المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٤

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الثانى

- ‌الفصل الأوّل:الحياة السياسية

- ‌1 - استيلاء الترك على مقاليد الحكم

- ‌2 - تدهور الخلافة

- ‌3 - ثورة الزنج

- ‌4 - ثورة القرامطة

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثّانى:الحياة الاجتماعية

- ‌1 - طبقات المجتمع

- ‌2 - الحضارة والترف والملاهى

- ‌3 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌4 - المجون والشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالث:الحياة العقلية

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة وتفلسف

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد والتاريخ

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه

- ‌5 - الاعتزال وانبثاق المذهب الأشعرى

- ‌الفصل الرّابع:نشاط الشعر

- ‌1 - علم الشعراء بأسرار العربية

- ‌2 - ذخائر عقلية خصبة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - نمو الموضوعات الجديدة

- ‌5 - نمو الشعر التعليمى

- ‌الفصل الخامس:أعلام للشعراء

- ‌1 - على بن الجهم

- ‌2 - البحترى

- ‌3 - ابن الرومى

- ‌4 - ابن المعتز

- ‌5 - الصنوبرى

- ‌الفصل السّادس:شعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الخلفاء العباسيين

- ‌مروان بن أبى الجنوب أبو السمط

- ‌أبو بكر الصولى

- ‌2 - شعراء الشيعة

- ‌ محمد بن صالح العلوى

- ‌الحمّانى العلوىّ

- ‌المقجّع البصرىّ

- ‌3 - شعراء الثورات السياسية

- ‌ محمد بن البعيث

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌ أبو على البصير

- ‌ أحمد بن أبى طاهر

- ‌ ابن دريد

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ الصّيمرى

- ‌الحمدونى

- ‌ابن بسام

- ‌الفصل السّابع:طوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل وشاعراته

- ‌فضل

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ الحسين بن الضحاك

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف

- ‌ الحلاّج

- ‌الشبلىّ

- ‌4 - شعراء الطرد والصيد

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌جحظة

- ‌الخبز أرزىّ

- ‌الفصل الثامن:نشاط النثر

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطابة والمواعظ والنثر الصوفى

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التّاسع:أعلام الكتاب

- ‌2 - الجاحظ

- ‌3 - ابن قتيبة

- ‌4 - سعيد بن حميد

- ‌5 - أبو العباس بن ثوابة

- ‌خاتمة

الفصل: ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه

الأوراق لمحمد بن يحيى الصولى المتوفى سنة 335 وقد نشر منه المستشرق دان (DUNNe) أخبار الشعراء المحدثين وهو تراجم لطائفة منهم، ونشر منه أيضا أخبار الراضى المتقى، وأشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم، وهو كتاب جدير بالتحقيق والنشر. وأخذوا يهتمون بالسيرة الفردية، فألف أبو عبد الله محمد ابن عبد الله بن الحكم المتوفى سنة 262 كتابا فى سيرة عمر بن عبد العزيز طبع بالقاهرة، وألف بمصر أبو جعفر أحمد بن يوسف بن الداية المتوفى سنة 340 كتابا فى سيرة أحمد بن طولون وابنه خمارويه. وعلى هذا النحو نشط التأليف فى التاريخ لهذا العصر نشاطا واسعا، فمن تأليف فى السير إلى تأليف فى الطبقات وتأليف فى الأمم والدول وتأليف فى المدن، وكادوا لا يتركون فى التاريخ جانبا إلا رصدوه وسجلوه ودوّنوه.

‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه

معروف أن القرآن الكريم حمل عن الرسول صلى الله عليه وسلم تلاوة ومشافهة، واشتهر بتلاوته قرّاء مشهورون منذ الصدر الأول فى مقدمتهم الخلفاء الراشدون وزيد بن ثابت وأبىّ بن كعب وعبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعرى وغيرهم من جلة الصحابة أمثال عبد الله بن عباس، وخلفتهم أجيال من التابعين فى كل بلد إسلامى، كلهم يحافظون على تلاوته بجميع حروفه وحركاته كما أثرت عن الرسول الكريم، وأخذوا يعدّون بالعشرات، وأخذ يتبع كل قارئ منهم تلاميذ يلازمونه ويأخذون عنه قراءته بأدق صورة ممكنة، وفى الوقت نفسه أخذ قرّاء موثّقون يروون قراءات عن ابن مسعود إمام أهل الكوفة أو عن على بن أبى طالب أو عن غيرهما من جلة الصحابة، فتكاثرت القراءات، حتى لنجد أبا عبيد القاسم بن سلام يؤلف كتابا يحتوى على أكثر من عشرين قراءة.

ص: 160

ونمضى بعده إلى العصر العباسى الثانى، فتستمر القراءات فى كثرتها، وتبدو الحاجة واضحة إلى عالم بالقراءات يختار منها طائفة تذيع وتنتشر فى العالم الإسلامى، ويؤكد الحاجة إلى ذلك أن بعض القرّاء كان لا يجد حرجا فى القراءة بشواذ منها متناهية فى الشذوذ (1)، وحينئذ تجرّد للنهوض بهذه المهمة الخطيرة أبو بكر أحمد (2) ابن موسى بن مجاهد التميمى إمام القرّاء ببغداد منذ سنة 290 فأكبّ على القراءات وكتبها المصنفة، واستخلص منها سبعا هى قراءات نافع فى المدينة وعبد الله بن كثير فى مكة وعاصم وحمزة والكسائى فى الكوفة وأبى عمرو بن العلاء فى البصرة وعبد الله بن عامر فى دمشق، اتخذها إماما للناس، وألف فى ذلك كتابه السبعة، وكل من يراجعه يرى الجهد الهائل الذى أدّاه عن علماء القراءات فى عصره، فكل إمام من السبعة تذكر الطرق التى روى بها ابن مجاهد قراءته، وينص فى الكتاب على الاختلاف بين الطرق للإمام الواحد فضلا عن الطرق مجموعة لكل الأئمة.

وانبرى من بعده تلميذه أبو على الفارسى لكتابة شرح على هذا المصنف: «السبعة» يحتج فيه لوجوه القراءات المبثوثة به وجها وجها، سماه كتاب الحجة. وألف ابن مجاهد كتابا ثانيا فى شواذ القراءات، عنى ابن جنى بشرحه على نحو ما عنى أستاذه أبو على الفارسى بشرح السبعة، سماه المحتسب، وهو محقق ومنشور بالقاهرة.

ونما تفسير القرآن الكريم فى هذا العصر نموا واسعا، واتضحت فيه اتجاهات أربعة سيطرت على اتجاهاته فى العصور التالية، هى اتجاه التفسير بالمأثور، والتفسير بالرأى أو التفسير الاعتزالى، والتفسير الشيعى، والتفسير الصوفى، أما التفسير بالمأثور فقد بلغ القمة المرجوّة التى كانت تنتظره عند محمد بن جرير الطبرى، إذ استطاع أن يجمع فى تفسيره عن طريق الروايات المسندة كلّ ما أثر

(1) انظر فى ذلك مقدمتنا لكتاب السبعة لابن مجاهد (طبع دار المعارف) حيث أوضحنا هناك موقف ابن مجاهد من معاصره ابن شنبوذ لقراءته حروفا تخالف مصحف عثمان المجمع عليه، وكذلك موقفه من ابن مقسم العطار لقراءته حروفا تخالف الإجماع وإن كانت موافقة لخط المصحف العثمانى ومعروف أنه لم يكن منقوطا، فكان يصحّف بعض الكلمات ويستخرج لها وجوها ظنية. وكل منهما ناظره ابن مجاهد واعترف بخطئه وتوبته من صنيعه بحضرة القراء والفقهاء.

(2)

انظر فى ترجمة ابن مجاهد طبقات القراء لابن الجزرى 1/ 138 وطبقات الشافعية 3/ 57 والنجوم الزاهرة 3/ 258.

ص: 161

عن التابعين والصحابة فى تفسير الآى القرآنية. وكان الصحابة يحملون كل ما ذكره الرسول من تفسير لبعض آياته وبعض كلماته. وتفسير الطبرى من هذه الناحية يمكن أن يستخلص منه تفسير الرسول عليه السلام، وكذلك من عرفوا بكثرة التفسير من الصحابة والتابعين مثل ابن عباس وابن مسعود وتلاميذهما من مثل مجاهد وعكرمة. ومما يلاحظ عنده أنه لم يتوسع فى حمل الإسرائيليات، إذ كان يرى أنه لا غناء فيها وخاصة فى التفاصيل التى لا يضر الجهل بها، كمسألة المائدة التى أنزلت على عيسى فى سورة المائدة فى الآيات 112 إلى 115 فإنه وجد عند أصحاب الإسرائيليات من يتحدثون عما كان عليها من طعام هل كان سمكا أو خبزا أو ثمرا من ثمار أهل الحنة فقال إن العلم بذلك غير نافع، وبالمثل الآية رقم 20 من سورة يوسف إذ باعه إخوته {(بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ)} فقد وجدهم يتساءلون عن عدد الدراهم. هل كانت عشرين أو اثنين وعشرين أو أربعين، فأضرب عن ذلك قائلا إنه «ليس فى العلم بمبلغ ذلك فائدة تقع فى دين. . . والإيمان بظاهر التنزيل فرض وما عداه فموضوع عنا تكلف علمه» . ودائما يذكر مع كل آية القراءات المختلفة فيها، ويعرض لمعنى الكلمات من الوجهة اللغوية ويستشهد عليه بالأشعار الجاهلية والإسلامية، وكثيرا ما يفضّل شرح معنى للفظ على شرح معنى آخر. وكان يأخذ بفكرة حرية الإرادة التى أخذ بها المعتزلة، ولكنه لم يتعصب لهم، بل جادلهم فى بعض آرائهم وردّها عليهم من مثل رأيهم فى الرؤية البصرية لله وتأويلهم لها ويعلن مرارا أنه يقف مع السلف كما فى الآية رقم 74 من سورة البقرة وأنه يحسن أن يراعى المفسر المعنى الظاهر للفظ بدون تأويل، والأساس الذى لا محيد عنه هو عرض أقوال الصحابة والتابعين وعلماء الأمة لتبين معانى التنزيل الصحيحة الدقيقة.

ومنذ القرن الثانى يرجع المعتزلة إلى القرآن مفسرين مستشهدين ومتمثلين، محتكمين إلى عقولهم، ومحاولين أن يطابقوا بينه وبين آرائهم، وأداهم ذلك إلى أن يحملوا منذ أول الأمر على أصحاب التفسير بالمأثور الذين كانوا يقفون أحيانا مع ظاهر الآيات. وكانوا أحيانا لا يحكّمون عقولهم فيما يسمعون، فيروون غرائب لا يصدقها العقل السليم، وفى الجزء الرابع من كتاب الحيوان للجاحظ حملات شعواء للنظام

ص: 162

على أمثال هؤلاء المفسرين، وكان طبيعيّا ألا يقفوا عند تفسير آيات بعينها تخالف آراءهم الاعتزالية، بل يحاولوا بسط هذه الآراء فى تفسير القرآن جميعه، وأول تفسير عندهم هو تفسير أبى بكر الأصم المتوفى حوالى منتصف القرن الثالث وتفسيره مفقود، وأهم منه تفسير أبى على الجبّائى محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة 303، وهو بيد بعض المحققين بالقاهرة فى سبيل نشره، ولا بد أنه يمتلئ بالتأويلات الاعتزالية، ولا ريب فى أن الزمخشرى انتفع به فى تفسيره انتفاعا كبيرا.

وتأويلات المعتزلة لآى الذكر الحكيم إنما كانت تأويلات عقلية، وكان وراءهم فريقان يؤولان القرآن تأويلات اعتقادية، وهم الشيعة والصوفية، وكان الشيعة يخرجون عن ظاهر القرآن ملتمسين تأويلات بعيدة، إذ يذهبون إلى أن لفظا بعينه يقصد به علىّ أو غيره من أئمتهم وأن لفظا آخر يقصد به خصم من خصومهم، وصور ذلك ابن قتيبة عنهم. فقال إن منهم من يزعم أن الجبت والطاغوت فى الآية رقم 60 من سورة النساءهما معاوية وعمرو بن العاص (1). ونسبوا لأئمتهم تفسيرات مبكرة، فى مقدمتها تفسير نسبوه إلى جعفر الصادق المتوفى سنة 148 وتفسير ثان نسبوه إلى الحسن العسكرى المتوفى سنة 260 وهو آخر الأئمة الظاهرين عند الإمامية.

وتفسيراتهم من هذه الناحية تطبع بطابع الرواية عن أئمتهم وآل البيت بعامة.

أما تأويل المتصوفة حينئذ فلم يكن يبعد عن ظاهر اللفظ بعد التفسير الشيعى، إذ كان كل مأربه أن يوضّح من خلال بعض الآيات بعض الأفكار الصوفية، وربما كان أقدم تفسير لهم هو تفسير سهل التّسترىّ المتوفى حوالى سنة 283 ونراه فى آية سورة النور:{(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} -إلى قوله: {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)} يجعل النور المحمدى فى سابق الأزل أساسا للآية. وكأن سهلا سبق الحلاج فى فكرة النور المحمدى الأزلى.

وقد عرضنا فى كتاب العصر العباسى الأول لتطور منهج التأليف فى الحديث النبوى وأنه بدأ بتصنيفه على أبواب الفقه غالبا. وأن خير ما يصور هذه الطريقة

(1) انظر تفسير غلاة الشيعة فى كتاب تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص 84.

ص: 163

كتاب الموطأ لمالك بن أنس المتوفى سنة 179 ثم نشأت طريقة ثانية توزّع فيها الأحاديث على رواتها من الصحابة، فتجمع الأحاديث مثلا التى رواها أبو هريرة بدون نظر إلى اختلاف موضوعاتها الفقهية، فالأساس وحدة الصحابى لا وحدة الموضوع، على نحو ما هو معروف عن مسند ابن حنبل المتوفى سنة 241، وظل محدّثون يؤلفون على هذه الطريقة حتى نهاية هذا للعصر مثل أبى عبد الله محمد بن نصر المروزى المتوفى سنة 294 وتوجد من مسنده مخطوطتان بمكتبة دار الكتب المصرية. وأخذت تقترن بهذه الطريقة سريعا طريقة ثانية هى امتداد للطريقة الأولى آنفة الذكر، وكأنما رأوا أن الإفادة من طريقة المساند يكتنفها غير قليل من الصعوبة إذ لا بد لمن يريد الاطلاع على حديث، لراو من الصحابة فى مسألة من مسائل الفقه، من قراءة كل ما له من أحاديث، وكانت دراسات الفقه نمت حينئذ واحتاج الفقهاء إلى الاطلاع سريعا على بعض الأحاديث للاحتجاج بها فى كتبهم وضد مجادليهم، وأول مصنّف وصلنا من هذه الطريقة هو مصنف عبد الله بن محمد بن أبى شيبة المتوفى سنة 235. ثم ألف مصنفاتها الستة المشهورة. وهى الجامع للصحيح للبخارى المتوفى سنة 256 والصحيح لمسلم المتوفى سنة 261 والسنن لابن ماجة المتوفى سنة 273 وسنن أبى داود المتوفى سنة 275 والجامع للترمذى المتوفى سنة 279 وسنن النّسائى المتوفى سنة 303 وتعد أصح كتب الحديث المؤلفة لا فى هذا العصر وحده بل فى جميع العصور. ولم يكن الاعتماد فى هذه المصنفات وما يماثلها على دراسة الكتب، وإنما كان الاعتماد على الرواية ولقاء الرجال، مما جعل المحدّثين يرحلون إلى الأمصار الإسلامية المختلفة يجمعون من هنا وهناك ما تفرق من الأحاديث على نحو ما هو معروف عن البخارى فى تطوافه بأكثر مدن خراسان وإيران والعراق والشام والحجاز ومصر. وظل المحدّث الكبير يعتمد على حافظته فى إملائه الأحاديث، وكانوا إذا نزلوا بلدا ربما تعرضوا لامتحان العلماء لهم كى يعرفوا مدى حفظهم. ويحكى عن البخارى أنه قدم بغداد. فاجتمع أصحاب الحديث ورأوا اختباره فعمدوا إلى مائة حديث، قلبوا متونها وأسانيدها بأن جعلوا الإسناد مع غير متنه، واجتمع الناس، فألقوها على البخارى، فأنكرها حديثا حديثا، حتى إذا فرغوا أخذ يرويها رادّا كل متن إلى إسناده، وله فى

ص: 164

ذلك حكايات أخرى عجيبة (1). ومن طريف ما يروى فى هذا الجانب أن أبا داود صاحب السنن المذكور آنفا كان له ابن من حفاظ الحديث هو عبد الله قدم سجستان ذات مرة، فسألوه أن يحدّثهم، فقال لهم: ليس معى أصل، فقالوا متعجبين: ابن أبى داود وأصول! وأثاروه، فأملى عليهم ثلاثين ألف حديث من حفظه، وعاد إلى بغداد فوجد المحدّثين يذكرون قصته مع غير قليل بن الريبة، ولم يلبثوا أن أرسلوا إلى سجستان من يكتب لهم نسخة من الأحاديث التى أملاها، فكتبت وجئ بها، وعرضت على الحفاظ، فخطّأوه فى ستة أحاديث، منها ثلاثة حدّث بها كما سمعها، وثلاثة أخطأ فيها، وكأنه لم يخطئ فى كل عشرة آلاف حديث إلا فى حديث واحد (2).

ولا بد أن نقف قليلا عند البخارى ومسلم لنرى مبلغ دقتهما فى رواية الحديث ورفضهما لضعيفه، أما البخارى (3) محمد بن إسماعيل فقد أمضى ستة عشر عاما يجمع صحيحه من أفواه الرواة الثقات فى مختلف الأمصار، وكل حديث معه سنده من زمنه إلى زمن الصحابى راويه الأول، وهو يدرس ويفحص، حتى لا يروى إلا الحديث الصحيح الذى لا يرقى إليه شك، يفحص المتون ويفحص الرواة ليعرف المتهم من الوثيق عقيدة رقوة حافظة وخلوا من شوائب الكذب والغفلة، ولذلك كان طبيعيّا أن يؤلف تاريخه الكبير فى الرجال، ويروون عنه أنه كان يقول:

«قلّ اسم فى التاريخ إلا وله عندى قصة» وكان عفّ اللسان لا يشتد فى تجريح المتهمين من الرواة، بل يكتفى بمثل قوله:«فيه نظر» أو «سكتوا عنه» أو «هو منكر الحديث» . وجمع فى صحيحه-كما يقول ابن حجر فى مقدمته لشرحه عليه-7397 حديثا وإذا أضفنا إلى ذلك الأحاديث التى استأنس بها بلغت أحاديثه 9082، ويقال إنه انتخبها من نحو مائتى ألف حديث محكّما فى انتخابه شروطا غاية فى الشدة، حتى يحيطها بأقوى سياج من الصحة والثقة. وأول شروطه

(1) طبقات الشافعية 2/ 218.

(2)

السبكى 3/ 308.

(3)

انظر فى ترجمته تهذيب التهذيب 9/ 47 وشذرات الذهب 2/ 134 وطبقات الحنابلة بن أبى يعلى (طبع القاهرة) 1/ 271 وكتاب الجرح والتعديل لابن أبى حاتم (طبع حيدرآباد) ق 2 ج 3 ص 191 ووفيات الأعيان لابن خلكان (طبعة محمد محيى الدين عبد الحميد) 3/ 329.

ص: 165

أن يكون الإسناد متصلا، فلا يسقط من رواته أحد، وأن يكون كل راو مسلما، معروفا بالصدق، وعدم التدليس، والتخليط، عدلا، ضابطا، حافظا، سليم الذهن، قليل الوهم، سليم الاعتقاد، وكان يرى أن رواة كل إمام من أئمة الحديث يختلفون فى درجة الصلة به. فأصحاب الدرجة الأولى من لازموه فى السفر والحضر، ووراءهم من لم يلازموه سوى مدة قصيرة، واشترط فى رواة أسانيده أن يكونوا من أصحاب الدرجة الأولى، وبذلك اشترط فى الراوى المشافهة والملازمة. وقد يقال إن فى الصحيح أحاديث لا يتصل فيها الرواة يريدون التى ذكرت-كما قدمنا- للاستئناس فقط، وقد أخرجها ابن حجر فى عده لأحاديث الكتاب كما مرّ آنفا وكتاب الجامع الصحيح يبدأ بالحديث عن الوحى والإيمان وتتوالى كتب الفقه وأبوابه، ويقحم عليها أبوابا أخرى كحديثه عن بدء الخلق والجنة والنار وتراجم الأنبياء ومناقب قريش وفضائل الصحابة والمهاجرين والأنصار والسيرة النبوية والمغازى والأطعمة والأشربة والأدب وتعبير الرّؤيا. وختمه بكتاب التوحيد. وهو موزع على 97 كتابا تشتمل على 3450 بابا وبعضها فيه أحاديث كثيرة وبعضها فيه حديث واحد، وقد يوضع عنوان الباب دون كتابة شئ تحته، وكأنه كان ينوى أن يكتب فيما بعد تحته بعض الأحاديث وعاجله الموت. ومعروف أن الكتاب لم يكن قد وضع فى صورته النهائية. وهو يعدّ بحق أصحّ كتب الحديث إذ تحرّى البخارى فى جمعه تحرّيا ليس له سابقة ولا لاحقة فى تاريخ مصنفات الحديث، باذلا جهدا عنيفا تنقطع دونه الأمانى.

وأما مسلم فهو مسلم (1) بن الحجاج القشيرى النيسابورى المتوفى سنة 261 وصحيحه مثل صحيح البخارى فى الثقة والمنزلة، وقد روى أكثر أحاديث البخارى ولكن بطرق أخرى غير طرق أسانيده، ورتبه على كتب الفقه وأبوابه كما صنع البخارى، ولكنه لم يستكثر منها مثله. ونراه فى مقدمة صحيحه يذهب إلى أن الأحاديث ثلاثة أقسام: قسم رواه الحفاظ المتقنون لا يرقى إليه الشك، وقسم رواه المستورون المتوسطون فى الحفظ وهو يهبط درجة عن سابقه،

(1) انظر فى مسلم تاريخ بغداد 13/ 10 وتذكرة الحفاظ للذهبى (طبع حيدرآباد) 2/ 167 ومرآة الجنان اليافعى 2/ 174 ومقدمة النووى بشرحه عليه.

ص: 166

وقسم رواه الضعفاء والمتروكون، ويقول إنه إذا فرغ من رواية القسم الأول أتبعه القسم الثانى، أما القسم الثالث فإنه يهمله ولا يعرّج عليه. وتصريحه بأنه يروى من القسم الثانى جعل المحدثين من قديم يضعون صحيحه فى منزلة دون منزلة صحيح البخارى، بل إن منهم من حمل عليه مثل أبى زرعة (1) الرازى. على أن هناك من قدم على صحيح البخارى (2) لأنه أدق منه تأليفا، وساد ذلك خاصة بين حفاظ المغرب فكانت كثرتهم تفضله على صحيح البخارى. والحق أنه لا يفضله من وجهة التوثيق الخالصة، لسببب مهم، وهو أن البخارى اشترط فى الرواة الملازمة فى السفر والحضر لمن يروون عنهم، فى حين تخفف من ذلك مسلم، فاكتفى بالمشافهة والمعاصرة ولم يطلب الملازمة. ومما لا ريب فيه أن صحيح مسلم مع ذلك يعدّ فى الذروة من التوثيق، إذ كان دقيقا غاية الدقة، حتى إنه ليذكر الفروق بين روايات الحديث، ولو كانت حرفا، وكان على علم لا يبارى فى معرفة رجال الحديث الموثّقين والمتهمين. وذكروا أن عدد أحاديثه نحو 7270 حديثا. وهو مع صحيح البخارى أعلى كتب الحديث منزلة وأوفرها حظّا من الصحة والتوثيق ويليهما الكتب الأربعة التى سميناها آنفا والتى يطلق عليها معهما اسم كتب الصحاح الستة، وهى سنن أبى عبد الله محمد بن يوسف بن ماجه (3) القزوينى وقد اشتهر برحلاته الكثيرة فى ديار الإسلام، وتعدّ هذه السنن أضعف كتب الصحاح الستة لأن ابن ماجه ضمنها كثيرا من الأحاديث الضعيفة، ويقال إنها لم توضع فى سلك الكتب الستة إلا منذ المائة السادسة للهجرة، والكتاب الثانى سنن أبى داود سليمان (4) بن الجارود بن الأشعث الأزدى السجستانى، ولم يسلك فيها غير أحاديث الفقه والتشريع، ولعله لذلك حظى بتقدير رفيع بين المحدثين. وثالث الكتب الجامع لأبى عيسى محمد (5) ابن عيسى بن سهل الترمذى وقد عنى فيه بأحاديث الأحكام وذكر معها من احتج بها من أهل المذاهب. ولذلك كان الكتاب يفيد فائدة جلّى من يعنون

(1) تاريخ بغداد 4/ 274

(2)

طبقات الشافعية 3/ 276.

(3)

تذكرة الحفاظ للذهبى 2/ 209

(4)

انظر فى ترجمة أبى داود تاريخ بغداد 9/ 55 وتذكرة الحفاظ 2/ 167 ومرآة الجنان لليافعى 2/ 189 وطبقات الشافعية 2/ 293.

(5)

انظر تذكرة الحفاظ /1872/ والتهذيب لابن حجر 9/ 387 وميزان الاعتدال /1173/ والأنساب للسمعانى الورقة 106.

ص: 167

بدراسة الخلاف بين الفقهاء. ورابع الكتب سنن أبى عبد الرحمن أحمد (1) بن شعيب ابن على النّسائى، وقد عنى فيه بصيغ ونصوص فى المعاملات، كما عنى برواية أحاديث الاستعاذات والأدعية التى تقال فى الصلاة. وبجانب هذه الصحاح الستة ألفت كتب أحاديث مختلفة فى العصر، كما ألفت كتب مختلفة فى الرجال أى رواة الحديث، من أهمها تاريخ البخارى الذى أشرنا إليه، ويلحقه فى الأهمية كتاب التاريخ الكبير لأبى بكر أحمد ابن أبى خيثمة زهير بن حرب تلميذ ابن حنبل المتوفى سنة 279 وفيه تحدث عن تعديل الرواة وتجريحهم. وعنيت البيئات الشيعية بأن يكون لها حظ فى الاهتمام بالحديث، ومن أهم الكتب التى صنفتها كتاب جامع لأحاديث الإمامين: جعفر الصادق وموسى الكاظم، جمعه أبو العباس عبد الله بن جعفر بن الحسين بن مالك بن جامع الحميرى القمى فى أواخر القرن الثالث الهجرى.

وواضح من ذلك كله مدى النشاط الذى نهض به المحدثون فى تأليف كتب الحديث لهذا العصر، ويكفى أنه ألفت فيه كتب الصحاح الستة التى شغلت المحدثين بالتعليق والشرح والتفسير طوال العصور الماضية.

وكان هذا العصر متمما للعصر العباسى الأول فى نشاط الدراسات الفقهية والتشريعية، وقد رأينا هناك كيف أن المذاهب الفقهية الأربعة تكونت نهائيا، وظل الاجتهاد نشيطا، فالفقهاء يجتهدون ويتناظرون ويختلفون ويكثرون من التآليف والمصنفات، وتظهر مذاهب ثانوية لا يكتب لها البقاء، سوى مذهب داود الظاهرى، ولكن ظهورها يحمل الدلالة الواضحة على حرية الاجتهاد الفقهى حينئذ وأن أبوابه كانت مفتوحة على مصاريعها. وكان طبيعيا أن يصبح لكل مذهب مجموعة كبيرة من أساتذته وشيوخه يذيعونه فى العالم الإسلامى، ومن أهمهم فى المذهب الحنفى أبو بكر أحمد (2) بن عمر الشيبانى الخصاف المتوفى سنة 261 وله كتاب أحكام الوقف وهو منشور بالقاهرة وكتاب الحيل والمخارج فى الفقه، وهو منشور فى هانوفر والقاهرة. ولا يقل عنه أهمية فى هذا المذهب أبو جعفر

(1) انظره فى تذكرة الحفاظ 2/ 276 والتهذيب لابن حجر 1/ 36 ومرآة الجنان اليافعى 2/ 240 وشذرات الذهب 2/ 239 والسبكى 3/ 14.

(2)

انظر فى الخصاف الجواهر المضية لابن أبى الوفاء 1/ 87 والفوائد البهية للكنوى 17.

ص: 168

أحمد (1) بن محمد بن سلامة الحجرى الطحاوى المتوفى سنة 321 وقد انتهت إليه بمصر رياسة أصحاب أبى حنيفة، وهو الذى نشر بها المذهب وعمل على إذاعته، وله معانى الآثار، وهو منشور فى جزأين بمدينة لكنو وكتاب مشكل الآثار وهو منشور بحيدرآباد، ولا تزال له كتب كثيرة غير منشورة أحصاها بروكلمان. وقد حمل المذهب المالكى عن مؤسسه مالك بن أنس كثيرون فى مصر والمغرب والأندلس ولمع من فقهاء المذهب فى هذا العصر عبد السلام (2) بن سعيد بن حبيب التنوخى المشهور باسم سحنون القيروانى المتوفى سنة 240 وهو الذى نشر المذهب فى المغرب ودفعه إلى أن يشيع فى جميع أرجائها، وله فيه مصنفه الذى ظل اسمه يدوّى هناك منذ ظهوره، وهو المدونة الكبرى التى لا تزال تتّخذ المرجع الأساسى بتلك الديار لتعليم الفقه المالكى وتدريسه، وقد نشرت بالقاهرة من قديم، ونشرت لها شروح مختلفة. وقد خلف الشافعى وعمل على نشر مذهبه وعنى بالتصنيف فيه كثيرون فى مقدمتهم تلاميذه المصريون: البويطى والربيع المرادى، وأهم منهما المزنى (3) أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المتوفى سنة 264 ناصر المذهب وبدرسمائه كما يقول السبكى، وله مختصر من علم الإمام النفيس محمد بن إدريس ظل الشافعية يتدارسونه طويلا، وفيه يقول أبو العباس أحمد بن سريج المتوفى سنة 306 أكبر أئمة المذهب لأواخر القرن الثالث الهجرى الذى انتشر منه فى أكثر الآفاق (4):

لصيق فؤادى مند عشرين حجّة

وصيقل ذهنى والمفرّج عن همّى

جموع لأصناف العلوم بأسرها

فأخلق به أن لا يفارقه كمّى

وطبع هذا المختصر على هامش كتاب الأم للشافعى. وكان أحمد بن حنبل قد تتلمذ للشافعى، ثم استقل بمذهب فقهى خاص اعتمد فيه على الحديث النبوى، وبذلك عدّ مذهبه ممثلا لأهل السنة، ومن أهم أتباعه فى هذا العصر

(1) راجعه فى الجواهر المضية 1/ 102 وتذكرة الحفاظ للذهبى 3/ 29 والأنساب للسمعانى 157 وتاريخ دمشق لابن عساكر 2/ 542 والنجوم الزاهرة 3/ 239.

(2)

انظره فى الديباج المذهب لابن فرحون (طبع فاس) 171 وابن خلكان ومرآة الجنان لليافعى 2/ 151.

(3)

انظره فى وفيات الأعيان وشذرات الذهب 2/ 148 والأنساب للسمعانى 527 ومرآة الجنان لليافعى 2/ 177 والنجوم الزاهرة 3/ 39 وطبقات الشافعية للسبكى 2/ 93.

(4)

السبكى 3/ 31.

ص: 169