الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان حريّا بصاحب الأغانى أو قل بمعاصريهما أن يحتفظوا للأجيال التالية بهذه الرسائل التى اتصلت بينهما. ولكنهم لم يحتفظوا منها إلا بالقليل مع أنها تعد من طرائف الشعر العباسى. ويقال إنه بلغها أنه واصل جارية من جوارى مقيان وملأت قلبه فتونا. فكتبت إليه غاضبة ساخطة:
يا عالى السّنّ سيّئ الأدب
…
شبت وأنت الغلام فى الأدب
ويحك إن القيان كالشّرك ال
…
منصوب بين الغرور والعطب
لا يتصدّين للفقير ولا
…
يتبعن إلا مواضع الذهب
فالجارية لا تحبه لشخصه وإنما تحبه لذهبه ودنانيره، وكأنها تريد أن تقطع أوصال هذه العلاقة الناشئة. حتى لا يعود إلى التفكير فى تلك الجارية أبدا. ويقال إنها كانت فى الغاية والنهاية من التشيع. فلما هويت سعيدا انتقلت إلى مذهبه من الاخراف عن آل الرسول عليه السلام. وكانت منذ مقتل المتوكل تمر بها أوقات حزينة تشعر فيها بالبؤس فكانت تنفّس عن نفسها بمثل قولها:
إن الزمان بذحل كان يطلبنا
…
ما كان أغفلنا عنه وأسهانا (1)
مالى وللدهر قد أصبحت همّته
…
ما لى وللدهر، ما للدهر، لا كانا
والبيتان رائعان، ويدلان كما تدل الأبيات السابقة على نبع شعرى غزير.
واختلف فى زمن وفاتها، فقيل سنة 258 وقيل سنة 260، ويقال إن سعيد بن حميد كان يقول بعد موتها: ما رسائلى المدوّنة عند الناس إلا من إنشائها تجلّة لها ولأدبها وملكتها الشعرية.
2 - شعراء اللهو والمجون
ظل كثيرون من الشعراء ينغمسون فى اللهو والمجون كما انغمس أسلافهم فى العصر الماضى. وكان بعض هذا الانغماس يرجع إلى تحلل فى الأخلاق، وبعضه يرجع إلى الهروب من الحياة والتخفف من أعبائها الثقيلة، وساعد على ذلك اختلال فى الموازين
(1) ذحل: ثأر
وفساد فى القيم شاعا فى حياة الدولة وفى حياة الناس. وكان الشك يتسلط على نفوس كثيرين وتتسلط معه ألوان الإلحاد والزندقة، وكان الكرخ مليئا بالحانات وبدور النخاسين، والشعراء المجّان يغدون ويروحون ليل نهار، وبعض الجوارى لم يكنّ يعرفن حشمة ولا وقارا إنما كنّ يعرفن اللهو والابتذال. وكانت هناك الديارات متناثرة حول بغداد وعلى طول الطرق إلى البصرة والكوفة جنوبا والموصل شمالا، وكانت مفتوحة الأبواب للشعراء دائما لا فى الأعياد المسيحية فحسب.
بل طوال العام، فهم يلمّون بها ويتناولون الخمر منها، وقد يعكفون على الشرب فيها أياما متصلة. وكل ذلك عمل على أن يكثر بين الشعراء أصحاب الخلاعة والمجون فى أسوأ صورهما، حتى لنجد كثيرين يتغزلون غزلا شاذّا بالغلمان، وصمة ظلت فى هذا العصر كما كانت فى العصر الماضى، وكثير من هذا الغزل كان ينظم فى أثناء السكر وشرب الخمر، للضحك والفكاهة، ولكن تبقى بقايا وراء ذلك تصوّر الفساد الخلقى فى أبشع صوره. وحقا لا نجد خليفة تورط فى حب غلام، ولكن أيضا كان كثيرون منهم يعكفون على الملاهى والملذات، وكانت قصورهم تطفح بجماعات المجان فى صورة ندماء ومضحكين، وأكثرهم كانوا مجّانا محترفين. وفى كل مكان نلتقى بهذه الجماعات أو العصابات، وكانوا يتعاشرون ويترافقون تارة فى الديارات وتارة فى دور النخاسين أو فى الحانات أو فى بيوتهم، ومن أهمهم جماعة أو عصابة أبى هفان ومحمد بن الفضل ومحمد بن مكرم وأبى على البصير وأبى العيناء، وفيهم يقول المرزبانى: كانوا يتعاشرون وكانوا شياطين العسكر فى الظرف والمجون (1)، ومنهم جماعة أبى السفاح الأنصارى وعبد الله بن رضا وإسماعيل بن يوسف، وقد تعاهدوا ألا يقولوا شعرا إلا فى صفة الخمر. ويقول ابن المعتز إنهم ظلوا على ذلك إلى أن ماتوا (2). وكان لشيوع مجالس الخمر حينئذ أثرها فى ظهور كتابات كثيرة عن آداب المنادمة والنديم، ومما اشترطوه لها قلة الخلاف والمعاملة بالإنصاف والمسامحة فى الشراب والتغافل عن رد الجواب وإدمان الرضا واطّراح ما مضى وإسقاط التكليف وستر العيب وحفظ الغيب. ونعرض لبعض هؤلاء الشياطين وخمرياتهم فمنهم أبو العيناء الضرير. وكان ظريفا لسنا سريع الجواب، واتخذه
(1) معجم الشعراء ص 398.
(2)
طبقات الشعراء لابن المعتز ص 339.
المتوكل فى ندمائه. وكان ينزل مع رفاقه الأديرة ويستطيب خمرها المعتقة، وقد يبقى فيها أياما لا يفيق من سكره، وله فى دير باشهرا، وكان بين سامرّاء وبغداد قوله (1):
نزلنا دير باشهرا
…
على قسّيسه ظهرا
وسقّانا وروّانا
…
من الصّافية العذرا
وطاب الوقت فى الدّير
…
فرابطنا به عشرا
ونلنا كلّ ما نهوا
…
هـ من لذّاتنا جهرا
ومن كبار الشياطين فى العصر مصعب الوراق. وكان من أشد المجان تهتكا وأكثرهم خلاعة وتطرحا فى الحانات والديارات، وكثيرا ما كان يلم بدير الزعفران من ديارات الموصل، وفيه يقول (2):
عمرت بقاع دير الزّعفران
…
بفتيان غطارفة هجان (3)
بكل فتى يحنّ إلى التصابى
…
ويهوى شرب عاتقة الدّنان
بكل فتى يميل إلى الملاهى
…
وأصوات المثالث والمثانى (4)
ظللنا نعمل الكاسات فيه
…
على روض كنقش الخسروانى
وأغصان تميل بها ثمار
…
قريبات من الجانى دوانى
وممن كانوا يتورطون حينئذ فى الخمر وآثامها أبو عثمان الناجم راوية ابن الرومى.
إذ روى عنه أكثر شعره وكان يلزمه ولا يكاد يفارقه، وله كثير من المعانى الدقيقة فى الخمر وغير الخمر، وكأنما كان يتأثر بأستاذه، وفيها يقول (5):
مشمولة كشعاع الشمس فى قدح
…
مثل السّراب يرى من رقّة شبحا
إذا تعاطيتها لم تدر من لطف
…
راحا بلا قدح عاطتك أم قدحا
وكثيرا ما كان يلمّ بدير الخوات، وهو دير كبير شمالى سامرّاء وسط البساتين والكروم، وكانت تسكنه نساء مترهبات، وكان من منازل القصف ومواطن اللهو،
(1) الديارات للشابشىّ ص 80.
(2)
الديارات ص 192.
(3)
غطارفة هجان: سادة كرام.
(4)
المثالث والمثانى: من أوتار العود
(5)
المختار من شعر بشار ص 127 وانظر الديارات ص 93
وذكره كثيرا فى أشعاره. ومثله دير العذارى وكان قريبا من بغداد، وواضح من اسمه أنه كان ينزله جوار متبتلات عذارى، ونزل به عبيد الله بن عبد الله بن طاهر حاكم بغداد، فأقام به يومين واستطابه وشرب فيه، وله مقطوعة يصوّر فيها ما لعتد حول الدّير من بساتين فاتنة وعكوفه على الشرب فيه بمثل قوله (1):
ورياض كأنهن برود
…
كلّ يوم لهن صبغ جديد
وكأن الشّقيق فيها عشيق
…
وكأن البهار صبّ عميد (2)
وكأن الثمار والورق الخض
…
ر ثياب من تحتهن نهود
فاسقنيها راحا تريح من اله
…
مّ وتبدى سرورنا وتعيد
وانتهز فرصة اللذاذات فى دي
…
ر العذارى فعلّها لا تعود
وكان كثيرون لا يغلون فى المجون ولا يغرقون فى اللذات، وإنما يلمون بالخمر من حين إلى حين. وقد يكون فى حياتهم ما دفعهم إلى ذلك، إما سخط شديد على الحياة السياسية، وإما شك واستهانة بكل شئ، وإما محنة نزلت بهم أو إحساس بضرب من ضروب الإخفاق. وبذلك نستطيع أن نعلل إقبال بعض المتكلمين على تناولها أحيانا أو قل بعبارة أدق على وصفها، إذ ربما وصفوها مجاراة للشعراء فى عصرهم، على نحو ما نجد عند أبى العباس الناشئ إذ يقول (3):
ومدامة يخفى النهار لنورها
…
وتذلّ أكناف الدّجى لضيائها
صبّت فأحدق نورها بزجاجها
…
فكأنها جعلت إناء إنائها
وتكاد إن مزجت لرقّة لونها
…
تمتاز عند مزاجها من مائها
صفراء تضحى الشمس إن قيست بها
…
فى ضوئها كالليل فى أضوائها
وإذا تصفحت الهواء رأيته
…
كدر الأديمة عند حسن صفائها
لا شئ أعجب من تولّد برئها
…
من سقمها ودوائها من دائها
(1) الديارات ص 109.
(2)
الشقيق: ورد أحمر. والبهار: زهر أصفر، والكناية واضحة.
(3)
زهر الآداب 2/ 149.