المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر البجة ويقال إنهم من البربر - المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار - جـ ١

[المقريزي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الاول

- ‌تقديم

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌ذكر الرءوس الثمانية

- ‌ذكر طرف من هيئة الأفلاك

- ‌ذكر صورة الأرض وموضع الأقاليم منها

- ‌ذكر محل مصر من الأرض وموضعها من الأقاليم السبعة

- ‌ذكر حدود مصر وجهاتها

- ‌ذكر بحر القلزم

- ‌ذكر البحر الرومي

- ‌ذكر اشتقاق مصر ومعناها وتعداد أسمائها

- ‌ذكر طرف من فضائل مصر

- ‌ذكر العجائب التي كانت بمصر من الطلسمات والبرابي ونحو ذلك

- ‌ذكر الدفائن والكنوز التي تسميها أهل مصر المطالب

- ‌ذكر هلاك أموال أهل مصر

- ‌ذكر أخلاق أهل مصر وطبائعهم وأمزجتهم

- ‌ذكر شيء من فضائل النيل

- ‌ذكر مخرج النيل وانبعاثه

- ‌فصل في الردّ على من اعتقد أن النيل من سيل يفيض

- ‌ذكر مقاييس النيل وزيادته

- ‌ذكر الجسر الذي كان يعبر عليه في النيل

- ‌ذكر ما قيل في ماء النيل من مدح وذم

- ‌ذكر عجائب النيل

- ‌ذكر طرف من تقدمة المعرفة بحال النيل في كل سنة

- ‌ذكر عيد الشهيد

- ‌ذكر الخلجان التي شقت من النيل

- ‌ذكر ما كانت عليه أرض مصر في الزمن الأوّل

- ‌ذكر أعمال الديار المصرية وكورها

- ‌ذكر ما كان يعمل في أراضي مصر من حفر الترع وعمارة الجسور ونحو ذلك من أجل ضبط ماء النيل وتصريفه في أوقاته

- ‌ذكر مقدار خراج مصر في الزمن الأوّل

- ‌ذكر ما عمله المسلمون عند فتح مصر في الخراج وما كان من أمر مصر في ذلك مع القبط

- ‌ذكر انتقاض القبط وما كان من الأحداث في ذلك

- ‌ذكر نزول العرب بريف مصر واتخاذهم الزرع معاشا وما كان في نزولهم من الأحداث

- ‌ذكر قبالات أراضي مصر بعد ما فشا الإسلام في القبط ونزول العرب في القرى وما كان من ذلك إلى الروك الأخير الناصري

- ‌ذكر الروك الأخير الناصري

- ‌ذكر الديوان

- ‌ذكر ديوان العساكر والجيوش

- ‌ذكر القطائع والإقطاعات

- ‌ذكر ديوان الخراج والأموال

- ‌ذكر خراج مصر في الإسلام

- ‌ذكر أصناف أراضي مصر وأقسام زراعتها

- ‌ذكر أقسام مال مصر

- ‌ذكر الأهرام

- ‌ذكر الصنم الذي يقال له أبو الهول

- ‌ذكر الجبال

- ‌ذكر الجبل المقطم

- ‌الجبل الأحمر

- ‌جبل يشكر

- ‌ذكر الرّصد

- ‌ذكر مدائن أرض مصر

- ‌ذكر مدينة أمسوس وعجائبها وملوكها

- ‌ذكر مدينة منف وملوكها

- ‌ذكر مدينة الإسكندرية

- ‌ذكر الإسكندر

- ‌ذكر تاريخ الإسكندر

- ‌ذكر الفرق بين الإسكندر وذي القرنين وأنهما رجلان

- ‌ذكر من ولي الملك بالإسكندرية بعد الإسكندر

- ‌ذكر منارة الإسكندرية

- ‌ذكر الملعب الذي كان بالإسكندرية وغيره من العجائب

- ‌ذكر عمود السواري

- ‌ذكر طرف مما قيل في الإسكندرية

- ‌ذكر فتح الإسكندرية

- ‌ذكر ما كان من فعل المسلمين بالإسكندرية وانتقاض الروم

- ‌ذكر بحيرة الإسكندرية

- ‌ذكر خليج الإسكندرية

- ‌ذكر جمل حوادث الإسكندريّة

- ‌ذكر مدينة أتريب

- ‌ذكر مدينة تنيس

- ‌ذكر مدينة صا

- ‌رمل الغرابي

- ‌ذكر مدينة بلبيس

- ‌ذكر بلد الورادة

- ‌ذكر مدينة أيلة

- ‌ذكر مدينة مدين

- ‌بقية خبر مدينة مدين

- ‌ذكر مدينة فاران

- ‌ذكر أرض الجفار

- ‌ذكر صعيد مصر

- ‌ذكر تشعب النيل من بلاد علوة ومن يسكن عليه من الأمم

- ‌ذكر البجة ويقال إنهم من البربر

- ‌ذكر مدينة أسوان

- ‌ذكر بلاق

- ‌ذكر حائط العجوز

- ‌ذكر البقط

- ‌ذكر صحراء عيذاب

- ‌ذكر مدينة الأقصر

- ‌ذكر البلينا

- ‌ذكر سمهود

- ‌ذكر إرجنّوس

- ‌ذكر أبويط

- ‌ذكر ملوى

- ‌ذكر مدينة أنصنا

- ‌ذكر القيس

- ‌ذكر دروط بلهاسة

- ‌ذكر سكر

- ‌ذكر منية الخصيب

- ‌ذكر منية الناسك

- ‌ذكر الجيزة

- ‌ذكر قرية ترسا

- ‌ذكر منية أندونة

- ‌ذكر وسيم

- ‌ذكر منية عقبة

- ‌ذكر حلوان

- ‌ذكر مدينة العريش

- ‌ذكر مدينة الفرماء

- ‌ذكر مدينة القلزم

- ‌ذكر التيه

- ‌ذكر مدينة دمياط

- ‌ذكر شطا

- ‌ذكر الطريق فيما بين مدينة مصر ودمشق

- ‌ذكر مدينة حطين

- ‌ذكر مدينة الرقة

- ‌ذكر عين شمس

- ‌المنصورة

- ‌العباسة

- ‌ذكر مدينة دندرة

- ‌ذكر الواحات الداخلة

- ‌ذكر مدينة سنتريّة

- ‌ذكر الواحات الخارجة

- ‌ذكر مدينة قوص

- ‌ذكر مدينة أسنا

- ‌ذكر مدينة أدفو

- ‌إهناس

- ‌ذكر مدينة البهنسا

- ‌ذكر مدينة الأشمونين

- ‌ذكر مدينة إخميم

- ‌ذكر مدينة العقاب

- ‌ذكر مدينة الفيوم

- ‌ذكر ما قيل في الفيوم وخلجانها وضياعها

- ‌ذكر فتح الفيوم ومبلغ خراجها وما فيها من المرافق

- ‌مدينة النحريرية

الفصل: ‌ذكر البجة ويقال إنهم من البربر

سنة) «1» وبنى بدنقلة جامع يأوي إليه الغرباء، واعلم أنّ على ضفة النيل أيضا، الكانم، وملكها مسلم، وبينه وبين بلاد مالي مسافة بعيدة جدّا، وقاعدة ملكه بلدة اسمها حميمي، وأوّل مملكته من جهة مصر بلدة اسمها زرلا، وآخرها طولا بلدة يقال لها: كاكا، وبينهما نحو ثلاثة أشهر، وهم يتلثمون، وملكهم متحجب لا يرى إلا يومي العيدين بكرة، وعند العصر، وطول السنة لا يكلمه أحد إلا من وراء حجاب، وغالب عيشهم الأرز، وهو ينبت من غير بذر، وعندهم القمح والذرة والتين والليمون والباذنجان واللفت والرطب، ويتعاملون بقماش ينسج عندهم اسمه: دندي طول كل ثوب، عشرة أذرع، يشترون به من ربع ذراع فأكثر، ويتعاملون أيضا بالودع والخرز والنحاس المكسر والورق، وجميع ذلك بسعر ذلك القماش، وفي جنوبها شعارى وصحارى، فيها أشخاص متوحشة كالفيول قريبة من شكل الآدميّ لا يلحقها الفارس تؤذي الناس، ويظهر في الليل أيضا شبه نار تضيء، فإذا مشى أحد ليلحقها بعدت عنه، ولو جرى إليها لا يصل إليها بل لا تزال أمامه فإذا رماها بحجر، فأصابها تشظى منها شرر، وتعظم عندهم اليقطينة حتى تصنع منها مراكب يعبر فيها في النيل.

وهذه البلاد بين إفريقية وبرقة ممتدّة في الجنوب إلى سمت الغرب الأوسط، وهي بلاد قحطان وشطن «2» وسوء مزاج، وأوّل من بث بها الإسلام، الهادي العثمانيّ، ادّعى أنه من ولد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وصارت بعده، لليزنيين من بني سيف بن ذي يزن، وهم على مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه الله، والعدل قائم بينهم، وهم يابسون في الدين لا يلينون، وبنوا بمدينة مصر مدرسة للمالكية عرفت بمدرسة ابن رشيق في سني أربعين وستمائة، وصارت وفودهم تنزل بها، وسيرد ذكرها في المدارس إن شاء الله تعالى.

‌ذكر البجة ويقال إنهم من البربر

اعلم أنّ أول بلد البجة من قرية تعرف بالحزبة معدن الزمرّذ في صحراء قوص، وبين هذا الموضع، وبين قوص نحو من ثلاث مراحل، وذكر الجاحظ أنه ليس في الدنيا معدن للزمرّذ غير هذا الموضع، وهو يوجد في مغاير بعيدة مظلمة يدخل إليها بالمصابيح، وبحبال يستدل بها على الرجوع خوف الضلال، ويحفر عليه بالمعاول، فيوجد في وسط الحجارة، وحوله غشيم دونه في الصبغ والجوهر، وآخر بلاد البجة، أوّل بلاد الحبشة، وهم في بطن هذه الجزيرة أعني جزيرة مصر إلى سيف البحر الملح مما يلي جزائر سواكن، وباضع، ودهلك، وهم بادية يتبعون الكلأ، حيثما كان الرعي بأخبية من جلود.

ص: 358

وأنسابهم من جهة النساء، ولكل بطن منهم رئيس، وليس عليهم متملك ولا لهم دين، وهم يورثون، ابن البنت وابن الأخت دون ولد الصلب، ويقولون: إنّ ولادة ابن الأخت وابن البنت، أصح فإنه إن كان من زوجها، أو من غيره، فهو ولدها على كل حال، وكان لهم قديما رئيس يرجع جميع رؤسائهم إلى حكمه يسكن قرية تعرف: بهجر، هي أقصى جزيرة البجة، ويركبون النجب الصهب، وتنتج عندهم، وكذلك الجمال العراب كثيرة عندهم أيضا، والمواشي من البقر والغنم والضأن غاية في الكثرة عندهم، وبقرهم، وحسان ملعمة بقرون عظام، ومنها جمّ وكباشهم كذلك منمرة ولها ألبان، وغذاؤهم اللحم وشرب اللبن، وأكلهم للجبن قليل، وفيهم من يأكله، وأبدانهم صحاح وبطونهم خماص، وألوانهم مشرقة الصفرة، ولهم سرعة في الجري يباينون بها الناس، وكذلك جمالهم شديدة العدو صبورة عليه، وعلى العطش، يسابقون عليها الخيل، ويقاتلون عليها، وتدور بهم كما يشتهون، ويقطعون عليها من البلاد ما يتفاوت ذكره، ويتطاردون عليها في الحرب، فيرمي الواحد منهم الحربة فإن وقعت في الرمية طار إليها الجمل، فأخذها صاحبها، وإن وقعت في الأرض ضرب الجمل بجرانه الأرض فأخذها صاحبها.

ونبغ منهم في بعض الأوقات رجل يعرف بكلاز شديد مقدام، وله جمل ما سمع بمثله في السرعة، وكان أعور، وصاحبه كذلك التزم لقومه أنه يشرف على مصلى مصر يوم العيد، وقد قرب العيد قربا لا يكون للبلوغ إليها في مثله حقيقة، فوفى بذلك، وأشرف على المقطم وضربت الخيل خلفه فلم يلحق، وهذا هو الذي أوجب أن يكون في السفح طليعة يوم العيد، وكان الطولونية وغيرهم: من أمراء مصر يوقفون في سفح الجبل المقطم، مما يلي الموضع المعروف: بالحبش، جيشا كثيفا مراعيا للناس حتى ينصرفوا من عيدهم في كل عيد، وهم أصحاب ذمّة فإذا غدر أحدهم رفع المغدور به ثوبا على حربة، وقال: هذا عرش فلان يعني أبا الغادر، فتصير سيئة عليه إلى أن يترضاه، وهم يبالغون في الضيافة، فإذا طرق أحدهما الضيف ذبح له، فإذا تجاوز ثلاثة نفر نحر لهم من أقرب الأنعام إليه سواء كانت له أو لغيره، وإن لم يكن شيء نحر راحلة الضيف، وعوّضه ما هو خير منها، وسلاحهم الحراب السباعية مقدار طول الحديدة ثلاثة أذرع، والعود أربعة أذرع، وبذلك سميت سباعية والحديدة في عرض السيف لا يخرجونها من أيديهم إلا في بعض الأوقات، لأنّ في آخر العود شيئا شبيها بالفلكة يمنع خروجها عن أيديهم، وصناع هذه الحراب نساء في موضع لا يختلط بهنّ رجل إلا المشتري منهنّ.

فإذا ولدت إحداهنّ من الطارقين لهنّ جارية استحيتها، وإن ولدت غلاما قتلته، ويقلن: إنّ الرجال بلاء وحرب، ودرقهم من جلود البقر مشعرة، ودرق مقلوبة تعرف بالأكسومة من جلود الجواميس، وكذلك الدهلكية ومن دابة في البحر، وقسيّهم عربية كبار

ص: 359

غلاظ من السدر والشوحط يرمون عليها بنبل مسموم، وهذا السم يعمل من عروق شجر الغلف يطبخ على النار حتى يصير مثل الغرا فإذا أرادوا تجربته شرط أحدهم جسده، وسيل الدم ثم شممه هذا السم، فإذا تراجع الدم علم أنه جيد، ومسح الدم لئلا يرجع إلى جسمه فيقتله، فإذا أصاب الإنسان قتل لوقته، ولو مثل شرطة الحجام، وليس له عمل في غير الجرح والدم وإن شرب منه لم يضرّ، وبلدانهم كلها معادن، وكلما تصاعدت كانت أجود ذهبا وأكثر، وفيها معادن الفضة والنحاس والحديد والرصاص وحجر المغناطيس والمرقشيتا والحمست والزمرّذ وحجارة شطبا، فإذا بلّت الشطبة منها بزيت وقدت مثل الفتيلة وغير ذلك مما شغلهم طلب معادن الذهب عما سواه.

والبجة لا تتعرّض لعمل شيء من هذه المعادن، وفي أوديتهم شجر المقل «1» والإهليلج والإذخر، والشيح والسنا والحنظل، وشجر البان وغير ذلك، وبأقصى بلدهم:

النخل وشجر الكرم والرياحين، وغير ذلك مما لم يزرعه أحد، وبها سائر الوحش من السباع والفيلة والنمور والفهود والقردة وعناق الأرض والزباد، ودابة تشبه الغزال حسنة المنظر لها قرنان على لون الذهب قليلة البقاء إذا صيدت، ومن الطيور: الببغاء، والنقيط، والنوبيّ، والقماريّ، ودجاج الحبش، وحمام بازين، وغير ذلك.

وليس منهم رجل إلا منزوع البيضة اليمنى، وأما النساء فمقطوع أشفار فروجهنّ وإنه يلتحم حتى يشق عنه للمتزوّج بمقدار ذكر الرجل، ثم قلّ هذا الفعل عندهم، وقيل: إنّ السبب في ذلك أنّ ملكا من الملوك حاربهم قديما، ثم صالحهم وشرط عليهم قطع ثديّ من يولد لهم من النساء، وقطع ذكور من يولد من الرجال، أراد بذلك قطع النسل منهم، فوفوا بالشرط، وقلبوا المعنى في أن جعلوا قطع الثديّ للرجال، والفروج للنساء، وفيهم جنس يقلعون ثناياهم ويقولون: لا نتشبه بالحمير، وفيهم جنس آخر في آخر بلاد البجة يقال لهم:

البازة، نساء جميعهم يتسمون باسم واحد، وكذلك الرجال، فطرقهم في وقت رجل مسلم له جمال، فدعا بعضهم بعضا، وقالوا: هذا الله قد نزل من السماء، وهو جالس تحت الشجرة، فجعلوا ينظرون إليه من بعد.

وتعظم الحيات ببلدهم وتكثر أصنافها، ورئيت حية في غدير ماء، قد أخرجت ذنبها والتفت على امرأة وردت فقتلتها، فرؤي شحمها قد خرج من دبرها من شدّة الضغطة، وبها حية ليس لها رأس، وطرفاها سواء منقشة ليست بالكبيرة إذا مشى الإنسان على أثرها مات، وإذا قتلت وأمسك القاتل ما قتلها به من عود أو حربة في يده، ولم يلقه من ساعته مات، وقتلت حية منها بخشبة، فانشقت الخشبة، وإذا تأمّل هذه الحية أحد، وهي ميتة أو حية أصابه ضررها، وفي البجة شرّ وتسرع إليه، ولهم في الإسلام وقبله أذية على شرق صعيد

ص: 360

مصر خرّبوا هناك قرى عديدة، وكانت فراعنة مصر تغزوهم وتوادعهم أحيانا لحاجتهم إلى المعادن، وكذلك الروم لما أن ملكوا مصر، ولهم في المعادن آثار مشهورة، وكان أصحابهم بها وقد فتحت مصر.

قال عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم: وتجمع لعبد الله بن سعد بن أبي سرح، في انصرافه من النوبة على شاطىء النيل البجة، فسأل عن شأنهم؟ فأخبر: أن ليس لهم ملك يرجعون إليه، فهان عليه أمرهم، وتركهم، فلم يكن لهم عقد ولا صلح، وكان أوّل من هادنهم عبيد الله بن الحبحاب السلوليّ، ويذكر أنه وجد في كتاب ابن الحبحاب، لهم ثلثمائة بكر في كل عام حين ينزلون الريف مجتازين تجارا غير مقيمين على أن لا يقتلوا مسلما، ولا ذميّا، فإن قتلاه فلا عهد لهم، ولا يؤوا عبيد المسلمين، وأن يردّوا آبقيهم إذا وقعوا إليهم.

ويقال: إنهم كانوا يؤاخذون بهذا وبكل شاة أخذها البجاوي فعليه أربعة دنانير، وللبقرة عشرة، وكان وكيلهم مقيما بالريف رهينة بيد المسلمين، ثم كثر المسلمون في المعدن فخالطوهم وتزوّجوا فيهم، وأسلم كثير من الجنس المعروف بالحدارب إسلاما ضعيفا، وهم شوكة القوم، ووجوههم، وهم مما يلي مصر من أوّل حدّهم إلى العلاقي، وعيذاب المعبر منه إلى جدّة وما وراء ذلك، ومنهم جنس آخر يعرفون بالرنافج هم أكثر عددا من الحدارب غير أنهم تبع لهم وخفراؤهم يحمونهم ويحبونهم المواشي ولكل رئيس من الحدارب، قوم من الرنافج في حملته، فهم كالعبيد يتوارثونهم بعد أن كانت الرنافج قديما أظهر عليهم، ثم كثرت أذيتهم على المسلمين، وكان ولاة أسوان من العراق، فرفع إلى أمير المؤمنين المأمون خبرهم، فأخرج إليهم عبد الله بن الجهم، فكانت له معهم وقائع، ثم وادعهم، وكتب بينه وبين ركنون رئيسهم الكبير الذي يكون بقريتهم، هجر المقدّم ذكرها كتابا نسخته: هذا كتاب، كتبه عبد الله بن الجهم مولى أمير المؤمنين صاحب جيش الغزاة عامل الأمير أبي إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد أبقاه الله في شهر ربيع الأوّل سنة ست عشرة ومائتين، لكنون بن عبد العزيز عظيم البجة بأسوان، إنك سألتني وطلبت إليّ أن أؤمنك وأهل بلدك من البجة، وأعقد لك ولهم أمانا عليّ، وعلى جميع المسلمين، فأجبتك إلى أن عقدت لك، وعلى جميع المسلمين أمانا ما استقمت، واستقاموا على ما أعطيتني، وشرطت لي في كتابي هذا، وذلك أن يكون سهل بلدك وجبلها من منتهى حدّ أسوان من أرض مصر إلى حدّ ما بين دهلك «1» وباضع «2» ملكا للمأمون عبد الله بن هارون أمير المؤمنين أعزه الله تعالى، وأنت وجميع أهل بلدك عبيد لأمير المؤمنين إلا أنك تكون في

ص: 361

بلدك ملكا على ما أنت عليه في البجة، وعلى أن تؤدّي إليه الخراج في كل عام على ما كان عليه سلف البجة، وذلك مائة من الإبل، أو ثلثمائة دينار وازنة داخلة في بيت المال، والخيار في ذلك لأمير المؤمنين ولولاته، وليس لك أن تخرم شيئا عليك من الخراج، وعلى أنّ كل أحد منكم إن ذكر محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كتاب الله أو دينه بما لا ينبغي أن يذكره به، أو قتل أحدا من المسلمين حرّا أو عبدا، فقد برئت منه الذمّة، ذمّة الله وذمّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمّة أمير المؤمنين، أعزه الله، وذمة جماعة المسلمين، وحلّ دمه كما يحلّ دم أهل الحرب وذراريهم، وعلى أنّ أحدا منكم إن أعان المحاربين على أهل الإسلام بمال أو دلّه على عورة من عورات المسلمين، أو أثر لعزتهم فقد نقض ذمّة عهده وحلّ دمه، وعلى أنّ أحدا منكم إن قتل أحدا من المسلمين عمدا أو سهوا أو خطأ حرّا أو عبدا أو أحدا من أهل ذمة المسلمين أو أصاب لأحد من المسلمين أو أهل ذمّتهم ما لا ببلد البجة، أو ببلاد الإسلام أو ببلاد النوبة أو في شيء من البلدان برّا أو بحرا، فعليه في قتل المسلم عشر ديات، وفي قتل العبد المسلم عشر قيم، وفي قتل الذميّ عشر ديات من دياتهم، وفي كل مال أصبتموه للمسلمين، وأهل الذمّة عشرة أضعافه، وإن دخل أحد من المسلمين بلاد البجة تاجرا أو مقيما أو مجتازا أو حاجا فهو آمن فيكم كأحدكم حتى يخرج من بلادكم، ولا تؤوا أحدا من آبقي المسلمين، فإن أتاكم آت فعليكم أن تردّوه إلى المسلمين، وعلى أن تردوا أموال المسلمين إذا صارت في بلادكم بلا مؤنة تلزمهم في ذلك، وعلى أنكم إن نزلتم ريف صعيد مصر لتجارة أو مجتازين لا تظهرون سلاحا، ولا تدخلون المدائن والقرى بحال، ولا تمنعوا أحدا من المسلمين الدخول في بلادكم والتجارة فيها برّا ولا بحرا، ولا تخيفوا السبيل، ولا تقطعوا الطريق على أحد من المسلمين، ولا أهل الذمّة، ولا تسرقوا لمسلم ولا ذميّ مالا وعلى أن لا تهدموا شيئا من المساجد التي ابتناها المسلمون، بصيحة وهجر، وسائر بلادكم طولا وعرضا فإن فعلتم ذلك، فلا عهد لكم ولا ذمّة.

وعلى أن كنون بن عبد العزيز، يقيم بريف صعيد مصر وكيلا يفي للمسلمين بما شرط لهم من دفع الخراج، وردّ ما أصابه البجة للمسلمين من دم ومال، وعلى أن أحدا من البجة لا يعترض حدّ القصر إلى قرية يقال لها قبان، من بلد النوبة حدّا لا عمدة عقد، عبد الله بن الجهم، مولى أمير المؤمنين لكنون بن عبد العزيز، كبير البجة الأمان على ما سمينا وشرطنا في كتابنا هذا، وعلى أن يوافي به أمير المؤمنين فإن زاغ كنون أو عاث فلا عهد له، ولا ذمّة، وعلى كنون أن يدخل عمال أمير المؤمنين بلاد البجة، لقبض صدقات من أسلم من البجة، وعلى كنون الوفاء بما شرط، لعبد الله بن الجهم، وأخذ بذلك عهد الله عليه بأعظم ما أخذ على خلقه من الوفاء والميثاق.

ولكنون بن عبد العزيز، ولجميع البجة: عهد الله وميثاقه وذمّة أمير المؤمنين، وذمّة الأمير، أبي إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد، وذمّة عبد الله بن الجهم، وذمّة المسلمين

ص: 362

بالوفاء، بما أعطاه عبد الله بن الجهم، ما وفى كنون بن عبد العزيز بجميع ما شرط عليه، فإن غيّر كنون، أو بدّل أحد من البجة، فذمّة الله جل اسمه، وذمّة أمير المؤمنين، وذمّة الأمير أبي إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد، وذمّة عبد الله بن الجهم، وذمّة المسلمين بريئة منهم، وترجم جميع ما في هذا الكتاب حرفا حرفا، زكريا بن صالح المخزوميّ من سكان جدّة وعبد الله بن إسماعيل القرشيّ، ثم نسق جماعة من شهود أسوان، فأقام البجة على ذلك برهة، ثم عادوا إلى غزو الريف من صعيد مصر، وكثر الضجيج منهم إلى أمير المؤمنين، جعفر المتوكل على الله، فندب لحربهم، محمد بن عبد الله القميّ، فسأل أن يختار من الرجال، من أحبّ، ولم يرغب إلى الكثرة لصعوبة المسالك.

فخرج إليهم من مصر في عدّة قليلة، ورجال منتخبة، وسارت المراكب في البحر، فاجتمع البجة لهم في عدد كثير عظيم قد ركبوا الإبل، فهاب المسلمون ذلك، فشغلهم بكتاب طويل كتبه في طومار، ولفه بثوب فاجتمعوا لقراءته، فحمل عليهم، وفي أعناق الخيل الأجراس، فنفرت الجمال بالبجة، ولم تثبت لصلصلة الأجراس، فركب المسلمون أقفيتهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وقتل كبيرهم، فقام من بعده، ابن أخيه، وبعث يطلب الهدنة، فصالحهم، على أن يطأ بساط أمير المؤمنين، فسار إلى بغداد، وقدم على المتوكل، بسرّمن رأى في سنة إحدى وأربعين ومائتين، فصولح على أداء الإداوة والبقط، واشترط عليهم أن لا يمنعوا المسلمين من العمل في المعدن.

وأقام القميّ بأسوان مدّة، وترك في خزائنها ما كان معه من السلاح وآلة الغزو، فلم تزل الولاة تأخذ منه حتى لم يبقوا منه شيئا، فلما كثر المسلمون في المعادن، واختلطوا بالبجة، قلّ شرهم، وظهر التبر لكثرة طلابه، وتسامع الناس به فوفدوا من البلدان، وقدم عليهم أبو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحميد العمريّ، بعد محاربته النوبة في سنة خمس وخمسين ومائتين، ومعه ربيعة وجهينة وغيرهم من العرب، فكثرت بهم العمارة في البجة حتى صارت الرواحل التي تحمل الميرة إليهم من أسوان، ستين ألف راحلة، غير الجلاب التي تحمل من القلزم إلى عيذاب، ومالت البجة إلى ربيعة وتروّحوا إليهم.

وقيل: إنّ كهان البجة قبل إسلام من أسلم منهم ذكرت، عن معبودهم الطاعة لربيعة، ولكنون معا، فهم على ذلك، فلما قتل العمريّ، واستولت ربيعة على الجزائر، والاهم على ذلك البجة، فأخرجت من خالفها من العرب، وتصاهروا إلى رؤساء البجة، وبذلك كف ضررهم عن المسلمين.

والبجة الداخلة في صحراء بلد علوة مما يلي البحر الملح إلى أوّل الحبشة، ورجالهم في الظعن والمواشي واتباع الرعي والمعيشة، والمراكب والسلاح، كحال الحدارب، إلا أن الحدارب أشجع وأهدى من الداخلة على كفرهم من عبادة الشيطان، والاقتداء بكهانهم،

ص: 363

ولكل بطن كاهن يضرب له قبة من أدم معبدهم فيها، فإذا رأوا استخباره عما يحتاجون إليه تعرّى، ودخل إلى القبة مستدبرا، ويخرج إليهم وبه أثر جنون وصرع، يقول: الشيطان يقرئكم السلام، ويقول لكم: ارحلوا عن هذه الحلة، فإنّ الرهط الفلانيّ يقع بكم، وسألتم عن الغزو إلى بلد كذا، فسيروا فإنكم تظفرون وتغنمون كذا وكذا، والجمال التي تأخذونها من موضع كذا هي لي، والجارية الفلانية التي تجدونها في الخباء الفلانيّ، والغنم التي من صفتها كذا، ونحو هذا القول، فيزعمون أنه يصدقهم في أكثر من ذلك، فإذا غنموا أخرجوا من الغنيمة ما ذكر، ودفعوه إلى الكاهن يتموّله ويحرّمون ألبان نوقها على من لم يقبل، فإذا أرادوا الرحيل حمل الكاهن هذه القبة على جمل مفرد، فيزعمون أن ذلك الجمل لا يثور إلا بجهد، وكذلك سيره ويتصبب عرقا، والخيمة فارغة لا شيء فيها، وقد بقي في الحدارب جماعة على هذا المذهب، ومنهم من يتمسك بذلك مع إسلامه.

قال مؤرخ النوبة: ومنه لخصت ما تقدّم ذكره، وقد قرأت في خطبة الأجناس لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: ذكر البجة والكجة ويقول عنهم: شديد كلبهم، قليل سلبهم، فالبجة كذلك، وأما الكجة، فلا أعرفهم انتهى ما ذكره عبد الله بن أحمد مؤرخ النوبة.

وقال أبو الحسن المسعودي: فأما البجة فإنها نزلت بين بحر القلزم ونيل مصر، وتشعبوا فرقا وملّكوا عليهم ملكا، وفي أرضهم معادن الذهب، وهو التبر ومعادن الزمرّذ، وتتصل سراياهم ومناسرهم على النجب إلى بلاد النوبة، فيغزون ويسبون، وقد كانت النوبة قبل ذلك أشدّ من البجة إلى أن قوي الإسلام، وظهر وسكن جماعة من المسلمين معدن الذهب، وبلاد العلاقي وعيذاب، وسكن في تلك الديار خلق من من العرب من ربيعة بن نزار بن معدّ بن عدنان، فاشتدّت شوكتهم، وتزوّجوا من البجة، فقويت البجة، ثم صاهرها قوم من ربيعة، فقويت ربيعة بالبجة على من ناواها، وجاورها من قحطان وغيرهم، ممن سكن تلك الديار.

وصاحب المعدن في وقتنا هذا، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، بشر بن مروان بن إسحاق بن ربيعة يركب في ثلاثة آلاف ألف من ربيعة وأحلافها من مصر، واليمن وثلاثين ألف حراب على النجب من البجة في الجحف التحاوية، وهم الحدارب، وهم مسلمون ممن بين سائر البجة، والداخلة من البجة، كفار يعبدون صنما لهم، والبجة المالكة لمعدن الزمرّذ يتصل ديارها بالعلاقي، وهو معدن الذهب، وبين العلاقي والنيل خمس عشرة مرحلة وأقرب العمارة إليه مدينة أسوان، وجزيرة سواكن أقل من ميل في ميل، وبينها وبين البحر الحبشي بحر قصير يخاض، وأهلها طائفة من البجة تسمى: الخاسة، وهم مسلمون ولهم بها ملك.

ص: 364