الأجناد، ولا انتقاصهم ونحو هذا من القول إلى أن أمر بحله، فإذا ليس فيه حركة، فسحب ورسم السلطان بأنه إن كان حيا لا يبيت بديار مصر، فأخرج من وقته منفيا وحمد الله كل من الأمراء على ما وفقه من السكوت عن الكلام في حال العرض.
وما زال الأمر بمصر على ما رسمه الملك الناصر في هذا الروك إلى أن زالت دولة بني قلاوون بالملك الظاهر برقوق في شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة، فأبقي الأمر على ذلك إلا أنّ أشياء منه أخذت تتلاشى قليلا قليلا إلى أن كانت الحوادث والمحن في سنة ست وثمانمائة حيث حدث من أنواع التغيرات، وتنوّع الظلم ما لم يخطر ببال أحد، وسيمرّ بك حمل من ذلك عند ذكر أسباب خراب إقليم مصر إن شاء الله تعالى، وكانت لأراضي مصر تقاو مخلدة في نواحيها وهي على قسمين: تقاو سلطانية، وتقاو بلدية، فالتقاوي السلطانية، وضعها الملوك في النواحي، وكان الأمير أو الجنديّ عند ما يستقرّ على الإقطاع يقبض ماله من التقاوي السلطانية، فإذا خرج عنه طولب بها، فلما كان الروك الناصري خلدت تقاوي كل ناحية بها، وضبطت في الديوان السلطاني فبلغت جملتها مائة ألف وستين ألف أردب سوى التقاوي البلدية.