الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 - نمو الموضوعات الجديدة
على نحو ما حدث فى الموضوعات القديمة من إضافات كثيرة سواء من حيث المعانى أو من حيث التصاوير، أخذت الموضوعات الجديدة التى عرضنا لها فى كتاب العصر العباسى الأول تدخلها إضافات متنوعة، كما أخذت فروع من الموضوعات القديمة تستقل وتنمو نموّا واسعا حتى لتصبح موضوعات جديدة جدة خالصة، وأول ما نقف عنده مما تفرع عن الموضوعات القديمة أو تولد منها، شعر التهانى الذى تحول إليه شعر المديح فى بعض جوانبه، وخاصة التهانى بأعياد النيروز والمهرجان كما مر بنا آنفا، وكان أول من افتتح التهانى أحمد بن يوسف للمأمون (1)، ثم أصبح ذلك سنة عامة، ثم أخذ هذا الموضوع يتسع. فأكثروا من التهنئة بالمواليد، وأيضا فإنهم أكثروا من إرفاق الهدايا بأبيات من الشعر الرقيقة، من مثل قول سليمان بن وهب.
وقد أهدى إلى سليمان بن عبد الله بن طاهر سلال رطب من ضيعته (2):
أذن الأمير بفضله
…
وبجوده وبنيله
لوليّه فى برّه
…
بجناه سكّر نخله
فبعثت منه بسلّة
…
تحكى حلاوة عدله
وكثيرا ما كانوا يتهادون بالورود والرياحين فى أيام الربيع ويرسلون معها ببعض الأشعار، وكذلك كانوا يتهادون ببعض التحف والطرف النفيسة، وقد يصفون ما يهدونه تظرفا كقول ابن الرومى فى قدح أهداه إلى على بن يحيى المنجم (3):
وبديع من البدائع يسبى
…
كلّ عقل ويطّبى كل طرف
كفم الحبّ فى الملاحة بل أش
…
هى وإن كان لا يناجى بحرف
وسط القدر لم يكبّر لجرع
…
متوال ولم يصغّر لرشف
(1) ديوان المعانى 1/ 95.
(2)
الأغانى (طبعة الساسى) 20/ 71.
(3)
الديوان ص 33.
وظل الشعراء يقدمون لمدائحهم كثيرا بوصف الأطلال كما مر بنا، ونفذ البحترى من ذلك إلى موضوع جديد هو الحديث عن آثار الفرس ممثلة فى إيوان كسرى على نحو ما هو معروف فى قصيدته السينية التى تعدّ من روائع الشعر العباسى، وفيها يصور أطلال هذا الإيوان التى لا تزال ماثلة جنوبى بغداد إلى اليوم، وكان قد زاره بعد قتل المتوكل، فبكى همومه وأشجانه، وبكى الأطلال الكسروية ودولة الفرس القديمة ودولتهم الحديثة التى أدال منها الترك لعصره وأصبح لهم السلطان والصولجان، فإذا هم يطيحون بالخليفة، وإذا هم يسفكون دمه غير مراعين إلاّ ولا عهدا. وإنه ليذكر يد الفرس فى العصر العباسى الأول وتشييدهم لحضارته ومدنيته، مما يجعله ينوه بمجدهم القديم حتى ليكاد يرفعهم على العرب تحسرا على ما آلت إليه شئون الملك والحضارة فى عهد الترك. وهو لا يكاد يتماسك حزنا وحسرة ولوعة فى مستهل قصيدته لنبوّ ابن عمه عنه، وكأنه يرمز بذلك لقتل المتوكل، فإن أحدا من أهل بيته أو من أبناء عمومته لم ينصره، بل لقد اشترك ابنه وولى عهده المنتصر فى مؤامرة قتله، ويشتد بنفسه تأثير المحنة، فيتجه إلى المدائن عاصمة الفرس القديمة وإيوان كسرى تنفيسا عن نفسه، ويلمّ به كثير من الشجون، ويذكر إيران القديمة واتساع ملكها فى الشمال من باب الأبواب على بحر قزوين إلى جبال أرمينية، كما يذكر رفاهة العيش التى كانت بها، ولين الحياة ونعيمها وتملأ نفسه أطلال الإيوان وما نقش عليها من الرسوم والصور وخاصة ما سجّل بها من تصوير معركة حامية الوطيس بين الفرس بقيادة كسرى والروم وقعت بإنطاكية سنة 540 للميلاد، يقول وقد لفظ كلمة الإيوان باسمها الفارسى «الجرماز (1)»:
فكأن الجرماز من عدم الإن
…
س وإخلاقه بنيّة رمس (2)
لو تراه علمت أنّ الليالى
…
جعلت فيه مأتما بعد عرس
وإذا ما رأيت صورة أنطا
…
كيّة ارتعت بين روم وفرس
والمنايا مواثل وأنوشر
…
وان يزجى الصفوف تحت الدّرفس (3)
وعراك الرجال بين يديه
…
فى خفوت منهم وإغماض جرس (4)
(1) الديوان 2/ 1155.
(2)
رمس: قبر. الإخلاق: البل.
(3)
يزجى: يسوق. الدرفس: العلم الكبير.
(4)
خفوت: صمت. جرس: صوت خفى.
من مشيح يهوى بعامل رمح
…
ومليح من السّنان بترس (1)
تصف العين أنهم جدّ أحيا
…
ء لهم بينهم إشارة خرس
يغتلى فيهم ارتيابى حتى
…
تتقراهم يداى بلمس (2)
والبحترى لا يبارى فى تصويره الحسى، حتى لكأنما ينقل المشهد بحذافيره، لا لنبصره فحسب، بل أيضا لنلمسه بأيدينا، فهذا الإيوان لم يعد إيوان قصر يكتظ بالترف والنعيم، بل أصبح بناء قبر ضخم لحضارة الفرس الباذخة وحال كل ما كان فيه من أعراس إلى مآتم، غير أن صفحة منه لا تزال ناطقة بشجاعة الفرس ومجدهم الحربى، إذ تجسدت فيها صورة معركة أنطاكية بين الروم والفرس، وكسرى هاجم بجموع جيشه تحت العلم الفارسى الكبير، يمزق جموع الروم تمزيقا، والفرسان بين مهاجم ومدافع ولا صوت فى المعركة ولا جلبة، إنما هو تصوير ولكن بلغ من نطقه وقوة تعبيره أن تظن العين أنها ترى المعركة كأنما تحدث تحت بصرها، بل إن هذا الظن ليزداد فى نفس البحترى، حتى ليندفع إلى الصورة، يلمسها بيده ارتياعا وانبهارا. ويمضى فى الحديث عن الإيوان وثباته على الدهر حتى لكأنما قدّ أو نحت فى جبل عال ويصور ما يجلله من كآبة ممضة، وكأنما هو أليف غاب عنه أنس أليفه، أو زوج محزون لفراق عروسه، فانعكست أيامها ولياليها، بل لقد انعكست ليالى هذا الأيوان فغربت عنه كواكب السعد وأطلت عليه كواكب النحس المقيم، حتى ما كان يرفل فيه من بسط الديباج وستور الحرير نزع عنه نزعا، ومع ذلك لا تزال له كبرياؤه ولا تزال شرفاته شامخة شموخ جبال المدينة والقدس تختال فى ثيابها البيضاء الرائعة. وينقله خياله إلى ماضى هذا الإيوان التليد، فالوفود مزدحمة بأبوابه والجوارى من كل صنف تغص بها المقاصير والغرف، وكأن ذلك كان أول أمس، كان اللقاء والفراق، وصارت الرباع التى كانت مكتظة بالسرور ومتاعه منازل للعزاء والحزن الذى لا يريم، والبحترى يبكيها بدموع غزار، لما كان لأهلها قديما من عون للعرب فى حروبهم من الأحباش وما كان لهم حديثا من عون فى تشييد الخلافة العباسية وما رافقها من ازدهار الحضارة العربية،
(1) مشيح: مقبل. عامل الرمح: صدره مليح: خائف حذر.
(2)
يغتل: يتجاوز الحد ويعظم تتقراهم: تتبعهم.
ويبكى من خلال ذلك همومه وحزنه لمقتل المتوكل بأيدى الترك الذين صار إليهم بعد الفرس ال؟ ؟ ؟ والصولجان.
وإذا كان وصف الأطلال القديم أوحى للبحترى بهذا الموضوع الجديد، فإنه أوحى له ولكثيرين من حوله أن يصفوا قصور الخلفاء التى كانوا يشيدونها ويطيلون فى وصفها ووصف ما حولها من رياض وما يتقدمها من فوّارات وبرك على شاكلة قول على بن الجهم فى وصف أحد القصور الكثيرة التى كان يسكنها المتوكل بضواحى سامراء ووصف فوارتها أو نافورتها (1):
صحون تسافر فيها العيون
…
وتحسر عن بعد أقطارها
وقبّة ملك كأن النجو
…
م تفضى إليها بأسرارها
لها شرفات كأن الربيع
…
كساها الرياض بأنوارها
نظمن الفسيفس نظم الحلىّ
…
لعون النّساء وأبكارها (2)
فهنّ كمصطبحات برزن
…
بفصح النصارى وإفطارها (3)
فمنهنّ عاقصة شعرها
…
ومصلحة عقد زنّارها (4)
وفوارة ثأرها فى السّماء
…
فليست تقصّر عن ثارها
تردّ على المزن ما أنزلت
…
على الأرض من صوب مدرارها
وواضح أنه صوّر سعة أفنية هذا القصر وعظم قبّته وصعودها فى السماء حتى لكأنما تفضى إليها النجوم بأخبار الغيب وأنبائه، كما صوّر شرفات القصر وما زينت به من الفسيفساء الملونة الجميلة جمال الحلى على جيد النساء وأعناقهن، وتنوعت أشكال تلك الشرفات، حتى لقد أشبهت الفتيات حاملات الشموع فى عيد الفصح
(1) الديوان ص 29.
(2)
الفسيفساء: قطع من الرخام الملون الرقيق كانت تزين بها الحيطان والسقوف والشرفات. العون: جمع عوان، وهى السيدة النصف.
(3)
مصطبحات هنا: من أصبح أى أسرج، يريد حاملات الشموع. برزن: خرجن. فصح النصارى: عيد ذكرى القيامة.
(4)
تعقص شعرها: تشده على جيدها من خلف أو من وراء. والزنار: حزام يشد وسط الثوب على الخصر.
وذكرى قيامة المسيح، ومنهن من تلبّد شعرها وتشدّه وتجمّعه، ومنهن من تنتطق بأحزمة الزنّار مختالة، وفوارة ماتنى ترسل سهامها إلى السماء كأنما لها ثأر عندها، وكأنما تردّ على المزن قطرها.
وأهم من وصف القصور وصف الطبيعة، وكان الشعراء فى العصر العباسى الأول أكثروا من تصويرها فى مقدمات مدائحهم، وتبعهم شعراء هذا العصر يصفونها تارة فى إيجاز وتارة فى إطناب وإسهاب رامزين بها إلى عهد الممدوح وجماله، وكثيرا ما وصفوا فى هذه المقدمات الغيث والسحب والبروق لبيان كرم الممدوح من جهة وما شمل البلاد فى زمنه من خصب وامتد على صفحاتها من جنات وعيون وزروع، وتصور ذلك من بعض الوجوه حائية ابن المعتز فى مديح المعتضد، وقد استهلها بوصف البرق والسحاب الهاطل من مثل قوله (1):
من رأى برقا يضئ التماحا
…
ثقب الليل سناه فلاحا (2)
وكأن البرق مصحف قار
…
فانطباقا مرة وانفتاحا
فى ركام ضاق بالماء ذرعا
…
حيثما مالت به الريح ساحا (3)
لم يدع أرضا من المحل إلا
…
جاد أو بعد عليها جناحا (4)
وسقى أطلال هند فأضحت
…
يمرح القطر عليها مراحا
فالليل أضاءته مصابيح البروق، وكأنها حين تشتعل وتنطفئ مصاحف بأيدى قرّائها تنفتح وتنطبق، وسيول المطر تتدافع من كل صوب نافئة لعابها من جدب إلى جدب ومن حوض إلى حوض. والسحب تمد جناحها وتبسط ركامها والأرض تمرح فى نباتاتها ورياحينها وبطاحها الخضراء.
ومرّ بنا أنهم كانوا يكثرون من وصف الربيع فى تهنئاتهم بعيد النيروز، وأخذ حينئذ وصف الطبيعة يستقل عن المديح ويصبح فنّا قائما بنفسه، له قصائده وأشعاره، وهى تارة تعنى بوصف جميع الأنوار فى الربيع، ولا يبارى ابن المعتز
(1) الديوان ص 141.
(2)
التماحا: التماعا.
(3)
ركام: سحاب مركوم: متراكم بعضه فوق بعض.
(4)
المحل: الجدب.
فى هذا الاتجاه، إذ يحاول فى كثير من قصائده إحصاء كل نور وكل زهر من أبيض وأحمر وأصفر، وكانت له مخيلة تشبه آلة تصويرية دقيقة، فهى ماتنى تصور وتلتقط الدقائق وكأنها لا تريد أن تترك شيئا، ومن خير ما يصور ذلك عنده أرجوزته البستانية التى ذم فيها الصبوح أو خمر الصباح، وهو يفتتحها على هذا النمط (1):
أما ترى البستان كيف نوّرا
…
ونشر المنثور زهرا أصفرا
وضحك الورد إلى الشقائق
…
واعتنق القطر اعتناق وامق
فى روضة كحلل العروس
…
وخرّم كهامة الطاووس (2)
ومضى يذكر الياسمين والخشخاش والسوسن والبهار والجلنار إلى غير ذلك من أزهار، ولكل زهر صورته، الحية النابضة. وتعلق كثيرون بوصف الورد والتعبير عن روعته وفتنته التى تأخذ بالألباب؛ ولابن الجهم فيه قطعة بديعة يتحدث فيها عن رياحين الربيع وطيوره الغردة ونشوة النفوس به نشوة لا تقل عن نشوة الراح يقول (3):
لم يضحك الورد إلا حين أعجبه
…
حسن الرياض وصوت الطائر الغرد
بدا فأبدت لنا الدنيا محاسنها
…
وراحت الرّاح فى أثوابها الجدد
ما عاينت قضب الريحان طلعته
…
إلا تبيّن فيها ذلّة الحسد
وقابته يد المشتاق تسنده
…
إلى التّرائب والأحشاء والكبد
كأن فيه شفاء من صبابته
…
أو مانعا جفن عينيه من السّهد
بين النديمين والخلّين مضجعه
…
وسيره من يد موصولة بيد
قامت بحجّته ريح معطّرة
…
تشفى القلوب من الأرعاب والكمد
وهو تصوير بارع لصبابة الناس بالورد، حتى إنهم ليضمونه إلى الصدور والأحشاء والكبد يريدون أن يطفئوا به نيران أشواقهم، ويشفوا به لوعات صباباتهم
(1) الديوان ص 473.
(2)
الخرم: زهر بنفسجى اللون.
(3)
الديوان ص 89.
وسهادهم الطويل، وإنه ليتراءى دائما يتهاداه الأحبة وقد اتخذ مضجعه بينهم، وهم يتبادلون كئوس الحب الصافية، وأريجه ينتشر شذاه فى كل ما حولهم بلسما يشفى القلوب الكليمة. ولعل شاعرا لم يتعلق بالطبيعة فى العصر تعلق ابن الرومى والصنوبرى، ونحس عندهما بقوة الإحساس بفتنة الرياض النضرة والفاكهة اليانعة والمياه الجارية، وغلب ذلك على الشعراء حينئذ، حتى لنجد ابن قتيبة يدعو إلى نبذ وصف البساتين والورود والرياحين والعودة إلى وصف الفيافى وأزهارها ونباتاتها (1)، ولم يقف هذا التحول الجديد عند مجرد التخفف من موضوع الطبيعة الصحراوية الجافة والعناية بطبيعة الحياة الحضرية وورودها ورياحينها، بل لقد تحولت هذه العناية إلى فتنة شديدة بجمال الرياض والبساتين، فتنة خلبت ألباب الشعراء وملأت عليهم حواسهم وملكت عليهم قلوبهم، وخير من يصور ذلك ابن الرومى، إذ نحس فى وضوح شغفه بالطبيعة شغفا يفوق كل وصف، شغف العاشق بمعشوقته، حتى ليحس كأنما الدنيا فى الربيع تتبرج له ولكل ناظر، إذ يقول (2):
تبرّجت بعد حياء وخفر
…
تبرّج الأنثى تصدّت للذكر
بل لكأنما تحولت جوانبها تحت عينيه إلى معابد، فهو ما ينى يقدم لها قرابينه وأدعيته وابتهالاته مصورا جمالها المنبث فى كل أجزائها وما يجرى فيها من حياة، وبدون ريب يتقدم ابن الرومى شعراء العربية عامة فى الإحساس بخفقات الطبيعة وهمساتها وكل حركة فيها، حتى ليشبه فى هذا الجانب من بعض الوجوه شعراء الرومانسية الغربية الذين يفنون فى الطبيعة، ويحسون امتلاءها بالحياة، فكل ما فيها حى متحرك ناطق، وكل ما فيها يخفق بالأحاسيس والمشاعر، ومن خير ما يوضح ذلك عنده تصويره لمشهد الغروب، يقول (3):
لقد رنّقت شمس الأصيل ونفّضت
…
على الأفق الغربىّ ورسا مذعذعا (4)
وودّعت الدّنيا لتقضى نحبها
…
وشوّل باقى عمرها فتشعشعا (5)
(1) الشعر والشعراء (طبع دار المعارف 1966) ص 76.
(2)
الديوان ص 89.
(3)
الديوان ص 300.
(4)
رنفت: ضعفت. الورس: نبات أصفر. مذعذعا: متفرقا.
(5)
شول: ذهب. تشعشع: بقى أقله.
ولا حظت النّوّار وهى مريضة
…
وقد وضعت خدّا إلى الأرض أضرعا (1)
كما لاحظت عوّاده عين مدنف؟ ؟ ؟
…
توجّع من أوصابه ما توجعا (2)
وبيّن إغضاء الفراق عليهما
…
كأنهما خلاّ صفاء تودعا (3)
وظلت عيون النّور تخضلّ بالندى
…
كما اغرورقت عين الشجىّ لتدمعا (4)
وأزكى نسيم الروض ريعان ظلّه
…
وغنى مغنّى الطير فيه فسجّعا (5)
وكانت أرانين الذّباب هناكم
…
على شدوات الطير ضربا موقّعا (6)
وهو يصور وداع الشمس للطبيعة ساعة الغروب وما ترسل من الشفق الأصفر الشبيه بنبات الورس وزهره، وأشعتها تتبدّد إلا بقايا قليلة، فهى توشك أن تلفظ أنفاسها، وقد غلبها النزع الأخير فهى تذل وتستكين وتضع خدها على الأرض إيذانا بالفراق وإعلانا لما ألم بها من شدة الأوصاب والآلام، آلام الوداع المرير للنوار والأزهار التى تترقرق عيونها بندى بل بدمع سخين كما تترقرق بالدموع عيون المحبين المحزونين. على حين كان النسيم العليل يزكو وينمو والطير يشدو مرجعا ومرددا، وحتى الذباب لا ينساه ابن الرومى فقد كان رنينه يخالط شدو الطير وغناءه. ولم يكن الصنوبرى يبلغ هذا المبلغ من الإحساس بالطبيعة وعناصرها الحية، ومع ذلك فهو أهم شعرائها فى العصر بعد ابن الرومى، إذ عاش مشغوفا برياض بلدته حلب شمالى الشام وحدائقها وأزهارها، وأشعاره لا تصور فتنة عميقة بتلك الرياض على نحو ما نجد عند ابن الرومى، وإنما تصور براعة فى الخيال وإبراز الصور الظاهرية أو؟ ؟ ؟ .
والطريف عند الصنوبرى وابن الرومى جميعا أنهما يعنيان بتصوير الفواكه والثمار بجانب عنايتهما بتصوير الرياحين والورود والرياض، ومما يدل على أن موضوع الطبيعة ازدهر فى العصر أن نجد حينئذ فصولا تفرد لها فى بعض الكتب مثل كتاب
(1) أضرع: ذليل.
(2)
مدنف: مريض سقيم.
(3)
إغضاء الفراق: وحشته وكآبته.
(4)
تخضلّ: تترقرق وتندى. اغرورقت العين بالدموع: جالت بها.
(5)
أزكى: نمحّى.
(6)
أرانين: جمع إرنان أى رنين.
الموشى، فإن به فصلا خاصّا لما نظم فى وصف الورود، بل قد نجد كتبا فيها مثل كتاب مفاخرة الورد على النرجس لابن أبى طاهر أحد شعراء العصر النابهين.
ويدخل فى وصف الطبيعة وصف حيوانها الوحشى، ونرى البحترى يسوق مبارزة الفتح بن خاقان للأسد فى بعض مدائحه وكان قد خرج إلى الصيد، ففاجأه أسد فى طريقه، فنازله، وقتله، وصور ذلك البحترى فى مدحة بائية للوزير نراه فيها يتحدث حديثا مفصلا عن حياة الأسد فى الغابات والرياض وبطون الأودية وأعاليها، وكيف يهجم على قطعان الحمر وبقر الوحش وكيف يستلب عقائلها وينحرها لأشباله، ثم يصور المعركة بين الأسدين، إلى أن خرّ السبع يتضرج فى دمائه، يقول (1):
فلم أر ضرغامين أصدق منكما
…
عراكا إذا الهيابة النّكس كّذبا (2)
فأحجم لما لم يجد فيك مطمعا
…
وأقدم لما لم يجد عنك مهربا
فلم يغنه أن كرّ نحوك مقبلا
…
ولم ينجه أن حاد عنك منكّبا
حملت عليه السيف لا عزمك انثنى
…
ولا يدك ارتدّت ولا حدّه نبا
ولا يكتفى البحترى بوصفه لهذا الحيوان الوحشى، فقد تصادف أن لقيه ذئب فى بعض أسفاره، فنازله وقضى عليه، وأفاض فى تصوير هذا الذئب مستمدّا من ملكته البارعة فى تصوير الحسيات تصويرا يجسد ما يصفه تجسيدا قويّا؛ على شاكلة قوله (3):
وأطلس ملء العين يحمل زوره
…
وأضلاعه، من جانبيه شوى نهد (4)
له ذنب مثل الرّشاء يجرّه
…
ومتن كمتن القوس أعوج منأدّ (5)
طواه الطّوى حتى استمرّ مريره
…
فما فيه إلا العظم والروح والجلد (6)
(1) الديوان 1/ 200.
(2)
الضرغام: الأسد. النكس: الجبان الضعيف.
(3)
الديوان 2/ 743.
(4)
أطلس. مغير إلى سواد. الزور: الصدر. الشوى: اليدان والرجلان. نهد: بارز.
(5)
الرشاء: الحبل. منأد: معوج.
(6)
طواء الطوى: أضمره الجوع: استمر سريره: قوى واشتد.
يقضقض عصلا فى أسرّتها الرّدى
…
كقضقضة المقرور أرغده البرد (1)
سمالى وبى من شدة الجوع مابه
…
ببيداء لم تعرف بها عيشة رغد (2)
كلانا بها ذئب يحدّث نفسه
…
بصاحبه والجدّ يتعسه الجدّ
وهو يصف لون الذئب المغير إلى سواد، وأعضاءه المكتنزة من الصدر والأضلاع واليدين والرجلين، وذنبه الرفيع ومتنه الصلب، وكيف أضامره الجوع وعزله حتى لم يبن فيه إلا العظم والجلد، وهو يصوّت بأنياب صلبة معوجة كأنها السكاكين القاطعة وكأنه مقرور تصطك أسنانه من شدة البرد وهوله. وقد التقيا فى فلاة موحشة، كأنما استحال البحترى فيها لجوعه بدوره ذئبا مفترسا. ويحدثنا البحترى عقب ذلك عن استثارته للذئب ونزاله وطعناته فيه حتى خرّ صريعا. ويشتهر البحترى بوصفه للخيل وإتقانه لهذا الوصف حتى ليسبق فيه معاصريه بمثل قوله فى وصف فرس (3):
يهوى كما تهوى العقاب وقد رأت
…
صيدا وينتصب انتصاب الأجدل (4)
وتراه يسطع فى الغبار لهيبه
…
لونا وشدّا كالحريق المشعل (5)
هزج الصهيل كأنّ فى نغماته
…
نبرات معبد فى الثقيل الأول (6)
ملك العيون فإن بدا أعطينه
…
نظر المحبّ إلى الحبيب المقبل
والفرس يسرع كأنه عقاب تنقض على فريسة، ويقف منتصبا انتصابا تامّا كالصقر المترقب، وكأنه حين يجرى فى الغبار المتكاثف شعلة نار أو كأنه البرق الخاطف، وإن لصيهله لرنينا جميلا جمال أنغام معبد المغنى المشهور فى العصر الأموى، وإنه ليسحر العيون حين تنظر إليه حتى ليقيدها به كما يقيدها المحبوب فلا تلتفت عنه يمينا ولا يسارا. ويكثر حينئذ وصف الديك والهرّ، وأهم من ذلك أنه يكثر شعر الطرد والصيد.
(1) يقضقض عصلا: يصوت بأنياب معوجة: أسرتها: خطوطها. الردى: الهلاك. المقرور: الذى يحس البرد بشدة.
(2)
رغد: ناعمة.
(3)
الديوان 3/ 1745.
(4)
العقاب: من الجوارح ومثلها الأجدل وهو الصقر.
(5)
الشد: ارتفاع النار.
(6)
معبد: أشهر مغن فى العصر الأموى. الثقيل الأول لحن كان يودع فيه أكثر أغانيه.
وكان الشعراء منذ العصر العباسى الأول يلمون بوصف الأطعمة وألوانها الحضارية الجديدة، ونراهم فى هذا العصر يكثرون من وصفها ويخصونها بقصائد طويلة، ويروى المسعودى فى كتابه «مروج الذهب» مجلسا للخليفة المستكفى جعله لإنشاد جلسائه وندمائه-ما نظمه الشعراء فى أنواع الطعوم المختلفة، وليس من شك فى أن ابن الرومى يعدّ أكبر من عنى بوصفها، وكان منهوما بالطعام، فكاد لا يترك لونا من ألوانه دون أن يخصه بقصيدة أو مقطوعة، من مثل قوله فى دجاجة مشوية وما قدّم معها من الثريد والمرققات والقطائف (1):
وسميطة صفراء ديناريّة
…
ثمنا ولونا زفّها لك حزور (2)
عظمت فكادت أن تكون إوزّة
…
وثوت فكاد إهابها يتفطّر (3)
ظلنا نقشّر جلدها عن لحمها
…
وكأن تبرا عن لجين يقشر
وتقدّمتها قبل ذاك ثرائد
…
مثل الرياض بمثلهن يصدّر
ومرقّقات كلهن مزخرف
…
بالبيض منها ملبس ومدثّر (4)
وأتت قطائف بعد ذاك لطائف
…
ترضى اللهاة بها ويرضى الحنجر
ويخيل إلى الإنسان أنه لم يترك على موائد عصره طعاما إلا وصفه وصوّره مبدعا فى تصويره سواء أكان من طعام اللحوم أم طعام السمك، وربما كان من أسباب اهتمامه بذلك عناية معاصريه بالولاثم، ومرّ بنا فى غير هذا الموضع أنّهم أكثروا حينئذ من التأليف فى الأطعمة، وأيضا فإن أشعاره تدل على شدة نهمه بالأطعمة وحدة شراهته، وكأن السببين جميعا جعلاه يولع بالحديث عن المآكل والمشارب، ومن طريف قوله فى الرءوس والأرغفة (5):
روس وأرغفة ضخام فخمة
…
قد أخرجت من جاحم فوار
كوجوه أهل الجنة ابتسمت لنا
…
مقرونة بوجوه أهل النار
(1) الديوان ص 478 وذيل زهر الآداب ص 236.
(2)
حزور: غلام فيه فتوة دينارية: نسبة إلى الدينار. سميطة: دجاجة مسموطة.
(3)
إهابها: جلدها. يتفطر: يتشقق.
(4)
ملبس ومدثر: مغطى.
(5)
ذيل زهر الآداب ص 239.
ويحدثنا فى بعض شعره عن تخمته وبشمه، كما يحدثنا عن تشوقه دائما لكل ما على الموائد ولهفته عليه كقوله فى قطائف قدّمت إليه (1):
قطائف قد حشيت باللّوز
…
والسكّر الماذى حشو الموز (2)
تسبح فى آذىّ دهن الجوز
…
سررت لما وقعت فى حوزى (3)
سرور عباس بقرب فوز
فهو يغرم بتلك القطائف، وكأنها معشوقته أو كأنه عباس بن الاحنف الذى اشتهر بعشقه لفوز عشقا ملك عليه كل مشاعره وعواطفه وأهوائه.، ولم يكن بن الرومى يعشق القطائف وصنوف الحلوى والأطعمة فحسب، بل كان يعشق معها أيضا الفاكهة، وكأنها كانت غذاء لقلبه قبل أن تكون غذاء لمعدته، ومما كان يعشقه من ألوانها الموز وكذلك العنب الرازقى، وفيه يقول (4):
ورازقىّ مخطف الخصور
…
كأنه مخازن البلّور (5)
وفى الأعالى ماء ورد جورى
…
لم يبق منه وهج الحرور (6)
إلا ضياء فى ظروف نور
…
لو أنه يبقى على الدهور
قرّط آذان الحسان الحور
…
له مذاق العسل المشور
ونكهة المسك مع الكافور
ومرّ بنا فى حديثنا عن الملاهى أنه كان من أهم ملاهيهم لعبتا النّرد والشطرنج، ويسوق المسعودى فى «مروجه» طائفة من الأشعار التى نظمت حينئذ فى اللعبتين، ويذكر أن أصحابهما وصفوهما فى أشعار كثيرة، ومما اختاره منها فى الشطرنج ووصف اللعب به وما يدور على رقاعه من معاركه قول على بن الجهم (7):
(1) الديوان ص 477.
(2)
الماذى: شديد الحلاوة.
(3)
آذى: موج.
(4)
الديوان ص 195 وزهر الآداب 2/ 9.
(5)
مخطف: ضامر.
(6)
الورد الجورى: ورد شديد الحمرة.
(7)
مروج الذهب 4/ 235 والديوان (طبعة المجمع العلمى العربى بدمشق) ص 179.
أرض مربعة حمراء من أدم
…
ما بين إلفين موصوفين بالكرم
تذاكرا الحرب فاحتالا لها شبها
…
من غير أن يأثما فيها بسفك دم
هذا يغير على هذا وذاك على
…
هذا يغير وعين الحرب لم تنم
فانظر إلى الخيل قد جاشت بمعركة
…
فى عسكرين بلا طبل ولا علم
ويبدو أنهم بلغوا حنيئذ مبلغا بعيدا من المهارة فى لعب الشطرنج، وكانوا يعقدون له مجالس يتفرجون فيها على لاعبيه وحذقهم فيه، وكانوا يملئونها بفنون النوادر، وممن اشتهر حينذاك بالبراعة فى لعبه وإحسانه إحسانا يفوق كل وصف أبو القاسم التوزّى الشطرنجى. ووصف ابن الرومى مهارته فى قصيدة طويلة وصفا رائعا، استهله ببيان نفاذ فكره وبصيرته فى تلك اللعبة، وكيف أنه كان يهزم كل من يلاعبه ويعصف به وبجنوده ورخاخه بتدبيره اللطيف الخفى، حتى ليوشك أن يكون أخفى من السر فى ضمير محب أدّبته عقوبة الإفشاء، وما يلبث أن يخاطبه بقوله (1):
غلط الناس لست تلعب بالشطرنج
…
لكن بأنفس الّلعباء
لك مكر يدبّ فى القوم أخفى
…
من دبيب الغذاء فى الأعضاء
أو دبيب الملال فى مستهامي
…
ن إلى غاية من البغضاء
او مسير القضاء فى ظلم الغي
…
ب إلى من يريده بالتواء
تقتل الشاه حيث شئت من الرّق
…
عة طبّا بالقتلة النكراء
غير ما ناظر بعينيك فى الدّس
…
ت ولا مقبل على الرّسلاء
بل تراها وأنت مستدبر الظه
…
ر بقلب مصوّر من ذكاء
ما رأينا سواك قرنا يولّى
…
وهو يردى فوارس الهيجاء
وأبو القاسم-فى رأى ابن الرومى-لا يلعب بالشطرنج ولكن يلعب بأنفس لاعبيه بدهاء أشد خفاء من سريان الغذاء فى الجسم، بل سريان الملال فى متحابين حتى ينتهى بهما إلى حافة البغضاء، بل مسير القضاء فى حجب الغيب إلى من
(1) الديوان ص 39.
يرديه، ويصوره قاتلا للشاه فى كل مكان من الرقعة بفنه وطبه، دون أن ينظر إليه وإلى مكانه من جنوده، بل أيضا يقتله وهو مدبر عن الدست بظهره، وكأنما له عين يرى بها من خلفه حدة ذكاء ونفاذ بصيرة.
وذكرنا فى كتاب العصر العباسى الأول كيف أن بعض الشعراء، وفى مقدمتهم أبو تمام، كانوا يضعون أحيانا فى مقدمات قصائدهم شكوى مرة من الزمن وهمومه وأن منهم من أفرد للشكوى بعض قصائد ومقطوعات، ولكن هذه الشكوى تظل فى العصر السالف فردية، أما فى هذا العصر العباسى الثانى فإنها تصبح موجة عامة قل من لم تعمه، لفساد الأحوال السياسية التى وصفناها فى غير هذا الموضع، فإذا المناصب يتولاها غير أهلها، وإذا السعايات تفشو ويفشو معها ارتفاع الوضيع وتعظم المحنة ويستسلم الناس إلى غير قليل من اليأس، ويحسون كأن لا أمل فى الإصلاح، فقد عم الظلم واضطربت القيم وكأنما لم يعد للشر والنّكر غاية ينتهيان إليها أوحد يقفان عنده، أو قل كأنما أصبحت الحياة يأسا متصلا، لذلك كان طبيعيا أن نجد الشكوى على كل لسان، شكوى مريرة من الزمن وأهله، على شاكلة قول الكندى الفيلسوف (1):
أناف الذّنابى على الأرؤس
…
فغمّض جفونك أو نكّس (2)
وضائل سوادك واقبض يديك
…
وفى قعر بيتك فاستجلس
وعند مليكك فابغ العلوّ
…
وبالوحدة اليوم فاستأنس
فإن الغنى فى قلوب الرجال
…
وإن التعزّز بالأنفس
وكائن ترى من أخى عسرة
…
غنىّ وذى ثروة مفلس
ومن قائم شخصه ميّت
…
على أنه بعد لم يرمس (3)
والكندى متشائم إلى أبعد حد، فقد اختلت موازين الحياة، فارتفع الوضيع وهبط الرفيع، ولم يعد هناك مفر من هذا البلاء ولا خلاص، فاعتزل الدنيا، وعش وحيدا بعيدا عن هذا النكر الذى يصطلى الناس ناره، ولا تؤمل فى أن ينقشع هذا
(1) ابن أبى أصيبعة ص 288.
(2)
أناف: أشرف: نكس: طأطئ الرأس ذلا.
(3)
يرمس: يقبر.
الظلام، فلم يعد لك من أمل سوى الالتجاء إلى مليكك وساحات برّه. ويزدرى الكندى ما فى أيدى أصحاب الجاه والسلطان من مال تعافه النفوس الكريمة، فيقول إن الغنى غنى النفس العزيزة، وكم من فقير هو فى حقيقته غنى بقلبه وأخلاقه الرفيعة، وكم من غنى هو فى حقيقته فقير بأخلاقه الذميمة، بل إنه ميت وإن بدا حيّا، ميت لم يقبر ولم يوضع فى رمسه. وإذا كان الكندى قد بلغ من الشكوى هذا الحد فإن من عاصره من الشعراء ومن جاءوا بعده كانوا يشعرون بنفس المحنة، حتى من نشأ منهم فى بيوت الترف والدعة أمثال ابن المعتز، والشكوى تكثر فى ديوانه من مثل قوله (1):
لم يبق فى العيش غير البؤس والنّكد
…
فاهرب إلى الموت من همّ ومن نكد
ملأت يا دهر عينى من مكارهها
…
يا دهر حسبك قد أسرفت فاقتصد
وكان طبيعيّا أن يتعمق هذا الإحساس ابن الرومى الذى لم يكن يوسع له الوزراء والكبراء فى مجالسهم وعطاياهم، بل كانوا يلقونه فى كثير من الأحوال بالحرمان والنكران، وكان يعرف فى دقة عبقريته الشعرية، فضاق بالناس وضاق بالحياة، وكانت كما أسلفنا شرّا ونكرا خالصين، فعاش يتجرعها غصصا، ولا مغيث ولا مخلص ولا معين، فكان طبيعيّا أن يتحول متشائما وأن يصبح التشاؤم فلسفة له، فالحياة كلها سواد وكلها ظلام وكلها بلاء لا يطاق، ويصور ذلك تصويرا بديعا فى بكاء الطفل حين ولادته. يقول (2):
لما تؤذن الدنيا به من صروفها
…
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنها
…
لأفسح مما كان فيه وأرغد
إذا أبصر الدنيا استهلّ كأنه
…
بما سوف يلقى من أذاها مهدّد
وللنفس أحوال تظلّ كأنها
…
تشاهد فيها كل غيب سيشهد
فالدنيا آلام ثقال وأهوال طوال، والطفل يشعر بذلك ساعة ولادته فيبكى بكاء مرا، وكان من الواجب أن يفرح لا أن يبكى؛ لأنه أخذ حظّا من الحرية
(1) الديوان ص 186.
(2)
الديوان ص 393.
بالقياس إلى المكان الذى كان فيه، وكأنما رأى بعينيه ما يتهدده فى دنياه من الأذى الممض الذى سيملأ نفسه شقاء وعناء.
وصوّر الشعراء-على غرار أسلافهم العباسيين-كثيرا من العواطف الدقيقة، وحللوا كثيرا من المشاعر والشيم الرفيعة والأخلاق الزرية، فمن ذلك تصوير ابن المعتز لحساده وما يأكل قلوبهم من الحسد والضغينة، يقول من قصيدة طويلة (1):
يا من يناجى ضغنه فى نفسه
…
ويدبّ تحتى بالأفاعى اللّدّغ
ويبيت تنهض رفرة فى صدره
…
حسدا وإن دميت جراحى يولغ (2)
ما زال يبغى لى بكل قرارة
…
حمة الأذى ويشير إن لم يلدغ (3)
نغلت ضمائر صدره من دائه
…
نغل الإهاب معطّنا لم يدبغ (4)
لا تبتغى منى التى لا أبتغى
…
إن كنت مشغولا بشأنى فافرغ
وابن المعتز يصور حسوده فى صورة كريهه، فهو ما يزال يدب من تحته بأفاعيه السامة وما تزال زفراته تصعد فى صدره وما يزال يلتمس جرحا له ليولغ فمه فى دمائه، وما يزال يريد به الطامة الكبرى، كعقرب إن لم تلدغ بحمتها أشارت تريد نزول الكارثة، وقد نغلت وفسدت طوايا صدره وكأنها إهاب معطن يتمزق. وابن الرومى لا يبارى فى تحليل مثل هذه المعانى وما يتصل بها من الطباع والشيم، وله قصيدة طويلة يحلل فيها شيمة الصبر وكيف أنها تحمد حين لا تكون لها ضرورة فكيف بها إذا أوجبتها الضرورة والحاجة الملحة حين تنزل بالإنسان مكاره ليس له منها مهرب. إن الصبر حينئذ يكون نعم الجنّة والدرع الواقى. ويدفع ما يقال من أن من الناس من خلق جزعا هلوعا، فهو لا يستطيع الصبر وكظم النفس عند الشدائد. يقول (5).
وقد يتظنّى الناس أنّ أساهم
…
وصبرهم فيهم طباع مركّب
(1) الديوان ص 315 والمختار من شعر بشار ص 68.
(2)
ولغه: شربه بطرف اللسان، أو حرك لسانه فيه.
(3)
الحمة: السم أو إبرة العقرب التى يلدغ بها.
(4)
نغل: فسد.
(5)
الديوان ص 315.
وأنهما ليسا كشئ مصرّف
…
يصرّفه ذو نكبة حين ينكب
وليسا كما ظنوهما بل كلاهما
…
لكل لبيب مستطاع مسبّب
يصرّفه المختار منا فتارة
…
يراد فيأتى أو يذاد فيذهب
فالصبر الجميل والجزع الذميم مكتسبان يكتسبهما الإنسان بمحض إرادته واختياره، ولا جبر فيهما ولا طبع، بل هما من عمل الإنسان وبمشيئته، إن شاء جزع عند المصيبة وإن شاء لم يصبه جزع ولا هلع، بل عصم نفسه منهما واحتملهما صابرا جلدا شجاعا أروع ما تكون الشجاعة والجلد والصبر.
وأخذ التصوف ينمو سريعا منذ فاتحة هذا العصر ويستقل عن الزهد استقلالا تامّا، إذ مضى أصحابه يتحدثون عن الحب الإلهى ومقاماته وأحواله، وكانوا يأخذون أنفسهم بمجاهدات عنيفة فى التقشف والنسك مع الانقطاع عن الدنيا والخلوص التام للمحبة الإلهية والنشوة بها إلى درجة الفناء فى الذات العلية، ولهم أشعار كثيرة يصورون بها هذا العشق وما دلع فى قلوبهم من لوعة لا يمكن إطفاؤها، لوعة حب قوى حار، استأثر بكل ما فى قلوبهم من عواطف ومشاعر، وشغلهم عن كل شئ، إذ شغفوا بمحبوبهم شغفا عظيما، بل لقد تحول هذا الشغف عقيدة جمعوا فيها بين محبة الله وبين تقديسه وعبادته، آملين منه فى الوصال وأن يرفع ما بينه وبينهم من حجب، ولكن أنى يكون ذلك؟ إن الدرب دائما يبدو طويلا ودونه أهوال لا حصر لها، أهوال تملأ قلوبهم حسرات ألا يستطيعوا آخر الأمر لقاء المحبوب، ويصور ذلك من بعض الوجوه أبو الحسن النورى إذ يقول (1):
كم حسرة لى ولد غصّت مرارتها
…
جعلت قلبى لها وقفا لبلواك
وحقّ ما منك يبلينى ويتلفنى
…
لأبكينّك أو أحظى بلقياك
وواضح أن النورى يتجرّع غصصن الحسرات المرة، بل إنه لينتظر البلى والتلف فى سبيل فرحة نفسه باللقاء المنتظر، وإنه ليحس الضنا، بل إنه ليحس السقم والعلة، ولا يجد شفاء لعلته وسقمه، بل إنه ليجد لذة لا تعد لها لذة فى هذا
(1) طبقات الصوفية السلمى ص 153.
السقم وما يتصل به من عذاب هذا الحب الظامئ وناره التى لا تخمد أبدا، حتى ليقول (1):
إن كنت للسقم أهلا
…
فأنت بالشكر أولى
عذّب فلم تبق قلبا
…
يقول للسّقم مهلا
فهو يشكره على سقمه لأنه يجد فيه متاعا لا يشبهه متاع، بل إنه ليطلب عذابه لأنه لم يعد يشعر بقلبه ولا بما قد يألم من العذاب والسقم.
وكان طبيعيّا أن ينمو فى العصر الشعر الذى يصور حياة الشعب وما كان يجرى فيها من بؤس وإقلال ومسغبة، ومن خير الشعراء الذين يصورون هذا الجانب جحظة البرمكى، إذ نراه يكثر من بيان الشقاء والبؤس اللذين يعيش فيهما بمثل قوله (2):
إنى رضيت من الرحيق
…
بشراب تمر كالعقيق
ورضيت من أكل السّمي
…
ذ بأكل مسودّ الدقيق
ورضيت من سعة الصح
…
ون بمنزل ضنك وضيق
وكان يذهب مذهبه فى الكدية واحتراف التصعلك والشحاذة الأدبية غير شاعر، وكان لهذه الطائفة مقدمات فى العصر العباسى السالف، ولكنها اتسعت فى هذا العصر، وأصبح هناك كثيرون يتخذون الكدية حرفة لهم يبتزون بها أموال الناس.
وظلت مجالس الخلفاء وعلية القوم تعنى بالفكاهات والنوادر المستملحة، وأشاع ذلك روحا هزلية فى كثير من الشعراء، وكانوا ما يزالون يتخذون الوسائل إلى ذلك، كأن نجد شخصا يسمى سعيد بن أحمد بن خوسنداد يهدى إلى ابن حمدون شاة هزيلة، فينظم فى وصفها كثيرا من المقطوعات، تارة يصور هزالها وتارة يصور جوعها وحرمانها وبؤسها فى أبيات كلها دعابة وكلها سخرية وفكاهة من مثل قوله (3):
(1) السلمى ص 156.
(2)
ذيل زهر الآداب ص 149.
(3)
زهر الآداب 2/ 234.