الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من الكروم في هتور من ماء النيل مرّة واحدة تغريقا.
وجميع أراضي مصر تقاس بالفدّان، وهو عبارة عن أربعمائة قصبة حاكمية طولا في عرض قصبة واحدة، والقصبة ستة أذرع وثلثا ذراع بذراع القماش، وخمسة أذرع بذراع النجار تقريبا.
وقال القاضي أبو الحسن في كتاب المنهاج: خراج مصر قد ضرب على قصبة في المساحة اصطلح عليها زرع المزارع على حكمها، وتكسير الفدّان أربعمائة قصبة لأنه عشرون قصبة طولا في عشرين قصبة عرضا وقصبة المساحة تعرف بالحاكمية، وهي تقارب خمسة أذرع بالنجاري.
ذكر أقسام مال مصر
اعلم أن مال مصر في زمننا ينقسم قسمين: أحدهما يقال له: خراجيّ، والآخر يقال له: هلاليّ. فالمال الخراجيّ: ما يؤخذ مسانهة من الأراضي التي تزرع حبوبا ونخلا وعنبا وفاكهة، وما يؤخذ من الفلاحين هدية مثل الغنم والدجاج والكشك وغيره من طرف الريف.
والمال الهلاليّ عدّة أبواب، كلها أحدثوها ولاة السوء شيئا بعد شيء، وأصل ذلك في الإسلام أن أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بلغه أن تجارا من المسلمين يأتون أرض الجند، فيأخذون منهم العشر، فكتب إلى أبي موسى الأشعريّ، وهو على البصرة أن خذ من كل تاجر يمرّ بك من المسلمين من كل مائتي درهم خمسة دراهم، وخذ من كل تاجر من تجار العهد، يعني أهل الذمة من كل عشرين درهما درهما، ومن تجار الحرب، من كل عشرة دراهم درهما، وقيل لابن عمر: كان عمر يأخذ من المسلمين العشر، قال: لا، ونهى عمر بن عبد العزيز عن ذلك، وكتب: ضعوا عن الناس هذه المكوس فليس بالمكس، ولكنه النجس.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتاه ناس من أهل الشام فقالوا: أصبنا دواب وأموالا فخذ منها صدقة تطهر نابها، فقال: كيف أفعل ما لم يفعل من كان قبلي؟ وشاور، فقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: لا بأس به إن لم يأخذه من بعدك، فأخذ عن العبد عشرة دراهم، وكذلك عن الفرس وعن الهجين ثمانية، وعن البرذون والبغل خمسة.
وأوّل من وضع على الحوانيت الخراج في الإسلام أمير المؤمنين أبو عبد الله محمد بن أبي جعفر المنصور في سنة سبع وستين ومائة وولي ذلك سعيد الجرسي.
وأوّل من أحدث مالا سوى مال الخراج بمصر أحمد بن محمد بن مدبر لما ولي خراج مصر بعد سنة خمسين ومائتين، فإنه كان من دهاة الناس، وشياطين الكتاب، فابتدع في مصر بدعا صارت مستمرّة من بعده لا تنقض، فأحاط بالنطرون وحجر عليه بعد ما كان مباحا
لجميع الناس، وقرّر على الكلأ الذي ترعاه البهائم مالا سماه المراعي، وقرّر على ما يطعم الله من البحر مالا وسماه المصايد إلى غير ذلك، فانقسم حينئذ مال مصر إلى خراجيّ وهلاليّ، وكان الهلاليّ يعرف في زمنه وما بعده: بالمرافق والمعاون، فلما ولي الأمير أبو العباس أحمد بن طولون إمارة مصر، وأضاف إليه أمير المؤمنين المعتمد على الله الخراج والثغور الشامية، رغب وتنزه عن أدناس المعاون والمرافق، وكتب بإسقاطها في جميع أعماله، وكانت تبلغ بمصر خاصة، مائة ألف دينار في كل سنة، وله في ذلك خبر فيه أكبر معتبر قد ذكرته عند ذكر أخبار الجامع الطولوني من هذا الكتاب، ثم أعيدت الأموال الهلالية في أثناء الدولة الفاطمية عند ما ضعفت، وصارت تعرف: بالمكوس.
فلما استبدّ السلطان الناصر صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب بملك مصر، أمر بإسقاط مكوس مصر والقاهرة. فكتب عنه القاضي الفاضل مرسوما بذلك، وكان جملة ذلك في كل سنة: مائة ألف دينار.
تفصيلها: مكس البهار وعمالته: ثلاثة وثلاثون ألفا وثلثمائة وأربعة وستون دينارا؛ مكس البضائع والقوافل وعمالتها: تسعة آلاف وثلثمائة وخمسون دينارا؛ منفلت الصناعة عن مكس البز الوارد إليها والنحاس والقزدير والمرجان والفاضلات: خمسة آلاف ومائة وثلاثة وتسعون دينارا؛ الصادر عن الصناعة بمصر: ستة آلاف وستمائة وستة وستون دينارا؛ سمسرة التمر: ثلثمائة دينار؛ الفندق بالمنية عن مكس البضائع: ثمانمائة دينار وستة وخمسون دينارا؛ رسوم دار القند: ثلاثة آلاف ومائة وثمانية دنانير؛ رسوم الخشب الطويل والملح: ستمائة وستة وسبعون دينارا؛ رسوم العلب المنسوبة إلى بلبيس والبوري: مائة دينار؛ رسوم التفتيش بالصناعة عن البهار وغيره: مائتان وسبعة عشر دينارا؛ خيمة أرمنت عن الوارد إليها: سبعة وستون دينارا؛ فندق القطن: ألفا دينار؛ سوق الغنم بالقاهرة ومصر والسمسرة وعبور الأغنام بالجيزة: ثلاثة آلاف وثلثمائة وأحد عشر دينارا؛ عبور الأغنام والكتّان والأبقار بباب القنطرة: ألف ومائتا دينارا؛ واجب ما ورد من الكتان الحطب إلى الصناعة: مائتا دينار؛ رسوم واجب الغلات كالحبوب الواردة إلى الصناعة، والمقس والمنية والجسر والتباين، ومفالت جزيرة الذهب، وطموه ومنبر الدرج: ستة آلاف دينار.
مكس ما يرد إلى الصناعة من الأغنام: ستة وثلاثون دينارا؛ الأغنام البيتوتية؛ اثنا عشر دينارا؛ العرصة والسرسناوي بالجيزة، ومكس الأغنام: مائة وتسعون دينارا؛ منفلت الفيوم عما يرد من الكتان من القبلة، ومن البضائع الواردة من الفيوم وغيره: أربعة آلاف ومائة وستون دينارا؛ مكس الورق المجلوب إلى الصناعة، ورسم التفتيش: مائتا دينارا؛ الحصة بساحل الغلة والأقوات والرسائل: سبعمائة وثمانية وستون دينارا؛ دار التفاح والرطب بمصر والعرصة بالقاهرة: ألف وسبعمائة دينار؛ رسم ابن المليحي: مائتا دينار؛ دار الجبن: ألف
دينار؛ مشارفة الخزائن: مائتان وأربعون دينارا؛ واجب الحلي الوارد من الوجه البحري، والقطن: ألف وعشرون دينارا؛ رسم سمسرة الصفا: ألف ومائتا دينار؛ منفلت بالصعيد:
مائة وأحد وستون دينارا؛ خاتم الشرب والديبقي: ألف وخمسمائة دينار؛ مكس الصوف:
مائتا دينار؛ نصف الموردة بساحل المقس: أربعة عشر دينارا؛ دكة السمسار: ثلثمائة وخمسون دينارا؛ منفلت العريف بالصناعة وحملة البهار والبضائع: مائتان وستة عشر دينارا؛ الحلفاء الواردة من القبلة: مائة وخمسة وثلاثون دينارا؛ الوقد والسرقين والطعم بدار التفاح ومنفلت القبلة بالتبانين والجسر: خمسة وثلاثون دينارا؛ رسوم الصفا والحمراء ورسوم دار الكتان: ستون دينارا؛ حماية الغلات بالمقس ودار الجبن: مائة وأربعون دينار؛ الحلفاء الواردة على الجسر ومعدّية المقياس: مائة دينار؛ خمس البرنية بالجيزة: عشرون دينارا؛ تلّ التعريف بالصناعة: ثمانية وعشرون دينارا؛ منفلت الغلات بمعدّية جزيرة الذهب: عشرة دنانير؛ رسوم الحمام بساحل الغلة: خمسمائة وأربعة وثلاثون دينارا؛ واجب الحناء الواردة في البرّ: ثمانمائة دينار؛ واجب الحلفاء والقصاب: ثلاثة وستون دينارا؛ مكس ما يرد من البضائع إلى المنية: مائة وأربعة وثمانون دينارا؛ مسلخة شطنوف والبرانية:
مائتا دينار؛ سوق السكر: بين خمسون دينارا؛ رسوم خيمة الجملي بالشارع وسوق وردان:
تسعة عشر دينارا؛ واجب الفحم الوارد إلى القاهرة: عشرة دنانير؛ معدّية الجسر بالجيزة:
مائة وعشرون دينارا؛ خيمة البقري: أربعون دينارا؛ الخيمة بدار الدباغة: تسعة عشر دينارا.
سمسمرة الحبس الجيوشي: ثلثمائة واثنا عشر دينارا؛ دكان الدهن ومعصرة الشيرج والخل بالقاهرة: خمسمائة دينار؛ الخل الحامض وما معه: أربعمائة دينار؛ بيوت الغزل والمصطبة: ثلثمائة وخمسون دينارا؛ ذبائح الأبقار: ألف دينار؛ سوق السمك بالقاهرة ومصر: ألف ومائتا دينار؛ رسوم الدلالة: ثلثمائة دينار؛ سمسرة الكتان: ثلثمائة دينار؛ رسوم حماية الصناعتين: أربعمائة دينار؛ مربعة العسل: مائتان واثنان وثلاثون دينارا؛ معادي جزيرة الذهب وغيرها: ثلثمائة دينار؛ خاتم الشمع بالقاهرة: ثلاثة وستون دينارا؛ زريبة الذبيحة: سبعمائة دينار؛ معدّية المقياس وأنبابة: مائتا دينار؛ حمولة السلجم: ثلثمائة وثلاثون دينارا؛ دكة الدباغ: ثمانمائة دينار؛ سوق الرقيق: خمسمائة دينار؛ معمل الطبري:
مائتان وأربعون دينارا؛ سوق منبوية: مائة وأربعة وستون دينارا؛ ذبائح الضأن بالجيزة، ورسوم ساحل السنط: عشرة دنانير؛ نخ السمك: خمسة دنانير؛ تنور الشوي: مائة دينار؛ نصف الرطل من مطابخ السكر: مائة وخمسة وثلاثون دينارا؛ سوق الدواب بالقاهرة ومصر: أربعمائة دينار؛ سوق الجمال: مائتان وخمسون دينارا؛ قبان الحناء: ثلاثون دينارا؛ واجب طاقات الأدم: ستة وثلاثون دينارا؛ امنفلت الخام بالشاشيين: ثلاثة وثلاثون دينارا؛ أنولة القصار: أربعون دينارا؛ بيوت الفرّوج: ثلاثون دينارا؛ الشعر والطارات: أربعة دنانير؛ رسوم الصبغ والحرير: ثلثمائة وأربعة وثلاثون دينارا؛ وزن الطفل: مائة وأربعون دينارا؛
معمل المزر: أربعة وثمانون دينارا؛ الفاخور بمصر والقاهرة: مائتان وستة وثلاثون دينارا.
وذكر ابن أبي طيّ: أن الذي أسقطه السلطان صلاح الدين والذي سامح به لعدّة سنين، آخرها سنة أربع وستين وخمسمائة مبلغه عن نيف ألف ألف دينار وألفي ألف أردب، سامح بذلك وأبطله من الدواوين، وأسقطه عن المعاملين.
فلما ولي السلطان الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف، أعاد المكوس وزاد في شناعتها.
قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة تسعين وخمسمائة، وكان قد تتابع في شعبان أهل مصر والقاهرة في إظهار المنكرات، وترك الإنكار لها، وإباحة أهل الأمر والنهي لها، وتفاحش الأمر فيها إلى أن غلا سعر العنب لكثرة من يعصره، وأقيمت طاحون بحارة المحمودية لطحن حشيش المزر «1» ، وأفردت برسمه وحميت بيوت المزر، وأقيمت عليها الضرائب الثقيلة، فمنها ما انتهى أمره في كل يوم إلى ستة عشر دينارا، ومنع المزر البيوتي ليتوفر الشراء من البيوت المحمية، وحملت أواني الخمر على رؤوس الأشهاد، وفي الأسواق من غير منكر، وظهر من عاجل عقوبة الله عز وجل، وقوف زيادة النيل عن معتادها، وزيادة سعر الغلة في وقت ميسورها.
وقال في متجدّدات سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، وآل الأمر إلى وقوف وظيفة الدار العزيزية من خبز ولحم إلى أن يتحمل في بعض الأوقات لا كلها لبعض ما يتبلغ به من خبز، وكثر ضجيجهم، وشكواهم فلم يسمع. ووقف الحال فيما ينفق في دار السلطان، وفيما يصرف إلى عياله، وفيما يقتات به أولاده، وما يغصب من أربابه، وأفضى هذا إلى غلاء الأسعار، فإنّ المتعيشين من أرباب الدكاكين يزيدون في أسعار المأكولات العامة بمقدار ما يؤخذ منهم للدار السلطانية، فأفضى ذلك إلى النظر في المكاسب الخبيثة، وضمن المزر والخمر باثني عشر ألف دينار.
وفسح في إظهار منكره والإعلان به والبيع له في القاعات والحوانيت، مع قرب استهلال رجب، وما استطاع أحد من العامة الإنكار لا باليد ولا باللسان، وصار هذا السحت مما ينفرد السلطان به لنفقته وطعامه، وانتقل مال الثغور، ومال الجواليّ الحل الطيب إلى أن يصير حوالات لمن لا يبالي من أين أخذ المال، ولا يفرّق بين الحرام والحلال، وفي شهر رمضان: غلا سعر الأعناب لكثرة العصير منها، وتظاهر به أربابه لتحكير تضمينه السلطانيّ، واستيفاء رسمه بأيدي مستخدميه، وبلغ ضمانه سبعة عشر ألف دينار، وحصل منه شيء حمل إليه، فبلغني أنه صنع به آلات للشراب ذهبيات وفضيات، وكثر اجتماع
النساء والرجال في شهر رمضان لا سيما على الخليج لما فتح، وعلى مصر لما زاد الماء وتلقى فيه النيل بمعاص نسأل الله أن لا يؤاخذنا بها، وأن لا يعاقبنا عليها بجرأة أهلها.
وقال جامع السيرة التركية: ولما استقل الملك المعز عز الدين أيبك التركمانيّ الصالحيّ بمملكة مصر في سنة خمسين وستمائة، بعد انقراض دولة بني أيوب استوزر شخصا من نظار الدواوين يعرف بشرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزي، أحد كتاب الأقباط، وكان قد أظهر الإسلام من أيام الملك الكامل، وترقى في خدمة الكتابة، فقرّر في وزارته أموالا على التجار، وذوي اليسار، وأرباب العقار، ورتب مكوسا وضمانات سموها:
حقوقا ومعاملات.
ولما ولي الملك المظفر «1» سيف الدين قطز: مملكة مصر، بعد خلعه الملك المنصور، علّي بن المعز أيبك أحدث عند سفره الذي قتل فيه مظالم كثيرة لأجل جمع المال، وصرفه في الحركة لقتال جموع التتر، منها: تصقيع الأملاك، وتقويمها وزكاتها، وأحدث على كل إنسان دينارا يؤخذ منه، وأخذ ثلث التركات الأهلية، فبلغ ذلك ستمائة ألف دينار في كل سنة.
فلما قتل قطز وجلس الملك الظاهر ركن الدين بيبرس بعده على سرير الملك بقلعة الجبل، أبطل ذلك جميعه، وكتب به مساميح قرئت على المنابر، ثم أبطل ضمان المزر وجهاته في سنة اثنتين وستين وستمائة.
وكتب وهو بالشام إلى الأمير عز الدين الحليّ نائب السلطنة بمصر: أن يبطل بيوت المزر، ويعفي آثاره، ويخرب بيوته، ويكسر مواعينه، ويسقط ارتفاعه من الديوان. فإنّ بعض الصالحين تحدّث معي في ذلك، وقال: القمح الذي جعله الله تعالى يداس بالأرجل، وقد تقرّبت إلى الله تعالى بإبطاله، ومن ترك شيئا لله عوّضه خيرا منه، ومن كان له على هذه الجهة شيء يعوّضه الله من المال الحلال، فأبطل الحليّ ذلك، وعوّض المقطعين عليه بدله.
وفي سنة ثلاث وستين أبطل حراسة النهار بالقاهرة ومصر، وكانت جملة مستكثرة، وكتب بذلك توقيعا، وأبطل من أعمال الدقهلية والمرتاحية عن رسوم الولاية، أربعة وعشرين ألف دينار، وفي خامس عشري شهر رمضان سنة اثنتين وستين وستمائة، قرىء بجامع مصر مكتوب بإبطال ما قرّر على رسوم ولاية مصر من الرسوم، وهي مائة ألف درهم مصرية، فبطل ذلك، وأبطل ضمان الحشيش من ديار مصر كلها في سنة خمس وستين وستمائة.
وأمر بإراقة الخمور، وإبطال المنكرات، وتعفية بيوت المسكرات، ومنع الخانات والخواطىء بجميع أقطار مملكة مصر والشام، فطهرت من ذلك البقاع، ولما وردت المراسيم بذلك على القاضي ناصر الدين أحمد بن المنير قال:
ليس لإبليس عندنا أرب
…
غير بلاد الأمير مأواه
حرفته الخمر والحشيش معا
…
حرّمتا ماؤه ومرعاه
وقال الأديب الفاضل أبو الحسين الجزار:
قد عطل الكوب من حبابه
…
وأخلى الثغر من رضابه
وأصبح الشيخ وهو يبكي
…
على الذي فات من شبابه
وفي تاسع جمادى الآخرة سنة ست وستين وستمائة، أمر الملك الظاهر بيبرس بإراقة الخمور وإبطال الفساد، ومنع النساء الخواطىء من التعرّض للبغاء من جميع القاهرة ومصر، وسائر الأعمال المصرية، فتطهرت أرض مصر من هذا المنكر، ونهبت الخانات التي كانت معدّة لذلك، وسلب أهلها جميع ما كان لها، ونفى بعضهم، وحبست النساء حتى يتزوّجن.
وكتب إلى جميع البلاد بمثل ذلك، وحط المال المقرّر على البغايا من الديوان، وعوّض الحاشية من جهات حلّ بنظيره، وفي سابع عشر ذي الحجة سنة تسع وستين وستمائة، أريقت الخمور، وأبطل ضمانها، وكان كل يوم ألف دينار، وكتب توقيع بذلك قرىء على المنابر، وافتتح سنة سبعين بإراقة الخمور، والتشدّد في إزالة المنكرات، وكان يوما مشهودا بالقاهرة، وبلغه في سنة أربع وسبعين عن الطواشي شجاع الدين عنبر المعروف: بصدر الباز، وكان قد تمكن منه تمكنا كثيرا أنه يشرب الخمر، فشنقه تحت قلعة الجبل.
ولما ولي الملك المنصور سيف الدين قلاون الإلفي، مملكة مصر أبطل زكاة الدولة، وهو ما كان يؤخذ من الرجل عن زكاة ماله أبدا، ولو عدم منه، وإذا مات يؤخذ من ورثته، وأبطل ما كان يجبى من أهل إقليم مصر كله إذا حضر مبشر بفتح حصن، أو نحوه، فيؤخذ من الناس بالقاهرة ومصر على قدر طبقاتهم، ويجتمع من ذلك مال كثير، وأبطل ما كان يجبى من أهل الذمة، وهو دينار سوى الجالية برسم نفقة الأجناد في كل سنة، وأبطل مقرّر جباية الدينار من التجار عند سفر العسكر والغزاة، وكان يؤخذ من جميع تجار القاهرة ومصر من كل تاجر دينار، وأبطل ما كان يجبى عند وفاء النيل مما يعمل به شوى وحلوى وفاكهة في المقياس، وجعل مصر ذلك من بيت المال، وأبطل أشياء كثيرة من هذا النمط.
وأبطل الملك الناصر، محمد بن قلاون عدّة جهات قد ذكرت في الروك الناصريّ،
وآخر ما أدركنا إبطاله ضمان الأغاني، وضمان القراريط في سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، على يد الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون.
فأما ضمان الأغاني فكان بلاء عظيما، وهو عبارة عن أخذ مال من النساء البغايا، فلو خرجت أجلّ امرأة في مصر تريد البغاء حتى نزلت اسمها عند الضامنة، وقامت بما يلزمها لما قدر أكبر أهل مصر على منعها من عمل الفاحشة، وكان على النساء، إذا تنفسن أو عرّسن امرأة أو خضبت امرأة يدها بحناء، أو أراد أحد أن يعمل فرحا لا بدّ من مال بتقرير تأخذه الضامنة، ومن فعل فرحا بأغان أو نفس امرأته من غير إذن الضامنة حلّ به بلاء لا يوصف.
وأما ضمان القراريط، فإنه كان يؤخذ من كل من باع ملكا عن كل ألف درهم، عشرون درهما، وكان متحصل هاتين الجهتين مالا كثيرا جدّا.
وأبطل الملك الظاهر برقوق، ما كان يؤخذ من أهل البرلس وشورى وبلطيم شبه الجالية في كل سنة ستين ألف درهم، وأبطل ما كان على القمح من مكس، يؤخذ من الفقراء بثغر دمياط ممن يبتاع من أردبين، فما دونهما، وأبطل ما كان يؤخذ مكسا من معمل الفرّوج بالنحريرية، والأعمال الغربية، وأبطل ما كان يؤخذ تقدمة لمن يسرح إلى العباسة من الخيل والجمال والغنم وغير ذلك، وأبطل ما كان يؤخذ على الدريس والحلفاء بباب النصر خارج القاهرة، وأبطل ضمان الأغاني بمنية ابن خصيب بأعمال الأشمونين، وبزفتا بالأعمال الغربية، وأبطل الأبقار التي كانت ترمي بالوجه البحري عند فراغ الجسور، وأبطل الأمير بلبغا السالمي، لما ولي استادار السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق في سنة إحدى وثمانمائة تعريف الغلال بمنية ابن خصيب، وضمان العرصة بها وأخصاص الغسالين، وكانت من المظالم القبيحة، وأبطل من القاهرة ضمان بحيرة البقر، ثم أعاده القبط من بعده.
وقد بقيت إلى الآن من المكوس بقايا، أخبرني الأمير الوزير المشير الإستادار بلبغا السالمي في أيام وزارته، أن جهات المكوس بديار مصر تبلغ في كل يوم، بضعا وسبعين ألف درهم، وأنه اعتبرها فلم يجدها تصرف في شيء من مصالح الدولة، بل إنما هي منافع للقبط وحواشيهم، وكان قد عزم على إبطال المكوس فلم يمهل.
والمال الهلالي: عبارة عما يستأدي مشاهرة كأجر الأملاك المسقفة من الآدر والحوانيت والحمامات والأفران والطواحين، وعداد الغنم والجهة الهوائية المضمونة والمحلولة، وعدّ بعض الكتاب، أحكار البيوت وريع البساتين التي تستخرج أجرها مشاهرة ومصايد السمك ومعاصر الشيرج والزيت في المال الهلالي.
ومن اصطلاح كتاب مصر القدماء، أن تورد جزية أهل الذمة من اليهود والنصارى، قلما واحدا مستقلا بذاته بعد الهلالي، وقبل الخراجي، وذلك أنها تستأدي مسانهة، وكانوا يرون وجوبها مشاهرة وفائدته فيمن أسلم أو مات أثناء الحول، فإنهم كانوا يلزمونه بقدر ما مضى من السنة قبل إسلامه، أو وفاته فلذلك أوردت فيما بين الهلاليّ والخراجيّ.
وكانوا في الإقطاعات الجيشية يجرونها، مجرى المال الهلاليّ عند خروج إقطاع من يقطع، ودخول آخر على ذلك الإقطاع، فإنها كانت تستخرج على حكم الشهور الهلالية لا الشمسية بحيث لو تعجلها مقطع في غرّة السنة على العادة في ذلك، وخرج الإقطاع عنه في أثناء السنة بوفاة أو نقلة إلى غيره، استحق منها نظير ما مضى من شهور السنة إلى حين انتقال الإقطاع عنه، لا على حكم ما استحق من المغلّ، ويستحق المتصل من استقبال تاريخ منشوره كعادة النقود، والمتخلل بينهما من المدّة مستحق ذلك الديوان، فيردّ من جملة المحلولات من الإقطاعات وكان من أبواب الهلالي جهات تسمى المعاملات، وهي: الزكاة والمواريث والثغور والمتجر والشب والنطرون والجبس الجيوشي ودار الضرب ودار العيار والجاموس وأبقار الجبس والأغنام والغروس والبساتين والأحكار والرباع والمراكب، وما يستأدي من الذمة غير الجوالي، وساحل السنط، والخراج والقرظ ومقرّر الجسور وموظف الاتبان ومقرّر القصب ومقرّر البريد ومقرّر البسط وعشر العرق، وغير ذلك من جهات المكوس.
فأما الجزية: وتعرف في زمننا بالجوالي فإنها تستخرج سلفا وتعجيلا في غرّة السنة، وكان يتحصل منها مال كثير فيما مضى. قال القاضي الفاضل في متجدّدات الحوادث الذي انعقد عليه ارتفاع الجوالي لسنة سبع وثمانين وخمسمائة مائة ألف وثلاثون ألف دينار، وأما في وقتنا هذا، فإنّ الجوالي قلت جدّا لكثرة إظهار النصارى للإسلام في الحوادث التي مرّت بهم.
ولما استبدّ السلطان الملك المؤيد شيخ بملك مصر، بعد الخليفة العباس بن محمد أمير المؤمنين المستعين بالله، ولى رجلا جباية الجوالي فكثر الاستقصاء عن الذمة والكدّ في الاستخراج منهم، فبلغت الجوالي في سنة ست عشرة وثمانمائة أحد عشر ألف دينار وأربعمائة دينار، سوى ما غرم للأعوان وهو قدر كثير.
وأما المراعي وهو الكلأ المطلق المباح الذي أنبته الله تعالى لرعي دواب بني آدم فأوّل من أدخلها الديوان بمصر أحمد بن مدبر، لما ولي الخراج، وصير لذلك ديوانا وعاملا جلدا يحظر على الناس أن يتبايعوا المراعي، أو يشتروها إلا من جهته، وأدركنا المراعي ببلاد الصعيد مما يضاف إلى الإقطاعات، فيأخذ الأمير ممن يرعى دوابه في أرض بلده الكتيح في كل سنة، مالا عن كل رأس فيجبى من صاحب الماشية بعدد أنعامه، فلما اختلّ أمر الصعيد
في الحوادث الكائنة منذ سنة ست وثمانمائة، تلاشى الأمر في ذلك، وكانت العادة القديمة أن يندب للمراعي مشدّ وشهود، وكاتب، فيعدّون المواشي، ويستخرجون من أربابها عن كل رأس شيئا، ولا يكون ذلك إلا بعد هبوط النيل، ونبات الكلأ واستهلاكه للمرعى.
وأما المصايد فهي ما أطعم الله سبحانه وتعالى من صيد البحر، وأوّل من أدخلها الديوان أيضا ابن مدبر، وصير لها ديوانا واحتشم من ذكر المصايد، وشناعة القول فيها، فأمر أن يكتب في الديوان خراج مضارب الأوتار ومغارس الشباك، فاستمرّ ذلك، وكان يندب لمباشرتها مشدّ وشهود وكاتب إلى عدّة جهات، مثل: خليج الإسكندرية، وبحيرة الإسكندرية، وبحيرة نسترو وثغر دمياط وجنادل ثغر أسوان، وغير ذلك من البرك والبحيرات، فيخرجون عند هبوط النيل، ورجوع الماء من المزارع إلى بحر النيل بعد ما تكون أفواه الترع قد سكرت، وأبواب القناطر قد سدّت عند انتهاء زيادة النيل كيما يتراجع الماء، ويتكائف مما يلي المزارع، ثم تنصب شباك، وتصرف المياه، فيأتي السمك وقد اندفع مع الماء الجاري، فتصدّه الشباك عن الانحدار مع الماء، ويجتمع فيها فيخرج إلى البر، ويوضع على أنخاخ ويملح، ويوضع في الأمطار فإذا استوى بيع، وقيل له: الملوحة والصير، ولا يكون ذلك إلا فيما كان من السمك في قدر الأصبع فما دونه، ويسمون هذا الصنف إذا كان طريا ابسارية، فتؤكل مشوية ومقلية، ويصاد من بحيرة نسترو، وبحيرة تنيس، وبحيرة الإسكندرية، أسماك تعرف: بالبوري، وقيل لها ذلك لأنها كانت تصاد عند قرية من قرى تنيس يقال لها: بورة، وقد خربت، والنسبة إليها البوريّ، ونسب إليها جماعة من الناس منهم بنو البوري.
وقيل لهذا السمك البوريّ إضافة إلى القرية المذكورة، وقد بطل في زمننا اليوم أمر هذه المصايد إلا من بحيرة نسترو بالبرلس وبحيرة تنيس بدمياط فقط، وهاتان البحيرتان تجريان في ديوان الخاص وهما مضمنتان، وما يخرج منهما من البوريّ وغيره من أنواع السمك، فللسلطان لا يقدر أحد أن يتعرّض لصيد شيء منه إلا أن يكون من صياديهما القائمين بالضمان، وما عدا هاتين البحيرتين من البرك والأملاق والخلجان، فليست للسلطان، وأما بحيرة اسكندرية فقد جفت وثغر أسوان، فقد خرج عن يد السلطنة وتغلب عليه أولاد الكفرة، ثم برك بأيدي أقوام كبركة الفيل، بيد أولاد الملك الظاهر بيبرس، وبركة الرطلي، بيد أولاد الأمير بكتمر الحاجب، وغير ذلك. فإنّ أسماكها مضمنة لهم يبيعونها ومع ذلك لا يمنع أحد الصيد منها.
وأما بحر النيل فما صيد منه يحمل إلى دار السمك بالقاهرة، فيباع ويؤخذ منه مكس السلطان إلا أنّ الأمير جمال الدين يوسف الإستادار، زاد فيما كان يؤخذ من الصيادين مكسا، ومن حينئذ قلّ السمك بالقاهرة وغلا سعره.
وقال أبو سعيد عبد الرحمن «1» بن أحمد بن يونس في تاريخ مصر: إنّ صنما كان بالإسكندرية يقال له شراحيل على حشفة من حشاف البحر مستقبلا بأصبع من كفة قسطنطينية لا يدري أكان مما عمله سليمان النبيّ، أم عمله الإسكندر، فكانت الحيتان تدور بالإسكندرية، وتصاد عنده، فيما زعموا.
قال زيد بن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أخبرني أبي عن أبيه: أنه انبطح على بطنه ومدّ يديه ورجليه فكان طوله طول قدم الصنم، فكتب رجل يقال له: أسامة بن زيد كان عاملا على مصر للوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين: إنّ عندنا بالإسكندرية صنما يقال له:
شراحيل من نحاس، وقد غلت علينا الفلوس فإن رأى أمير المؤمنين أن ينزله ويضربه فلوسا فعل، وإن رأى غير ذلك فليكتب إليّ من أمره، فكتب إليه: لا تنزله حتى أبعث إليك ضمناء يحضرونه، فبعث إليه رجالا أمناء حتى أنزل من الحشفة، فوجدوا عينيه ياقوتتين حمراوين ليس لهما قيمة فضربه فلوسا، فانطلقت الحيتان فلم ترجع إلى ما هناك.
وأما الزكاة: فإنّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أوّل من جباها بمصر.
قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة سبع وستين وخمسمائة ثالث عشر ربيع الآخر، فرّقت الزكوات بعد ما جمعت على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل والغارمين، بعد أن رفع إلى بيت المال السهام الأربعة وهي: سهام العاملين، والمؤلفة، وفي سبيل الله، وفي الرقاب، وقرّرت لهم فريضة واستودى على الأموال والبضائع وعلى ما يتقرر عليه من المواشي، والنخل والخضراوات.
قال: والذي انعقد عليه ارتفاع الجوالي لسنة سبع وثمانين وخمسمائة ثلاثون ألف دينار، والزائد في معاملة الزكاة ودار الضرب لسنتي ست وسبع وثمانين وخمسمائة أحد وعشرون ألف دينار وثمانمائة وأحد وستون دينارا.
وقال في سنة ثمان وثمانين واستخدم ابن أحمدان في ديوان الزكاة وكتب خطه بما مبلغه: اثنان وخمسون ألف دينار لسنة واحدة من مال الزكاة، وجعل الطواشي قراغش الشادّ في هذا المال، وأن لا يتصرّف فيه بل يكون في صندوق مودعا للمهمات التي يؤمر بها.
ولما قدم ابن عنين الشاعر من عند الملك العزيز سيف الإسلام طفتكين بن نجم الدين أيوب بن شادي ملك اليمن إلى مصر، وقد أجزل صلته عند ما وفد عليه وفارقه، وقد أثرى ثراء كثيرا، قبض أرباب ديوان الزكاة بمصر على ما قدم به من المتجر وطالبوه بزكاة ما معه، وكان ذلك في أيام الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي فقال:
.
ما كان من يتسمى بالعزيز لها
…
أهل ولا كل برق سحبه غدقه
بين العزيزين فرق في فعالهما
…
هذاك يعطي وهذا يأخذ الصدقه
ثم إنّ العزيز كشف عما يستأدي من الزكاة فإنه انتهى إليه فيها أقوال شنيعة منها: أنه أخذ من رجل فقير يبيع الملح في قفة على رأسه، زكاة عما في القفة، وأنه بيع جمل بخمسة دنانير ذهب، فأخذ زكاتها خمسة دراهم، فأمر بتفويض أمرها إلى أرباب الأموال ومن وجب عليه حق.
ثم لما كانت سلطنة الملك الكامل ناصر الدين محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب أخرج من زكاة الأموال التي كانت تجبى من الناس سهمي الفقراء والمساكين، وأمر بصرفهما في مصارفهما الشرعية، ورتب من جملة هذين السهمين معاليم للفقهاء والصلحاء، وأهل الخير تجري عليهم، فاستحسن ذلك من فعله وحمله إلى ديوان الزكاة قبل منه، ومن لم يحمل لا يتعرّض إليه فبخل الأغنياء بزكاة أموالهم حتى تضرّر الفقراء والمساكين، وأخذ السعاة يبذلون في ضمانها الأموال لتعود إلى ما كانت عليه فولي النظر في ديوان الزكاة القاضي الأسعد شرف الدين أبو المكارم أسعد بن مهذب بن مماتي، فاستخرج الزكاة من أربابها ثم ضمنت بمال كثير، وعاد الأمر فيها إلى ما كان عليه من العسف والجور، وكانت أعوان متولي الزكاة تخرج إلى منية ابن خصيب وأخميم وقوص لكشف أحوال المسافرين من التجار والحجاج وغيرهم، فيبحثون عن جميع ما معهم، ويدخلون أيديهم أوساط الرجال خشية أن يكون معهم مال ويحلفون الجميع بالإيمان الحرجة على ما بأيديهم وما عندهم غير ما وجدوه، وتقوم طائفة من مردة هذه الأعوان وبأيديهم المسال الطوال ذوات الأنصبة، فيصعدون إلى المراكب ويجسون بمسالهم جميع ما فيها من الأحمال والغرائر مخافة أن يكون فيها شيء من بضاعة أو مال فيبالغون في البحث والاستقصاء بحيث يقبح، ويستشنع فعلهم ويقف الحجاج بين يدي هؤلاء الأعوان مواقف خزي ومهانة، لما يصدر منهم عند تفتيش أوساطهم وغرائر أزوادهم، ويحلّ بهم من العسف وسوء المعاملة ما لا يوصف، وكذلك يفعل في جميع أرض مصر منذ عهد السلطان صلاح الدين بن أيوب.
وأما الثغور فهي: دمياط وتنيس ورشيد وعيذاب وأسوان والإسكندرية وهي أعظمها قدرا فإنه كان فيها عدّة جهات منها: الخمس والمتجر، فالخمس: ما يستأدي من تجار الروم الواردين في البحر عما معهم من البضائع للمتجر بمقتضى ما صولحوا عليه، وربما بلغ ما يستخرج منهم ما قيمته مائة دينار ومائتان وخمسة وثلاثون دينارا، وربما انحط عن عشرين دينارا. ويسمى كلاهما خمسا. ومن أجناس الروم من يؤخذ منهم العشر ولذلك ضرائب مقرّرة.
وقال القاضي الفاضل: والحاصل من خمس الإسكندرية في سنة سبع وثمانين
وخمسمائة ثمانية وعشرون ألف دينار وستمائة وثلاثة عشر دينارا، والمتجر عبارة عما يبتاع للديوان من بضائع تدعو إليها الحاجة ويقتضيه طلب الفائدة.
قال جامع سيرة الوزير اليازوري: وقصر النيل بمصر في سنة أربع وأربعين وأربعمائة، ولم يكن في مخازن الغلات شيء، فاشتدّت المسغبة بمصر، وكان لخلوّ المخازن سبب أوجب ذلك وهو أنّ الوزير، الناصر للدين لما أضيف إليه القضاء في أيام أبي البركات الوزير كان يبتاع للسلطان في كل سنة غلة بمائة ألف درهم، وتجعل متجرا فمثل القاضي بحضرة الخليفة المستعين بالله، وعرّفه أنّ المتجر الذي يقام بالغلة فيه أوفى مضرّة على المسلمين، وربما انحط السعر عن مشتراها فلا يمكن بيعها فتتعفن في المخازن وتتلف، وأنه يقيم متجرا لا كلفة فيه على الناس، ويفيد أضعاف فائدة الغلة، ولا يخشى عليه من تغيره في المخازن ولا انحطاط سعره وهو الخشب والصابون والحديد والرصاص والعسل وما أشبه ذلك، فأمضى السلطان له ما رآه، واستمرّ ذلك ودام الرخاء على الناس فوسعوا فيه مدّة سنين ثم عمل الملوك بعد ذلك ديوانا للمتجر وآخر من عمله الظاهر برقوق.
وأما
الشب: فإنّ معادنه بالصعيد، وكانت عادة الديوان الإنفاق، في تحصيل القنطار، منه بالليثيّ يبلغ ثلاثين درهما، وكانت العربان تحضره من معادنه إلى ساحل أخميم وسيوط والبهنسا ليحمل إلى الإسكندرية أيام النيل في الخليج ويشترى بالقنطار الليثيّ، ويباع بالقنطار الجرويّ، فيباع منه على تجار الروم قدر اثني عشر ألف قنطاريا بالجروي بسعر أربعة دنانير كل قنطار إلى ستة دنانير ويباع منه بمصر على اللبوديين والصباغين نحو الثمانين قنطارا بالجرويّ سعر ستة دنانير ونصف القنطار، ولا يقدر أحد على ابتياعه من العربان ولا غيرهم، فإن عثر على أحد أنه اشترى منه شيئا أو باعه سوى الديوان نكل به واستهلك ما وجد معه منه، وقد بطل هذا.
وأما
النطرون «1» : فيوجد في البرّ الغربيّ من أرض مصر بناحية الطرّانة، وهو أحمر وأخضر ويوجد منه بالفاقوسية شيء دون ما يوجد في الطرّانة، وهو أيضا مما خطر عليه ابن مدبر من الأشياء التي كانت مباحة، وجعله في ديوان السلطان وكان من بعده على ذلك إلى اليوم، وقد كان الرسم فيه بالديوان أن يحمل منه في كل سنة عشرة آلاف قنطار، ويعطى الضمان منها في كل سنة قدر ثلاثين قنطارا يتسلمونها من الطرّانة، فتباع في مصر بالقنطار المصري، وفي بحر الشرق والصعيد بالجرويّ، وفي دمياط بالليثي. قال القاضي الفاضل:
وباب النطرون كان مضمونا إلى آخر سنة خمس وثمانين وخمسمائة بمبلغ خمسة عشر ألفا وخمسمائة دينار، وحصل منه في سنة ست وثمانين مبلغ سبعة آلاف وثمانمائة دينار،
وأدركنا النطرون إقطاعا لعدّة أجناد.
فلما تولى الأمير محمود بن عليّ الإستادارية، وصار مدبر الدولة في أيام الظاهر برقوق حاز النطرون، وجعل له مكانا لا يباع في غيره، وهو إلى الآن على ذلك. وأما الحبس «1» الجيوشي: فكان في البرّين الشرقيّ والغربيّ. ففي الشرقيّ: بهتين والأميرية والمنية، وكانت تسجل هذه النواحي بعين، وفي الغربيّ: سفط ونهيا ووسيم، وهذه النواحي حبسها أمير الجيوش، بدر الجمالي، على عقبه هي والبساتين ظاهر باب الفتوح، فلما مات وطال العهد استأجرها الوزراء بأجرة يسيرة طلبا للفائدة، ثم أدخلت في الديوان.
قال ابن المأمون في تاريخه: وجميع البساتين المختصة بالورثة الجيوشية مع البلاد التي لهم لم تزل في مدّة أيام الوزير المأمون البطائحيّ بأيديهم لم تخرج عنهم بضمان ولا بغيره.
فلما توفي الخليفة الآمر بأحكام الله، وجلس أبو عليّ بن الأفضل بن أمير الجيوش، في الوزارة، أعاد الجميع إلى الملاك لكون نايبه في ذلك الأوفر.
فلما قتل، واستبدّ الخليفة، الحافظ لدين الله أمر بالقبض على جميع الأملاك، وحلّ الأحباس المختصة بأمير الجيوش، فلم يزل يأنس به، لأنه غلام الأفضل والوزير في ذلك الوقت، وعز الملك غلام الأوحد بن أمير الجيوش يتلطفان ويراجعان الخليفة مع الكتب التي أظهرها الورثة، وعليها خطوط الخلفاء إلى أن أبقاها عليهم، ولم يخرجها عنهم، ثم ارتفعت الحوطة عنها في سنة سبع وعشرين وخمسمائة للديوان الحافظي.
ولما خدم الخطير والمرتضى في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة في وزارة رضوان بن ولخشي، أعاد البساتين خاصة دون البلاد على الورثة بحكم ما آل أمرها إليه من الاختلال ونقص الارتفاع.
ولما انقرض عقب أمير الجيوش ولم يبق منه سوى امرأة كبيرة، أفتى فقهاء ذلك العصر، ببطلان الحبس، فقبضت النواحي وصارت من جملة الأموال السلطانية، فمنها ما هو اليوم في الديوان السلطانيّ، ومنها ما صار وقفا ورزقا أحباسية وغير ذلك.
وأما
دار الضرب: فكان بالقاهرة دار الضرب، وبالإسكندرية دار الضرب، وبقوص دار الضرب، ولا يتولى عيار دار الضرب، إلّا قاضي القضاة أو من يستخلفه، ثم رذلت في زمننا حتى صار يليها مسالمة فسقة اليهود، المصرّين على الفسق، مع ادّعائهم الإسلام، وكان يجتهد في خلاص الذهب وتحرير عياره، إلى أن أفسد الناصر فرج ذلك بعمل الدنانير
الناصرية، فجاءت غير خالصة، وكانت بمصر المعاملة بالورق، فأبطلها الملك الكامل، محمد بن أبي بكر بن أيوب في سنة بضع وعشرين، وضرب الدرهم المدوّر الذي يقال له:
الكامليّ، وجعل فيه من النحاس قدر الثلث، ومن الفضة الثلثين، ولم يزل يضرب بالقاهرة إلى أن أكثر الأمير، محمود الإستادار من ضرب الفلوس بالقاهرة والإسكندرية، فبطلت الدراهم من مصر، وصارت معاملة أهلها إلى اليوم بالفلوس، وبها يقوّم الذهب وسائر المبيعات، وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى، عند ذكر أسباب خراب مصر.
وكانت دار الضرب يحصل منها للسلطان مال كثير، فقلّ في زماننا لقلة الأموال ودار الضرب اليوم جارية في ديوان الخاص.
وأما
دار العيار: فكانت مكانا يحتاط فيه للرعية وتصلح موازينهم ومكاييلهم به ويحصل منها للسلطان مال، وجعلها السلطان صلاح الدين من جملة أوقاف سور القاهرة، وقد ذكرت في خطط القاهرة من هذا الكتاب.
وأما الأحكار: فإنها أجر مقرّرة على ساحات بمصر، والقاهرة، فمنها ما صار دورا للسكنى، ومنها ما أنشئ بساتين، وكانت تلك الأجر من جملة الأموال السلطانية، وقد بطل ذلك من ديوان السلطان، وصارت أحكار مصر، والقاهرة وما بينهما أوقافا على جهات متعدّدة.
وأما
الغروس: فكانت في الغربية فقط عدّة أراض يؤخذ منها شبه الحكر عن كل فدّان مقرّر معلوم، وقد بطل ذلك من الديوان.
وأما مقرّر الجسور: فكان على كل ناحية تقرير بعدّة قطع معلومة يجبي منها عن كل قطعة عشرة دنانير لتصرف في عمل الجسور، فيفضل منها مال كثير يحمل إلى بيت المال، وقد بطل هذا أيضا، وجدّد الناصر فرج على الجسور حوادث قد ذكرت في أسباب الخراب.
وأما موظف الأتبان: فكان جميع تبن أرض مصر على ثلاثة أقسام: قسم للديوان، وقسم للمقطع، وقسم للفلاح، فيجبى التبن على هذا الحكم من سائر الأقاليم، ويؤخذ في التبن عن كل مائة حمل أربعة دنانير وسدس دينار، فيحصل من ذلك مال كثير، وقد بطل هذا أيضا من الديوان.
وأما الخراج: فإنه كان في البهنساوية وسفط ريشين والأشمونين والأسيوطية، والأخميمية والقوصية: أشجار لا تحصى من سنط، لها حرّاس يحمونها حتى يعمل منها مراكب الأسطول، فلا يقطع منها إلا ما تدعو الحاجة إليه، وكان فيها ما تبلغ قيمة العود الواحد منه مائة دينار.
وكان يستخرج من هذه النواحي مال يقال له: رسم الخراج، ويحتج في جبايته بأنه
نظير ما تقطعه أهل النواحي، وتنتفع به من أخشاب السنط في عمائرها، ومقرّر آخر، كان يجبي منهم يعرف بمقرّر السنط، فيصرف من هذا المقرّر أجرة قطع الخشب وحزه بضريبة عن كل مائة حمل دينار، وعلى المستخدمين في ذلك أن لا يقطعوا من السنط ما يصلح لعمل مراكب الأسطول، لكنهم إنما يقطعون الأطراف التي ينتفع بها في الوقود فقط، ويقال لهذا الذي يقطع حطب النار، فيباع على التجار منه كل مائة حمل بأربعة دنانير، ويكتب على أيديهم زنة ما بيع عليهم، فإذا وردت المراكب بالحطب إلى ساحل مصر، اعتبرت عليهم وقوبل ما فيها بما عين في الرسالة الواردة واستخرج الثمن على ما في الرسالة، وكانت العادة أنه لا يباع مما في البهنسا إلا ما فضل عن احتياج المصالح السلطانية، وقد بطل هذا جميعه، واستولت الأيدي على تلك الأشجار، فلم يبق منها شيء البتة ونسي هذا من الديوان.
وأما القرظ: فإنه ثمر شجر السنط، وكان لا يتصرّف فيه إلا الديوان، ومتى وجد منه مع أحد شيء اشتراه من غير الديوان، نكل به واستهلك ما وجد معه منه، فإذا اجتمع مال القرظ أقيم منه مراكب تباع، ويؤخذ من ثمنها الربع عندما تصل إلى ساحل مصر بعد ما تقوّم، أو ينادى عليها وكان فيها حيف كبير، وقد بطل ذلك.
وأما ما يستأدى من أهل الذمّة: فإنه كان يأخذ منهم عما يرد ويصدر معهم من البضائع في مصر والإسكندرية وأخميم خاصة دون بقية البلاد، ضرائب بتقرير في الديوان، وقد بطل ذلك أيضا.
وأما مقرّر الجاموس ومقرّر بقر الخيس ومقرّر الأغنام: فإنه كان للسلطان من هذه الأصناف شيء كثير جدّا فيؤخذ من الجاموس للديوان على كل رأس من الراتب في نظير ما يتحصل منه في كل سنة، من خمسة دنانير إلى ثلاثة دنانير، ومن اللاحق بحق النصف من الراتب، وأقل ما تنتج كل مائة خمسون إلى غير ذلك من ضرائب مقرّرة على الجاموس، وعلى أبقار الخيس، وعلى الغنم البيض، والغنم الشعاري، وعلى النحل، وقد بطل ذلك جميعه لقلة مال السلطان، وإعراضه عن العمارة وأسبابها، وتعاطي أسباب الخراب.
وأما المواريث: فإنها في الدولة الفاطمية لم تكن كما هي اليوم، من أجل أنّ مذهبهم توريث ذوي الأرحام، وأنّ البنت إذا انفردت استحقت المال بأجمعه، فلما انقضت أيامهم، واستولت الأيوبية، ثم الدولة التركية، صار من جملة أموال السلطان مال المواريث الحشرية، وهي التي يستحقها بيت المال عند عدم الوارث، فتعدل فيه الوزارة مرّة وتظلم أخرى.
وأما المكوس: فقد تقدّم حدوثها، وما كان من الملوك فيها، والذي بقي منها إلى الآن بديار مصر يلي أمره الوزير، وفي الحقيقة إنما هو نفع للأقباط يتخوّلون فيه بغير حق، وقد تضاعفت المكوس في زمننا عما كنا نعهده، منذ عهد تحدّث الأمير جمال الدين يوسف
الإستادار في الأموال السلطانية، كما ذكر في أسباب الخراب.
وأما البراطيل: وهي الأموال التي تؤخذ من ولاة البلاد، ومحتسبيها وقضاتها وعمالها، فأوّل من عمل ذلك بمصر: الصالح بن رزيك في ولاة النواحي فقط، ثم بطل، وعمل في أيام العزيز بن صلاح الدين أحيانا، وعمله الأمير شيخون في الولاة فقط، ثم أفحش فيه الظاهر برقوق كما يأتي في أسباب الخراب.
وأما الحمايات والمستأجرات: فشيء حدث في أيام الناصر فرج، وصار لذلك ديوان ومباشرون، وعمل مثل ذلك الأمراء، وهو من أعظم أسباب الخراب كما يذكر في موضعه إن شاء الله تعالى.