الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولك عليّ عهد الله وميثاقه أن أعطيك ديتين، لأنّ الله عز وجل أحياني بك مرّتين، فقال له عمرو: أين بلادك؟ قال: مصر في مدينة يقال لها: الإسكندرية، فقال له عمرو: لا أعرفها، ولم أدخلها قط، فقال له الشماس: لو دخلتها لعلمت أنك لم تدخل قط مثلها! فقال له عمرو: تفي لي بما تقول، ولي عليك بذلك العهد والميثاق، فقال له الشماس: نعم لك والله عليّ العهد والميثاق أن أفي لك، وأن أردّك إلى أصحابك، فقال له عمرو: كم يكون مكثي في ذلك؟ قال: شهرا تنطلق معي ذاهبا عشرا، وتقيم عندنا عشرا، وترجع في عشر، ولك عليّ أن أحفظك ذاهبا وأن أبعث معك من يحفظك راجعا، فقال له عمرو: انظرني حتى أشاور أصحابي في ذلك، فانطلق عمرو إلى أصحابه، فأخبرهم بما عاهد عليه الشماس، وقال لهم: تقيمون عليّ حتى أرجع إليكم ولكم عليّ العهد أن أعطيكم شطر ذلك على أن يصحبني رجل منكم آنس به، فقالوا: نعم، وبعثوا معه رجلا منهم، فانطلق عمرو وصاحبه مع الشماس، حتى انتهوا إلى مصر فرأى عمرو من عمارتها، وكثرة أهلها وما بها من الأموال والخير ما أعجبه! فقال عمرو للشماس: ما رأيت مثل ذلك، ومضى إلى الإسكندرية، فنظر عمرو إلى كثرة ما فيها من الأموال والعمارة، وجودة بنائها، وكثرة أهلها، فازداد عجبا، ووافق دخول عمرو الإسكندرية عيدا فيها عظيما يجتمع فيه ملوكهم وأشرافهم، ولهم كرة من ذهب مكالة يترامى بها ملوكهم، وهم يتلقونها بأكمامهم، وفيما اختبروا من تلك الكرة على ما وصفها من مضى منهم، أنها من وقعت الكرة في كمه واستقرّت فيه لم يمت حتى يملكهم.
فلما قدم عمرو الإسكندرية أكرمه الشماس الإكرام كله، وكساه ثوب ديباج ألبسه إياه، وجلس عمرو والشماس مع الناس في ذلك المجلس، حيث يترامون بالكرة وهم يتلقونها بأكمامهم، فرمى بها رجل منهم، فأقبلت تهوي حتى وقعت في كم عمرو، فعجبوا من ذلك، وقالوا: ما كذبتنا هذه الكرة قط إلا هذه المرّة! أترى هذا الأعرابيّ يملكنا؟ هذا ما لا يكون أبدا، وإنّ ذلك الشماس مشى في أهل الإسكندرية، وأعلمهم أنّ عمرا أحياه مرّتين، وأنه قد ضمن له ألفي دينار، وسألهم أن يجمعوا ذلك له فيما بينهم، ففعلوا، ودفعوها إلى عمرو، فانطلق عمرو وصاحبه، وبعث معهما الشماس دليلا ورسولا، وزوّدهما وأكرمهما، حتى رجع هو وصاحبه إلى أصحابهما، فبذلك عرف عمرو مدخل مصر ومخرجها، ورأى منها ما علم أنها أفضل البلاد، وأكثرها أموالا، فلما رجع عمرو إلى أصحابه، دفع إليهم بيما بينهم ألف دينار، وأمسك لنفسه ألفا، قال عمرو: وكان أوّل مال اعتقدته وتأثلته.
ذكر عمود السواري
هذا العمود حجر أحمر منقط، وهو من الصوّان الماتع كان حوله، نحو أربعمائة عمود كسرها قراجا والي الإسكندرية في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب،
ورماها بشاطئ البحر ليوعر على العدوّ سلوكه إذا قدموا، ويذكر أن هذا العمود من جملة أعمدة كانت تحمل رواق أرسطاطاليس الذي كان يدرس به الحكمة، وأنه كان دار علم، وفيه خزانة كتب أحرقها عمرو بن العاص بإشارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويقال: إنّ ارتفاع هذا العمود سبعون ذراعا وقطره خمسة أذرع، وذكر بعضهم: أنّ طوله بقاعدتيه: اثنان وستون ذراعا وسدس ذراع، وهو على نشز طوله ثلاثة وعشرون ذراعا ونصف ذراع، فجملة ذلك خمسة وثمانون ذراعا وثلثا ذراع، وطول قاعدته السفلي اثنا عشر ذراعا، وطول القاعدة العليا سبعة أذرع ونصف.
قال المسعوديّ: وفي الجانب الغربيّ من صعيد مصر، جبل رخام عظيم، كانت الأوائل تقطع منه العمد وغيرها، وكانوا يحملون ما عملوا بعد النقر، فأما العمد والقواعد والرءوس التي يسميها أهل مصر الأسوانية، ومنها حجارة الطواحين، فتلك نقرها الأوّلون قبل حدوث النصرانية بمئين من السنين، ومنها العمد التي بالإسكندرية، والعمود بها الضخم الكبير لا يعلم بالعالم عمود مثله، وقد رأيت في جبل أسوان، أخا هذا العمود، وقد هندس ونقر ولم يصل من الجبل، ولم يحمل ما ظهر منه، وإنما كانوا ينتظرون به أن يفصل من الجبل، ثم يحمل إلى حيث يريد القوم، انتهى.
وكان بالإسكندرية من العمد العظام، وأنواع الحجارة والرخام الذي لا تقلّ القطعة منه، إلا بألوف من الناس، وقد علقت بين السماء والأرض على فوق المائة ذراع، وفوق رؤوس أساطين دائر الأسطوانة ما بين الخمسة عشر ذراعا إلى العشرين ذراعا، والحجر فوقه عشرة أذرع في عشرة أذرع، في سمك عشرة أذرع بغرائب الألوان.
وكان بالإسكندرية قصر عظيم لا نظير له في معمور الأرض على ربوة عظيمة، بإزاء باب البلد طوله خمسمائة ذراع، وعرضه على النصف من ذلك، وبابه من أعظم بناء وأتقنه، كل عضادة منه حجر واحد، وعتبته حجر واحد، وكان فيه نحو مائة أسطوانة وبإزائه أسطوانة عظيمة لم يسمع بمثلها، غلظها ستة وثلاثون شبرا، وعلوها بحيث لا يدرك أعلاها قاذف حجر، وعليها رأس محكم الصناعة يدل على أنه كان فوق ذلك بناء، وتحتها قاعدة حجر أحمر محكم الصناعة، عرض كل ضلع منه عشرون شبرا في ارتفاع ثمانية أشبار، والأسطوانة منزلة في عمود من حديد قد خرقت به الأرض، فإذا اشتدّت الرياح رأيتها تتحرّك، وربما وضع تحتها الحجارة، فطحنتها لشدّة حركتها، وكانت هذه الأسطوانة إحدى عجائب الدنيا، وقد زعم قوم أنها مما عمله الجنّ لسليمان بن داود عليهما السلام، كما هي عادتهم في نسبة كل ما يستعظمون عمله إلى أنه من صنيع الجنّ، وليس كذلك، بل كانت مما عمله القدماء من أهل مصر.
وكان في وسطه، قبة ومن حولها أساطين، وعلى الجميع قبة من حجر واحد رخام
أبيض كأحسن ما أنت راء من الصنائع.
ويقال: إن بعض ملوك مصر دخل الإسكندرية، فأعجبه هذا القصر، وأراد أن يبني مثله، فجمع الصناع والمهندسين ليقيموا له قصرا عظيما على هيئته، فما منهم إلا من اعترف بعجزه عن مثله، إلّا شيخا منهم، فإنه التزم أن يصنع مثله، فسرّ الملك ذلك، وأذن له في طلب ما يحتاج إليه من المؤن والآلات والرجال، فقال: ائتوني بثورين مطيقين وعجلة كبيرة، فللحال أتي بذلك فمضى إلى المقابر القديمة، وحفر منها قبرا أخرج منه: جمجمة عظيمة، رفعها عدّة من الرجال على العجلة، فما جرّها الثوران مع قوّتهما إلّا بعد جهد وعناء، فلما وقف بها بين يدي الملك، قال: أصلح الله سيدنا! إن أتيتني بقوم رؤوسهم مثل هذا الرأس عملت لك مثل هذا القصر؟ فتيقن الملك عند ذلك عجز أهل زمانه عن إقامة مثل ذلك القصر.
وقد ذكر: أنه كان بالإسكندرية ضرس إنسان عند قصاب، يزن به اللحم، زنته ثمانية أرطال.
ويقال: إنّ عمود السواري الموجود الآن خارج مدينة الإسكندرية، أحد سبعة أعمدة، أتي بأحدها، البتون بن مرّة العادي، وهو يحمله تحت إبطه من جبل بريم الأحمر قبليّ أسوان إلى الإسكندرية، فانكسر ضلعه، لأنه كان ضعيف القوى في قومه، فشق ذلك على يعمر بن شدّاد بن عاد، وقال: ليتني فديته بنصف ملكي، وجاء بعمود آخر، جحدر بن سنان الثموديّ، وكان قويا، فحمله من أسوان تحت إبطه، وجاء بقية رجالهم كل رجل بعمود، فأقام العمد السبعة، الجارود بن قطن المؤتفكي، وكان بناءها بعد أن اختاروا لها طالعا سعيدا، كما هي عادتهم في عامّة أعمالهم، وقد ذكر غير واحد، أن الصخور في القديم من الدهر كانت تلين، فعمل منها أعمدة، ناعط ومارب وبينون وماثر اليمن، وأعمدة دمشق ومصر ومدين وتدمر، وإنّ كل شيء كان يتكلم، قال أمية بن أبي الصلت:
وإذ هم لا لبوس لهم عراة
…
وإذ صخر السلام لهم رطاب
وقال قوم: عمود السواري من جملة أعمدة كانت تحمل رواقا، يقال له: بيت الحكمة، وذلك حيث انتهت علوم أهل الغرب إلى خمس فرق، وهم: أصحاب الرواق هذا، وأصحاب الأسطوانة وكانوا ببعلبك، وأصحاب المظال وهم بأنطاكية، وأصحاب البرابي وكانوا بصعيد مصر، والمشاؤون وكانوا بمقدونية، وكأني بمن قلّ علمه ينكر عليّ إيراد هذا الفصل، ويراه من قبيل المحال، ومما وضعه القصاص، ويجزم بكذبه، فلا يوحشنك حكايتي له، واسمع قول الله تعالى عن عاد قوم هود: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً
[الأعراف/ 69] أي طولا وعظم جسم.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: كان أطولهم مائة ذراع، وأقصرهم ستين
ذراعا، وهذه الزيادة كانت على خلق آبائهم، وقيل: على خلق قوم نوح، وقال وهب بن منبه: كان رأس أحدهم مثل قبة عظيمة، وكانت عين الرجل منهم تفرخ فيها السباع، وكذلك مناخرهم.
وروى شهر بن حوشب «1» عن أبي هريرة رضي الله عنه: إنه قال: إن كان الرجل من قوم عاد ليحمل المصراعين لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة لم يطيقوه، وإن كان أحدهم ليغمز بقدمه الأرض فيدخل فيها.
وروى عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن عمرو المعافريّ، عن ابن بجرة، قال: استظل سبعون رجلا من قوم موسى عليه السلام، في قحف رجل من العماليق. وعن زيد بن أسلم:
بلغني أنّ الضبعة وأولادها ربين في حجاج عين رجل من العماليق، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ
[الفجر/ 8] .
قال المبرّد: وقولها يعني الخنساء: رفيع العماد إنما تريد الطول، يقال: رجل معمد:
يريد طولا ومنه قوله تعالى: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ
أي: الطوال.
وقال البغويّ: سموا ذات العماد لأنهم كانوا أهل عمدة سيارة، وهو قول قتادة ومجاهد والكلبيّ، ورواية عطاء عن ابن عباس، وقال بعضهم: سموا ذات العماد لطول قاماتهم، قال ابن عباس: يعني طولهم مثل العماد، قال مقاتل: كان طول أحدهم اثني عشر ذراعا.
وفي كشاف الزمخشريّ: لم يخلق مثلها، مثل عاد في البلاد عظم أجرام وقوّة، كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع، وكان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها، فيلقيها على الحيّ فيهلكهم، وقد ذكر غير واحد أنه وجد في خلافة المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد، كنز بمصر فيه ضلم إنسان طوله أربعة عشر شبرا في عرض ثلاثة أشبار.
واعلم أن أعين بني آدم ضيقة وقد نشأت نفوسهم في محل صغير، فإذا حدّث القوم بما يتجاوز مقدار عقولهم أو مبلغ أجسامهم مما ليس له عندهم أصل يقيسونه على إلا ما يشاهدونه، أو يألفونه عجلوا إلى الارتياب فيه، وسارعوا إلى الشك في الخبر عنه، إلّا من كان معه علم وفهم، فإنه يفحص عما يبلغه من ذلك حتى يجد دليلا على قبوله، أو ردّه، وكيف يردّ مثل هذه الأخبار. وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حلق الله آدم طوله ستون ذراعا في السماء» ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن.
وذكر محمد بن عبد الرحيم بن سليمان بن ربيع القيسيّ الغرناطيّ في كتاب تحفة
الألباب قال: نقل الشعبيّ في كتاب سير الملوك: أن الضحاك بن علوان، لما هرب منه لام بن عاد إلى ناحية الشمال أرسل في طلبه أميرين مع كل أمير طائفة من الجبارين خرج أحدهما قاصدا إلى بلغار، والآخر إلى باشقرد، فأقام أولئك الجبارون في أرض بلغار، وفي باشقرد. قال الإقليشيّ: وقد رأيت صورهم في باشقرد، ورأيت قبورهم بها، فكان مما رأيته، ثنية أحدهم طولها: أربعة أشبار، وعرضها شبران، وقد كان عندي في باشقرد نصف أصل الثنية أخرجت لي من فكه الأسفل، فكان عرضها شبرا، ووزنها ألف مثقال، ومائتا مثقال، أنا وزنتها بيدي، وهي الآن في داري في باشقرد، وكان دور فلك ذلك العاديّ سبعة عشر ذراعا، وفي بيت بعض أصحابي في باشقرد، عضد أحدهم طوله ثمانية وعشرون ذراعا، وأضلاعه كل ضلع عرضه ثلاثة أشبار، وأكثر كاللوح الرخام، وأخرج إليّ نصف رسغ يد أحدهم، فكنت لا أقدر أن أرفعه بيد واحدة حتى أرفعه بيديّ جميعا، قال: ولقد رأيت في بلد بلغار سنة ثلاثين وخمسمائة من نسل العاديين رجلا طوالا كان طوله أكثر من سبعة أذرع، وكان يسمى: دنقي وكان يأخذ الفرس تحت إبطه كما يأخذ الإنسان الطفل الصغير، وكان إذا وقع القتال بتلك الناحية، يقاتل بشجرة من شجر البلوط، يمسكها كالعصا في يده لو ضرب بها الفيل قتله، وكان خيّرا متواضعا، كلما التقاني سلم عليّ، ورحب بي وأكرمني، وكان رأسي لا يصل إلى حقوه، وكان له أخت على طوله رأيتها في بلغار مرارا عدّة.
قال لي القاضي يعقوب بن النعمان، يعني قاضي بلغار: إن هذه المرأة الطويلة العادية قتلت زوجها، وكان اسمه آدم، وكان من أقوى أهل بلغار ضمته إلى صدرها، فكسرت أضلاعه، فمات من ساعته. قال: ولم يكن في بلغار حمّام تسعهم، إلا حمّام واحدة واسعة الأبواب، انتهى.
وقد حدّثني الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد الفريابي عن أبيه: أنه شاهد قبرا احتفر بمدينة قرطاجنة من إفريقية، فإذا جثة رجل قدر عظيم رأسه كثورين عظيمين، ووجد معه لوح مكتوب بالقلم المسند، وهو قلم عاد، وحروفه مقطعة، ما نصه:
أنا كوش بن كنعان ابن الملوك من آل عاد، ملكت بهذه الأرض ألف مدينة، وبنيت بها على ألف بكر، وركبت من الخيل العتاق سبعة آلاف، حمر وصفر وشهب وبيض ودهم، ثم لم يغن عني ذلك شيئا، أو جاءني صائح، فصاح بي صيحة أخرجتني من الدنيا، فمن كان عاقلا ممن جاء بعده فليعتبر بي وأنشد:
يا واقفا يرعى السهى
…
برسم ربع قد وهى
قف واستمع ثم اعتبر
…
إن كنت من أهل النهي
بالأمس كنا فوقها
…
واليوم صرنا تحتها
لكل حدّ غاية
…
لكل أمر منتهى