المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر مقاييس النيل وزيادته - المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار - جـ ١

[المقريزي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الاول

- ‌تقديم

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌ذكر الرءوس الثمانية

- ‌ذكر طرف من هيئة الأفلاك

- ‌ذكر صورة الأرض وموضع الأقاليم منها

- ‌ذكر محل مصر من الأرض وموضعها من الأقاليم السبعة

- ‌ذكر حدود مصر وجهاتها

- ‌ذكر بحر القلزم

- ‌ذكر البحر الرومي

- ‌ذكر اشتقاق مصر ومعناها وتعداد أسمائها

- ‌ذكر طرف من فضائل مصر

- ‌ذكر العجائب التي كانت بمصر من الطلسمات والبرابي ونحو ذلك

- ‌ذكر الدفائن والكنوز التي تسميها أهل مصر المطالب

- ‌ذكر هلاك أموال أهل مصر

- ‌ذكر أخلاق أهل مصر وطبائعهم وأمزجتهم

- ‌ذكر شيء من فضائل النيل

- ‌ذكر مخرج النيل وانبعاثه

- ‌فصل في الردّ على من اعتقد أن النيل من سيل يفيض

- ‌ذكر مقاييس النيل وزيادته

- ‌ذكر الجسر الذي كان يعبر عليه في النيل

- ‌ذكر ما قيل في ماء النيل من مدح وذم

- ‌ذكر عجائب النيل

- ‌ذكر طرف من تقدمة المعرفة بحال النيل في كل سنة

- ‌ذكر عيد الشهيد

- ‌ذكر الخلجان التي شقت من النيل

- ‌ذكر ما كانت عليه أرض مصر في الزمن الأوّل

- ‌ذكر أعمال الديار المصرية وكورها

- ‌ذكر ما كان يعمل في أراضي مصر من حفر الترع وعمارة الجسور ونحو ذلك من أجل ضبط ماء النيل وتصريفه في أوقاته

- ‌ذكر مقدار خراج مصر في الزمن الأوّل

- ‌ذكر ما عمله المسلمون عند فتح مصر في الخراج وما كان من أمر مصر في ذلك مع القبط

- ‌ذكر انتقاض القبط وما كان من الأحداث في ذلك

- ‌ذكر نزول العرب بريف مصر واتخاذهم الزرع معاشا وما كان في نزولهم من الأحداث

- ‌ذكر قبالات أراضي مصر بعد ما فشا الإسلام في القبط ونزول العرب في القرى وما كان من ذلك إلى الروك الأخير الناصري

- ‌ذكر الروك الأخير الناصري

- ‌ذكر الديوان

- ‌ذكر ديوان العساكر والجيوش

- ‌ذكر القطائع والإقطاعات

- ‌ذكر ديوان الخراج والأموال

- ‌ذكر خراج مصر في الإسلام

- ‌ذكر أصناف أراضي مصر وأقسام زراعتها

- ‌ذكر أقسام مال مصر

- ‌ذكر الأهرام

- ‌ذكر الصنم الذي يقال له أبو الهول

- ‌ذكر الجبال

- ‌ذكر الجبل المقطم

- ‌الجبل الأحمر

- ‌جبل يشكر

- ‌ذكر الرّصد

- ‌ذكر مدائن أرض مصر

- ‌ذكر مدينة أمسوس وعجائبها وملوكها

- ‌ذكر مدينة منف وملوكها

- ‌ذكر مدينة الإسكندرية

- ‌ذكر الإسكندر

- ‌ذكر تاريخ الإسكندر

- ‌ذكر الفرق بين الإسكندر وذي القرنين وأنهما رجلان

- ‌ذكر من ولي الملك بالإسكندرية بعد الإسكندر

- ‌ذكر منارة الإسكندرية

- ‌ذكر الملعب الذي كان بالإسكندرية وغيره من العجائب

- ‌ذكر عمود السواري

- ‌ذكر طرف مما قيل في الإسكندرية

- ‌ذكر فتح الإسكندرية

- ‌ذكر ما كان من فعل المسلمين بالإسكندرية وانتقاض الروم

- ‌ذكر بحيرة الإسكندرية

- ‌ذكر خليج الإسكندرية

- ‌ذكر جمل حوادث الإسكندريّة

- ‌ذكر مدينة أتريب

- ‌ذكر مدينة تنيس

- ‌ذكر مدينة صا

- ‌رمل الغرابي

- ‌ذكر مدينة بلبيس

- ‌ذكر بلد الورادة

- ‌ذكر مدينة أيلة

- ‌ذكر مدينة مدين

- ‌بقية خبر مدينة مدين

- ‌ذكر مدينة فاران

- ‌ذكر أرض الجفار

- ‌ذكر صعيد مصر

- ‌ذكر تشعب النيل من بلاد علوة ومن يسكن عليه من الأمم

- ‌ذكر البجة ويقال إنهم من البربر

- ‌ذكر مدينة أسوان

- ‌ذكر بلاق

- ‌ذكر حائط العجوز

- ‌ذكر البقط

- ‌ذكر صحراء عيذاب

- ‌ذكر مدينة الأقصر

- ‌ذكر البلينا

- ‌ذكر سمهود

- ‌ذكر إرجنّوس

- ‌ذكر أبويط

- ‌ذكر ملوى

- ‌ذكر مدينة أنصنا

- ‌ذكر القيس

- ‌ذكر دروط بلهاسة

- ‌ذكر سكر

- ‌ذكر منية الخصيب

- ‌ذكر منية الناسك

- ‌ذكر الجيزة

- ‌ذكر قرية ترسا

- ‌ذكر منية أندونة

- ‌ذكر وسيم

- ‌ذكر منية عقبة

- ‌ذكر حلوان

- ‌ذكر مدينة العريش

- ‌ذكر مدينة الفرماء

- ‌ذكر مدينة القلزم

- ‌ذكر التيه

- ‌ذكر مدينة دمياط

- ‌ذكر شطا

- ‌ذكر الطريق فيما بين مدينة مصر ودمشق

- ‌ذكر مدينة حطين

- ‌ذكر مدينة الرقة

- ‌ذكر عين شمس

- ‌المنصورة

- ‌العباسة

- ‌ذكر مدينة دندرة

- ‌ذكر الواحات الداخلة

- ‌ذكر مدينة سنتريّة

- ‌ذكر الواحات الخارجة

- ‌ذكر مدينة قوص

- ‌ذكر مدينة أسنا

- ‌ذكر مدينة أدفو

- ‌إهناس

- ‌ذكر مدينة البهنسا

- ‌ذكر مدينة الأشمونين

- ‌ذكر مدينة إخميم

- ‌ذكر مدينة العقاب

- ‌ذكر مدينة الفيوم

- ‌ذكر ما قيل في الفيوم وخلجانها وضياعها

- ‌ذكر فتح الفيوم ومبلغ خراجها وما فيها من المرافق

- ‌مدينة النحريرية

الفصل: ‌ذكر مقاييس النيل وزيادته

‌ذكر مقاييس النيل وزيادته

قال ابن عبد الحكم: أوّل من قاس النيل بمصر، يوسف عليه السلام، وضع مقياسا بمنف ثم وضعت العجوز دلوكة ابنة زبا وهي صاحبة حائط العجوز مقياسا بأنصنا «1» . وهو صغير الذرع، ومقياسا بإخميم «2» ، ووضع عبد العزيز بن مروان مقياسا بحلوان «3» ، وهو صغير ووضع أسامة بن زيد التنوخيّ في خلافة الوليد مقياسا بالجزيرة «4» ، وهو أكبرها.

قال يحيى بن بكير: أدركت القياس يقيس في مقياس منف «5» ويدخل بزيادته إلى الفسطاط.

وقال القضاعيّ: كان أوّل من قاس النيل بمصر، يوسف عليه السلام وبنى مقياسا بمنف وهو أوّل مقياس وضعه عليه السلام. وقيل: إن النيل كان يقاس بمصر بأرض علوة إلى أن بنى مقياس منف.

وأن القبط كانت تقيس عليه إلى أن بطل ومن بعده دلوكة العجوز بنت مقياسا بانصنا، وهو صغير الذرع وآخر بأخميم وهي التي بنت الحائط المحيط بمصر. وقيل: إنهم كانوا يقيسون الماء قبل أن يوضع المقياس بالرصاصة فلم يزل المقياس فيما مضى قبل الفتح بقيسارية الأكسية ومعالمه هناك إلى أن ابتنى المسلمون بين الحصن، والبحر أبنيتهم الباقية الآن. وكان للروم أيضا مقياس بالقصر خلف الباب يمنة من دخل منه في داخل الزقاق أثره قائم إلى اليوم وقد بني عليه وحواليه.

ثم بنى عمرو بن العاص عند فتحه مصر مقياسا بأسوان ثم بنى بموضع يقال له:

دندرة، ثم بنى في أيام معاوية مقياس بانصنا، فلم يزل يقاس عليه إلى أن بنى عبد العزيز بن مروان مقياسا بحلوان وكانت منزله، وكان هذا المقياس صغير الذرع. فأمّا المقياس القديم الذي بنى في الجزيرة فالذي وضعه أسامة بن زيد. وقيل: إنه كسر فيه ألفي أوقية، وهو الذي بنى بيت المال بمصر. ثم كتب أسامة بن زيد التنوخيّ، عامل خراج مصر لسليمان بن عبد الملك ببطلانه، فكتب إليه سليمان بأن يبني مقياسا في الجزيرة فبناه في سنة سبع

ص: 108

وتسعين، ثم بنى المتوكل فيها مقياسا في أوّل سنة سبع وأربعين ومائتين في ولاية يزيد بن عبد الله التركيّ على مصر. وهو المقياس الكبير المعروف بالجديد وأمر بأن يعزل النصارى عن قياسه، فجعل يزيد بن عبد الله التركيّ على المقياس أبا الردّاد المعلم واسمه: عبد الله بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي الردّاد المؤذن. كان يقول القميّ: أصله بالبصرة قدم مصر وحدث بها وجعل على قياس النيل، وأجرى عليه سليمان بن وهب صاحب خراج مصر يومئذ سبعة دنانير في كل شهر فلم يزل المقياس من ذلك الوقت في يد أبي الردّاد وولده إلى اليوم، وتوفي أبو الردّاد سنة ست وستين ومائتين.

ثم ركب أحمد بن طولون سنة تسع وخمسين ومائتين، ومعه أبو أيوب صاحب خراجه، وبكار بن قتيبة القاضي فنظر إلى المقياس، وأمر بإصلاحه وقدّر له ألف دينار فعمرو بني الحارث في الصناعة مقياسا وأثره باق لا يعتمد عليه.

وقال ابن عبد الحكم: ولما فتح عمرو بن العاص مصر، أتى أهلها إلى عمرو حين دخل بؤنة من أشهر العجم، فقالوا له: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها. فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إنه إذا كان لثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر من أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحليّ والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل. فقال لهم عمر: وإن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا بؤنة وأبيب ومسرى، وهو لا يجري قليلا ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء، فلما رأى عمرو ذلك كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذلك فكتب إليه عمر: أن قد أصبت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة، فألقها في داخل النيل إذا أتاك كتابي.

فلما قدم الكتاب إلى عمرو فتح البطاقة فإذا فيها: من عبد الله أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد: فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك. فألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بيوم، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل، وأصبحوا يوم الصليب، وقد أجراه الله تعالى ستة عشر ذراعا في ليله، وقطع تلك السنة السوء عن أهل مصر.

وذكر بعضهم: أن جاحلا الصدفيّ هو الذي جاء ببطاقة عمر رضي الله عنه إلى النيل حين توقف، فجرى بإذن الله تعالى. وقال يزيد بن أبي حبيب: أن موسى عليه السلام دعا على آل فرعون، فحبس الله عنهم النيل حتى أرادوا الجلاء، فطلبوا إلى موسى أن يدعو الله، فدعا الله رجاء أن يؤمنوا، وذلك ليلة الصليب، فأصبحوا، وقد أجراه الله في تلك الساعة ستة عشر ذراعا، فاستجاب الله بطوله لعمر بن الخطاب كما استجاب لنبيه موسى عليه السلام.

قال القضاعي: ووجدت في رسالة منسوبة إلى الحسن بن محمد بن عبد المنعم، قال: لما

ص: 109

فتحت العرب مصر عرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما يلقي أهلها من الغلاء عند وقوف النيل عن حدّه في مقياس لهم فضلا عن تقاصره، وإن فرط الاستشعار يدعوهم إلى الاحتكار، وأن الاحتكار يدعو إلى تصاعد الأسعار بغير قحط، فكتب عمر إلى عمرو يسأله عن شرح الحال، فأجابه: إني وجدت ما تروي به مصر حتى لا يقحط أهلها أربعة عشر ذراعا، والحدّ الذي يروى منه سائرها حتى يفضل عن حاجتهم، ويبقى عندهم قوت سنة أخرى ستة عشر ذراعا، والنهايتان المخوفتان في الزيادة والنقصان وهما الظمأ والاستئجار اثنا عشر ذراعا في النقصان وثمانية عشر ذراعا في الزيادة هذا، والبلد في ذلك الوقت محفور الأنهار معقود الجسور عند ما تسلموه من القبط، وخميرة العمارة فيه.

فاستشار أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، عليا رضي الله عنه في ذلك فأمره أن يكتب إليه أن يبني مقياسا وأن ينقص ذراعين من اثني عشر ذراعا، وأن يقرّ ما بعدها على الأصل، وأن ينقص من كل ذراع بعد الستة عشر ذراعا إصبعين، ففعل ذلك، وبناه بحلوان فاجتمع له بذلك كل ما أراد من حل الإرجاف، وزوال ما منه كان يخاف بأن جعل الاثني عشر ذراعا أربع عشرة لأن كل ذراع أربع وعشرون إصبعا، فجعلها ثمانيا وعشرين من أوّلها إلى الاثني عشر ذراعا يكون مبلغ الزيادة على الاثني عشر ثمانيا وأربعين إصبعا وهي الذراعان، وجعل الأربع عشرة ست عشرة والست عشرة ثماني عشرة والثماني عشرة عشرين.

قال القضاعيّ: وفي هذا الحساب نظر في وقتنا لزيادة فساد الأنهار وانتقاض الأحوال وشاهد ذلك: أن المقاييس القديمة الصعيدية من أوّلها إلى آخرها أربع وعشرون إصبعا، كل ذراع، والمقاييس الإسلامية على ما ذكر منها المقياس الذي بناه أسامة بن زيد التنوخي بالجزيرة، وهو الذي هدمه الماء وبنى المأمون آخر بأسفل الأرض بالبروذات وبنى المتوكل آخر بالجزيرة، وهو الذي يقاس عليه الماء الآن وقد تقدّم ذكره.

قال ابن عفير «1» عن القبط المتقدّمين إذا كان الماء في اثني عشر يوما من مسرى اثنتي عشرة ذراعا فهي سنة ماء. وإلا فالماء ناقص، وإذا تمّ ست عشرة ذراعا قبل النوروز فالماء يتم فاعلم ذلك. وقال أبو الصلت: وأما النيل وينبوعه فهو من وراء خط الاستواء من جبل هناك يعرف بجبل القمر، فإنه يبتدئ في التزايد في شهر أبيب، والمصريون يقولون: إذا دخل أبيب كان للماء دبيب، وعند ابتدائه في التزايد يتغير جميع كيفياته، ويفسد. والسبب في ذلك مروره بنقائع مياه آجنة يخالطها فيجتلبها معه إلى غير ذلك مما يحتمله فإذا بلغ الماء خمسة عشر ذراعا وزاد من السادس عشر إصبعا واحدا كسر الخليج، ولكسره يوم معدود، ومقام مشهود، ومجتمع خاص يحضره العام والخاص، فإذا كسر فتحت الترع وهي فوهات

ص: 110

الخلجان ففاض الماء، وساح وغمر القيعان والبطاح، وانضم الناس إلى أعالي مساكنهم من الضياع والمنازل وهي على آكام وربا لا ينتهي الماء إليها ولا يتسلط السيل عليها، فتعود أرض مصر بأسرها عند ذلك بحرا غامرا لما بين جبليها ريثما يبلغ الحدّ المحدود في مشيئة الله عز وجل له، وأكثر ذلك يحوم حول ثماني عشرة ذراعا، ثم يأخذ عائدا في صبه إلى مجرى النيل ومسربه، فينضب أوّلا عما كان من الأرض عاليا ويصير فيما كان منها متطامنا، فيترك كل قرارة كالدرهم، ويغادر كل ملقة كالبرد المسهم.

وقال القاضي أبو الحسن عليّ بن محمد الماورديّ «1» في كتاب الأحكام السلطانية:

وأما الذراع السوداء فهي أطول من ذراع الدور بأصبع وثلثي أصبع، وأوّل من وضعها أمير المؤمنين هارون الرشيد قدّرها بذراع خادم أسود كان على رأسه قائما، وهي التي تتعامل الناس بها في ذرع البز والتجارة والأبنية، وقياس نيل مصر.

وأكثر ما وجد في القياس من النقصان سنة سبع وتسعين ومائة وجد في المقياس تسعة أذرع وأحد وعشرون أصبعا. وأقل ما وجد منه سنة خمس وستين ومائة فإنه وجد فيه ذراع واحد وعشر أصابع، وأكثر ما بلغ في الزيادة سنة تسع وتسعين ومائة فإنه بلغ ثمانية عشر ذراعا وتسعة عشر أصبعا، وأقل ما كان في سنة ست وخمسين وثلثمائة الهلالية فإنه بلغ اثني عشر ذراعا وتسع عشرة أصبعا، وهي أيام كافور الإخشيدي.

والمقياس عمود رخام أبيض مثمن في موضع ينحصر فيه الماء عند انسيابه إليه، وهذا العمود مفصل على اثنين وعشرين ذراعا، كل ذراع مفصل على أربعة وعشرين قسما متساوية تعرف بالأصابع ما عدا الاثني عشر ذراعا الأولى، فإنها مفصلة على ثمان وعشرين أصبعا كل ذراع.

وقال المسعوديّ: قالت الهند: زيادة النيل ونقصانه بالسيول ونحن نعرف ذلك بتوالي الأنواء وكثرة الأمطار.

وقالت الروم: لم يزد قط ولم ينقص وإنما زيادته، ونقصانه من عيون كثرت واتصلت.

وقالت القبط: زيادته ونقصانه من عيون في شاطئه يراها من سافر ولحق بأعاليه.

وقيل: لم يزد قط وإنما زيادته بريح الشمال إذا كثرت، واتصلت تحبسه، فيفيض على وجه الأرض.

وقال قوم: سبب زيادته هبوب ريح تسمى ريح الملتن، وذلك أنها تحمل السحاب

ص: 111

الماطر من خلف خط الاستواء فيمطر ببلاد السودان، والحبشة، والنوبة فيأتي مدده إلى أرض مصر بزيادة النيل، ومع ذلك فإن البحر الملح يقف ماؤه على وجه النيل، فيتوقف حتى يروي البلاد وفي ذلك يقول «1» :

فاسمع فللسامع أعلى يدا

عندي وأسمى من يد المحسن

فالنيل ذو فضل ولكنه

الشكر في ذلك للملتن

ويبتدئ النيل بالتنفس، والزيادة بقية بؤنة وهو حزيران، وأبيب وهو تموز، ومسرى وهو آب، فإذا كان الماء زائدا زاد شهر توت كله، وهو أيلول إلى انقضائه. فإذا انتهت الزيادة إلى الذراع الثامن عشر؛ ففيه تمام الخراج وخصب الأرض وهو ضارّ بالبهائم لعدم الرعي والكلا.

وأتمّ الزيادات كلها العامّة النفع للبلد كله سبعة عشر ذراعا وفي ذلك كفايتها وريّ جميع أرضها، وإذا زاد على ذلك، وبلغ ثمانية عشر ذراعا، وغلقها استبحر من أرض مصر الربع. وفي ذلك ضرر لبعض الضياع لما ذكرنا من الاستبحار، وإذا كانت الزيادة على ثمانية عشر ذراعا كانت العاقبة في انصرافه حدوث وباء وأكثر الزيادات ثمان عشرة ذراعا.

وقد بلغ في خلافة عمر بن عبد العزيز اثني عشر ذراعا، ومساحة الذراع إلى أن يبلغ اثنتي عشرة ذراعا، ثمان وعشرون أصبعا، ومن اثنتي عشرة ذراعا إلى ما فوق ذلك يكون الذراع أربعا وعشرين أصبعا، وأقل ما يبقى في قاع المقياس من الماء ثلاثة أذرع، وفي تلك السنة يكون الماء قليلا، والأذرع التي يستسقى عليها بمصر هي ذراعان تسميان منكرا ونكيرا، وهي الذراع الثالث عشر، والذراع الرابع عشر، فإذا انصرف الماء عن هذين الذراعين وزيادة نصف ذراع من الخمس عشرة استستقى الناس بمصر. فكان الضرر الشامل لكل البلدان، وإذا تمّ خمس عشرة ودخل في ست عشرة ذراعا كان فيه صلاح لبعض الناس، ولا يستسقى فيه وكان ذلك نقصا من خراج السلطان، والنبيذ يتخذ بمصر من ماء طوبة، وهو كانون الثاني بعد الغطاس، وهو لعشرة تمضي من طوبة، وأصفى ما يكون ماء النيل في ذلك الوقت، وأهل مصر يفتخرون بصفاء ماء النيل في هذا الوقت، وفيه يخزن الماء أهل تنيس ودمياط وتونة وسائر قرى البحيرة.

وقد كانت مصر كلها تروي من ست عشرة ذراعا، غامرها وعامرها لما أحكموا من جسورها وبناء قناطرها، وتنقية خلجانها، وكان الماء إذا بلغ في زيادته تسع أذرع، دخل خليج المنهي، وخليج الفيوم، وخليج سردوس، وخليج سخا.

قال: والمعمول عليه في وقتنا هذا، وهو سنة خمس وأربعين وثلثمائة إنه إن زاد على

ص: 112

الستة عشر ذراعا أو نقص عنها نقص من خراج السلطان، وقد تغير في زماننا هذا عامة ما تقدّم ذكره لفساد حال الجسور والترع والخلجان وقانون اليوم: أنه يزيد في القيظ إذا حلت الشمس برج السرطان والأسد والسنبلة حين تنقص عامة الأنهار التي في المعمور، ولذلك قيل: إن الأنهار تمدّه بمائها عند غيضها، فتكون زيادته وتبتدىء الزيادة من خامس بؤنة «1» ، وتظهر في ثاني عشره، وأول دفعه في الثاني من أبيب «2» وتنتهي زيادته في ثامن بابه «3» ، ويؤخذ في النقصان من العشرين منه. فتكون مدّة زيادته من ابتدائها إلى أن ينقص ثلاثة أشهر وخمسة وعشرين يوما. وهي: أبيب ومسرى «4» وتوت «5» وعشرون يوما من بابه، ومدّة مكثه بعد انتهاء زيادته اثنا عشر يوما ثم يأخذ في النقصان.

ومن العادة أن ينادى عليه دائما في اليوم السابع والعشرين من بؤنة بعد ما يؤخذ قاعه، وهو ما بقي من الماء القديم في ثالث عشر بؤنة، وبفتح الخليج الكبير إذا أكمل الماء ستة عشر ذراعا وأدركت الناس يقولون: نعوذ بالله من أصبع من عشرين وكنا نعهد الماء إذا بلغ أصابع من عشرين ذراعا فاض ماء النيل، وغرّق الضياع والبساتين وفارت البلاليع، وها نحن في زمن منذ كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة إذا بلغ الماء في سنة أصبعا من عشرين لا يعم الأرض كلها لما قد فسد من الجسور، وكان إلى ما بعد الخمسمائة من الهجرة قانون النيل ستة عشر ذراعا في مقياس الجزيرة، وهي في الحقيقة ثمانية عشر ذراعا؛ وكانوا يقولون: إذا زاد على ذلك ذراعا واحدة؛ زاد خراج مصر مائة ألف دينار لما يروي من الأراضي العالية؛ فإن بلغ ثمانية عشر ذراعا كانت الغاية القصوى، فإن الثمانية عشر ذراعا في مقياس الجزيرة اثنان وعشرون ذراعا في الصعيد الأعلى؛ فإن زاد على الثمانية عشر ذراعا واحدا نقص من الخراج مائة ألف دينار لما يستبحر من الأرض المنخفضة.

قال ابن ميسر في حوادث سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وفيها بلغت زيادة ماء النيل تسعة عشر ذراعا وأربعة أصابع، وبلغ الماء الباب الجديد أوّل الشارع خارج القاهرة، وكان الناس يتوجهون إلى القاهرة من مصر من ناحية المقابر، فلما بلغ الخليفة الحافظ لدين الله أبا الميمون عبد المجيد بن محمد أن الماء وصل إلى الباب الجديد أظهر الحزن، والانقطاع فدخل إليه بعض خواصه، وسأله عن السبب، فأخرج له كتابا فإذا فيه: إذا وصل الماء بالباب الجديد انتقل الإمام عبد المجيد، ثم قال: هذا الكتاب الذي تعلم منه أحوالنا وأحوال دولتنا،

ص: 113

وما يأتي بعدها فمرض الحافظ في آخر هذه السنة، ومات في أوّل سنة أربع وأربعين وخمسمائة.

وقال القاضي الفاضل: في متجدّدات سنة ست وسبعين وخمسمائة وفي يوم الاثنين السادس والعشرين من شهر ربيع الأوّل، وهو السادس عشر من مسرى. وفي النيل على ستة عشر ذراعا، وهو الوفاء ولا يعرف وفاؤه بهذا التاريخ في زمن متقدّم، وهذا أيضا مما تغير فيه قانون النيل في زماننا فإنه صار يوفي في أوائل مسرى ولقد كان الوفاء في سنة اثنتي عشرة، وثمانمائة في اليوم التاسع والعشرين من أبيب قبل مسرى بيوم، وهذا من أعجب ما يؤرخ في زيادات النيل، واتفق أن في الحادي عشر من جمادى الأولى سنة تسع وسبعمائة، وفي النيل وكان ذلك اليوم التاسع عشر من بابه بعد النوروز بتسعة وأربعين يوما.

قال: وفي تاسع عشرة يعني شوّال سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة. كسر بحر أبي المنجى وباشر الملك العزيز عثمان كسره وزاد النيل فيه أصبعا وهي الأصبع الثامنة عشرة من ثمان عشرة ذراعا، وهذا الحدّ يسمى عند أهل مصر اللجة الكبرى. فانظر كيف يسمي القاضي الفاضل هذا القدر اللجة الكبرى؟! وإنه والعياذ بالله لو بلغ ماء النيل في سنة هذا القدر فقط لحل بالبلاد غلاء يخاف منه أن يهلك فيه الناس، وما ذاك إلا لما أهمل من عمل الجسور؛ ويحصل لأهل مصر بوفاء النيل ست عشرة ذراعا فرح عظيم، فإن ذلك كان قانون الري في القديم واستمرّ ذلك إلى يومنا هذا. ويتخذ ذلك اليوم عيدا يركب فيه السلطان بعساكره، وينزل في المراكب لتخليق المقياس.

وقد ذكرنا ما كان في الدولة الفاطمية من الاهتمام بفتح الخليج عند ذكر مناظر اللؤلؤة. وقال بعض المفسرين رحمهم الله تعالى: إن يوم الوفا هو اليوم الذي وعد فرعون موسى عليه السلام بالاجتماع في قوله تعالى: قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى

[طه/ 59] .

وقد جرت العادة أن اجتماع الناس للتخليق يكون في هذا الوقت.

ومن أحسن السياسات في أمر النداء على النيل ما حكاه الفقيه ابن زولاق «1» في سيرة المعز «2» لدين الله قال: وفي هذا الشهر، يعني شوّال، سنة اثنتين وستين وثلثمائة منع المعز لدين الله من النداء بزيادة النيل، وأن لا يكتب بذلك إلا إليه، وإلى القائد جوهر، فلما تم

ص: 114

أباح النداء، يعني لما تم ست عشرة ذراعا، وكسر الخليج فتأمّل ما أبدع هذه السياسة؛ فإنّ الناس دائما إذا توقف النيل في أيام زيادته، أو زاد قليلا يقلقون، ويحدّثون أنفسهم بعدم طلوع النيل، فيقبضون أيديهم على الغلال، ويمتنعون من بيعها رجاء ارتفاع السعر، ويجتهد من عنده مال في خزن الغلة؛ إما لطلب السعر، أو لطلب ادّخار قوت عياله، فيحدث بهذا الغلاء. فإن زاد الماء انحلّ السعر وإلا كان الجدب والقحط ففي كتمان الزيادة عن العامّة أعظم فائدة، وأجلّ عائدة.

وقال المسبحي «1» في تاريخ مصر: وخرج أمر صاحب القصر إلى ابن حيران بتحرير ما يستفتح به القياسون كلامهم إذا نادوا على النيل، فقال: نعم لا تحصى من خزائن الله لا تفنى زاد الله في النيل المبارك كذا، ومن عادة نيل مصر إذا كان عند ابتداء زيادته اخضرّ ماؤه، فتقول عامّة أهل مصر: قد توحم النيل، ويرون أن الشرب منه حينئذ مضر. ويقال في سبب اخضراره: إنّ الوحوش سيما الفيلة ترد البطيحات التي في أعالي النيل، وتستنقع فيها مع كثرة عددها لشدّة الحرّ هناك، فيتغير ماء تلك البطيحات، فإذا وقع المطر في الجهة الجنوبية في أوقاته عندهم تكاثرت السيول حينئذ في البطيحات، فخرج ما كان فيها من الماء الذي قد تغير، ومرّ إلى مصر، وجاء عقيبه الماء الجديد، وهو الزيادة بمصر وحينئذ يكون الماء محمرّا لما يخالطه من الطين الذي تأتي به السيول فإذا تناهت زيادته غشي أرض مصر، فتصير القرى التي في الأقاليم فوق التلال والروابي، وقد أحاط بها الماء، فلا يتوصل إليها إلا في المراكب، أو من فوق الجسور الممتدّة التي يصرف عليها إذا عملت كما ينبغي ربع الخراج ليحفظ عند ذلك ماء النيل حتى ينتهي ريّ كل مكان إلى الحدّ المحتاج إليه، فإذا تكامل ريّ ناحية من النواحي قطع أهلها الجسور المحيطة بها من أمكنة معروفة عند خولة البلاد، ومشايخها في أوقات محدودة لا تتقدّم، ولا تتأخر عن أوقاتها المعتادة على حسب ما يشهد به قوانين كل ناحية من النواحي، فتروى كل جهة مما يليها مع ما يجتمع فيها من الماء المختص؛ ولولا إتقان ما هنالك من الجسور، وحفر الترع والخلجان لقل الانتفاع بماء النيل كما قد جرى في زماننا هذا. وقد حكى أنه كان يرصد لعمارة جسور أراضي مصر في كل سنة ثلث الخراج لعنايتهم في القديم بها من أجل أنه يترتب على عملها ريّ البلاد الذي به مصالح العباد، وستقف إن شاء الله تعالى عن قريب على ما كان من أعمال القدماء، ومن بعدهم في ذلك، وكان للمقياس في الدولة الفاطمية رسوم لكنس مجاري الماء خمسون دينارا في كل سنة تطلق لابن أبي الردّاد.

ص: 115