الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
[مقدمة المؤلف]
الحمد لله الذي عرّف وفهم، وعلم الإنسان ما لم يكن يعلم، وأسبغ على عباده نعما باطنة وظاهره، ووالى عليهم من مزيد آلائه مننا متظافرة متواترة، وبثهم في أرضه حينا يتقلبون، واستخلفهم في ماله فهم به يتنعمون، وهدى قوما إلى اقتناص شوارد المعارف والعلوم، وشوّقهم للتفنن في مسارح التدبر والركض بميادين الفهوم وأرشد قوما إلى الانقطاع من دون الخلق إليه، ووفقهم للاعتماد في كل أمر عليه وصرف آخرين عن كل مكرمة وفضيلة، وقيض لهم قرناء قادوهم إلى كل ذميمة من الأخلاق ورذيلة، وطبع على قلوب آخرين فلا يكادون يفقهون قولا، وثبطهم عن سبل الخيرات، فما استطاعوا قوّة ولا حولا، ثم حكم على الكل بالفناء ونقلهم جميعا من دار التمحيص والابتلاء إلى برزخ البيود والبلاء، وسيحشرهم أجمعين إلى دار الجزاء ليوفي كل عامل منهم عمله، ويسأله عما أعطاه وخوّله.
وعن موفقه بين يديه سبحانه وما أعدّ له لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. أحمده سبحانه حمد من علم أنه إله لا يعبد إلا إياه، ولا خالق للخلق سواه حمدا يقتضي المزيد من النعماء، ويوالي المنن بتجدّد الآلاء، وصلى الله على سيدنا محمد وعبده ورسوله ونبيه وخليله سيد البشر وأفضل من مضى وغبر الجامع لمحاسن الأخلاق والسير، والمستحق لاسم الكمال على الإطلاق من البشر الذي كان نبيا وآدم بين الماء والطين، ورقم اسمه من الأزل في عليين، ثم تنقل من الأصلاب الفاخرة الزكية إلى الأرحام الطاهرة المرضية حتى بعثه الله عز وجل إلى الخلائق أجمعين، وختم به الأنبياء والمرسلين وأعطاه ما لم يعط أحدا من العالمين وعلى آله وصحابته والتابعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
وبعد، فإنّ علم التاريخ من أجل العلوم قدرا، وأشرفها عند العقلاء مكانة وخطرا، لما يحويه من المواعظ والإنذار بالرحيل إلى الآخرة عن هذه الدار والاطلاع على مكارم الأخلاق ليقتدى بها، واستعلام مذامّ الفعال ليرغب عنها أولو النهي، لا جرم إن كانت الأنفس الفاضلة به وامقة والهمم العالية إليه مائلة وله عاشقة. وقد صنف فيه الأئمة كثيرا، وضمّن الأجلّة كتبهم منه شيئا كبيرا، وكانت مصر هي مسقط رأسي، وملعب أترابي ومجمع ناسي، ومغنى عشيرتي وحامتي، وموطن خاصتي وعامّتي، وجؤجؤي الذي ربى جناحي
في وكره وعش مأربي فلا تهوى الأنفس غير ذكره لا زلت مذ شذوت العلم وآتاني ربي الفطانة والفهم أرغب في معرفة أخبارها وأحبّ الأشراف على الاغتراف من آبارها، وأهوى مسائلة الركبان عن سكان ديارها فقيدت بخطى في الأعوام الكثيرة، وجمعت من ذلك فوائد قل ما يجمعها كتاب، أو يحويها لعزتها وغرابتها أهاب إلّا أنها ليست بمرتبة على مثال ولا مهذبة بطريقة ما نسج على منوال، فأردت أن ألخص منها أنباء ما بديار مصر من الآثار الباقية، عن الأمم الماضية والقرون الخالية، وما بقي بفسطاط مصر من المعاهد غير ما كاد يفنيه البلى والقدم ولم يبق إلّا أن يمحو رسمها الفناء والعدم، وأذكر ما بمدينة القاهرة من آثار القصور الزاهرة، وما اشتملت عليه من الخطط والأصقاع، وحوته من المباني البديعة الأوضاع، مع التعريف بحال من أسس ذلك من أعيان الأماثل، والتنويه بذكر الذي شادها من سراة الأعاظم والأفاضل وأنثر خلال ذلك نكتا لطيفة، وحكما بديعة شريفة من غير إطالة ولا إكثار، ولا إجحاف مخل بالغرض ولا اختصار، بل وسط بين الطرفين، وطريق بين بين.
فلهذا سميته (كتاب المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار) ، وإني لأرجو أن يحظى إن شاء الله تعالى عند الملوك ولا ينبو عنه طباع العاميّ والصعلوك ويجله العالم المنتهي، ويعجب به الطالب المبتدي، وترضاه خلائق العابد الناسك، ولا يمجه سمع الخليع الفاتك ويتخذه أهل البطالة والرفاهية سمرا، ويعدّه أولو الرأي والتدبير موعظة وعبرا، يستدلون به على عظيم قدرة الله تعالى في تبديل الأبدال، ويعرفون به عجائب صنع ربنا سبحانه من تنقل الأمور إلى حال بعد حال، فإن كنت أحسنت فيما جمعت وأصبت في الذي صنعت ووضعت، فذلك من عميم منن الله تعالى وجزيل فضله وعظيم أنعمه عليّ، وجليل طوله، وإن أنا أسأت فيما فعلت وأخطأت إذ وضعت فما أجدر الإنسان بالإساءة والعيوب إذا لم يعصمه ويحفظه علام الغيوب:
وما أبرّئ نفسي أنني بشر
…
أسهو وأخطىء ما لم يحمني قدر
ولا ترى عذرا أولى بذي زلل
…
من أن يقول مقرّا أنني بشر
فليسبل الناظر في هذا التأليف على مؤلفه ذيل ستره إن مرّت به هفوة، وليغض تجاوزا وصفحا إن وقف منه على كبوة، أو نبوة فأيّ جواد وإن عنق ما يكبو، وأيّ عضب مهند لا يكل ولا ينبو لا سيما والخاطر بالأفكار مشغول، والعزم لالتواء الأمور وتعسرها فاتر محلول، والذهن من خطوب هذا الزمن القطوب كليل والقلب لتوالي المحن، وتواتر الإحن عليل:
يعاندني دهري كأني عدوّه
…
وفي كل يوم بالكريهة يلقاني
فإن رمت شيئا جاءني منه ضدّه
…
وإن راق لي يوما تكدّر في الثاني
اللهمّ غفرا ما هذا من التبرّم بالقضاء، ولا التضجر بالمقدور، بل إنه سقيم ونفثة مصدور يستروح أن أبدي التوجع والأنين، ويجد خفا من ثقله إذا باح بالشكوى والحنين:
ولو نظروا بين الجوانح والحشا
…
رأوا من كتاب الحب في كبدي سطرا
ولو جرّبوا ما قد لقيت من الهوى
…
إذا عذروني أو جعلت لهم عذرا
والله أسأل أن يحلي هذا الكتاب بالقبول عند الجلة والعلماء، كما أعوذ به من تطرّق أيدي الحساد إليه والجهلاء، وأن يهديني فيه وفيما سواه من الأقوال والأفعال إلى سواء السبيل، إنه حسبنا ونعم الوكيل وفيه جلّت قدرته لي سلوّ من كل حادث، وعليه عز وجل أتكل في جميع الحوادث، لا إله إلا هو ولا معبود سواه.