الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حُكْمُ التَّقْلِيدِ:
11 -
أَهْل التَّقْلِيدِ لَيْسُوا طَبَقَةً مِنْ طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ، فَالْمُقَلِّدُ لَيْسَ فَقِيهًا، فَإِنَّ الْفِقْهَ مَمْدُوحٌ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّقْلِيدُ مَذْمُومٌ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ مِنَ التَّقْصِيرِ (1) .
أ -
حُكْمُ التَّقْلِيدِ فِي الْعَقَائِدِ:
12 -
التَّقْلِيدُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الأُْصُولِيِّينَ فِي الْعَقَائِدِ، كَوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَوُجُوبِ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَمَعْرِفَةِ صِدْقِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْعِلْمِ وَإِلَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، وَمَعْرِفَةِ أَدِلَّةِ ذَلِكَ. وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ التَّقْلِيدَ فِي الْعَقِيدَةِ بِمِثْل قَوْله تَعَالَى:{بَل قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (2)، وَلَمَّا نَزَل قَوْله تَعَالَى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْل وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُِولِي الأَْلْبَابِ} (3) قَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ. وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا (4) .
وَلأَِنَّ الْمُقَلِّدَ فِي ذَلِكَ يَجُوزُ الْخَطَأُ عَلَى مُقَلَّدِهِ،
(1) شرح مسلم الثبوت 1 / 10.
(2)
سورة الزخرف / 22.
(3)
سورة آل عمران / 190.
(4)
حديث: " لقد نزلت على الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها (إن في خلق السموات) الآية كلها. أخرجه ابن حبان (موارد الظمآن ص 140ط السلفية) .
وَيَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِي إِخْبَارِهِ، وَلَا يَكْفِي التَّعْوِيل فِي ذَلِكَ عَلَى سُكُونِ النَّفْسِ إِلَى صِدْقِ الْمُقَلَّدِ، إِذْ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ سُكُونِ أَنْفُسِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَلَّدُوا أَسْلَافَهُمْ وَسَكَنَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْل، فَعَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ (1) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الاِكْتِفَاءِ بِالتَّقْلِيدِ فِي الْعَقَائِدِ، وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى الظَّاهِرِيَّةِ (2) .
ثُمَّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ يُلْحَقُ بِالْعَقَائِدِ فِي هَذَا الأَْمْرِ كُل مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا تَقْلِيدَ فِيهِ؛ لأَِنَّ الْعِلْمَ بِهِ يَحْصُل بِالتَّوَاتُرِ وَالإِْجْمَاعِ، وَمِنْ ذَلِكَ الأَْخْذُ بِأَرْكَانِ الإِْسْلَامِ الْخَمْسَةِ.
ب -
حُكْمُ التَّقْلِيدِ فِي الْفُرُوعِ:
13 -
اخْتُلِفَ فِي التَّقْلِيدِ فِي الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الأَْوَّل: جَوَازُ التَّقْلِيدِ فِيهَا وَهُوَ رَأْيُ جُمْهُورِ الأُْصُولِيِّينَ (3)، قَالُوا: لأَِنَّ الْمُجْتَهِدَ فِيهَا إِمَّا مُصِيبٌ وَإِمَّا مُخْطِئٌ مُثَابٌ غَيْرُ آثِمٍ، فَجَازَ التَّقْلِيدُ فِيهَا، بَل وَجَبَ عَلَى الْعَامِّيِّ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ
(1) كشاف القناع 6 / 306، ومطالب أولي النهى 6 / 441، دمشق، المكتب الإسلامي.
(2)
إرشاد الفحول ص266.
(3)
روضة الناظر 2 / 451، 452، وإعلام الموقعين 4 / 187 ـ 201، وإرشاد الفحول ص 266.
مُكَلَّفٌ بِالْعَمَل بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الأَْدِلَّةِ عَلَيْهَا خَفَاءٌ يُحْوِجُ إِلَى النَّظَرِ وَالاِجْتِهَادِ، وَتَكْلِيفُ الْعَوَّامِ رُتْبَةَ الاِجْتِهَادِ يُؤَدِّي إِلَى انْقِطَاعِ الْحَرْثِ وَالنَّسْل، وَتَعْطِيل الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ، فَيُؤَدِّي إِلَى الْخَرَابِ، وَلأَِنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم كَانَ يُفْتِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُفْتُونَ غَيْرَهُمْ، وَلَا يَأْمُرُونَهُمْ بِنَيْل دَرَجَةِ الاِجْتِهَادِ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِسُؤَال الْعُلَمَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى:{فَاسْأَلُوا أَهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) .
الثَّانِي: إِنَّ التَّقْلِيدَ مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ. قَال بِذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنُ الْقَيِّمِ، وَالشَّوْكَانِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ التَّقْلِيدَ بِقَوْلِهِ:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (2) وَقَوْلِهِ {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} (3) وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الآْيَاتِ، وَإِنَّ الأَْئِمَّةَ قَدْ نَهَوْا عَنْ تَقْلِيدِهِمْ، قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لَا يَحِل لأَِحَدٍ أَنْ يَقُول بِقَوْلِنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْنَاهُ. وَقَال الْمُزَنِيُّ فِي أَوَّل مُخْتَصَرِهِ: اخْتَصَرْتُ هَذَا مِنْ عِلْمِ الشَّافِعِيِّ، وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ مَعَ إِعْلَامِهِ نَهْيَهُ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ لِيُنْظَرَ فِيهِ لِدِينِهِ وَيَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ وَقَال أَحْمَدُ: لَا تُقَلِّدْنِي، وَلَا تُقَلِّدْ مَالِكًا
(1) سورة النحل / 43.
(2)
سورة التوبة / 31.
(3)
سورة الأحزاب / 67.
وَلَا الثَّوْرِيَّ، وَلَا الأَْوْزَاعِيَّ، وَخُذْ مِنْ حَيْثُ أَخَذُوا (1) .
وَفِي بَعْضِ كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ أَنَّ التَّقْلِيدَ الَّذِي يَرَى امْتِنَاعَهُ هُوَ (اتِّخَاذُ أَقْوَال رَجُلٍ بِعَيْنِهِ بِمَنْزِلَةِ نُصُوصِ الشَّارِعِ لَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلٍ سِوَاهُ، بَل لَا إِلَى نُصُوصِ الشَّارِعِ، إِلَاّ إِذَا وَافَقَتْ نُصُوصَ قَوْلِهِ. قَال فَهَذَا هُوَ التَّقْلِيدُ الَّذِي أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ فِي دِينِ اللَّهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الأُْمَّةِ إِلَاّ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ)(2) .
وَأَثْبَتَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَالشَّوْكَانِيُّ فَوْقَ التَّقْلِيدِ مَرْتَبَةً أَقَل مِنَ الاِجْتِهَادِ، هِيَ مَرْتَبَةُ الاِتِّبَاعِ، وَحَقِيقَتُهَا الأَْخْذُ بِقَوْل الْغَيْرِ مَعَ مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِ، عَلَى حَدِّ مَا وَرَدَ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (لَا يَحِل لأَِحَدٍ أَنْ يَقُول مَقَالَتَنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْنَا)(3) . غَيْرَ أَنَّ التَّقْلِيدَ يَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَظْفَرِ الْعَالِمُ بِنَصٍّ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ
(1) إعلام الموقعين 4 / 187 - 201، 211، ومختصر المزني المطبوع مع الأم للشافعي ص1، وإرشاد الفحول ص 266.
(2)
إعلام الموقعين 4 / 236، 192.
(3)
إعلام الموقعين 4 / 260. ولعل الوجه في نهي الأئمة عن تقليدهم أنهم قالوه لتلامذتهم المؤهلين الذين لديهم القدرة على معرفة حجية الأدلة، ومدى صحتها، وعلى تفهم دلالاتها، فهؤلاء لا يصح منهم التقليد الصرف فيما يمكنهم فيه الرجوع إلى الأدلة، أما العامي الذي