المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌خاتمة هذا الجزء خاصّ بتاريخ الأدب العربى فى العصر العباسى الثانى، - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٤

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الثانى

- ‌الفصل الأوّل:الحياة السياسية

- ‌1 - استيلاء الترك على مقاليد الحكم

- ‌2 - تدهور الخلافة

- ‌3 - ثورة الزنج

- ‌4 - ثورة القرامطة

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثّانى:الحياة الاجتماعية

- ‌1 - طبقات المجتمع

- ‌2 - الحضارة والترف والملاهى

- ‌3 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌4 - المجون والشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالث:الحياة العقلية

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة وتفلسف

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد والتاريخ

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه

- ‌5 - الاعتزال وانبثاق المذهب الأشعرى

- ‌الفصل الرّابع:نشاط الشعر

- ‌1 - علم الشعراء بأسرار العربية

- ‌2 - ذخائر عقلية خصبة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - نمو الموضوعات الجديدة

- ‌5 - نمو الشعر التعليمى

- ‌الفصل الخامس:أعلام للشعراء

- ‌1 - على بن الجهم

- ‌2 - البحترى

- ‌3 - ابن الرومى

- ‌4 - ابن المعتز

- ‌5 - الصنوبرى

- ‌الفصل السّادس:شعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الخلفاء العباسيين

- ‌مروان بن أبى الجنوب أبو السمط

- ‌أبو بكر الصولى

- ‌2 - شعراء الشيعة

- ‌ محمد بن صالح العلوى

- ‌الحمّانى العلوىّ

- ‌المقجّع البصرىّ

- ‌3 - شعراء الثورات السياسية

- ‌ محمد بن البعيث

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌ أبو على البصير

- ‌ أحمد بن أبى طاهر

- ‌ ابن دريد

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ الصّيمرى

- ‌الحمدونى

- ‌ابن بسام

- ‌الفصل السّابع:طوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل وشاعراته

- ‌فضل

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ الحسين بن الضحاك

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف

- ‌ الحلاّج

- ‌الشبلىّ

- ‌4 - شعراء الطرد والصيد

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌جحظة

- ‌الخبز أرزىّ

- ‌الفصل الثامن:نشاط النثر

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطابة والمواعظ والنثر الصوفى

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التّاسع:أعلام الكتاب

- ‌2 - الجاحظ

- ‌3 - ابن قتيبة

- ‌4 - سعيد بن حميد

- ‌5 - أبو العباس بن ثوابة

- ‌خاتمة

الفصل: ‌ ‌خاتمة هذا الجزء خاصّ بتاريخ الأدب العربى فى العصر العباسى الثانى،

‌خاتمة

هذا الجزء خاصّ بتاريخ الأدب العربى فى العصر العباسى الثانى، وقد بدأته بالحديث عن الحياة السياسية وما حدث فيها من تحول خطير؛ إذ غرب نجم الفرس ولم يعد لهم شئ من السلطان والنفوذ، فقد أصبح النفوذ كله والسلطان كله بيد الجند الأتراك وقوادهم، وكانوا بدوا رحّلا، لا علم لهم بصناعة ولا بزراعة ولا بتجارة، ولا بفنون ولا بآداب، ولا بنظم ملك وسياسة، وكانوا قد قبضوا على زمام الحكم فى أواخر العصر السابق، وظلوا مسيطرين عليه طوال هذا العصر. وعبثا حاول المتوكل التخلص منهم، ولكنهم ظفروا به وقتلوه، وولوا مكانه المنتصر، ومضوا يولّون ويعزلون ويقتلون فى الخلفاء، وزادوا عنفهم بهم بأخرة من العصر، فكانوا يسملون أعينهم. وطبيعى أن تتدهور الخلافة، وزاد فى تتدهورها انغماس الخلفاء فى اللهو والترف واشتداد سفههم، إذ مضوا يبنون القصور بالأموال الطائلة، غير مفكرين فى خزائن الدولة ولا فيما ينبغى أن تنفق فيه الضرائب من مرافق الشعب ومصالحه وإعداد الجيوش بالعتاد المادى والحربى وفسد الحكم فسادا لا حدّ له فقد تحول الوزراء إلى لصوص ينهبون أموال الدولة، وتؤخذ منهم الملايين ويصادرون ولا رادع ولا زاجر، والشعب يقاسى كل صنوف البؤس والشقاء. وتشبّ ثورة الزنج فى البصرة وتظل أربعة عشر عاما، وتشبّ ثورات القرامطة وتظل سنوات متطاولة ويقضى عليها فى العراق والشام، ولكن تظل منها شعبة فى البحرين، تهدّد الدولة وتكلفها كثيرا من الأموال والرجال حتى نهاية العصر. وتكاثرت الأحداث، وكان من أهمها إعلاء الدولة لأهل السنة على المعتزلة ووقف القول بخلق القرآن وامتحان الفقهاء فيه. وكانت الغزوات الصيفية للروم البيزنطيين لا تزال ذاهبة آيبة، وتكاثرت ثورات العلويين فى الكوفة وطبرستان، وثار الصفاريون فى سجستان وكرمان وفارس، واستسلموا آخر الأمر. ولا نصل إلى أواخر العصر، حتى يتغلب كثير من الحكام على ولاياتهم، وكأن ذلك كان إيذانا بانتهاء هذا العصر وانتهاء

ص: 641

الحكم التركى معه، إذ استولى بنو بويه الفرس على بغداد، وصار لهم السلطان فيها والصولجان.

وكان المجتمع العباسى يتألف من ثلاث طبقات: طبقة تنعم بكل أسباب الترف والنعيم، وهى طبقة الخلفاء والوزراء والأمراء وكبار موظفى الدولة وأصحاب الإقطاعات ورءوس التجار. وطبقة وسطى، معيشتها بين الترف والشظف وهى طبقة رجال الجيش وصغار الموظفين ومتوسطى الدخل من التجار والصناع. وطبقة دنيا، معيشتها بؤس وضنك وإعسار، وهى الطبقة العامة من الزّراع وأصحاب الحرف الصغيرة والرقيق. ومن يطلع على ما كان ينفق حينئذ فى قصور الخلفاء والوزراء يخيّل إليه أنه يقرأ فى أقاصيص ألف ليلة. وليلة، إذ يبلغ ما كان ينفق على المطابخ أحيانا ثلاثين ألف دينار شهريّا، أما القصر فكان يبلغ ما ينفق عليه أحيانا مليونين ونصفا، والقصور الباذخة تشيّد، والشعب يكدح ويتصبّب من جبينه العرق ليصبح ما يملكه وزير أكثر من عشرة ملايين دينار، ولكل وزير حرسه الذى يزيد عن المئات على حين يزيد حرس الخليفة عن الآلاف. وكان كثير من أهل الطبقة الوسطى تسيل إليهم من هذا الترف وأمواله سيول، وخاصة الأطباء والمغنين والمترجمين والشعراء، أما الطبقة الدنيا فكانت مع بؤسها تبتزّ منها الأموال بكل الطرق، واضطرّ كثيرون منها إلى أن يصبحوا قرّادين وخوّائين ومتسوّلين بطرق شتى. وكان أهل الذمة يعاملون معاملة سمحة، وكان كثير من النصارى يعملون فى البيمارستانات أطباء وفى الدواوين كتّابا. وكان قصر الخلافة كثيرا ما يتحول إلى مقصف كبير للهو والغناء، ولم يتوقف فيه البذخ والترف طوال العصر. وكان الرجال والنساء جميعا يبالغون فى الأناقة: الأناقة فى الملبس وكل ما يتصل به من طيب وعطر. وتفننوا فى المطاعم إلى غير حد كما تفننوا فى الحلواء وفى الشراب. وعنوا بالسمر والمنادمة وضروب كثيرة من الملاهى. وكان الرقيق-وخاصة رقيق الجوارى- يملأ الدور والقصور، وكانت النخاسة قائمة على ساق، وكانت دورها فى الكرخ وغير الكرخ تكتظّ بالقيان. ولم يعن المجتمع العباسى بفن كما عنى بالغناء والموسيقى وكانت فيهما مدرستان: محافظة ومجددة، وكانت المدرسة المحافظة أكثر أنصارا. وأثّر الجوارى حينئذ آثارا كبيرة فى شيوع الظرف والرقة واللطف. وظلت موجة المجون

ص: 642

والشعوبية والزندقة حادّة فى العصر، وكانت ضاحية الكرخ والبساتين والأديرة تمتلئ بحانات الخمر، وكان الناس يقصفون ويمرحون فى أعياد الإسلام والمسيحية والمجوس.

وكانت نار الشعوبية لا تزال متّقدة، وصبّ عليها الجاحظ وابن قتيبة مياها كادت تطفئها إلا قليلا، ولذلك قلما نسمع بها بعد هذا العصر إنما نسمع عن الإلحاد والزندقة، ومن رءوس الزنادقة الملحدين فى العصر ابن الرّاوندى ومحمد بن زكريا الرازى. ولم يكن هذا كله الصوت القوىّ فى الأمة، إنما كان الصوت القوى هو الانصراف عن المجون وكل ما يتبعه من إثم والعكوف على الدين الحنيف والاستماع لوعّاظه والالتفاف حول عبّاده ونسّاكه، وهيأ ذلك لاتساع حركة التصوف، وكانت قد بدأت مع أواخر القرن الثانى الهجرى ولكنها تأخذ حقّا فى الازدهار بهذا العصر، إذ أتيح لها أعلام أرسوها، بحيث أصبحت لها قواعد وأصول ثابتة.

ونشطت الحياة العقلية نشاطا واسعا، وكانت المساجد أشبه جامعات حرة، والطلاب يفنون عليها من كل صوب متحولين من حلقة إلى حلقة ناهلين ما يشاءون من العلوم اللغوية والشرعية والكلامية. وقامت بجوار المساجد دكاكين الوراقين التى كانت تحفل بكتب العلماء من كل صنف وبما ترجم من علوم الأوائل وثقافات اليونان والفرس والهند. وتأسست مكتبات كثيرة منها ما كان عامّا مثل خزانة الحكمة، ومنها ما كان خاصّا لبعض الأفراد.

وتروى أقاصيص كثيرة عن شغف الناس بالعلم ورحلتهم فى سبيله وانقضاضهم-حتى العامة منهم-عليه انقضاض الأسد على فريسته، ولعل ذلك ما جعل الجاحظ وابن قتيبة يحاولان تقريب الثقافة إلى الشعب، حتى يتزوّد منها بطرق يسيرة سهلة. ويظل نقل الثقافات الأجنبية وخاصة الثقافة اليونانية محتدما، ويتطور النقل من النقل الحرفى إلى نقل معانى الفقر بحيث تصبح صياغة الكتب المترجمة ناصعة شديدة النصوع. ونهضت العلوم الطبيعية والطبية حينئذ نهضة واسعة، وليس ذلك فحسب، فقد أصبح للعرب بدورهم فلاسفة نابهون مثل الكندى فى أوائل العصر والفارابى فى أواخره. وتزدهر العلوم اللغوية والنحوية، فتشرح النصوص القديمة شروحا موسّعة، وتوضع بعض المعاجم، وينشط تلامذة المدرستين البصرية والكوفية فى النحو، وتنشأ المدرسة البغدادية. وتكثر حينئذ المباحث البلاغية

ص: 643

فى بيئات اللغويين المحافظين والمترجمين والمتفلسفة المجددين والمعتزلة المعتدلين، ويتم الغلب للأخيرين، ويكتب ابن المعتز كتابه الطريف «البديع» ويخطو النقد خطوات نحو تقنين مبادئه، ويشاطر فيه الجاحظ مشاطرة قوية يتأثره فيها ابن قتيبة، ويصدر قدامة كتابه «نقد الشعر» . وتنشط الكتابة التاريخية فى السيرة النبوية وفى تاريخ الأمم والدول وتاريخ المدن وسير الرجال وتراجم الشعراء. وينهض علم القراءات ويفرض ابن مجاهد القرّاء السبعة المشهورين على العالم العربى الذى ارتضى ما أدّى فى ذلك من جهد علمى خصب. ونهض التفسير بدوره على يد أهل السنة والمعتزلة والصوفية، وبالمثل نهض تدوين الحديث، ووضعت فيه كتب الصحاح الستة.

وظلت الدراسات الفقهية مزدهرة، وظهرت فيها مذاهب صغرى أهمها مذهب داود الظاهرى الذى كتب له الذيوع فى الأندلس والمغرب وخاصة فى عصر دولة الموحدين. وعلى الرغم من إعلاء الدولة لأهل السنة على المعتزلة ظل لهم نشاطهم، وظهر بينهم أئمة مرموقون على رأسهم أبو على الجبّائى وابنه أبو هاشم، وتفرّع حينئذ من الاعتزال المذهب الأشعرى الذى يتوسط بين آراء المعتزلة وآراء أهل السنة، والذى كتب له الانتشار فى العالم الإسلامى.

ويظل للشعر نشاطه وازدهاره، ويظل اللغويون يقدّمون للشعراء دراسات تمكنهم من إتقان العربية على خير وجه والوقوف على كثير من أسرارها التركيبية والموسيقية، ودعم هذا الوقوف مباحث النقاد والبلاغيين وملاحظاتهم على الخصائص الجمالية للبيان العربى. وأخذت تنشأ عربية مولّدة ولكنها لم تجر على ألسنة الشعراء ولا أدخلت على أساليبهم شيئا من الضّيم، إذ كانوا يتمثّلون العربية بخصائصها الجمالية والموسيقية تمثلا تامّا. وتعمق الشعراء الثقافات الأجنبية والمباحث الفلسفية، مما جعل عقولهم تحفل بذخائر خصبة من الأفكار الدقيقة والتقسيمات الطريفة والبعد فى الخيال إلى درجة الوهم وكثرة التوليدات العقلية، وحتى البحترى الذى اشتهر بمحافظته على أصول الصياغة الموروثة للشعر العربى يمسّه حظ من الثقافات المعاصرة.

وكان حظ ابن الرومى وافرا، ولذلك كثرت عنده العلل والأقيسة والأخيلة المبتكرة والقدرة على مدح الشئ وذمه. وظل الشعراء يبالغون فى مديح الخلفاء حتى ليسبغون عليهم صفات قدسية، وسجّلوا فى مدائحهم البطولات الحربية،

ص: 644

واحتفظوا فيها أحيانا بوصف الأطلال نافذين إلى خواطر بديعة. وظلوا يستطردون إلى وصف الصحراء، واتسعوا فى وصف الربيع والطبيعة الحضرية والأعياد وملاهيها.

ونشط الهجاء، وكانوا يعمدون فيه إلى التهوين والتحقير، ونفذ فيه ابن الرومى إلى نوع جديد من الهجاء الساخر. وظل الفخر نشطا، واحتدم الرثاء، وتفجّعوا على أبنائهم تفجعا مريرا، كما تفجعوا على البصرة حين هوت تحت أقدام الزنج. ولابن العلاّف مرثية فى هرّ تعدّ من عيون الرثاء ودرره. وصوّروا فى عتابهم واعتذاراتهم رقة أهل الحضر ودمائتهم. وظل للغزل ازدهاره سواء الغزل العفيف الطاهر أو الغزل المادىّ الماجن، ونفذوا فيه إلى كثير من دقائق المعانى والأخيلة، ولكثيرين منهم خمريات تطفح بالمتاع الآثم. ونشط شعر الزهد نشاطا واسعا. وأكثروا من التهانى والتراسل بالأشعار مع الهدايا، وللبحترى وصف رائع لإيوان كسرى. ولهم أشعار كثيرة فى وصف قصور الخلفاء وبذخهم فى البناء، وأكثروا من وصف الطبيعة والورود والرياحين، كما أكثروا من وصف الوحش والصيد وكلابه والأطعمة على اختلاف ألوانها والملاهى، وفسحوا للشكوى من الزمن ولوصف الأخلاق ولشعر التصوف وللشعر التعليمى على نحو ما يلاحظ عند ابن الجهم وابن المعتز فى نظمهما للتاريخ، وعند ابن دريد فى نظمه للمعارف اللغوية.

وأعلام الشعراء فى العصر على بن الجهم والبحترى وابن الرومى وابن المعتز والصّنوبرىّ، فأما ابن الجهم فقرشى الأصل ولد ونشأ ببغداد، وتفتحت موهبته الشعرية مبكرة، فمدح المعتصم والواثق ويتخذه المتوكل جليسا ونديما بينما يدبّج فيه المدائح والأشعار وقد اندفع وراء المتوكل فى الهجوم على المعتزلة والعلويين والنصارى، فتكاثر خصومه، وسعوا به عند المتوكل فأمر بحبسه عاما، ثم نفاه إلى خراسان. وعاد منها إلى بغداد ثم رأى الاشتراك فى نضال البيزنطيين، ولكنه قتل دون غايته. وأروع أشعاره ما نظمه فى الاستعطاف وليالى الأنس بالكرخ، وأكثرها توهجا تصويره لصلابة نفسه حين سجن وصلى نار النّفى، وكأنما كان صخرة عاتية لا تستطيع الكوارث والمحن أن تمسّ نفسه.

وكان البحترى عربيّا شاميّا من طيئ، سال الشعر على لسانه مبكرا، وفى حلب تعرّف بفتاة تسمّى علوة، ظلت لا تبرح ذاكرته، ولقى فى حمص أبا تمام حامل لواء الشعر فى عصره غير مدافع، واستمع إلى شعر الفتى الناشئ،

ص: 645

فشجّعه، وأهداه بعض نصائح كان لها أثر بعيد فى شعره. وقد عكف البحترى على شعر هذا الشاعر الكبير يدرسه ويتمثله. وقدّمه أبو تمام إلى ممدوحيه، ونزل سامرّاء وأصبح شاعر البلاط الرسمى من عهد المتوكل إلى عهد المعتمد. ولم يكد يترك وزيرا ولا موظفا كبيرا ولا أميرا ولا واليا إلا صاغ فيه مديحه. وهو ممن يمثلون النزعة المحافظة فى عصره، ويعدّ بحق أستاذ الفن الموسيقى فى الشعر العربى، وكأنما وقف على جميع أسراره ودقائقه، وأكثر شعره فى المديح، ومن روائع مدائحه مدحته لأحمد بن دينار وفيها صوّر معركة بحرية بقيادته دمّر فيها الأسطول البيزنطى. ولم يكن بارعا فى الهجاء، وله فخر ضعيف. ومراثيه قوية، وله غزل يترقرق فيه الوجد كما يترقرق الماء فى الغصن، وكان ماهرا فى وصف مظاهر العمران والحضارة والطبيعة.

وكان ابن الرومى يونانى الأصل ولد ونشأ ببغداد، وكانت ملكاته خصبة أروع ما يكون الخصب، وكان شديد الحساسية إلى درجة التطير، وتروى عنه فيه أقاصيص كثيرة. وكان يتشيّع، ولعل ذلك ما جعل كثيرين يزورّون عنه، كما جعل أبواب الخلفاء والوزراء تغلق دونه، وويل لمن كان يهجوه. وتتردّد فى ديوانه أسماء ممدوحين كثيرين وكذلك أسماء كثيرات من الجوارى والقيان، واستطاع بملكاته الخصبة أن ينفذ إلى لون ساخر جديد فى الهجاء كما أسلفنا، وله مراث تفيض بالحسرات واللوعات، وعتابه لأبى القاسم التّوّزىّ وحواره مع هناته من أطرف ما نظمه شعراء العربية، وله فى الغزل معان وأخيلة نادرة وكان يشغف بالطبيعة وله فيها أشعار رائعة، وهو يكثر من وصف مجالس الأنس وألوان الطعام، وله أشعار بديعة فى الزهد.

وكلّ الشعراء السالفين من أبناء الشعب، أما عبد الله بن المعتز فكان أبوه ابن الخليفة المتوكل وظل فى الخلافة نحو ثلاثة أعوام، وقتله الترك ونفوا أمه قبيحة وابنه عبد الله إلى مكة، وأعادهما المعتمد إلى سامرّاء وفيها مضى عبد الله ينهل من كل الثقافات، وله مصنفات مختلفة أهمها كتابه البديع، وكان يحسن الضرب على الآلات الموسيقية، وله أصوات حملتها العصور بعده، وله مدائح مختلفة فى عميه المعتمد والموفق وفى المعتضد وابنه المكتفى. وكانت مأساته فى أبيه وجدّه تصرفه عن التفكير فى الخلافة، ولكن حدث أن تولاها المقتدر وهو

ص: 646

غلام، وتجمع طائفة كبيرة من رجال الدولة على خلعه والبيعة لابن المعتز، ويكون فى ذلك حتفه. وآثار بيئته المترفة واضحة فى أشعاره، وخير مدائحه ومراثيه ما نظمه فى ابن عمه وصديقه المعتضد، وله فخر كثير وفيه يلوّح من حين إلى حين فى وجوه العلويين، بأن أسرته أحق منهم بميراث الخلافة. وله أشعار كثيرة فى الغزل واللهو والخمر وذم الصّبوح، وتكثر فى شعره التشبيهات والاستعارات كما يكثر وصف الصيد وكلابه وآلاته.

وكان الصّنوبرى من أهل أنطاكية، ولكنه نشأ وتربّى فى حلب، وعاش حياته بها إلا فترات كان يتردّد فيها على الموصل. وأكثر من المديح، وكان شيعيّا، وهو لا يغلو فى تشيعه، وانعقدت صداقة بينه وبين كشاجم مواطنه الذى ينزل منه منزلة التلميذ من أستاذه. وفى أشعاره عناية واضحة بصناعتها ونثر فنون البديع فيها، وله مدائح كثيرة، وأروع مراثيه بكاؤه على آل البيت وتفجعه على ابنته ليلى، وله غزل فى فتاة مسيحية. ويكثر من وصف الخمر، وله أشعار فى الزهد، وأهم موضوع شغله واشتهر به وصف الطبيعة حتى ضرب المثل بروضياته، وله غناء كثير بالثلجيات، ويعدّ فاتح هذا الباب فى العربية، وله أشعار بديعة فى وصف الديك والصيد والهرّ والجرذان، مما يشهد بملكته التصويرية الدقيقة.

وتكاثر شعراء السياسة والمديح والهجاء فى العصر، وفى مقدمتهم شعراء الخلفاء العباسيين، إذ كانت أموال الدولة بأيديهم، فكثر مدّاحهم حتى بين الشيعة، ولكل خليفة شعراؤه الذين أشادوا به وبأحقية بيته فى ميراث الخلافة، ومن أهمهم مروان بن أبى الجنوب وعلى بن يحيى المنجم وأبو بكر الصولى، أما مروان فكان يسير سيرة جدّه مروان بن أبى حفصة فى الطعن على البيت العلوى، مما جعل المتوكل يغمره بعطاياه، وكان يعنى مثل جدّه بصقل أشعاره. وكان على بن يحيى المنجم من أصل فارسى، وهو مثال للنديم المثقّف ثقافة واسعة، وله شعر كثير فى مديح الخلفاء والوزراء وفى تصوير سمو نفسه. وكان أبو بكر الصولى التركى الأصل من بيت علم وكتابة، وفتحت له ثقافته الواسعة ومهارته فى لعبة الشّطرنج أبواب القصور العباسية منذ خلافة المعتضد، وخير مدائحه ما نظمه فى الخليفة الراضى، وله غزل رقيق كثير. وكان شعراء البيت العلوى يقفون مدافعين منافحين عنه، وأهمهم

ص: 647

فى العصر محمد بن صالح العلوى والحمّانى والمفجّع البصرى، وكان محمد بن صالح قد ثار بالحجاز، وزجّ به المتوكل فى غياهب السجون، ثم عفا عنه وعاش فى سامرّاء يمدحه، وله أشعار طريفة فى زوجه وفى بعض أصدقائه. وكان الحمّانى نقيب العلويين فى الكوفة وله مراث كثيرة ليحيى بن عمر العلوى يبكيه فيها بكاء حارّا. وكان المفجّع شيعيّا إماميّا، وكان يكثر من مديح على وأبنائه. وكثرت الثورات السياسية فى العصر، وكان بعض الثوار شاعرا مثل صاحب الزنج فله أشعار تدور فى كتب التاريخ والأدب، ومثله يحيى بن زكرويه القرمطى الثائر بالشام وأبو طاهر الجنّابى صاحب الأحساء والبحرين. وأهم شعراء الثورات محمد بن البعيث وبكر بن عبد العزيز بن أبى دلف، أما ابن البعيث فثار بأذربيجان، واستطاع حين أتى به أسيرا إلى المتوكل أن يستلّ غضبه بشعره فيعفو عنه. وأما حفيد أبى دلف فثار بأعمال الجبل بين همذان وأصفهان، وله أشعار مختلفة يتهدّد بها قواد المعتضد وينذرهم-إن هاجموه-إنذارات خطيرة. ويكثر كثرة مفرطة شعراء الوزراء والولاة والقواد، وفى مقدمتهم أبو على البصير وابن أبى طاهر وابن دريد، ولأولهم مدائح كثيرة فى الفتح بن خاقان وله مداعبات ومعان طريفة فى الغزل وفقد بصره وشيخوخته. ولابن أبى طاهر مدائح كثيرة فى الوزراء، وله أهاج لاذعة.

واشتهر ابن دريد بمدائحه لابن ميكال والى الأهواز، وخاصة بمقصورته فيه وقد شرحت مرارا وتكرارا. وخمد فى العصر الهجاء القبلى، وظل الهجاء الشخصى محتدما، ومن أكبر الهجّائين فى العصر الصّيمرى، وخبره مع المتوكل والبحترى مشهور. وأشد إيلاما ووخزا منه فى الهجاء الحمدونى، وقد دارت على كل لسان فى عصره أهاجيه فى طيلسان ابن حرب وشاة سعيد بن أحمد. وهجّاء العصر غير منازع ابن بسّام، وله فى أبيه أهاج كثيرة، ولم يكد يترك خليفة ولا وزيرا ولا أميرا ولا كبيرا فى عصره دون أن يكويه بميسم هجائه.

ويكثر شعراء الغزل وشاعراته، ويظل الغزل العفيف حيّا حياة خصبة بجوار الغزل المادى الصريح، ويكثر الناظمون للغزل من كل الأوساط، وكثيرات من الجوارى فى العصر كن ينظمنه ويتقنّ نظمه، وأشهر شعراء الغزل حينئذ خالد ابن يزيد الكاتب ومحمد بن داود الظاهرى وفضل الشاعرة وكان خالد كاتبا فى الدواوين، وله رقائق غزلية كثيرة يصوّر فيها حبّا ظامئا لا يروى أبدا، أما

ص: 648

محمد بن داود فكان فقيها ظاهريّا وغزله أفلاطونى نقى طاهر، وكانت فضل من مولّدات البصرة، وهى أشعر الجوارى فى عصرها، ولها معاتبات ومراسلات كثيرة مع سعيد بن حميد. وكان كثير من الشعراء ينغمس فى اللهو والمجون، وكانوا يترافقون فى الديارات وفى الحانات وفى دور النخّاسين ومن أكثرهم خلاعة ومجونا الحسين بن الضحاك وأبو الشّبل البرجمىّ وعبد الله بن العباس بن الفضل ابن الربيع. ونادم الحسين غير خليفة، وهو فارسى الأصل، وتشيع فى غزلياته وخمرياته عذوبة مفرطة، ولا يلحقه أبو الشبل فى تلك العذوبة ولا فى خفة روحه.

وكان عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع يسرف فى الخلاعة والمجون، وله أشعار فى نصرانية هام بها هياما شديدا، وشعره مثل شعر الحسين بن الضحاك وافر الموسيقى. وكان يقابل شعراء الخمر والمجون شعراء الزهد والتصوف، وكانوا أقرب منهم إلى قلوب العامة التى كانت تعيش على شظف العيش وتعرف ربّها وتتقيه فى السر والعلن، ويتغنّى كثيرون بأشعار زاهدة، ويتكاثر المتصوفة ويتكاثر شعرهم فى المحبة الإلهية والفناء فى الذات العلية. ويظهر الحلاج الذى تمثل فى نفسه الحقيقة الإلهية، مع إيمانه بتنزيه الله واتحاد الناسوت وهو الروح الإنسانى فى اللاهوت وهو الروح الإلهى على نحو ما يصوّر ذلك كتابه الطواسين وما فيه من حديث عن هذا الاتحاد، وهو أول من أعدّ لفكرة الحقيقة المحمدية وأن الأديان جميعا تؤدّى إلى الله جل جلاله. وكان الشبلىّ الصوفى لا يغلو غلوه، إذ كان تصوفه سنيّا، مما جعله ينحىّ عن نفسه أفكار الاتحاد والشهود، ومع ذلك كان يكثر من الحديث عن الأحوال والمقامات، وكان يؤمن بفكرة الفناء فى الذات الإلهية ويلقانا فى العصر شعراء كثيرون ينظمون فى الطرد والصيد، وكان لهوا ومتاعا للخلفاء والوزراء وعلية القوم، وكانوا يخرجون إليه فى مواكب ومعهم الشعراء وكادوا لا يتركون ضاريا من ضوارى الصيد ولا جارحا من جوارحه إلا نعتوه، كما نعتوا الصيد من حمر الوحش وأتنه وثيرانه وبقره وظبائه ونعامه وأرانبه والطير والإوز، وبالمثل نعتوا آلاته من النّبل والسهام والفخاخ والشباك والبندق. ومن أهم الشعراء الذين شغفوا بوصف الصيد والقنص أبو العباس الناشئ، وكان من المعتزلة، وكان عالما وناقدا كما كان شاعرا بارعا، وقد اعتمد كشاجم على أشعاره فى صنع كتابه المصايد والمطارد مما يدل بوضوح على كثرة نظمه فى الطّرد والصيد، وله أشعار

ص: 649

بديعة فى وصف الكلاب والبزاة والشاهين والطير وأيضا فى وصف الأسد وكانوا يفتخرون طويلا بصيده. ويكثر فى العصر شعراء النزعات الشعبية، وخاصة شعراء البؤس المكدين وغيرهم ممن صوّروا ضيق الحياة وما يجرى فيها من ضنك شديد، وصوّر كثيرون التحامق فى صور هزلية. ولا يبارى جحظة البرمكى-الضارب على الطّنبور-فى تصوير تعاسة الطبقة العامة، وكثيرا ما صبّ سياطه على الحكام الفاسدين.

ويمثل الخبز أرزىّ هذه الطبقة فقد كان أميّا لا يقرأ ولا يكتب، ولغته حلوة خفيفة، وكان مواطنوه فى البصرة يشغفون بأشعاره شغفا شديدا.

وازدهر فى العصر النثر ازدهارا عظيما، وقد ظلت حركة الترجمة ناشطة، وشاع الاستواء والتناسق فيما ترجم من آثار، وظهر الكندى أول فيلسوف للعرب بالمعنى الدقيق لكلمة فلسفة، وكان شاعرا وناثرا ممتازا إذ كان يتمثّل العربية ودقائقها وخصائصها تمثلا بارعا. وأخذت بيئات مختلفة تتجادل فى معايير البلاغة العربية، فكانت هناك بيئة محافظة مثّلها اللغويون، وبيئة تفرط فى التجديد مثّلها المترجمون، وبيئة معتدلة مثّلها المتكلمون، وهى التى كتب لها السّداد والنجاح ويمثلها الجاحظ وما وضع للبلاغة والبيان العربى من مقاييس فنية. وأبلى اللغويون بلاء حسنا فى تثقيف الناشئة والأدباء باللغة والشعر ويتأثر بهم ابن قتيبة فى كتابه «أدب الكاتب» الذى وضعه نبراسا للكتّاب يهتدون به. ويصنّف إبراهيم بن المدبر رسالة بديعة فى موازين البلاغة وأدوات الكتابة. وتحاول بيئة المترجمين والمتفلسفة أن تضع تشريعا لمقاييس البلاغة العربية فى النثر على ضوء المقاييس اليونانية، ويكتب فى ذلك ابن وهب كتابه:«البرهان فى وجوه البيان» ولا يقف عند الاحتكام إلى كتاب الخطابة لأرسطو، بل يحتكم أيضا إلى كتابيه فى المنطق والجدل. غير أن الأدباء فى عصره وبعد عصره ازورّوا عن كتابه ومنهجه، وساد بينهم منهج المدرسة الكلامية وذوقها الأدبى العام الذى مثّله الجاحظ فى كتاباته خير تمثيل. وضعفت الخطابة فى العصر، ولكن المواعظ لم تضعف، بل ازدادت اضطراما على أيدى المتصوفة، وأخذت تنتشر لهم حكايات وأقاصيص كثيرة تصور جهادهم فى قمع شهوات النفس ومطالبها من لذات الحياة، وتداولها الناس بحيث أصبحت ضربا من ضروب الأدب الشعبى حينئذ، كما تداولوا عنهم حكايات كثيرة عن كراماتهم وأخبارهم. وليس ذلك فحسب، فإن

ص: 650

بعض المتصوفة كتب فى تصوفه مقالات نثرية بجانب ما كتب من أشعار على نحو ما يلاحظ فى كتاب الطواسين للحلاج. وكثرت المناظرات فى العصر بين المتكلمين وكذلك بين الفقهاء، ومناظرة الحسن بن عبد الله السيرافى ومتى بن يونس فى النحو والمنطق مشهورة، وبالمثل مناظرات اللغويين. وكأنما أصبحت المناظرات لغة العصر الفكرية حتى ليعنون كثير من الكتب باسم الردّ أو النّقض، وشاعت هذه الروح فى قصص وأخبار جمعت ونسّقت فى كتابى المحاسن والأضداد والمحاسن والمساوى، وهما كتابان نفيسان، تلتقى فيهما الثقافات العربية والإسلامية والأجنبية ومأثورات قصصية كثيرة عن الفرس والهند واليونان. وطبيعى أن تظل الرسائل الديوانية ناشطة فى العصر فقد كانت الدواوين تجذب إليها كتّاب العصر البارعين من أمثال عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل وأحمد بن الخصيب وزير المنتصر. ونبغ بعض الولاة فى كتابة تلك الرسائل مثل محمد بن عبد الله بن طاهر، ومن كتابها النابهين لعهد المهتدى سعيد بن عبد الملك. وارتقى كاتب من كتابها المرموقين إلى مرتبة الوزارة فى عصر هذا الخليفة هو سليمان بن وهب، وكان ابنه عبيد الله وحفيده القاسم من كبار الوزراء ونابهى الكتّاب. ويشيع السجع فى الرسائل الديوانية لعصر المقتدر، ويصبح منذ هذا التاريخ ظاهرة عاما لا تخلو رسالة من وشيه وزخارفه. ويظل للرسائل الإخوانية نشاطها بدورها، ولا تترك موضوعا للشعر إلا وتشاركه فيه، ويشيع فيها السجع مبكرا، وتلقانا بعض رسائل مسجوعة سجعا خالصا، منها رسالة طويلة لأبى على البصير كلها هجاء مرير. وكان أبو العيناء يسجع فى رسائله الشخصية. وكان ابن مكرم لا يشيع السجع فى رسائله، ولكن ألفاظه كأنها درر مختارة سواء فى اصطفاء اللفظ أو فيما يوشّيها به من زخرف البديع. وكان أحمد بن سليمان بن وهب يسجع فى رسائله بينما كان يتخفف منه ابن أبى طاهر، ومثله ابن المعتز. وتنشط كتابة الرسائل الأدبية، وكان الجاحظ يشيع فيها أسلوب الازدواج، على حين نجد ابن المعتز فى رسالة طريفة يمدح فيها سامرّاء ويذم بغداد يملؤها بالسجع وألوان البديع وزخارفه. وكأن ذلك كله كان إرهاصا بأن السجع سيعمّ مع أواخر القرن فى جميع الرسائل سواء أكانت أدبية أو إخوانية أو ديوانية.

ص: 651

وأعلام الكتّاب فى العصر إبراهيم بن العباس الصولى والجاحظ وابن قتيبة وسعيد ابن حميد وأبو العباس بن ثوابة. وقد ولد إبراهيم بن العباس ونشأ ببغداد، وظهرت فيه مخايل الأدب مبكرة، فالتحق بدواوين الفضل بن سهل، وظل يعمل فى دواوين الدولة وولاياتها حتى نكبه ابن الزيات وزير المعتصم والواثق وسجنه، وعفا عنه الواثق، حتى إذا كان عهد المتوكل ابتسمت له الدنيا، فقلّده ديوان الرسائل ودواوين مختلفة، وظل يكتب كل ما يصدر عن المتوكل من منشورات وفتوح وعهود لأولياء العهد وتهنئات بالأعياد. وكثير من ذلك كله احتفظ به الطبرى، وهو يصوّر عنايته بتقطيع العبارات واصطفاء الألفاظ واستخدام بعض ألوان البديع دون إفراط، وقد يضيف إلى ذلك أحيانا اجتلاب بعض الأسجاع. وفى تحميداته ما يدل على ثقافة اعتزالية واضحة. وكان يوازن بين عباراته موازنات دقيقة فى الصوت والجرس والأداء، كما كان يعنى أشد العناية بمعانيه، حتى تروق كتاباته اللسان والجنان، وقد تصبح بعض القطع عنده سجعا خالصا.

والجاحظ أكبر كتّاب العصر، بل أكبر كتّاب العربية قاطبة، وقد نشأ بالبصرة وتمثّل كل ما كان فيها من معارف، وهو معتزلى كبير بل صاحب مذهب اعتزالى قائم بنفسه سمّى الجاحظية نسبة إليه. وهو لا يبارى فى وضوح كتاباته وقدرته على التوليد فى المعانى، واستنباط خفياتها ودقائقها. وقد صوّر فى أعماله مجتمعه بجميع طبقاته العليا والوسطى والدنيا. وكان يعنى بصياغته عناية كاملة، واستطاع أن يفرض على العربية أسلوبه الذى ابتكره، ونقصد أسلوب الازدواج، وحقّا نجد له مقدمات عند غيره، ولكنه هو الذى استمسك به وأشاعه فى جميع آثاره، مع روح الدعابة التى يتميز بها ومع الاستطرادات الكثيرة حتى لا يمله القارئ. وقد عرضت خمسة ألوان من كتاباته: اللون الأول المناظرات واخترت مناظرة معبد والنظام التى وضعها فى أوائل كتابه الحيوان واحتلت فيه نحو مجلد ونصف، وهى لا شك من عمله إذ جميعها بصياغته وأسلوبه. واللون الثانى رسائله الشخصية وهى حافلة بمهارته فى استنباط الأفكار وجمال أسلوبه. ومثلها اللون الثالث وهو رسائله الأدبية الباهرة.

واللونان الرابع والخامس هما القصص والنوادر، إذ كان قصّاصا ممتازا كما كان بارعا فى سرد النوادر.

وأكبر مؤلّف أدبى ظهر فى العصر بعد الجاحظ ابن قتيبة، وهو بحكم

ص: 652

ثقافته الدينية يبدو محافظا فى بعض آرائه النقدية ويشتهر بسياطه التى ألهب بها ظهور الشعوبيين، وأهم أسلحته الحربية التى اتخذها ضدهم فى رأينا أنه حاول فى كتابه «عيون الأخبار» المزج بين الثقافات الإسلامية والعربية والفارسية واليونانية والهندية مزجا أسقط به الصراع العنيف بين الشعوبيين والعرب، فليس هناك ما يسمى فارسيّا مستقلا أو هنديّا أو يونانيّا أو إسلاميا أو عربيّا، بل هى ثقافة واحدة، وهى ثقافة تشمل أيضا ما عند أهل الكتاب، فكل الثقافات دينية ومدنية تستحيل إلى هذه الصورة الجديدة التى صاغها ابن قتيبة، بحيث خفت صوت الشعوبية، فكل ما كانت تفتخر به على العرب أصبح من صميم العربية. وصاغ ابن قتيبة ذلك فى أسلوب أدبى ناصع يمتاز بالوضوح وانتخاب الألفاظ الرصينة واستخدام الازدواج محاكاة للجاحظ أحيانا والاسترسال أحيانا أخرى. وقد يجرى السجع على لسانه، ولكن دون أى تكلف، ويتشبه بالجاحظ أحيانا فى نقل الواقع وفى خلط الجد بالهزل وإيراد بعض النوادر.

وسعيد بن حميد من أصل فارسى، عنى أبوه بتثقيفه والتحق بالدواوين وتألف نجمه فيها حتى أصبح رئيسا لديوان الرسائل فى عصر المستعين، وينصّ الطبرى على بعض ما كتبه من رسائل ديوانية، وكان يعنى أشد العناية بانتخاب ألفاظه وتقطيعها وتقابل الكلمات، وقد يتكامل التقابل والتقطيع حتى يصبح الكلام سجعا، وله بجانب رسائله الديوانية رسائل إخوانية بنفس الأسلوب الذى وصفناه، ونحس عنده دائما رغبة قوية فى النفوذ إلى أفكار مبتكرة، حتى لتصبح الرسالة ضربا من الحيل العقلية يروع بطرافته، مع دقة التعبير وجماله.

وأبو العباس بن ثوابة من أسرة أصلها مسيحى، عملت فى دواوين الدولة العباسية، وتميّز هو من بين أفرادها فى منتصف القرن الثالث الهجرى إذ التحق بدواوين الدولة، وما زال يصعد فى مراتبها حتى اختير لرياسة ديوان الرسائل، وله عهد طريف إلى أحد الولاة كتبه عن الموفق، وهو يصور فساد الحكم حينئذ، كما يصور عمل صاحب الحسبة، وله رسائل إخوانية مختلفة، يتضح فيها الحس المفرط والشعور الحاد كما يتضح السجع مضيفا إليه مادة تصويرية بديعة.

ص: 653