الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من جملة الجبل المقطم، والآخر: فيما بين الجامع الطولونيّ ومصر، فيشرف غربيه على جهة الخليج الكبير، ويصير فيما بين كوم الجارح، وخط الجامع الطولونيّ، وكان من خطة تجيب، ثم صار من جملة العسكر، وأما الشرف الثالث فيعرف اليوم: بالرصد، وهو يشرف على راشدة، وكان يقال للشرف: سند، والسند: ما قابلك من الجبل، وعلا من السفح ويقال: فلان سند، أي: معتمد.
ذكر الرّصد
هذا المكان شرف يطلّ من غربيّة على راشدة، ومن قبلّيه على بركة الحبش، فيحسبه من رآه من جهة راشدة جبلا وهو من شرقيه سهل يتوصل إليه من القرافة بغير ارتقاء ولا صعود، وهو محاذ للشرف الذي كان من جملة العسكر، والشرف الذي يعرف اليوم بالكبش، وكان يقال له قديما: الجرف، ثم عرف بالرصد من أجل أنّ الأفضل أبا القاسم شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجماليّ، أقام فوقه كرة لرصد الكواكب، فعرف من حينئذ بالرصد. قال في كتاب عمل الرصد: وحمل إلى الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر من الشام تقاويم لما يستأنف من السنين لاستقبال سنة خمسمائة من سني الهجرة، قيل: مائة تقويم، أو نحوها، وكان منجمو الحضرة يومئذ ابن الحلبيّ وابن الهيثمي وسهلون وغيرهم، يطلق لهم الجاري في كل شهر، والرسوم والكسوة على عمل التقويم في كل سنة، وكان كل منهم يجتهد في حسابه وما تصل قدرته إليه، فإذا كان في غرّة السنة حمل كلّ منهم تقويمه، فيقابل بينها وبين التقويمات المحضرة من الشام، فيوجد بينها اختلاف كثير، فأنكر ذلك، فلما كان غرّة ثلاث عشرة وخمسمائة عند إحصاء التقاويم على العادة، جمع المنجمين والحساب، وأهل العلم وسألهم عن السبب في الخلف بين التقاويم؟ فقالوا: الشاميّ يحسب ويعمل على رأي الزيج المهجور المأمونيّ، ونحن نعمل على رأي الزيج الحاكميّ لقرب عهده، وبين المتقدّم والمتأخر تفاوت وخلف، وقد أجمع القدماء أن القريب العهد أصح من المتقدّم لتنقل الكواكب، وتغير الحساب، وتحدّثوا في معنى ذلك بما هو مذكور في موضعه، وأشاروا عليه بعمل رصد مستجدّ يصحح به الحساب، ويخرج به المعور والتفاوت، وتحصل به المنفعة العظيمة والفائدة الجليلة والسمعة الشريفة والذكر الباقي، فقال: من يتولى ذلك؟ فقال صاحب دسته «1» ومشيره الشيخ الأجل أبو الحسن بن أبي أسامة: هذا القاضي ابن أبي العيش الطرابلسيّ المهندس العالم الفاضل، وكان ابن أبي العيش صهره زوج ابنته، وهو شيخ كبير السنّ والقدر كثير المال، وساعده على ذلك القائد أبو عبد الله الذي تقلد الوزارة بعد الأفضل، ودعي بالمأمون بن البطائحيّ، فاستصوب الأفضل ذلك، وقال: مروه يهتم بذلك، ويستدعي ما يحتاج إليه، فكان أوّل ما بدأ به لما
حصل ذلك أن مدح نفسه، وكان الأفضل غيورا على كل شيء أشدّ ما عليه من يفتخر أو يلبس ثيابا مذكورة، ثم قال: هذه الآلات عظيمة، وخطرها جسيم ولا كلّ أحد يقوم عليها، ولا يحسنها، وأكثر الكلام والتوسعة، وقال: يحتاج أنّ الذي يتولى ذلك يعتمد معه الإنعام والإكرام لتطيب نفسه للمباشرة وينشرح صدره، ويقدح خاطره لما يعمل في حقه، فضجر الأفضل من ذلك، وقال: لقد أكثر في مدح نفسه ولدده وما يعاملنا بعد، لا حاجة إلى معاملته، فأشار القائد بن البطائحيّ، وقال: هنا من يبلغ الغرض بأسهل مأخذ، وأقرب وقت وأسرعه، وألطف معنى أبو سعيد بن قرقة الطبيب متولي خزائن السلاح والسروج والصناعات وغير ذلك، فأحضره للوقت فاتفق له من الحديث الحسن السهل، وما سبب عمل الآلات، ومن ابتدأها من الأول.
وذكر القدماء في العلم: ومن رصد منهم واحدا واحدا إلى آخرهم شرحا مستوفيا كأنه يحفظه ظاهرا، أو يقرأه من كتاب، فأعجب الأفضل والحاضرين، وقال: أيّ شيء تحتاج؟
فقال: ما أحتاج كبير أمر، والأمور سهلة وكلّ ما أحتاجه في خزائن السلطان خلد الله ملكه، النحاس والرصاص والآلات، وكلّ ما أحتاج أستدعيه أوّلا أوّلا، إلّا لنفقات وأجرة الصناع، فيتولاها غيري، فأعجب به. وقال: يطلق له جار لنفسه، فقال: أنا مستخدم في عدّة خدم فجواريّ تكفيني، فأنا مملوك الدولة ما أحتاج إلى جار، وإذا بلغت الغرض، وأنهيت الأشغال فهو المقصود. وكان قيل للأفضل، هذا الرصد يحتاج إلى أموال عظيمة، فقال: كم تقول يحتاج إليه؟ فقال: ما ينفق عليه إلا مثل ما ينفق عليه مسجد، أو مستنظر، فرجع يكرّر عليه القول، فقال: هاتوا ورقة، فكتب فيها المملوك يقبل الأرض وينهي دعت الحاجة إلى خروج الأمر العالي إلى دار الوكالة بإطلاق مائتي قنطار من النحاس الثجر وثمانين قنطارا من النحاس القضيب الأندلسيّ، وأربعين قنطارا من النحاس الأحمر ومن الرصاص ألف قنطار، ومن الحطب، ومن الحديد والفولاذ من الصناعة ما لعله يحتاج إليه، ومن الأخشاب ومن النفقة مائة دينار على يد شاهد ينفق عليه، فإذا فرغت أستدعي غيرها، وأختار موضعا يصلح الرصد فيه، ويكون العمل والصناعة فيه ومباشرة السلطان فيما يتوقف عليه وما يستأمر فيه، فاستصوب الأفضل جميع ذلك، وأراد أن يخلع عليه. فقال القائد: هذا فيما بعد إذا شوهدت أعماله، فخدم من أوّل الحال إلى آخرها، ولم يحصل له الدرهم الفرد لأنه كان يستحيي أن يطلب، وهو مستخدم عندهم، وكانوا بأجمعهم يؤملون طول المدّة والبقاء، فقتل الأفضل ثاني سنة وتغيرت الأحوال، ثم إنهم اختاروا للرصد مسجد التنور فوق المقطم، فوجدوه بعيدا عن الحوائج، فأجمعوا على سطح الحرف بالمسجد المعروف:
بالفيلة الكبير.
وكان قد صرف على المسجد خاصة ستة آلاف دينار، فحفروا في مسجد الفيلة نفرا في الجبل مكان الصهريج الآن، فعمل فيه قالب الحلقة الكبيرة وقطرها عشرة أذرع ودورها
ثلاثون ذراعا وهندموه وحرّروه أياما، وعمل حوله عشر هرج على كل هرجة منفاخان، وفي كل هرجة: أحد عشر قنطارا نحاسا، وأقلّ وأكثر والجميع مائة قنطار وكسر، قسموها على الهرج وطرح فيها النار من العصر، ونفخوا إلى الثانية من النهار، وحضر الأفضل بكرة، وجلس على كرسيّ، فلما تهيأت الهرج، ودارت أمر الأفضل بفتحها، وقد وقف على كل هرجة رجل وأمروا بفتحها في لحظة، ففتحت، وسال النحاس كالماء إلى القالب، وكان قد بقي فيه بعض النداوة، فلما استقرّ به النحاس بحرارته تقعقع المكان الندي، فلم تتمّ الحلقة، ولما بردت وكشف عنها إذ هي تامة ما خلا المكان النديّ، فضجر الأفضل وضاق صدره، ورمي الصناع بكيس فيه ألف درهم، وغضب وركب فلاطفه ابن قرقة، وقال: مثل هذه الآلة العظيمة التي ما سمع قط بمثلها لو أعيد سبكها عشر مرّات حتى تصح ما كان كثيرا، فقال له الأفضل: اهتم في إعادتها فسبكت وصحت، ولم يحضر الأفضل في المرّة الثانية، ففرح بصحتها وعملت ورفعت إلى سطح مسجد الفيلة، وأحضر لها جميع صناع النحاس، وعمل لها بركار خشب من السنديان، وهو بركار عجيب، وبنى في وسط الحلقة مسطبة حجارة منقبة لرجل البركار، وهو قائم مثل عروس الطاحون، وفيه ساعد مثل ناف الطاحون، وقد لبس بالحديد والجميع سنديان جيد، وطرف الساعد مهيأ لعدّة فنون، تارة لتصحيح وجه الحلقة، وتارة لتعديل الأجناب، وتارة للخطوط والحزوز، وأقام في التصحيح فيها، وأخذ زوائدها بالمبارد مدّة طويلة، وجماعة الصناع والمهندسين وأرباب هذا العلم حاضرون، واستدعى لهم خيمة عظيمة ضربت على الجميع، وعقد تحت الحلقة أقباء وثيقة، وأرادوا قيامها على سطح مسجد الفيلة، فلم يتهيأ لهم فإنهم وجدوا المشرق لأوّل بروز الشمس مسدودا، فاتفقوا على نقلها إلى المسجد الجيوشيّ المجاور الأنطاكي المعروف أيضا بالرصد، وكان الأفضل، بناه ألطف من جامع الفيلة، ولم يكمل.
فلما صار برسم الرصد كمل، فحضر الأفضل، في نقل الحلقة من جامع الفيلة إلى المسجد الجيوشيّ، وقد أحضرت الصواري الطوال العظام، والسرياقات والمنحاتات من الإسكندرية وغيرها، وجمعت الأسطولية ورجال السودان، وبعض أصحاب الركاب والجند حتى أدلوه وحملوه على العجل إلى مسجد الرصد الجيوشيّ، وثاني يوم حضروا بأجمعهم حتى رفعوه إلى السطح وكملوه، وأقاموا الحلقة وجعلوا تحت أكتافها عمودين من رخام سبكوهما بالرصاص من أسفلهما وأعلاهما، حتى لا يرتخي ثقل النحاس، وجعل في الوسط عمود رخام وبأعلاه قطب العضادة مسبوك بالنحاس الكثير لتدور عليه العضادة، وعملت من نحاس، فما تمارست، ولا دارت فعملوها من خشب ساج وقطبها وأطرافها من نحاس صفائح ليخف الدوران، ثم رصدوا بها الشمس بعد كلفة، وكانت الحلقة ترخي الدرجة والدقائق كل وقت للثقل.
فعمل عمود من نحاس فوق عمود الرخام ليمسك رخوها، وغلبوا بعد ذلك فكانت
تختلف لشدّة ما كانوا يحرّرونها بالشواقيل وعضادة الخشب، وتردّد إليها الأفضل مع كبر سنه، وهو يرتعش، والقائد يحمله إلى فوق، ويقعد زمانا من التعب لا يتكلّم ويده ترتعش، فرصدوا قدّامه، وفي خلال ذلك قتل الأفضل ليلة عيد الفطر سنة خمس عشرة وخمسمائة، وقيل للأفضل عن ابن قرقة: إنه أسرف في كبر الحلقة، وعظم مقدارها، فقال له الأفضل:
لو اختصرت منها كان أهون، فقال: وحق نعمتك لو أمكنني أن أعمل حلقة تكون رجلها الواحدة على الأهرام، والأخرى على التنور فعلت، فكلما كبرت الآلة صح التحرير، وأين هذا في العالم العلويّ، ثم أكثروا عليه، فعمل حلقة دونها في الموضع المهندم بالطوب الأحمر تحت المسجد الجيوشي، كان قطرها أقل من سبعة أذرع ودورها نحو أحد وعشرين ذراعا.
فلما كملت، قتل الأفضل، ولم ينفق من مال السلطان في الأجرة والمؤن، وما لا بدّ منه سوى نحو مائة وستين دينارا، فلما تمت الوزارة للمأمون البطائحيّ، أحب أن يكملها، ويقال له: الرصد المأموني المصحح، كما قيل للأوّل: الرصد المأموني الممتحن، فأخرج الأمر بنقل الرصد إلى باب النصر بالقاهرة، فنقل على الطريقة الأولى بالعتالين والأسطولية وطوائف الرجال، وكان يدفع لهم كل يوم برسم الغداء جملة دراهم، فلما صار فوق العجل مضوا به على الخندق من وراء الفتح على المشاهد إلى مسجد الذخيرة من ظاهر القاهرة، وتعبوا في دخوله من باب النصر تعبا عظيما لخوفهم أن يصدم فيتغير، فنصبوا الصواري على عقد باب النصر من داخل الباب، وتكاثر الرجال في جذب المياحين من أسفل، ومن فوق حتى وصل إلى السطح الكبير.
ثم نقلوه من السطح الكبير إلى السطح الفوقانيّ، وأوقفوا له العمد كما تقدّم ذكره، ورصدوا بالحلقة الكبرى كما رصدوا بها على سطح الجرف، فصح لهم ما أرادوا من حال الشمس فقط، ثم اهتموا بعمل ذات حلق يكون قطرها خمسة أذرع، وسبكت في فندق بالعطوفية من القاهرة، وكان الأمر فيها سهلا عندما لحقهم من العناء العظيم في الحلقة الكبيرة، والحلقة الوسطى، وتجرّد المأمون لعملها، والحثّ فيها، وكان ابن قرقة يحضر كل يوم دفعتين، ويحضر أبو جعفر بن جسنداي وأبو البركات بن أبي الليث صاحب الديوان وبيده الحل، والعقد فقال له المأمون: اطلع إليهم كل يوم وأيّ شيء طلبوه وقع لهم به من غير مؤامرة، وكان قصده ما أطمعوه فيه من أن يقال: الرصد المأمونيّ المصحح، فلو أراد الله أن يبقي المأمون قليلا كان كمل جميع رصد الكواكب، لكنه قبض عليه ليلة السبت ثالث شهر رمضان سنة تسع عشرة وخمسمائة، وكان من جملة ما عدّد من ذنوبه عمل الرصد المذكور، والاجتهاد فيه، وقيل: أطمعته نفسه في الخلافة بكونه سماه الرصد المأمونيّ، ونسبه إلى نفسه، ولم ينسبه إلى الخليفة الآمر بأحكام الله.
وأما العامة والغوغاء، فكانوا يقولون: أرادوا أن يخاطبوا زحل، وأرادوا أن يعلموا الغيب، وقال آخرون منهم: عمل هذا للسحر، ونحو ذلك من الشناعات، فلما قبض على المأمون، بطل وأنكر الخليفة على عمله، فلم يجسر أحد أن يذكره، وأمر فكسر، وحمل إلى المناخات، وهرب المستخدمون ومن كان فيه من الخاص، وكان فيه من المهندسين برسم خدمته وملازمته في كل يوم بحيث لا يتأخر منهم أحد (الشيخ أبو جعفر بن حسنداي والقاضي ابن أبي العيش، والخطيب أبو الحسن عليّ بن سليمان بن أيوب، والشيخ أبو النجا بن سند الساعاتي الإسكندرانيّ المهندس، وأبو محمد عبد الكريم الصقلي المهندس، وغيرهم من الحساب والمنجمين، كابن الحلبيّ وابن الهيثمي وأبي نصر تلميذ سهلون وابن دياب والقلعيّ، وجماعة يحضرون كل يوم إلى ضحوة النهار) ، فيحضر صاحب الديوان ابن أبي الليث، وكان ابن حسنداي ربما تأخر في بعض الأيام فإنه كان امرأ عظيما صاحب كبرياء وهيبة، وفي كل يوم يبعث المأمون من يتفقد الجماعة، ويطالعه بمن غاب منهم لأنه كان كثير التفقد للأمور كلها، وله غمازون وأصحاب أخبار لا تنام، ولا يكاد يفوته شيء من أحوال الخاصة والعامّة بمصر والقاهرة، ومن يتحدّث.
وجعل في كل بلد من الأعمال من يأتيه بسائر أخبارها. وأنا أدركت هذا الموضع الذي يعرف اليوم: بالرصد، حيث جامع الفيلة عامرا فيه عدّة مساكن ومساجد، وبه أناس مقيمون دائما، وقد خرب ما هناك، وصار لا أنيس به وكان الملك الناصر: محمد بن قلاون، قد أنشأ فيه سواقي لنقل الماء من أماكن قد حفر لها خليج من البحر، بجوار رباط الآثار النبوية، فإذا صار الماء في سفح هذا الجرف المسمى بالرصد نقل بسواق هناك، قد أنشئت إلى أن يصير إلى القلعة، فمات ولم يكمل ما أراده من ذلك، كما ذكر في أخبار قلعة الجبل من هذا الكتاب، وما زال موضع هذا الرصد منتزها لأهل مصر.
ويقال: إنّ المعز لدين الله معدّا لما قدم من بلاد المغرب إلى القاهرة لم يعجبه مكانها؟ وقال للقائد جوهر: فاتك بناء القاهرة على النيل، فهلا كنت بنيتها على الجرف؟
يعني هذا المكان، ويقال: إن اللحم علق بالقاهرة، فتغير بعد يوم وليلة، وعلق بقلعة الجبل، فتغير بعد يومين وليلتين، وعلق في موضع الرصد، فلم يتغير ثلاثة أيام ولياليها لطيب هوائه، ولله در القائل:
يا ليلة عاش سروري بها
…
ومات من يحسدنا بالكمد
وبت بالمعشوق في المشتهي
…
وبات من يرقبنا بالرصد