الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَرَاجُعِ الْخِلَافَةِ عَنْ ذَلِكَ الْمَنْهَجِ، وَانْكَسَرَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ شَوْكَةُ الْمُعْتَزِلَةِ.
29 -
وَلَيْسَ لِلْعَالِمِ أَنْ يَنْطِقَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَهُوَ يَعْلَمُ، وَلَا رُخْصَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ عَلَى سَبِيل التَّقِيَّةِ مُطْلَقًا، إِنْ كَانَ السُّكُوتُ كَافِيًا لِنَجَاتِهِ، لِعَدَمِ تَحَقُّقِ شَرْطِ جَوَازِ التَّقِيَّةِ حِينَئِذٍ.
وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمَحْذُورِ أَيْضًا الْخَوْفُ مِنْ أَنْ يَخْفَى الْحَقُّ عَلَى الْجَاهِلِينَ أَوْ يَضْعُفَ إِيمَانُهُمْ وَيَحْجُمُوا عَنْ نَصْرِ حَقِّهِمُ اقْتِدَاءً بِمَنْ أَجَابَ تَقِيَّةً فَيَظُنُّوا جَوَابَهُ هُوَ الْجَوَابُ، وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْ مُرَادِهِ وَأَنَّهُ قَصَدَ التَّقِيَّةَ.
مَا يَنْبَغِي لِلآْخِذِ بِالتَّقِيَّةِ أَنْ يُرَاعِيَهُ:
يَنْبَغِي لِمَنْ يَأْخُذُ بِالتَّقِيَّةِ أَنْ يُلَاحِظَ أُمُورًا:
30 -
مِنْهَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مُخَلِّصٌ غَيْرُ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ، فَيَجِبُ أَنْ يَلْجَأَ إِلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُوَرِّيَ، كَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى شَتْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَرَّمَ وَشَرَّفَ، فَيَنْوِيَ مُحَمَّدًا آخَرَ فَإِنْ خَطَرَتْ بِبَالِهِ التَّوْرِيَةُ وَتَرَكَهَا لَمْ تَكُنِ التَّقِيَّةُ عُذْرًا لَهُ، وَيُعْتَبَرُ كَافِرًا (1) .
31 -
وَمِنْهَا: أَنْ يُلَاحِظَ عَدَمَ الاِنْسِيَاقِ مَعَ الرُّخْصَةِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَدِّ التَّقِيَّةِ إِلَى حَدِّ الاِنْحِلَال بِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ بَعْدَ انْقِضَاءِ
(1) المبسوط للسرخسي 24 / 130، 131، وينظر الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 368.
الضَّرُورَةِ، وَأَصْل ذَلِكَ مَا قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُضْطَرِّ {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) فُسِّرَ الْبَاغِي بِمَنْ أَكَل الْحَرَامَ وَهُوَ يَجِدُ الْحَلَال، وَفُسِّرَ الْعَادِي بِمَنْ أَكَل مِنَ الْحَرَامِ فَوْقَ مَا تَقْتَضِيهِ الضَّرُورَةُ.
وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ التَّقِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ قَال {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (2) فَحَذَّرَ تَعَالَى مِنْ نَفْسِهِ لِئَلَاّ يَغْتَرَّ الْمُتَّقِي وَيَتَمَادَى. ثُمَّ قَال فِي الآْيَةِ التَّالِيَةِ {قُل إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} (3) فَنَبَّهَ عَلَى عِلْمِهِ بِمَا يُضْمِرُهُ مُرْتَكِبُ الْحَرَامِ بِمُوَالَاةِ الْكُفَّارِ أَنَّهُ هَل يَفْعَلُهُ تَقِيَّةً أَوْ مُوَافَقَةً. قَال الرَّازِيُّ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنِ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَاسْتَثْنَى التَّقِيَّةَ فِي الظَّاهِرِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى أَنْ يَصِيرَ الْبَاطِنُ مُوَافِقًا لِلظَّاهِرِ فِي وَقْتِ التَّقِيَّةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ مَنْ أَقْدَمَ عِنْدَ التَّقِيَّةِ عَلَى إِظْهَارِ الْمُوَالَاةِ، فَقَدْ يَصِيرُ إِقْدَامُهُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْل بِحَسَبِ الظَّاهِرِ سَبَبًا لِحُصُول تِلْكَ الْمُوَالَاةِ فِي الْبَاطِنِ وَهَذَا الْوُقُوعُ فِي الْحَرَامِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ، الَّذِي أَوَّلُهُ التَّرَخُّصُ عَلَى سَبِيل التَّقِيَّةِ، وَآخِرُهُ
(1) سورة الأنعام / 145.
(2)
سورة آل عمران / 28.
(3)
سورة آل عمران / 29.
الرِّضَا بِالْكُفْرِ وَانْشِرَاحُ الصَّدْرِ بِهِ، هُوَ الْفِتْنَةُ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا بَقِيَّةُ الآْيَاتِ مِنْ سُورَةِ النَّحْل الَّتِي تَلَتْ آيَةَ الإِْكْرَاهِ. قَال تَعَالَى {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) وَفِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَل فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (2) قَال الطَّبَرِيُّ " مَعْنَاهُ إِذَا آذَاهُ الْمُشْرِكُونَ فِي إِقْرَارِهِ بِاَللَّهِ جَعَل فِتْنَةَ النَّاسِ إِيَّاهُ كَعَذَابِ اللَّهِ فِي الآْخِرَةِ فَارْتَدَّ عَنْ إِيمَانِهِ بِاَللَّهِ رَاجِعًا إِلَى الْكُفْرِ بِهِ ". قَال:" وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الآْيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْل الإِْيمَانِ كَانُوا بِمَكَّةَ، فَخَرَجُوا مِنْهَا مُهَاجِرِينَ فَأُدْرِكُوا وَأُخِذُوا فَأَعْطَوُا الْمُشْرِكِينَ لِمَا نَالَهُمْ أَذَاهُمْ مَا أَرَادُوهُ مِنْهُمْ (3) ". وَذَكَرَ غَيْرُ الطَّبَرِيِّ مِنْهُمْ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ أَخَا أَبِي جَهْلٍ لأُِمِّهِ، وَأَبَا جَنْدَل بْنِ سُهَيْل بْنِ عَمْرٍو وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَغَيْرَهُمْ ثُمَّ إِنَّهُمْ هَاجَرُوا فَنَزَل قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) .
32 -
وَمِنْهَا أَنْ يُلَاحِظَ النِّيَّةَ، فَيَنْوِيَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَل الْحَرَامَ لِلضَّرُورَةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ حَرَامٌ إِلَاّ أَنَّهُ
(1) سورة النحل / 110.
(2)
سورة العنكبوت / 10.
(3)
تفسير الطبري 20 - 132.
(4)
سورة النحل / 110.
يَأْخُذُ بِرُخْصَةِ اللَّهِ، فَإِنْ فَعَلَهُ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ سَهْلٌ وَلَا بَأْسَ بِهِ فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي الإِْثْمِ. وَهَذَا مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ آخِرُ الآْيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} (1) وَفِي الْحَدِيثِ دَخَل رَجُلٌ الْجَنَّةَ فِي ذُبَابٍ وَدَخَل النَّارَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ، قَالُوا: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَال مَرَّ رَجُلَانِ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ صَنَمٌ لَا يَجُوزُهُ أَحَدٌ حَتَّى يُقَرِّبَ لَهُ شَيْئًا، فَقَالُوا لأَِحَدِهِمَا: قَرِّبْ قَال: لَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ فَقَالُوا لَهُ قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا، فَقَرَّبَ ذُبَابًا فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ قَال: فَدَخَل النَّارَ، وَقَالُوا لِلآْخَرِ قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا قَال مَا كُنْتُ لأُِقَرِّبَ لأَِحَدٍ شَيْئًا دُونَ اللَّهِ عز وجل قَال: فَضَرَبُوا عُنُقَهُ قَال فَدَخَل الْجَنَّةَ (2) .
قَال فِي تَيْسِيرِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ: وَفِيهِ: أَنَّهُ دَخَل النَّارَ بِسَبَبٍ لَمْ يَقْصِدْهُ بَل فَعَلَهُ تَخَلُّصًا مِنْ شَرِّهِمْ.
وَفِيهِ: مَعْرِفَةُ قَدْرِ الشِّرْكِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ صَبَرَ عَلَى الْقَتْل وَلَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى طِلْبَتِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ لَمْ يَطْلُبُوا إِلَاّ الْعَمَل الظَّاهِرَ (3) .
(1) سورة النحل / 106.
(2)
حديث: " دخل رجل الجنة في ذباب. . . " أخرجه أحمد في الزهد (ص 15 ط دار الكتب العلمية) وأبو نعيم (الحليلة 1 / 203 ط السعادة) موقوفا على سلمان. ويرجع لشرح الحديث إلى كتاب " تيسير العزيز الحميد " للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب.
(3)
تيسير العزيز الحميد ص 162 نشر إدارات البحوث العلمية بالسعودية.