الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - الرقيق والجوارى والغناء
كان الرقيق منتشرا فى كل مكان، فى القصور وفى الأكواخ وفى الصناعات وفى الزراعة، وكان كثيرا كثرة مفرطة، فمنه السندى ومنه الإفريقى الزنجى والحبشى والسودانى ومنه التركى والصقلبى، ومنه الصينى والخراسانى والأرمنى والبربرى، وكأنما كانت تجتمع فيه كل الأجناس. ومع أن الإسلام قصر الرق على من يؤخذ فى الحرب أسيرا كافرا، فقد مضى المسلمون-محاكين شعوب العالم القديم- يفسحون للتجارة فيه وجلبه من البلاد الأجنبية، وكأنهم لم يستطيعوا أن يبطلوا هذه العادة عند الأمم المغلوبة كما كان منتظرا، بل لقد شاركوهم فيها. ولم تلبث تجارة الرقيق فى ديار الإسلام أن أصبحت ذات شأن عظيم، حتى ليبنى لها فى كل مدينة كبيرة سوق خاصة يقوم على مراقبتها موظف يسمّى قيّم الرقيق.
ويذكر اليعقوبى أن سوق سامرّاء فى القرن الثالث الهجرى كانت مربّعة، وبها طرق متشعبة، وفيها الخمر والغرف والحوانيت (1).
ومعروف أن الإسلام عمل على تحرير الرقيق بوسائل شتى، إذ جعله فداء لأعظم الجنايات مثل القتل خطأ وأخفها مثل الحنث فى اليمين، وأباح للعبد حق التملك وأن يكاتب صاحبه على جزء من المال يدّخره من العمل، حتى إذا وفّاه ردّت إليه حريته. واستطاع كثير من الأرقاء المحرّرين أن يصلوا إلى أعظم المناصب فى الدولة، وكان من هؤلاء الأرقاء من يتمتعون بجاه عظيم مثل قواد الترك طوال العصر، غير أن جمهورا كبيرا منهم كان يعامل معاملة سيئة، وخاصة الزنوج الذين كانوا يقومون بأعمال الحرث والزراعة فى البصرة، مما جعلهم يثورون لعصر المعتمد-كما مرّ بنا-ثورة عارمة. ولا ريب فى أن هذه المعاملة السيئة تخالف روح الإسلام مخالفة صريحة، لا من حيث استرقاق الناس بالشراء لا بالحرب فقط، بل أيضا من حيث أخذهم بالعنف والعسف والظلم، فقد دعا القرآن
(1) جغرافية اليعقوبى ص 59.
والحديث جميعا إلى الإحسان للأرقاء والبرّ بهم والمعاملة الكريمة على نحو ما يلقانا فى آية سورة النساء: {(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى} . . . {وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً)} ، وفى الحديث النبوى:«شر الناس من أكل وحده ومنع رفده (عطاءه) وضرب عبده» ، وفيه أيضا:
«العبيد إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم» ، وكانت الجارية بمجرد أن يستولدها سيدها تصبح أم ولده، وليس له حق بيعها، وابنها حر مثل أبيه، وبمجرد موت سيدها تصبح حرة. وفى مواضع كثيرة من القرآن والحديث نجد الدعوة قوية إلى تحرير العبيد، ولذلك كان كثيرا ما يوصى الرسول من ملوكهم بعتقهم بعد موتهم، ويروى أن المعتصم أوصى بعد موته بعتق ثمانية آلاف من مماليكه، ومثله كان يصنع الوزراء والكبراء من الأمة.
على كل حال كان الأرقاء كثيرين كثرة مفرطة، وكان أمم ما يقومون به فى المدن الخدمة، ويقول المسعودى إن الخدم كانوا عادة من السودان أو الصقالبة أو الروم أو الصين (1). ويبدو أن جمهورهم كانوا من الخصيان، ومع أن الإسلام حرّم الخصاء تحريما باتّا نجد الخصيان منتشرين فى العالم الإسلامى انتشارا واسعا. وكانوا يخصون خارج حدود الدولة الإسلامية: فى بيزنطة وأواسط آسيا، ثم يجلبون ويباعون فى أسواق الرقيق ببغداد وغير بغداد، ويتردّد ذكرهم كثيرا منذ أواخر القرن الثانى الهجرى. «وكانت انتشارهم باعثا على أن تلبس بعض الجوارى المسمّين بالغلاميات ملابسهم، وترتبط بذلك حادثة مشهورة فإن زبيدة أم الأمين حين رأته يستكثر من الخصيان اتخذت الجوارى المقدودات الحسان الوجوه، وعممت رءوسهن، وجعلت لهن الطرر والأصداغ والأقفية (صور من تجميل أوضاع الشعر على الرأس تشبها بالفتيان) وألبستهمنّ الأنبية والقراطق والمناطق (ملابس الفتيان) فماست قدودهن وبرزت أردافهن، وبعثت بهن إلى ابنها الأمين، فاختلفن بين يديه، فاستحسنهن، واجتذبن قلبه إليهن وأبرزهن للناس» (2) فقلّده كثير من أهل بغداد، وظل ذلك من بعده حتى عصر الخليفة القاهر المتوفى
(1) مروج الذهب 4/ 158.
(2)
مروج الذهب 4/ 226.
سنة 322 إذ يروى بعض الإخباريين أنه رأى فى قصره جوارى يلبسن القراطق والأقبية والطرر ومناطق الذهب والفضة (1).
وكثرة الخصيان هى التى هيّأت لظهور هؤلاء الغلاميات، ويكفى أن نذكر ما قاله المؤرخون من أنه كان فى قصر المقتدر أحد عشر ألف غلام خصىّ (2). ومنذ أواسط القرن الثالث أخذ الناس-احتراما لمن صارت إليهم مقاليد الأمور منهم، وخاصة من الترك-يسمون الخصىّ الخادم والأستاذ (3). ولم يكونوا يستطيعون التعرض للخصيان البيض خوفا من الترك وبطشهم، أما السود فكانت العامة تكثر من الصياح بهم: يا عقيق (4). ويروى المسعودى أن الخدم السود جأروا بالشكوى إلى المعتضد لما يلحقهم فى الأزقة والشوارع والدروب وسائر الطرق من الصغير والكبير من العوام إذ كانوا جميعا يصيحون بهم: «يا عقيق صبّ ماء واطرح دقيق يا غاق (صوت الغراب) يا طويل الساق» (5). وكان المضحكون الهزليون فى الطرق كثيرا ما يحاكون الخدم المختلفين وأصواتهم (6).
وكانت الإماء والجوارى فى الدور والقصور أكثر من الخصيان وأرقاء الرجال، إذ أباح الإسلام للمسلم أن يتملك ما شاء من الجوارى والإماء، وكثير من الرجال كانوا يفضلونهن على الخرائر، لأنهن كن من أجناس وأشكال مختلفة، ولم يكن بينهن وبين الرجال حوائل الحجاب مثل الحرائر اللائى يقترنون بهن وهم لا يعرفون من أمرهن شيئا، بخلاف الجارية فإنها كانت معرّضة لهم فى دور النخّاسين، فكانوا يختارونها بحسب مشيئتهم وموقعها فى أنفسهم، بخلاف الحرائر فقد كان الحجاب يحول بينهم وبين التعرف عليهن، وكانوا يضطرّون لاتخاذ دلاّلات يصفونهن لهم، وقلما يتطابق الوصف مع الحقيقة. وكان بين الجوارى المعروضات للبيع دائما كثير من الفاتنات الفارسيات والخراسانيات والأرمنيات والتركيات والروميات، فكنّ يستأثرن بقلوب الرجال. ومن أجل ذلك لم يكونوا يعددون زوجاتهم، فقد كفاهم اتخاذ الجوارى والإماء هذا التعدد، وأكبّوا عليه إكبابا.
(1) مروج الذهب 4/ 227.
(2)
النجوم الزاهرة 3/ 234.
(3)
مروج الذهب 4/ 178، 180.
(4)
طبرى 10/ 53.
(5)
مروج الذهب 4/ 171.
(6)
مروج الذهب 4/ 163، 164.
وكان إمامهم فى ذلك الخلفاء فإنهم أكثروا من الجوارى كثرة مفرطة، حتى ليروى أنه كان لدى المتوكل منهن أربعة آلاف جارية (1)، وهى رواية مبالغ فيها، غير أنها تدل على ما ثبت لدى الناس من كثرة جواريه، ويقال إنه لما أفضت إليه الخلافة أهداه عبيد الله بن طاهر هدية فيها مائتا وصيف ووصيفة، وكان فى الهدية محبوبة (2). وكانت شاعرة مغنية فوقعت عنده أعظم موقع واقترن بها، ووفت له بعد موته وفاء منقطع النظير. وظلت هذه السبول تتدافع إلى قصر الخلافة طوال العصر من كل قطر، ويروى أن زيادة الله بن الأغلب أهدى المكتفى حين ولى الخلافة مائة وخمسين جارية (3). ولعلنا لا نعجب بعد ذلك إذا عرفنا أن أمهات الخلفاء فى العصر كنّ من الجوارى، وخاصة جوارى الترك والروم، وكنّ يتدخلن فى شئون الحكم، فكل جارية تحاول أن تقيم فى المناصب العليا أقرباءها والمقربين منها، على نحو ما كانت تصنع أم المقتدر بأخرة من العصر، حتى فسد الحكم لعهده فسادا لا يمكن إصلاحه، وفسحت لأخيها الرومى المسمى غريبا فى النفوذ والسلطان، فزاد الطين بلة، وزاد بلة ثانية بما أتاحت لقهرمانتها أم موسى من إسنادها نقابة بنى هاشم لأخيها، وأتاحت لقهرمانتها الثانية ثمل-كما مر بنا فى غير هذا الموضع-أن تقعد فى الرصافة كل يوم جمعة للنظر فى المظالم.
وكانت الجارية الجميلة تباع بألف دينار وأكثر، وكان الناس يغدون ويروحون إلى سوق الرقيق ودور النخاسين يتفرّجون على الوافدات الجديدات من الجوارى الفاتنات، وكان النخاسون يجمعون منهن كثيرات، حتى لقد كانت رءوس أموالهم تبلغ الألوف، ويقول ابن المعتز عن نخّاس منهم يسمى أحمد بن الحارث إنه كان يجتمع أحيانا عنده من الرقيق ما يبلغ مائة ألف دينار (4)، ويذكر أبو الفرج الأصبهانى عن نخاس يسمى أبا عمير أنه كان له جوار لهن ظرف وأدب، وكان ابن البواب الشاعر يألف جارية منهن يقال لها عبادة ويكثر غشيان منزل أبى عمير من أجلها فأصابه ضيق شديد، فانقطع عن زيارتها ثم نازعته نفسه إلى
(1) مروج الذهب 4/ 40.
(2)
أغانى (ساسى) 19/ 132 ونساء الخلفاء لابن الساعى ص 92.
(3)
مروج الذهب 4/ 200.
(4)
طبقات الشعراء لابن المعتز (طبع دار المعارف) ص 426.
لقائها وصعب عليه الصبر عنها، فأتى عبادة، ووجد الجارية ورفاقه يعاتبونه على تأخره عنهم وعن صاحبته، ولم يلبث أن أنشأ يقول:
لو تشكّى أبو عمير قليلا
…
لأتيناه من طريق العياده
فقضينا من العيادة حقّا
…
ونظرنا فى مقلتى عباده
فقال أبو عمير: مالى ولك يا أخى، انظر فى مقلتى عبادة متى شئت غير ممنوع، ودعنى أنا فى عافية لا تتمنّ لى المرض لتعودنى (1). وواضح من امتناع ابن البواب عن زيارة أبى عمير حين ألمت به ضيقة أن الشعراء وغيرهم حين كانوا يختلفون إلى دور النخاسين كانوا يحملون معهم كثيرا من الهدايا للنخاسين وجواريهم، مما كان يكلفهم أموالا كثيرة، وإلى ذلك يشير الجاحظ فى رسالته عن القيان إذ يذكر عن النخاس «أن من فضائله أن الناس يقصدونه بالرغبة كما يقصد بها الخلفاء والعظماء فيزار ولا يكلّف الزيارة، ويوصل ولا يحمل على الصلة، ويهدى إليه ولا تقضى منه الهدية» (2) ويصور الجاحظ تفنن الجارية فى اللعب بألباب الرجال، إذ لا تزال تنصب أشراكها باللحظ والبسم وإظهار الشوق إلى طول مكث من يختلف إليها والحزن لفراقه والصبابة لسرعة عودته، فإذا أحسّت أنه وقع فى الشّرك أوهمته أنها تعلّقت به وأنه شجوها فى فكرها وضميرها وليلها ونهارها وأنها لا تريد سواه ولا تؤثر أحدا على هواه وأنها لا تبتغيه لماله وهداياه وإنما لنفسه، ثم جمّشته بعضوض تفاحها ونحيات من ريحانها وزوّدته بخصلة من شعرها وقطعة من ثيابها، يقول الجاحظ وربما زارته فى بيته وأمكنته من القبلة فما فوقها. لذلك لا نعجب حين نراهن يسعرن قلوب الشعراء، وحين نرى الشعراء عاكفين عليهن وقد بذلن لهن كل ما استطاعوا من هدايا وتحف وطرف نفيسة، وفى ذلك يقول على بن الجهم متحدثا عن جوارى نخّاس يسمى المفضل وابتزازهن وابتزاز صاحبهن أموال من يزورونهن (3):
أوانس ما فيهنّ للضيف حشمة
…
ولا ربّهن بالمهيب المبجّل
(1) أغانى (ساسى) 20/ 43.
(2)
رسائل الجاحظ نشر فنكل ص 73.
(3)
ديوان ابن الجهم (نشر المجمع العلمى العربى بدمشق) ص 52.
يسر إذا ما الضّيف قلّ حياؤه
…
ويغفل عنه وهو غير مغفّل
ولا يدفع الأيدى السفيهة غيرة
…
إذا نال حظّا من لبوس ومأكل
لك البيت ما دامت هداياك جمّة
…
ودمت مليّا بالشراب المعسّل
وكأن دار النخاس تعد «بارا» كبيرا وجواريه ما يزلن يختلفن إلى روّاده.
وكان كثيرات منهن مثقفات بفنون الآداب، فكن يجذبن الرجال والشباب والشعراء بجمالهن وعذوبة حديثهن، بل كان منهن كثيرات يحسنّ نظم الشعر مثل فضل الشاعرة ومثل محبوبة جارية المتوكل.
ولم يكن المجتمع العباسى يعنى بفن كما كان يعنى بالغناء والموسيقى، ويتضح ذلك من كثرة الكتب المترجمة منذ مطالع العصر فى الفن الموسيقى على نحو ما يتضح فى أوائل ترجمة إسحق الموصلى فى كتاب الأغانى وكذلك ما ساقه منها كتاب الفهرست لابن النديم، ولم يلبث العرب أن شاركوا مشاركة قوية فى هذا التأليف منذ الخليل بن أحمد صاحب العروض المتوفى سنة 170 للهجرة. ويتكاثر هذا التأليف فى القرن الثالث، وخاصة فى بيئة المتفلسفة مثل الكندى وله فى الموسيقى كتب مختلفة (1)، وكذلك لتلميذه (2) أبى الطيب السرخسى ولقسطا (3) بن لوقا البعلبكى، فلكل هؤلاء مؤلفات فى الموسيقى أحصاها ابن النديم فى فهرسته.
وخلف من بعدهم الفارابى بأخرة من العصر فأربى على كل سالف وخالف من اليونان والعرب جميعا على نحو ما يتضح فى مصنّفه كتاب الموسيقى الكبير، وقد استطاع أن يدخل تحسينات على آلة القانون الإغريقية. وعلى نحو ما يسوق ابن النديم كتب المتفلسفة فى الموسيقى يسوق كتب المغنين فيها وفى الغناء والمغنين والمغنيات، ولإسحق الموصلى فى ذلك نشاط واسع، ومن أشهر من خلفوه فى القرن الثالث على التأليف فى هذا الفن بذل (4)، وكان لها كتاب فى الأغانى يشتمل على اثنى عشر ألف صوت، ودنانير البرمكية ويقول أبو الفرج لها كتاب مجرد فى الأغانى مشهور (5)، وممن ذكرهم ابن النديم النّصبى وله كتاب فى الأغانى ألفه
(1) الفهرست ص 373.
(2)
الفهرست 219، 380.
(3)
الفهرست ص 424.
(4)
الأغانى (ساسى) 15/ 138.
(5)
الأغانى (ساسى) 16/ 131.
على حروف المعجم للمتوكل (1).
ومنهم جحظة وله كتاب فى الطّنبوريين (2)، ويذكر أبو الفرج أن لعمرو بن بانة كتابا فى الأغانى يعدّ من الأصول المهمة فيها (3)، كما يذكر أنه كان لأحمد ابن يحيى المكى كتاب سماه المجرد فى الأغانى كان يحتوى على أربعة عشر ألف صوت (4)، وكان لمحمد بن على بن أمية المعروف باسم أبى حشيشة كتاب فى أخبار الطنبوريين (5). وعمل فى هذا العصر كثير من المغنين على تحسين آلات الغناء وتغذيته بالألحان الأجنبية، وخاصة أن كثرتهم كانت من الموالى فرسا وغير فرس، بل إن منهم من اخترع بعض الآلات مثل زنام الزامر، فقد اخترع نايا نسب إليه، فقيل ناى زنامىّ (6). ومما يدل على ما كان للغناء حينئذ من سمو المنزلة أننا نجد طائفة من الخلفاء والأمراء وكبار رجال الدولة تشارك فى وضع أصواته مثل المنتصر (7) والمعتز (8) والمعتمد (9) وابن المعتز (10) وعبيد (11) الله بن عبد الله بن طاهر، واشتهر بأنه كان يستطيع أن يجمع ألحانا كثيرة فى صوت واحد، وكانت له كتب فى النغم وعلل الأغانى.
وكانت تتقابل فى الغناء حينئذ مدرستان: مدرسة محافظة تتمسك بالأصول والأوضاع الموروثة ويمثلها إسحق الموصلى، ومدرسة مجددة لا تزال تضيف إلى التراث الفنى فى الغناء أصواتا وأنغاما وألحانا ويمثلها إبراهيم بن المهدى، ويحكى أبو الفرج بعض وجوه الخلاف بينه وبين إسحق، فيقول إنهما كانا يختلفان فى مدلول بعض المصطلحات، فما كان يسميه إسحق ثقيلا أولا وخفيفه كان يسميه إبراهيم بن المهدى ثقيلا ثانيا وخفيفه، وما كان يسميه إسحق ثقيلا ثانيا وخفيفه كان يسميه إبراهيم بن المهدى ثقيلا أولا وخفيفه، ويقول أبو الفرج: «وأما التجزئة والقسمة فإنهما أفنيا أعمارهما فى تنازعهما فيهما، حتى كان يمضى لهما
(1) الفهرست ص 214.
(2)
الفهرست ص 214.
(3)
أغانى (دار الكتب) 15/ 269
(4)
أغانى 16/ 311.
(5)
الفهرست ص 214.
(6)
تاج العروس للزبيدى 8/ 330.
(7)
أغانى (دار الكتب) 9/ 309 وانظر فى أصوات أخيه أبى عيسى الأغانى 10/ 201.
(8)
أغانى 9/ 205.
(9)
أغانى 9/ 323.
(10)
أغانى 10/ 277.
(11)
أغانى 9/ 40 وما بعدها.
الزمان الطويل لا تنقطع مناظرتهما ومكاتبتهما فى قسمة وتجزئة صوت واحد (1)».
وقد توزّعا المغنين والمغنيات فى القرن الثالث، فكان من ينكر تغيير الغناء القديم يأخذ بمذهب إسحق، ومن رأى التجديد والتغيير فى الألحان يأخذ بمذهب ابن المهدى. ونستطيع أن نعين أهم من تعصبوا لهذا أو ذاك، فمن كان يتعصب لإسحق من المغنين المشهورين فى هذا العصر أحمد بن يحيى المكى، وله ترجمة (2) فى كتاب الأغانى وكان إسحق يقدمه ويؤثره، ولحق عصر المستعين، وكان ابنه محمد يحذق الغناء على شاكلته ولحق عصر المعتمد. وممن كان ينهج منهج إسحق بنان، وكان أخصّ الناس بالمتوكل والمنتصر، وكان إذا اجتمع هو وزنام الزامر على الضرب بالعود والزمر أحسنا وفتنا وأعجبا. ومنهم أيضا عبد الله (3) بن أبى العلاء، وقد عمّر إلى آخر أيام المعتصد وكانت تقوّم دابّته وثيابه إذا ركب بألف دينار، وابنه أحمد كان من المغنين النابهين. وممن كان على نهج إسحق أيضا القاسم بن زرزور وولده وجوارى آل هاشم وآل الفضل بن الربيع ومن جرى مجراهم ممن تمسّك بالغناء القديم وحمله كما سمعه (4). وممن كان على مثاله أيضا الزّبير بن دحمان، وكان متعصبا لإسحق، فى حين كان أخوه عبد الله يتعصب لابن المهدى، فكان كل منهما يرفع من صاحبه ويشيد بذكره، يقول أبو الفرج:«فعلا الزبير بتقديم إسحق له» لجلالته عند الناس وتمكنه منهم وقبولهم منه (5)، وكأن أنصار إسحق كانوا أكثر نفرا إذ كان الذوق العام يميل إلى المحافظة أكثر مما يميل إلى التجديد، ولم يكن ذلك شيئا خاصّا بالغناء، بل كان عامّا فيه وفى الشعراء، فقد كان الشعراء والمغنون جميعا يستمسكون بالتقاليد الموروثة. وممن كان ينزع منزع إبراهيم بن المهدى ورغباته فى التجديد بالغناء عمرو بن بانه، المنسوب إلى أمه، وكان المتوكل أنيسا به، ونال منه جوائز كثيرة «وكان يذهب مذهب إبراهيم بن المهدى فى الغناء وتجنيسه ويخالف إسحق ويتعصب عليه تعصبا شديدا ويواجهه بذلك وينصر إبراهيم بن المهدى عليه» (6). ويقول أبو الفرج إنه علّم الغناء عشرة من الغلمان، وطال عمره حتى سنة 278 وكان يشاركه فى مذهبه محمد بن الحارث بن بسخنّر،
(1) أغانى 10/ 96 وما بعدها.
(2)
أغانى 16/ 311.
(3)
أغانى ساسى 20/ 114.
(4)
أغانى (دار الكتب) 10/ 70.
(5)
أغانى (ساسى) 20/ 144.
(6)
أغانى (دار الكتب) 15/ 269.
وكان من المتعصبين على إسحق، ويقول أبو الفرج:«أخذ الغناء عن إبراهيم بن المهدى ومن بحره استقى» ، وكان يغنّى على المعزفة فنقله ابن المهدى إلى العود وواظب عليه حتى حذقه (1)، وكان الخلفاء يسكبون عليه أموالهم سكبا، وخرّج كثيرات من الجوارى اللائى برعن فى الغناء.
وعلى نحو ما كان المغنون حزبين: حزبا يتبع إسحق الموصلى وحزبا يتبع إبراهيم بن المهدى كذلك كانت المغنيات، وممن كان يأخذ منهن بمذهب إسحق عريب وجواريها من أمثال تحفة الزمارة وبدعة، وترجم أبو الفرج ترجمة ضافية لها (2) ذكر فى صدرها أنها كانت نهاية فى الجمال والظّرف وحسن الصوت وجودة الضرب وإتقان الصنعة والمعرفة بالنغم والألحان ورواية الأشعار، اشتراها الأمين من مولاها المراكبى وكان عمرها سبعة عشر عاما ونظمها فى جواريه الغلاميات، واشتراها المأمون بعده بخمسين ألف درهم، ثم اشتراها المعتصم بمائة ألف وأعتقها فهى مولاته، وظلت تغنّى طوال حياتها وماتت عن سن عالية سنة 277 لعهد المعتمد، وقد أمر على بن يحيى المنجم أن يجمع غناءها الذى صنعته فأخذ منها دفاترها وصحفها التى كانت سجّلت فيها أصواتها، وكتب ذلك كله فكان ألف صوت بارع، واشتهرت جاريتها بدعة (3) بالغناء وإتقانه على طريقة الموصلى، وعاشت حتى سنة 302. وحاول بعض أعيان بغداد شراءها فطلب إلى على بن يحيى المنجم أن يفاوض عريب فى شرائها بمائة ألف دينار، وجعل له عشرين ألفا، ورفضت بدعة فأعتقتها عريب، ويقال إنها خلفت مالا كثيرا وجوهرا وضياعا وعقارات.
أما اللائى كن يتعصبن لإبراهيم بن المهدى فعلى رأسهن شارية (4) جاريته، وكان قد اشتراها بثمانية آلاف درهم، حتى إذا خرّجها وذاع صيتها عرض عليه المعتصم فيها سبعين ألف دينار، فأبى أن يبيعها له ضنّا بها، واشتراها المعتصم بعد ذلك من تركته بخمسة آلاف وخمسمائة دينار. وكان المعتز يأنس لغنائها، وطالت حياتها حتى لحقت المعتمد، وكان يأبى أن يلحّن له أشعاره سواها وسوى عريب، وأمر لها ذات مرة وقد غنته صوتا بألف ثوب من الثياب الأنيقة. ومن جواريها اللائى
(1) أغانى (ساسى) 20/ 82.
(2)
أغانى 18/ 175 وما بعدها.
(3)
أغانى 19/ 125 وعريب 38 والطبرى. 10/ 150 والهمدانى ص 15.
(4)
أغانى (دار الكتب) 16/ 3 وما بعدها.
اشتهرن بالغناء على طريقتها وطريقة ابن المهدى: مهرجان ومطرب وقمرية وشرّة وقد اشتراها المعتمد بعشرة آلاف دينار
وممن كنّ يحسنّ الغناء فريدة (1) زوجة المتوكل وجاريته محبوبة (2) وقلم (3) الصالحية وشاجى (4) جارية عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وقد نسب إليها كل ما صنعه من الغناء والأصوات. وكانت هناك جماعة كبيرة اشتهرت بالغناء على الطنبور فى مقدمتها أبو حشيشة (5) الطنبورى الذى عاش إلى عصر المعتمد، وسليمان (6) بن القصار الطنبورى، وكان المعتز أنيسا به، ويقال إنه غناه يوما صوتا فأعطاه مائة دينار مكيّة ومائتين مما ضرب لخزانته، وجحظة البرمكى وله ترجمة طويلة فى معجم الأدباء، وعمر (7) الميدانى ولم يكن فى الطنبوريين أصح غناء وأكثر تصرفا منه، وعبيدة (8) الطنبورية، وكانت تتقن الضرب على الطنبور إتقانا بعيدا. وكثيرا ما كان يأخذ الغناء شكل جوقة، وكانت آلات الغناء عادة أربعا هى العود والجنك والقانون والمزمار، وقد يوضع مكان القانون الطنبور (9).
وكثيرا أيضا ما كان يقترن الغناء بالرقص، وفى مروج الذهب للمسعودى فصل (10) طريف يوضح صلته بالغناء والموسيقى وما كانت ترتفع به الحناجر من أشعار، وفيه تسمّى أنواع الرقص وفنونه بأسماء أوزان الشعر من مثل الخفيف والرمل والهزج، وبالمثل كانوا يقيسون الغناء، مما يدل أقوى الدلالة على الصلة الوثيقة بين الفنون الأربعة: الغناء والموسيقى والرقص والشعر.
وكان للجوارى فى هذا الجو المشبع بالموسيقى والغناء أثر كبير فى شيوع الظّرف والرقة واللطف، إذ دفعوا الشباب والشيوخ إلى تمثل كثير من العواطف والمشاعر التى تملأ قلوبهم لينا وبرّا وعطفا وودّا، وقد خلبوا ألبابهم بحديثهن الساحر الذى يصب فى القلوب تارة رحيقا وتارة حريقا، حديث العشق وما يشيع فيه من
(1) أغانى 4/ 114.
(2)
أغانى (ساسى) 19/ 132.
(3)
أغانى (دار الكتب) 13/ 347.
(4)
أغانى (ساسى) 8/ 42 ونشوار المحاضرة 1/ 63 والديارات ص 111 وما بعدها.
(5)
تاريخ بغداد للخطيب البغدادى 3/ 57 والفهرست ص 214.
(6)
أغانى (دار الكتب) 14/.
(7)
أغانى (ساسى) 20/ 66.
(8)
أغانى 19/ 134.
(9)
التنوخى على المطرف؟ ؟ ؟ 2/
(10)
مروج الذهب 4/ 137.
العواطف والمواجد ونور الأمل وظلام اليأس وما قد يتحول إليه من حب مادى كثير الشباك: شباك التضرع والأمل والطلب، وحبّ أفلاطونى نقى كثير الحجب:
حجب الطّهر واليأس والبراءة، مما جعل الشعر يكتظ بمعانى الرقة واللطف المفرطين كما يكتظ بالظرف حتى ليصبح للظرفاء تقاليد خاصة فى الزى والنظر وتناول الطعام والشراب، وقد أفرد لها الوشاء فصلا خاصّا فى كتابه «الموشى» يدل على رقة الحسّ أوسع دلالة. ونستطيع أن ندخل فى فنون الظرف التى أشاعها الجوارى حينئذ إعجابهن بالأزهار وتعلقهن بها وشغف كثيرات منهن بكل زهر وريحان، حتى لتلحق بالقصور حدائق كثيرة ويقام كثير من البساتين. وألهمت الأزهار الشعراء بكثير من الأشعار، حتى ليصبح وصف الطبيعة بابا مهمّا من أبواب الشعر، وليس ذلك فحسب، فقد أحس الشعراء فى الأزهار معانى السلوى فى الحب والوصل ودنوه واتصاله وانقطاعه، إلى غير ذلك من معان لا تحصى، كأن يحس شاعر فى معنى الورد الخجل لاحمراره ويحس آخر انقطاع الوصل لسرعة ذبوله، أو يحس شخص فى البنفسج عودة الوصل ورجوعه. وكانوا يتهادون بالأزهار والرياحين دالين بها على أمثال تلك المعانى، كما كان يحيّى بها بعضهم بعضا، وكثرت التحية عندهم بالتفاح، وكانت الجارية تترك على التفاحة أثر أخذها بفمها، وقد تشققها بالمسك أو بالغالية أو بغيرهما من أنواع الطيب، وقد تكتب عليها بيتا أو بيتين تدل بهما على اللوعة، ويقول ابن المعتز (1):
وآثار وصل فى هواك حفظتها
…
تحبّات ريحان وعضّات تفّاح
وكن يكتبن أبيات الحب الرقيقة على الثياب والأكمام والقلانس والعصابات والطرر والذوائب والمناديل والبسط والوسائد والأسرة (2)، ويروى أن عريب كانت تلبس قميصا موشحا بالذهب، كتب فى وشاحه:
وإنى لأهواه مسيئا ومحسنا
…
وأقضى على قلبى له بالذى يقضى
فحتّى متى روح الرّضا لا ينالنى
…
وحتى متى أيام سخطك لا تمضى
(1) الديوان ص 139.
(2)
انظر الموشى الوشاء والعقد الفريد (طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر) 6/ 425 وما بعدها.