الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأخذ الله من طين فصوّره
…
لما رأى أنه قد تم واعتدلا
دعاه آدم صوتا فاستجاب له
…
فنفخ الروح في الجسم الذي جبلا
ثمة أورثه الفردوس يسكنها
…
وزوجه ضلعة من جنبه جعلا
لم ينهه ربه عن غير واحدة
…
من شجر طيب إن شم أو أكلا
وكانت الحية الرقشاء إذ خلقت
…
كما ترى ناقة في الخلق أو جملا
فلامها الله إذ أطغت خليفته
…
طول الليالي ولم يجعل لها أكلا
تمشي على بطنها في الأرض ما عمرت
…
والترب تأكله حزنا وإن سهلا
وقال الحافظ أبو الخطاب مجد الدين عمر بن دحية: ومصر أخصب بلاد الله وسماها الله بمصر وهي هذه دون غيرها بإجماع القرّاء على ترك صرفها، وهي اسم لا ينصرف في معرفة لأنه اسم مذكر سميت به هذه المدينة، واجتمع فيه التأنيث والتعريف فمنعاه الصرف، وهي عندنا مشتقة من مصرت الشاة إذا أخذت من ضرعها اللبن فسميت: مصر لكثرة ما فيها من الخير مما ليس في غيرها فلا يخلو ساكنها من خير يدرّ عليه منها كالشاة التي ينتفع بلبنها، وصوفها، وولادتها. وقال ابن الأعرابيّ: المصر الوعاء، ويقال للمعا المصير، وجمعه مصران ومصارين، وكذلك هي خزائن الأرض. قال أبو بصرة الغفاريّ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مصر خزائن الأرض كلها ألا ترى إلى قول يوسف عليه السلام: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
[يوسف/ 55] فأغاث الله بمصر يومئذ وخزائنها كل حاضر وباد ذكره الحوفيّ في تفسيره.
وقال البكري: أمّ خنور بفتح أوّله وتشديد ثانيه وبالراء المهملة اسم لمصر، وقال أرطاة بن شهبة: يا آل ذبيان! ذودوا عن دمائكم، ولا تكونوا كقوم أم خنور. يقول: لا تكونوا أذلاء ينالكم من أراد، يجب التأمل في هذه الجملة، وهي أم خنور. قال كراع: أم خنور:
النعمة ولذلك سميت مصر أم خنور لكثرة خيرها. وقال عليّ بن حمزة: سميت أم خنور لأنها يساق إليها القصار الأعمار، ويقال للضبع: خنور وخنوز بالراء والزاي، وقال ابن قتيبة في غرائب الحديث: ومصر الحدّ، وأهل هجر يكتبون في شروطهم اشترى فلان الدار بمصورها كلها أي بحدودها، وقال عديّ بن زيد:
وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به
…
بين النهار وبين الليل قد فصلا
أي حدّا.
ذكر طرف من فضائل مصر
ولمصر فضائل كثيرة منها: أنّ الله عز وجل ذكرها في كتابه العزيز بضعا وعشرين مرّة تارة بصريح الذكر وتارة إيماء. قال تعالى: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ
[البقرة/ 61] .
قال أبو محمد عبد الحق بن عطية في تفسيره: وجمهور الناس يقرءون مصرا بالتنوين وهو
خط المصاحف إلا ما حكي عن بعض مصاحف عثمان رضي الله عنه، وقال مجاهد وغيره:
من صرفها أراد مصرا من الأمصار غير معين، واستدلوا بما اقتضاه القرآن من أمرهم بدخول القرية، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه، وقالت طائفة ممن صرفها: أراد مصر فرعون بعينها واستدلوا بما في القرآن أن الله تعالى أورث بني إسرائيل ديار فرعون وآثاره، وأجازوا صرفها. قال الأخفش: لخفتها وشبهها بهند ودعد، وسيبويه لا يجير هذا.
وقال غير الأخفش: أراد المكان فصرف. وقرأ الحسن وأبان بن ثعلب وغيرهما: اهبطوا مصر بترك الصرف؛ وكذلك هي في مصحف أبيّ بن كعب. وقال: هي مصر فرعون. قال الأعمش «1» : هي مصر التي عليها صالح بن علي، وقال أشهب: قال لي مالك: هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون، قال تعالى: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ
[يوسف/ 99] . قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ في تفسيره عن فرقد الشيخي.
قال: خرج يوسف عليه السلام يتلقى يعقوب عليه السلام، وركب أهل مصر مع يوسف، وكانوا يعظمونه فلما دنا أحدهما من صاحبه وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على رجل من ولده يقال له: يهوذا فنظر يعقوب إلى الخيل، وإلى الناس، فقال: يا يهوذا هذا فرعون مصر؟ قال: لا، هذا ابنك فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه قال يعقوب عليه السلام: عليك يا ذاهب الأحزان عني. هكذا قال: يا ذاهب الأحزان عني.
وقال تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
[يونس/ 87] . قال الطبري «2» عن ابن عباس وغيره: كانت بنو إسرائيل تخاف فرعون، فأمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد يصلون فيها. قال قتادة: وذلك حين منعهم فرعون الصلاة فأمروا أن يجعلوا مساجدهم في بيوتهم وأن يوجهوا نحو القبلة، وعن مجاهد: بيوتكم قبلة قال: نحو الكعبة حين خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلوا في الكنائس الجامعة فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سرّا، وعن مجاهد في قوله: أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً
[يونس/ 87] قال: مصر: الإسكندرية.
وقال تعالى مخبرا عن فرعون أنه قال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ
[الزخرف/ 51] . قال ابن عبد الحكم، وأبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس، وغيرهما عن أبي رهم السماعي أنه قال في قوله تعالى: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي
[الزخرف/ 51] قال: ولم يكن يومئذ في الأرض ملك أعظم من
ملك مصر، وكان جميع أهل الأرضيين يحتاجون إلى مصر، وأما الأنهار فكانت قناطر وجسورا بتقدير وتدبير حتى أن الماء يجري من تحت منازلها وأفنيتها فيحبسونه كيف شاءوا، فهذا ما ذكره الله سبحانه في مصر من آي الكتاب العزيز بصريح الذكر.
(وأما) ما وقعت إليه الإشارة فيه من الآيات فعدّة.
قال تعالى: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ
[يونس/ 93]، وقال تعالى:
وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ
[المؤمنون/ 50] . قال ابن عباس، وسعيد بن المسيب، ووهب بن منبه: هي مصر، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه: هي الإسكندرية، وقال تعالى: فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ
[الشعراء/ 57]، وقال تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ
[الدخان/ 25] . قال ابن يونس في قول الله سبحانه: فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ
[الشعراء/ 57] . قال أبو رهم: كانت الجنات بحافتي النيل من أوّله إلى آخره من الجانبين ما بين أسوان إلى رشيد، وسبعة خلج: خليج الإسكندرية، وخليج سخا، وخليج دمياط، وخليج سردوس، وخليج منف، وخليج الفيوم، وخليج المنهى متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء وزروع ما بين الجبلين كله من أوّل مصر إلى آخرها مما يبلغه الماء، وكان جميع أرض مصر كلها تروي يومئذ من ستة عشر ذراعا لما قد دبروا من قناطرها، وجسورها. قال: والمقام الكريم: المنابر كان بها ألف منبر. وقال مجاهد وسعيد بن جبير: المقام الكريم: المنابر، وقال قتادة: ومقام كريم أي حسن ونعمة كانوا فيها فاكهين ناعمين. قال: أي والله أخرجه الله من جنانه، وعيونه، وزروعه حتى ورطه في البحر. وقال سعيد بن كثير بن عفير: كنا بقبة الهواء عند المأمون لما قدم مصر فقال لنا:
ما أدري ما أعجب فرعون من مصر حيث يقول: أليس لي ملك مصر؟ فقلت: أقول: يا أمير المؤمنين، فقال: قل يا سعيد، فقلت: إنّ الذي ترى بقية مدمّر لأنّ الله عز وجل يقول:
وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ
[الأعراف/ 137] قال: صدقت، ثم أمسك، وقال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ
[القصص/ 5]، وقال تعالى مخبرا عن فرعون أنه قال: يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ
[غافر/ 29]، وقال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ
[الأعراف/ 137]، وقال تعالى مخبرا عن قوم فرعون: أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
[الأعراف/ 127] يعني أرض مصر، وقال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام أنه قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
[يوسف/ 55] . روى ابن يونس عن أبي نضرة الغفاريّ رضي الله عنه قال: مصر خزائن الأرض كلها، وسلطانها سلطان الأرض كلها ألا
ترى إلى قول يوسف عليه السلام لملك مصر: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ
ففعل فأغيث بمصر وخزائنها يومئذ كل حاضر، وباد من جميع الأرض، وقال تعالى: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ
[يوسف/ 56] ، فكان ليوسف بسلطانه بمصر جميع سلطان الأرض كلها لحاجتهم إليه، وإلى ما تحت يديه، وقال تعالى مخبرا عن موسى عليه السلام أنه قال: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ
[يونس/ 88]، وقال تعالى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
[الأعراف/ 129]، وقال تعالى: وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ
[غافر/ 26] يعني أرض مصر، وقال تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ
[القصص/ 4] يعني أرض مصر، وقال تعالى حكاية عن بعض إخوة يوسف عليه السلام: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ
[يوسف/ 80] يعني أرض مصر، وقال تعالى: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ
[القصص/ 19] يعني أرض مصر. قال ابن عباس رضي الله عنه: سميت مصر بالأرض كلها في عشرة مواضع من القرآن، فهذا ما يحضرني مما ذكرت فيه مصر من آي كتاب الله العزيز.
وقد جاء في فضل مصر أحاديث: روى عبد الله بن لهيعة من حديث عمرو بن العاص أنه قال: حدّثني عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا فتح الله عليكم بعدي مصر فاتخذوا فيها جندا كثيفا فذلك الجند خير أجناد الأرض» . قال أبو بكر رضي الله عنه: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: «لأنهم في رباط إلى يوم القيامة» . وعن عمرو بن الحمق «1» : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «
…
تكون فتنة أسلم الناس فيها أو خير الناس فيها الجند الغربيّ
…
» . قال: فلذلك قدمت عليكم مصر، وعن تبيع بن عامر الكلاعيّ قال: أقبلت من الصائفة فلقيت أبا موسى الأشعريّ رضي الله عنه فقال لي: من أين أنت؟
فقلت: من أهل مصر، قال: من الجند العربيّ؟ فقلت: نعم، قال: الجند الضعيف؟ قال:
قلت: أهو الضعيف؟ قال: نعم، قال: أما إنه ما كادهم أحد إلا كفاهم الله مؤنته، اذهب إلى معاذ بن جبل حتى يحدّثك قال: فذهبت إلى معاذ بن جبل فقال لي: ما قال لك الشيخ فأخبرته، فقال لي: وأيّ شيء تذهب به إلى بلادك أحسن من هذا الحديث، أكتبت في أسفل ألواحك، فلما رجعت إلى معاذ أخبرني أن بذلك أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى ابن وهب من حديث صفوان بن عسال قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «
…
فتح الله بابا للتوبة في الغرب عرضه سبعون عاما لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه
…
» . وروى ابن لهيعة من حديث عمرو بن العاص: حدّثني عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه، أنه سمع
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عز وجل سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرا فإنّ لهم منكم صهرا وذمّة
…
» . وروى ابن وهب قال: أخبرني حرملة بن عمران التجيبي عن عبد الرحمن بن شماسة المهريّ قال: سمعت أبا ذر رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا فإنّ لهم ذمّة ورحما فإذا رأيتم رجلين يقتتلان في موضع لبنة فأخرجوا منها
…
» . قال: فمرّ بربيعة وعبد الرحمن ابني شرحبيل يتنازعان في موضع لبنة فخرج منها، وفي رواية:
«ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط فإذا افتحتموها فأحسنوا إلى أهلها فإن لهم ذمّة ورحما أو قال: ذمّة وصهرا» الحديث، ورواه مالك، والليث وزاد: فاستوصوا بالقبط خيرا. أخرجه مسلم في الصحيح عن أبي الطاهر عن ابن وهب. قال ابن شهاب: وكان يقال إنّ أمّ إسماعيل منهم، قال الليث بن سعد: قلت لابن شهاب: ما رحمهم، قال: إن أمّ إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما منهم، وقال محمد بن إسحاق «1» : قلت للزهريّ «2» : ما الرحم التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كانت هاجر أمّ إسماعيل منهم، وروى ابن لهيعة من حديث أبي سالم الجيشاني: أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنكم ستكونون أجنادا وإن خير أجنادكم أهل الغرب منكم فاتقوا الله في القبط لا تأكلوهم أكل الخضر» ، وعن مسلم بن يسار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «استوصوا بالقبط خيرا فإنكم ستجدونهم نعم الأعوان على قتال العدوّ» ، وعن يزيد بن أبي حبيب: أن أبا سلمة ابن عبد الرحمن حدّثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى عند وفاته أن تخرج اليهود من جزيرة العرب، وقال:«الله الله في قبط مصر فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عدّة، وأعوانا في سبيل الله» ، وروى ابن وهب عن موسى بن أيوب الغافقي عن رجل من الرّند: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرض فأغمي عليه ثم أفاق فقال: «استوصوا بالأدم الجعد» ثم أغمي عليه الثانية، ثم أفاق فقال مثل ذلك، ثم أغمي عليه الثالثة، فقال مثل ذلك، فقال القوم: لو سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأدم الجعد، فأفاق فسألوه، فقال:«قبط مصر، فإنهم أخوال، وأصهار، وهم أعوانكم على عدوّكم وأعوانكم على دينكم» ، قالوا: كيف يكونون أعواننا على ديننا يا رسول الله؟ قال: «يكفونكم أعمال الدنيا وتتفرّغون للعبادة فالراضي بما يؤتى إليهم كالفاعل بهم والكاره لما يؤتى إليهم من الظلم كالمتنزه عنهم» ، وعن عمرو بن حريب وأبي عبد الرحمن الحلبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إنكم ستقدمون على قوم جعد رؤوسهم فاستوصوا بهم خيرا فإنهم قوّة لكم وبلاغ إلى عدوّكم بإذن الله» يعني قبط مصر.
وعن ابن لهيعة: حدّثني مولى عفرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«الله الله في أهل المدرة السوداء السجم الجعاد فإن لهم نسبا وصهرا» ، قال عمرو مولى عفرة صهرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسرّى فيهم، ونسبهم أن أمّ إسماعيل عليهم السلام منهم. قال ابن وهب:
فأخبرني ابن لهيعة أن أمّ إسماعيل هاجر من أمّ العرب قرية كانت أمام الفرما من مصر وقال مروان القصاص: صاهر إلى القبط من الأنبياء ثلاثة: إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام تسرّى هاجر، ويوسف تزوّج بنت صاحب عين شمس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم تسرّى مارية. وقال يزيد بن أبي حبيب: قرية هاجر باق التي عندها أمّ دنين، وقال هشام: العرب تقول:
هاجر، وآجر، فيبدلون من الهاء الألف كما قالوا: هراق الماء، وأراق الماء، ونحوه.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: الأمصار سبعة. فالمدينة مصر، والشأم مصر، ومصر، والجزيرة، والبحرين، والبصرة، والكوفة. وقال مكحول: أول الأرض خرابا أرمينة، ثم مصر. وقال عبد الله بن عمر: وقبطة مصر أكرم الأعاجم كلها، وأسمحهم يدا، وأفضلهم عنصرا، وأقربهم رحما بالعرب عامة، وبقريش خاصة، ومن أراد أن يذكر الفردوس، أو ينظر إلى مثلها في الدنيا فلينظر إلى أرض مصر حين يخضر زرعها وتنور ثمارها. وقال كعب الأحبار «1» : من أراد أن ينظر إلى شبه الجنة فلينظر إلى مصر إذا أخرقت، وفي رواية: إذا أزهرت.
(ومن فضائل مصر) : أنه كان من أهلها السحرة، وقد آمنوا جميعا في ساعة واحدة، ولا يعلم جماعة أسلمت في ساعة واحدة أكثر من جماعة القبط، وكانوا في قول يزيد بن أبي حبيب، وغيره اثني عشر ساحرا رؤساء، تحت يد كل ساحر منهم عشرون عريفا، تحت يد كل عريف منهم ألف من السحرة، فكان جميع السحرة مائتي ألف وأربعين ألفا ومائتين واثنين وخمسين إنسانا بالرؤساء، والعرفاء، فلما عاينوا ما عاينوا أيقنوا أن ذلك من السماء وأن السحر لا يقوم لأمر الله فخرّ الرؤساء الاثنا عشر عند ذلك سجدا، فأتبعهم العرفاء، واتبع العرفاء من بقي، وقالوا: آمنا برب العالمين رب موسى وهارون. قال تبيع: كانوا من أصحاب موسى عليه السلام ولم يفتتن منهم أحد مع من افتتن من بني إسرائيل في عبادة العجل. قال تبيع: ما آمن جماعة قط في ساعة واحدة مثل جماعة القبط، وقال كعب الأحبار: مثل قبط مصر كالغيضة كلما قطعت نبتت حتى يخرّب الله عز وجل بهم وبصناعتهم جزائر الروم، وقال عبد الله بن عمرو: خلقت الدنيا على خمس صور: على صورة الطير برأسه، وصدره، وجناحيه، وذنبه. فالرأس مكة، والمدينة، واليمن. والصدر الشأم، ومصر والجناح الأيمن العراق، وخلف العراق أمّة يقال لها: واق، وخلف واق أمّة يقال
لها: واق واق وخلف ذلك من الأمم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، والجناح الأيسر السند، وخلف السند الهند، وخلف الهند أمّة يقال لها: ناسك، وخلف ناسك أمّة يقال لها:
منسك، وخلف ذلك من الأمم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، والذنب من ذات الحمام إلى مغرب الشمس، وشرّ ما في الطير الذنب، وقال الجاحظ: الأمصار عشرة: الصناعة بالبصرة، والفصاحة بالكوفة، والتحنيث ببغداد، والعيّ بالري، والجفا بنيسابور، والحسن بهراة، والطرمذة بسمرقند، والمروءة ببلخ، والتجارة بمصر، والبخل بمرو، الطرمذة: كلام ليس له فعل، وعن يحيى بن داخر الغافريّ أنه سمع عمرو بن العاص يقول في خطبته:
واعملوا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لمكث الأعداء حولكم، ولإشراف قلوبهم إليكم، وإلى داركم معدن الزرع، والمال، والخير الواسع، والبركة النامية.
وعن عبد الرحمن بن غنم الأشعريّ: أنه قدم من الشأم إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: ما أقدمك إلى بلادنا؟ قال: كنت تحدّثني أن مصر أسرع الأرض خرابا ثم أراك قد اتخذت منها، وبنيت فيها القصور، واطمأننت فيها، قال: إن مصر قد أوفت خرابها حطّمها البخت نصر، فلم يدع فيها إلا السباع، والضباع، فهي اليوم أطيب الأرضين ترابا، وأبعدها خرابا، ولا يزال فيها بركة ما دام في شيء من الأرض بركة، ويقال: مصر متوسطة الدنيا، قد سلمت من حرّ الإقليم الأوّل والثاني، ومن برد الإقليم السادس والسابع، ووقعت في الإقليم الثالث، فطاب هواها، وضعف حرّها، وخف بردها، وسلم أهلها من مشاتي الأهواز، ومصايف عمان، وصواعق تهامة، ودماميل الجزيرة، وجرب اليمن، وطواعين الشأم، وبرسام العراق، وعقارب عسكر مكرم، وطحال البحرين، وحمى خيبر، وأمنوا من غارات الترك، وجيوش الروم، وهجوم العرب، ومكايد الدّيلم، وسرايا القرامطة، ونزف الأنهار، وقحط الأمطار، وبها ثمانون كورة ما فيها كورة إلا وبها طرائف، وعجاب من أنواع البرّ، والأبنية، والطعام، والشراب، والفاكهة، وسائر ما تنتفع به الناس، وتدخره الملوك يعرف بكل كورة، وجهاتها وينسب كل لون إلى كورة، فصعيدها أرض حجازية حرّة حرّ العراق، وينبت النخل، والأراك، والقرظ، والدوم، والعشر، وأسفل أرضها شامي يمطر مطر الشأم، وينبت ثمار الشأم من الكروم، والزيتون، واللوز، والتين، والجوز، وسائر الفواكه، والبقول، والرياحين، ويقع به الثلج، والبرد.
وكورة الإسكندرية، ولوبية، ومراقيه براري، وجبال، وغياض تنبت الزيتون، والإعناب، وهي بلاد إبل، وماشية، وعسل، ولبن. وفي كل كورة من كور مصر مدينة، في كل مدينة منها آثار كريمة من الأبنية، والصخور، والرخام، والعجائب، وفي نيلها السفن التي تحمل السفينة الواحدة منها ما يحمله خمسمائة بعير، وكل قرية من قرى مصر تصلح أن تكون مدينة يؤيد ذلك قول الله سبحانه وتعالى: وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ
[الشعراء/ 36] ، ويعمل بمصر معامل كالتنانير يعمل بها البيض بصنعة يوقد عليه، فيحاكي نار
الطبيعة في حضانة الدجاجة لبيضها، ويخرج من تلك المعامل الفراريج، وهي معظم دجاج مصر، ولا يتم عمل هذا بغير مصر. وقال عمر بن ميمون: خرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل، فلما أصبح فرعون أمر بشاة، فأتى بها فأمر بها أن تذبح، ثم قال: لا يفرغ من سلخها حتى يجتمع عندي خمس مائة ألف من القبط، فاجتمعوا إليه، فقال لهم فرعون: إن هؤلاء لشرذمة قليلون، وكان أصحاب موسى عليه السلام ستمائة ألف وسبعين ألفا.
ووصف بعضهم مصر، فقال: ثلاثة أشهر لؤلؤة بيضاء، وثلاثة أشهر مسكة سوداء، وثلاثة أشهر زمردة خضراء، وثلاثة أشهر سبيكة ذهب حمراء، فأما اللؤلؤة البيضاء، فإن مصر في أشهر أبيب ومسرى وبوت يركبها الماء، فترى الدنيا بيضاء، وضياعها على روابي، وتلال مثل الكواكب قد أحيطت بها المياه من كل وجه، فلا سبيل إلى قرية من قراها إلا في الزوارق، وأما المسكة السوداء، فإن في أشهر بابه، وهاتور، وكيهك ينكشف الماء عن الأرض فتصير أرضا سوداء، وفي هذه الأشهر تقع الزراعات، وأما الزمرذة الخضراء فإن في أشهر طوبه وامشير وبرمهات يكثر نبات الأرض، وربيعها فتصير خضراء كأنها زمرذة، وأما السبيكة الحمراء فإن في أشهر برمودة وبشنس وبؤنة يتورد العشب، ويبلغ الزرع الحصاد، فيكون كالسبيكة التي من الذهب منظرا ومنفعة، وسأل بعض الخلفاء الليث بن سعد عن الوقت الذي تطيب فيه مصر؟ فقال: إذا غاض ماؤها، وارتفع وباها وجف ثراها وأمكن مرعاها، وقال آخر: نيلها عجب، وأرضها ذهب، وخيرها جلب، وملكها سلب، ومالها رغب، وفي أهلها صخب، وطاعتهم رهب، وسلامهم شعب، وحربهم حرب، وهي لمن غلب. وقال آخر: مصر من سادات القرى ورؤساء المدن، وقال زيد بن أسلم في قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ
[البقرة/ 265] هي: مصر إن لم يصبها مطر أزكت، وإن أصلبها مطرا ضعفت، قاله المسعودي في تاريخه، ويقال: لما خلق الله آدم عليه السلام مثل له الدنيا شرقها، وغربها، وسهلها، وجبلها، وأنهارها، وبحارها، وبناءها، وخرابها، ومن يسكنها من الأمم ومن يملكها من الملوك، فلما رأى مصر أرضا سهلة ذات نهر جار مادّته من الجنة تنحدر فيه البركة، ورأى جبلا من جبالها مكسوّا نورا لا يخلو من نظر الرب إليه بالرحمة في سفحه أشجار مثمرة، وفروعها في الجنة تسقى بماء الرحمة، فدعا آدم عليه السلام في النيل بالبركة، ودعا في أرض مصر بالرحمة، والبرّ والتقوى، وبارك في نيلها وجبلها سبع مرّات وقال: يا أيها الجبل المرحوم: سفحك جنة، وتربتك مسكة يدفن فيها غراس الجنة أرض حافظة مطيعة رحيمة لا خلتك يا مصر بركة، ولا زال بك حفظ ولا زال منك ملك وعزيا أرض مصر فيك الخبايا، والكنوز، ولك البرّ والثروة، وسال نهرك عسلا كثر الله زرعك، ودرّ ضرعك، وزكى نباتك وعظمت بركتك، وخصبت ولا زال فيك خير ما لم تتجبري وتتكبري، أو تخوني فإذا فعلت ذلك عد النشر، ثم يغور خيرك، فكان آدم أوّل من دعا لها بالرحمة، والخصب والرأفة والبركة.
وعن ابن عباس: أن نوحا عليه السلام دعا لمصر بن بيصر بن حام فقال: اللهمّ إنه قد أجاب دعوتي فبارك فيه وفي ذريته وأسكنه الأرض المباركة التي هي أم البلاد، وغوث العباد التي نهرها أفضل أنهار الدنيا، واجعل فيها أفضل البركات، وسخر له ولولده الأرض، وذللها لهم وقوّهم عليها.
وقال كعب الأحبار: لولا رغبتي في بيت المقدس لما سكنت إلا مصر فقيل له: لم؟
فقال: لأنها بلد معافاة من الفتن ومن أرادها بسوء أكبه الله على وجهه وهو بلد مبارك لأهله فيه. وقال ابن وهب: أخبرني يحيى بن أيوب عن خالد بن يزيد عن ابن أبي هلال: أن كعب الأحبار كان يقول: إني لأحب مصر وأهلها، لأن مصر بلد معافاة وأهلها أصحاب عافية، وهم بذلك مفارقون، ويقال: إن في بعض الكتب الإلهية: مصر خزائن الأرض كلها فمن أرادها بسوء قصمه الله تعالى.
وقال عمرو بن العاص: ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة يعني إذا جمع الخراج مع الإمارة، وقال أحمد بن مدبر: تحتاج مصر إلى ثمانية وعشرين ألف ألف فدان، وإنما يعمر منها ألف ألف فدّان، وقد كشفت أرض مصر، فوجدت غامرها أضعاف عامرها، ولو اشتغل السلطان بعمارتها لوفت له بخراج الدنيا. وقال بعضهم: إنّ خراج العراق لم يكن قط أوفر منه في أيام عمر بن عبد العزيز، فإنه بلغ ألف ألف درهم وسبعة عشر ألف ألف درهم، ولم تكن مصر قط أقل من خراجها في أيام عمرو بن العاص، وأنه بلغ اثني عشر ألف ألف دينار، وكانت الشامات بأربعة عشر ألف ألف سوى الثغور. ومن فضائل مصر: أنه ولد بها من الأنبياء موسى، وهارون، ويوشع عليهم السلام، ويقال: إن عيسى بن مريم صلوات الله عليه أخذ على سفح الجبل المقطم، وهو سائر إلى الشام، فالتفت إلى أمّه وقال: يا أمّاه هذه مقبرة أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، ويذكر أنه ولد في قرية اهناس من نواحي صعيد مصر وأنه كانت به نخلة يقال: إنها النخلة المذكورة في القرآن بقوله سبحانه وتعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ
[مريم/ 25] وهذا القول وهم، فإنه لا خلاف بين علماء الأخبار من أهل الكتاب، ومن يعتمد عليه من علماء المسلمين أن عيسى صلوات الله عليه ولد بقرية بيت لحم من بيت المقدس، ودخل مصر من الأنبياء، إبراهيم خليل الرحمن، وقد ذكر خبر ذلك عند ذكر خليج القاهرة من هذا الكتاب. ودخلها أيضا يعقوب ويوسف والأسباط، وقد ذكر ذلك في خبر الفيوم، ودخلها أرميا، وكان من أهلها مؤمن آل فرعون الذي أثنى عليه الله جل جلاله في القرآن.
ويقال: إنه ابن فرعون لصلبه، وأظنه أنه غير صحيح، وكان منها جلساء فرعون الذين أبان الله فضيلة عقلهم بحسن مشورتهم في أمر موسى وهارون عليهما السلام، لما استشارهم فرعون في أمرهما فقال تعالى: قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ
أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ
[الشعراء/ 34- 37] ، وأين هذا من قول أصحاب النمرود في إبراهيم صلوات الله عليه، حيث أشاروا بقتله قال تعالى حكاية عنهم: قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ
[الأنبياء/ 68] ومن أهل مصر، امرأة فرعون التي مدحها الله تعالى في كتابه العزيز بقوله:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
[التحريم/ 11] ومن أهلها، ماشطة بنت فرعون وآمنت بموسى عليه السلام، فمشطها فرعون بأمشاط الحديد كما يمشط الكتان، وهي ثابتة على إيمانها بالله.
وقال صاعد اللغوي «1» في كتاب طبقات الأمم: إن جميع العلوم التي ظهرت قبل الطوفان إنما صدرت عن هرمس الأوّل الساكن بصعيد مصر الأعلى، وهو أوّل من تكلم في الجواهر العلوية، والحركات النجومية، وهو أوّل من ابتنى الهياكل، ومجد الله فيها، وأوّل من نظر في علم الطب، وألف لأهل زمانه قصائد موزونة في الأشياء الأرضية والسماوية، وقالوا: إنه أوّل من أنذر بالطوفان، ورأى أن آفة سماوية تصيب الأرض من الماء، والنار فخاف ذهاب العلم، واندراس الصنائع فبنى الأهرام، والبرابي «2» التي في صعيد مصر الأعلى، وصوّر فيها جميع الصنائع، والآلات ورسم فيها صفات العلوم حرصا على تخليدها لمن بعده، وخيفة أن يذهب رسمها من العالم، وهرمس هذا هو: إدريس عليه السلام.
وقال أبو محمد الحسن بن إسماعيل بن الفرات في أخبار مصر: إن الخضر جاز البحر مع موسى عليه السلام، وكان مقدّما عنده، وكان بمصر من الحكماء جماعة ممن عمرت الدنيا بكلامهم وحكمهم وتدبيرهم، وكان من علومهم علم الطب، وعلم النجوم، وعلم المساحة، وعلم الهندسة، وعلم الكيمياء، وعلم الطلسمات، ويقال: كانت مصر في الزمن الأوّل يسير إليها طلاب العلوم لتزكو عقولهم، وتجود أذهانهم ويتميز عندهم الذكاء وتدق الفطنة.
ومن فضائل مصر: أنها تمير أهل الحرمين وتوسع عليهم ومصر فرضة الدنيا يحمل خيرها إلى ما سواها، فساحلها بمدينة القلزم يحمل منه إلى الحرمين واليمن والهند والصين وعمان والسند والشحر، وساحلها من جهة تنيس ودمياط والفرما فرضة بلاد الروم،
والإفرنج، وسواحل الشام والثغور إلى حدود العراق، وثغر إسكندرية فرضة أقريطس وصقلية وبلاد المغرب، ومن جهة الصعيد يحمل إلى بلاد الغرب والنوبة والبجة والحبشة والحجاز واليمن، وبمصر عدّة من الثغور المعدّة للرباط في سبيل الله تعالى وهي: البراس ورشيد والإسكندرية وذات الحمام والبحيرة واخنا ودمياط وشطا وتنيس والأشتوم والفرما والواردة والعريش وأسوان وقوص والواحات، فيغزى من هذه الثغور الروم والفرنج والبربر والنوبة والحبشة والسودان. وبمصر عدّة مشاهد وكثير من المساجد، وبها النيل، والأهرام والبرابي والأديار والكنائس وأهلها يستغنون بها عن كل بلد حتى أنه لو ضرب بينها وبين بلاد الدنيا بسوره لاستغنى أهلها بما فيها عن جميع البلاد. وبمصر دهن البلسان الذي عظمت منفعته، وصارت ملوك الأرض تطلبه من مصر، وتعتني به وملوك النصرانية تترامى على طلبه، والنصارى كافة تعتقد تعظيمه وترى أنه لا يتم تنصر نصرانيّ إلا بوضع شيء من دهن البلسان في ماء المعمودية عند تغطيسه فيها، وبها السقنقور ومنافعه لا تنكر وبها النمس والعرس، ولهما في أكل الثعابين فضيلة لا تنكر فقد قيل: لولا العرس والنمس لما سكنت مصر من كثرة الثعابين، وبها السمكة الرعادة ونفعها في البرء من الحمى إذا علقت على المحموم عجيب، وبمصر حطب السنط، ولا نظير له في معناه فلو وقد منه تحت قدر يوما كاملا لما بقي منه رماد، وهو مع ذلك صلب الكسر سريع الاشتعال بطيء الخمود. ويقال:
إنه أبنوس غيرته بقعة مصر فصار أحمر. وبها الأفيون عصارة الخشخاش، ولا يجهل منافعه إلا جاهل، وبها البنج وهو ثمر قدر اللوز الأخضر كان من محاسن مصر إلا أنه انقطع قبل سنة سبعمائة من الهجرة؛ وبها الأترج. قال أبو داود «1» صاحب السير في كتاب الزكاة:
شبرت قثاءة بمصر ثلاثة عشر شبرا، ورأيت أترجة على بعير قطعتين، وصيرت مثل عدلين.
قال المسعودي في التاريخ: والأترج المدوّر حمل من أرض الهند بعد الثلاثمائة من سني الهجرة، وزرع بعمان، ثم نقل منها إلى البصرة والعراق والشام، حتى كثر في دور الناس بطرسوس، وغيرها من الثغور الشامية، وفي أنطاكية وسواحل الشام وفلسطين ومصر، وما كان يعهد ولا يعرف فعدمت منه الأراهج الحمراء الطيبة، واللون الحسن الذي كان فيه بأرض الهند لعدم ذلك الهواء والتربة وخاصية البلد. وفي مصر معدن الزمرد، ومعدن النفط والشب والبرام ومقاطع الرخام، ويقال: كان بمصر من المعادن ثلاثون معدنا؛ وأهل مصر يأكلون صيد بحر الروم، وصيد بحر اليمن طريا لأن بين البحرين مسافة ما بين مدينة القلزم، والفرما، وذلك يوم وليلة، وهو الحاجز المذكور في القرآن قال تعالى: وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً
[النمل/ 61] قيل: هما بحر الروم، وبحر القلزم، وقال تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ
[الرحمن/ 19] . قال بعض المفسرين: البرزخ ما بين القلزم والفرما.
ومن محاسن مصر: أنه يوجد بها في كل شهر من شهور السنة القبطية صنف من المأكول والمشموم دون ما عداه من بقية الشهور فيقال: رطب توت، ورمان بابه، وموزها تور، وسمك كيهك، وماء طوبة، وخروف امشير، ولبن برمهات، وورد برمودة، ونبق بشنس، وتين بؤنة، وعسل أبيب، وعنب مسرى، ومنها: أن صيفها خريف لكثرة فواكهه وشتاءها ربيع لما يكون بمصر حينئذ من القرظ والكنان.
ومن محاسنها: أن الذي ينقطع من الفواكه في سائر البلدان أيام الشتاء يوجد حينئذ بمصر. ومنها: أن أهل مصر لا يحتاجون في حرّ الصيف إلى استعمال الخيش والدخول في جوف الأرض كما يعانيه أهل بغداد، ولا يحتاجون في برد الشتاء إلى لبس الفرو، والاصطلاء بالنار الذي لا يستغني عنه أهل الشام. كما أنهم أيضا في الصيف غير محتاجين إلى استعمال الثلج، ويقال: زبرجد مصر، وقباطي مصر، وحمير مصر، وثعابين مصر، ومنافعها في الدرياق جليلة.
ومن فضائل مصر: أن الرخامة التي في الحجر من الكعبة من مصر بعث بها محمد بن طريف مولى العباس بن محمد في سنة إحدى وأربعين ومائتين، مع رخامة أخرى خضراء هدية للحجر، فجعلت إحدى الرخامتين على سطح جدر الكعبة، وهما من أحسن الرخام في المسجد خضرة وكان المتولي عليهما عبد الله بن محمد بن داود، ذرعها ذراع وثلاث أصابع. قاله الفاكهي في أخبار مكة.
ومن فضائل مصر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تسرّى من أهلها، وولد له صلى الله عليه وسلم من نساء مصر، ولم يولد له ولد من غير نساء العرب إلا من نساء مصر. قال ابن عبد الحكم: لما كانت سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية بعث إلى الملوك، فمضى حاطب بن أبي بلتعة بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى إلى الإسكندرية، وجد المقوقس في مجلس مشرف على البحر، فركب البحر فلما حاذى مجلسه أشار بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصبعيه، فلما رآه أمر بالكتاب فقبض وأمر به فأوصل إليه، فلما قرأ الكتاب قال: ما منعه إن كان نبيا أن يدعو عليّ فيسلط عليّ. فقال له حاطب: ما منع عيسى بن مريم أن يدعو على من أبى عليه أن يفعل به، ويفعل، فوجم ساعة، ثم استعادها، فأعادها عليه حاطب فسكت فقال له حاطب: إنه قد كان قبلك رجل زعم أنه الرب الأعلى فانتقم الله به، ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا تعتبر بك، وإن لك دينا لن تدعه إلا لما هو خير فيه، وهو الإسلام الكافي لنبيه عمّا سواه، وما بشارة موسى بعيسى إلى كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، ولسنا ننهاك عن دين المسيح ولكنا نأمرك به.
ثم قرأ الكتاب فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المقوقس
عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى؛ أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرّتين ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) فلما قرأه أخذه فجعله في حق من عاج وختم عليه. وعن أبان بن صالح قال:
أرسل المقوقس «1» إلى حاطب ليلة وليس عنده أحد إلا الترجمان فقال له: ألا تخبرني عن أمور أسألك عنها فإني أعلم أن صاحبك قد تخيرك حين بعثك، قلت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك، قال: إلى ما يدعو محمد؟ قال: إلى أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتخلع ما سواه، ويأمر بالصلاة. قال: فكم تصلون؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت، والوفاء بالعهد، وينهى عن أكل الميتة، والدم. قال: من أتباعه؟ قال: الفتيان من قومه، وغيرهم. قال: وهل يقبل قوله؟ قال: نعم، قال: صفه لي؟
قال: فوصفته بصفة من صفته، ولم آت عليها، قال: قد بقيت أشياء لم أرك ذكرتها في عينيه حمرة قلّ ما تفارقه، وبين كتفيه خاتم النبوّة يركب الحمار، ويلبس الشملة، ويجتزي بالتمرات والكسر لا يبالي من لاقى من عمّ ولا ابن عمّ، قلت: هذه صفته، قال: قد كنت أعلم أن نبيا بقي وقد كنت أظنّ أن مخرجه الشام، وهناك كانت تخرج الأنبياء من قبله، فأراه قد خرج في أرض العرب في أرض جهد، وبؤس، والقبط لا تطاوعني في أتباعه، ولا أحب أن تعلم بمحاورتي إياك وسيظهر على البلاد وينزل أصحابه من بعده بساحتنا هذه حتى يظهروا على ما ههنا، وأنا لا أذكر للقبط من هذا حرفا فارجع إلى صاحبك. قال: ثم دعي كاتبا يكتب بالعربية فكتب: (لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلام. أما بعد:
فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا قد بقي وقد كنت أظن أن نبيا يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام) .
وعن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: لما مضى حاطب بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قبل المقوقس الكتاب، وأكرم حاطبا وأحسن نزله، ثم سرّحه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى له كسوة، وبغلة بسرجها، وجاريتين إحداهما أمّ إبراهيم، ووهب الأخرى لجهم بن قيس العبدري، فهي أمّ زكريا بن جهم الذي كان خليفة عمرو بن العاص على مصر ويقال: بل وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحمد بن مسلمة الأنصاريّ، ويقال: بل لدحية بن خليفة الكلبي، وقيل: بل لحسان بن ثابت.
وعن يزيد بن أبي حبيب «1» : أن المقوقس لما أتاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمه إلى صدره، وقال: هذا زمان يخرج فيه النبيّ الذي نجد نعته وصفته في كتاب الله تعالى، وإنا لنجد صفته أنه لا يجمع بين أختين في ملك يمين، ولا نكاح، وأنه يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، وأن جلساءه المساكين وإن خاتم النبوّة بين كتفيه، ثم دعا رجلا عاقلا، ثم لم يدع بمصر أحسن ولا أجمل من مارية وأختها، وهما من أهل جفن بفتح أوّله وسكون ثانيه ثم نون بعده من كورة انصنا، فبعث بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهدى له بغلة شهباء وحمارا أشهب، وثيابا من قباطي مصر، وعسلا من عسل بنها، وبعث إليه بمال صدقة.
ويقال: إن المقوقس أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع جواري، وقيل: جاريتين، وبغلة اسمها الدلدل، وحمارا اسمه يعفور، وقبأ وألف مثقال ذهبا وعشرين ثوبا من قباطي مصر، وخصيا يسمى مايور، ويقال: إنه ابن عمّ مارية، وفرسا يقال له: الكرّار، وقدحا من زجاج، وعسلا من عسل بنها، فأعجب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ودعا فيه بالبركة، وقال: ضنّ الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه، فإن المقوقس قال خيرا وأكرم حاطب ابن أبي بلتعة وقارب الأمر ولم يسلم.
وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر الواقديّ: أنبأنا يعقوب بن محمد بن أبي صعصعة عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال: أهدى المقوقس صاحب الإسكندرية إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في سنة سبع من الهجرة، مارية وأختها سيرين، وألف مثقال ذهبا وعشرين ثوبا، وبغلته الدلدل، وحماره عفيرا، وخصيا يقال له: مابور فعرض حاطب على مارية الإسلام فأسلمت هي وأختها، ثم أسلم الخصي بعد وكان الذي بعثه المقوقس، مع مارية اسمه جبرين بن عبد الله القبطي. مولى بني عفار. قال ابن عبد الحكم: وأمر رسوله أن ينظر من جلساؤه وينظر إلى ظهره هل يرى شامة كبيرة ذات شعر ففعل ذلك الرسول، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّم إليه الأختين والدابتين، والعسل والثياب، وأعلمه أن ذلك كله هدية، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدية، وكان لا يردّها من أحد من الناس. قال: فلما نظر إلى مارية وأختها أعجبتاه وكره أن يجمع بينهما، وكانت إحداهما تشبه الأخرى فقال:
«اللهم اختر لنبيك» ، فاختار الله له مارية. وذلك أنه لما قال لهما:«اشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله» ، فبادرت مارية فشهدت وآمنت قبل أختها، ومكثت أختها ساعة، ثم تشهدت وآمنت، فوهب رسول الله صلى الله عليه وسلم أختها لمحمد «2» بن مسلمة الأنصاريّ، وقال
بعضهم: بل وهبها لدحية «1» بن خليفة الكلبيّ.
وعن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شامة المهري عن عبد الله بن عمر قال:
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمّ إبراهيم أمّ ولده القبطية، فوجد عندها نسيبا لها كان قدم معها من مصر، وكان كثيرا ما يدخل عليها، فوقع في نفسه شيء فرجع، فلقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعرف ذلك في وجهه، فسأله فأخبره، فأخذ عمر السيف، ثم دخل على مارية وقريبها عندها، فأهوى إليه بالسيف فلما رأى ذلك كشف عن نفسه، وكان مجبوبا ليس بين رجليه شيء. فلما رآه عمر رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن جبريل أتاني فأخبرني أن الله عز وجل قد برّأها وقريبها وإن في بطنها غلاما مني وأنه أشبه الخلق بي وأمرني أن أسميه إبراهيم وكناني بأبي إبراهيم» .
وقال الزهري عن أنس: لما ولدت أمّ إبراهيم إبراهيم كأنه وقع في نفس النبيّ صلى الله عليه وسلم منه شيء حتى جاءه جبريل، فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم، ويقال: إن المقوقس بعث معها بخصيّ كان يأوي إليها، وقيل: إن المقوقس أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم جواري منهنّ أمّ إبراهيم وواحدة وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهم بن حذيفة وواحدة وهبها لحسان بن ثابت فولدت مارية لرسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم. وكان أحب الناس إليه حتى مات فوجد به وكان سنه يوم مات ستة عشر شهرا، وكانت البغلة والحمار أحب دوابه إليه وسمى البغلة الدلدل، وسمى الحمار يعفورا، وأعجبه العسل، فدعا في عسل بنها بالبركة، وبقيت تلك الثياب حتى كفن في بعضها صلى الله عليه وسلم، وكان اسم أخت مارية قيصر، وقيل: بل كان اسمها سيرين، وقيل: حمنة.
وكلم الحسن بن عليّ معاوية بن أبي سفيان في أن يضع الجزية عن جميع قرية أمّ إبراهيم لحرمتها ففعل، ووضع الخراج عنهم فلم يكن على أحد منهم خراج، وكان جميع أهل القرية من أهلها وأقربائها فانقطعوا. ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لو بقي إبراهيم ما تركت قبطيا إلا وضعت عنه الجزية» ، وماتت مارية في محرّم سنة خمس عشرة بالمدينة.
وقال ابن وهب: أخبرني يحيى بن أيوب، وابن لهيعة عن عقيل عن الزهريّ عن يعقوب بن عبد الله بن المغيرة بن الأخفش عن ابن عمر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «دخل إبليس العراق فقضى حاجته منها، ثم دخل الشام فطردوه حتى دخل جبل شاق، ثم دخل مصر فباض فيها وفرّخ وبسط عبقريه» حديث صحيح غريب، وقد عاب بعضهم مصر فقال:
محاسنها مجلوبة إليها حتى العناصر الأربعة؛ الماء وهو في النيل مجلوب من الجنوب، والتراب مجلوب في حمل الماء، وإلا فهي رمل محض لا تنبت الزرع، والنار لا يوجد بها شجرها، والهواء لا يهب بها إلا من أحد البحرين، إما من الروميّ، وإما من القلزم، وقد