الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر الرءوس الثمانية
اعلم أنّ عادة القدماء من المعلمين قد جرت أن يأتوا بالرؤوس الثمانية قبل افتتاح كل كتاب، وهي: الغرض والعنوان والمنفعة، والمرتبة، وصحة الكتاب، ومن أيّ صناعة هو وكم فيه من أجزاء، وأيّ أنحاء التعاليم المستعملة فيه فنقول:
(أما الغرض) في هذا التأليف فإنه جمع ما تفرّق من أخبار أرض مصر، وأحوال سكانها كي يلتئم من مجموعها معرفة جمل أخبار إقليم مصر وهي التي إذا حصلت في ذهن إنسان اقتدر على أن يخبر في كل وقت بما كان في أرض مصر من الآثار الباقية والبائدة ويقص أحوال من ابتدأها، ومن حلها وكيف كانت مصائر أمورهم وما يتصل بذلك على سبيل الاتباع لها بحسب ما تحصل به الفائدة الكلية بذلك الأثر.
(وأمّا عنوان هذا الكتاب) أعني الذي وسمته به فإني لما فحصت عن أخبار مصر وجدتها مختلطة متفرّقة فلم يتهيأ لي إذ جمعتها أن أجعل وضعها مرتبا على السنين لعدم ضبط وقت كل حادثة لا سيما في الأعصر الخالية، ولا أن أضعها على أسماء الناس لعلل أخر تظهر عند تصفح هذا التأليف فلهذا فرّقتها في ذكر الخطط والآثار، فاحتوى كل فصل منها على ما يلائمه ويشاكله، وصار بهذا الاعتبار قد جمع ما تفرّق وتبدّد من أخبار مصر، ولم أتحاش من تكرار الخبر إذا احتجت إليه بطريقة يستحسنها الأريب، ولا يستهجنها الفطن الأديب كي يستغني مطالع كل فصل بما فيه عما في غيره من الفصول، فلذلك سميته:
(كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) .
(وأما منفعة هذا الكتاب) فإنّ الأمر فيها يتبين من الغرض في وضعه، ومن عنوانه أعني أنّ منفعته هي أن يشرف المرء في زمن قصير على ما كان في أرض مصر من الحوادث والتغييرات في الأزمنة المتطاولة والأعوام الكثيرة، فتتهذب بتدبر ذلك نفسه وترتاض أخلاقه فيحب الخير ويفعله، ويكره الشرّ ويتجنبه، ويعرف فناء الدنيا فيحظى بالإعراض عنها، والإقبال على ما يبقى.
(وأما مرتبة هذا الكتاب) فإنه من جملة أحد قسمي العلم اللذين هما العقليّ والنقليّ، فينبغي أن يتفرّغ لمطالعته وتدبر مواعظه بعد إتقان ما تجب معرفته من العلوم النقلية والعقلية، فإنه يحصل بتدبره لمن أزال الله أكنة قلبه وغشاوة بصره نتيجة العلم بما صار إليه
أبناء جنسه بعد التخوّل في الأموال والجنود من الفناء والبيود، فإذا مرتبته بعد معرفة أقسام العلوم العقلية والنقلية ليعرف منه كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبل.
(وأما واضع هذا الكتاب ومرتّبه) فاسمه أحمد بن عليّ بن عبد القادر بن محمد، ويعرف بالمقريزيّ رحمه الله تعالى ولد بالقاهرة المعزية من ديار مصر بعد سنة ستين وسبعمائة من سني الهجرة المحمدية، ورتبته من العلوم ما يدل عليه هذا الكتاب وغيره مما جمعه وألفه.
(وأما من أيّ علم هذا الكتاب) فإنه من علم الأخبار وبها عرفت شرائع الله تعالى التي شرعها، وحفظت سنن أنبيائه ورسله، ودوّن هداهم الذي يقتدى به من وفقه الله تعالى إلى عبادته، وهداه إلى طاعته، وحفظه من مخالفته، وبها نقلت أخبار من مضى من الملوك والفراعنة وكيف حل بهم سخط الله تعالى لما أتوا ما نهوا عنه، وبها اقتدر الخليقة من أبناء البشر على معرفة ما دوّنوه من العلوم والصنائع، وتأتي لهم على ما غاب عنهم من الأقطار الشاسعة، والأمصار النائية وغير ذلك مما لا ينكر فضله، ولكل أمّة من أمم العرب والعجم على تباين آرائهم واختلاف عقائدهم أخبار عندهم معروفة مشهورة ذائعة بينهم، ولكل مصر من الأمصار المعمورة حوادث قد مرّت به يعرفها علماء ذلك المصر في كل عصر ولو استقصيت ما صنف علماء العرب والعجم في ذلك لتجاوز حدّ الكثرة، وعجزت القدرة البشرية عن حصره.
(وأما أجزاء هذا الكتاب فإنها سبعة) : أولها: يشتمل على جمل من أخبار أرض مصر، وأحوال نيلها وخراجها وجبالها.
وثانيها: يشتمل على كثير من مدنها وأجناس أهلها.
وثالثها: يشتمل على أخبار فسطاط مصر ومن ملكها.
ورابعها: يشتمل على أخبار القاهرة وخلائقها وما كان لهم من الآثار.
وخامسها: يشتمل على ذكر ما أدركت عليه القاهرة وظواهرها من الأحوال.
وسادسها: يشتمل على ذكر قلعة الجبل وملوكها.
وسابعها: يشتمل على ذكر الأسباب التي نشأ عنها خراب إقليم مصر.
وقد تضمن كل جزء من هذه الأجزاء السبعة عدّة أقسام.
وأما أيّ أنحاء التعاليم التي قصدت في هذا الكتاب، فإني سلكت فيه ثلاثة أنحاء، وهي النقل من الكتب المصنفة في العلوم، والرواية عمن أدركت من شيخه العلم وجلة الناس، والمشاهدة لما عاينته ورأيته. فأما النقل من دواوين العلماء التي صنفوها في أنواع العلوم فإني أعزو كل نقل إلى الكتاب الذي نقلته منه لأخلص من عهدته، وأبرأ من جريرته فكثيرا ممن ضمني وإياه العصر، واشتمل علينا المصر صار لقلة إشرافه على العلوم وقصور
باعه في معرفة علوم التاريخ، وجهل مقالات الناس يهجم بالإنكار على ما لا يعرفه ولو أنصف لعلم أن العجز من قبله وليس ما تضمنه هذا الكتاب من العلم الذي يقطع عليه، ولا يحتاج في الشريعة إليه وحسب العالم أن يعلم ما قيل في ذلك ويقف عليه.
وأما الرواية عمن أدركت من الجلة والمشايخ فإني في الغالب والأكثر أصرح باسم من حدّثني إلا أن لا يحتاج إلى تعيينه، أو أكون قد أنسيته وقلّ ما يتفق مثل ذلك.
وأمّا ما شاهدته فإني أرجو أن أكون ولله الحمد غير متهم ولا ظنين، وقد قلت في هذه الرءوس الثمانية ما فيه قنع وكفاية، ولم يبق إلا أن أشرع فيما قصدت، وعزمي أن أجعل الكلام في كل خط من الأخطاط وفي كل أثر من الآثار على حدة ليكون العلم بما يشتمل عليه من الأخبار أجمع وأكثر فائدة وأسهل تناولا والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وفوق كلّ ذي علم عليم.
(فصل) : أوّل من رتب خطط مصر وآثارها، وذكر أسبابها في ديوان جمعه: أبو عمر محمد بن يوسف الكنديّ «1» ، ثم كتب بعده القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعيّ «2» كتابه المنعوت بالمختار في ذكر الخطط والآثار، ومات في سنة سبع وخمسين وأربعمائة قبل سني الشدّة، فدثر أكثر ما ذكر اه.
ولم يبق إلا يلمع وموضع بلقع بما حل بمصر من سني الشدّة المستنصرية من سنة سبع وخمسين إلى سنة أربع وستين وأربعمائة من الغلاء والوباء، فمات أهلها وخربت ديارها وتغيرت أحوالها، واستولى الخراب على عمل فوق من الطرفين بجانبي الفسطاط الغربيّ والشرقيّ. فأما الغربيّ فمن قنطرة بني وائل حيث الوراقات الآن قريبا من باب القنطرة خارج مدينة مصر إلى الشرف المعروف الآن بالرصد، وأنت مار إلى القرافة الكبرى. وأما الشرقيّ فمن طرف بركة الحبش التي تلي القرافة إلى نحو جامع أحمد بن طولون، ثم دخل أمير الجيوش بدر الجمالي مصر في سنة ست وستين وأربعمائة، وهذه المواضع خاوية على عروشها خالية من سكانها وأنيسها قد أبادهم الوباء والتباب، وشتتهم الموت والخراب ولم يبق بمصر إلا بقايا من الناس كأنهم أموات قد اصفرّت وجوههم وتغيرت سحنهم من غلاء الأسعار، وكثرة الخوف من العسكرية، وفساد طوائف العبيد والملحية، ولم يجد من يزرع الأراضي. هذا والطرقات قد انقطعت بحرا وبرّا إلا بخفارة وكلفة كثيرة، وصارت القاهرة
أيضا يبابا داثرة، فأباح للناس من العسكرية والملحية والأرض، وكل من وصلت قدرته إلى عمارة أن يعمر ما شاء في القاهرة مما خلا من دور الفسطاط بموت أهلها فأخذ الناس في هدم المساكن ونحوها بمصر، وعمروا بها في القاهرة، وكان هذا أوّل وقت اختط الناس فيه بالقاهرة.
ثم كان المنبه بعد القضاعي على الخطط والتعريف بها تلميذه أبو عبد الله محمد بن بركات النحويّ في تأليف لطيف نبه فيه الأفضل أبا القاسم شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي على مواضع قد اغتصبت وتملكت بعد ما كانت أحباسا ثم كتب الشريف محمد بن أسعد الجواني «1» (كتاب النقط بعجم ما أشكل من الخطط) نبه فيه على معالم قد جهلت وآثار قد دثرت، وآخر من كتب في ذلك القاضي تاج الدين محمد بن عبد الوهاب بن المتوّج «2» (كتاب إيعاظ المتأمّل وإيقاظ المتغفل) في الخطط بيّن فيه جملا من أحوال مصر وخططها إلى أعوام بضع وعشرين وسبعمائة قد دثرت بعده معظم ذلك في وباء سنة تسع وأربعين وسبعمائة ثم في وباء سنة إحدى وستين ثم في غلاء سنة ست وسبعين وسبعمائة.
وكتب القاضي محيي الدين عبد الله بن عبد «3» الظاهر (كتاب الروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة) ففتح فيه بابا كانت الحاجة داعية إليه، ثم تزايدت العمارة من بعده في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون بالقاهرة وظواهرها إلى أن كادت تضيق على أهلها حتى حل بها وباء سنة تسع وأربعين وسنة إحدى وستين ثم غلاء سنة ست وسبعين فخربت بها عدّة أماكن فلما كانت الحوادث والمحن من سنة ست وثمانمائة شمل الخراب القاهرة ومصر وعامّة الإقليم، وسأورد من ذكر الخطط ما تصل إليه قدرتي إن شاء الله تعالى.