الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل التّاسع:
أعلام الكتاب
1 -
إبراهيم (1) بن العباس بن محمد الصولى
كان جده صول حاكما لجرجان مع أخيه فيروز، وكانا تركيين يدينان بالمجوسية ويتشبّهان بالفرس، ودخل صول الإسلام على يد يزيد بن المهلب والى خراسان للحجاج، وأصبح من خاصّته، حتى إذا ثار يزيد على بنى أمية فى مطالع القرن الثانى الهجرى حارب تحت لوائه حتى قتل معه فى موقعة العقر بالقرب من الكوفة. وكان ابنه محمد من رجال الدولة العباسية ودعاتها، ونشأ له ابنه العباس فى ظلال تلك الدولة، ورزق ولدين: عبد الله وإبراهيم، وكان عبد الله أكبر سنّا من أخيه. وقد ولد إبراهيم سنة 176 للهجرة، وقيل بل سنة 167 ويقول مترجموه إن أمه كانت أخت العباس بن الأحنف الشاعر المشهور، وكأنه هو وأخاه تأدّبا عليه فى باكورة حياتهما، كما تأدبا على ابن عمهما عمرو بن مسعدة الكاتب المشهور فى عصر المأمون. ومن المؤكد أن إبراهيم لزم-على عادة لداته-حلقات العلماء والشعراء حتى أصبح يتقن العربية، وتفتحت موهبته الشعرية مبكرة. وكان أخوه عبد الله سبقه إلى العمل مع ابن عمه عمرو بن مسعدة فى دواوين الفضل بن سهل الملقب بذى الرياستين وزير المأمون، حين كانا لا يزالان فى مرو قبل تحول المأمون
(1) انظر فى ترجمة إبراهيم بن العباس ورسائله وشعره وأخباره الأغانى (طبع دار الكتب) 10/ 43 والفهرست لابن النديم ص 182 وتاريخ بغداد 6/ 117 ومعجم الأدباء لياقوت 1/ 164 ومروج الذهب 4/ 23 وكتاب الورقة لابن الجراح (طبع دار المعارف) ص 136 وابن خلكان فى إبراهيم وتاريخ الطبرى فى ترجمة المتوكل وجمهرة رسائل العرب لأحمد زكى صفوت، وديوانه بتحقيق عبد العزيز الميمنى فى كتاب الطرائف الأدبية طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر.
إلى بغداد. ويبدو أن إبراهيم أراد الالتحاق بأخيه وابن عمه وعملهما، فرحل إليهما، وتصادف حين وصوله أن كان المأمون قد عهد بالخلافة من بعده إلى على بن موسى الرّضا. ويمدح إبراهيم ولى العهد الجديد، ويهبه عشرة آلاف درهم من دراهم كانت ضربت باسمه، ويقال إنه احتفظ بها وجعل منها مهور نسائه، وأبقى بعضها لكفنه فيما بعد وجهازه إلى قبره (1). وألحقه الفضل بن سهل بدواوينه، ومن حينئذ ظلّ يعمل فى الدواوين إلى أن توفى سنة 243 وهو على ديوان النفقات والضياع للمتوكل، ويقول صاحب الفهرست:«كان إليه ديوان الرسائل فى مدة جماعة من الخلفاء» (2).
وقد ترك الدواوين مدة قصيرة لعهد الواثق جرّت عليه بلاء عظيما، ذلك أن ابن الزيات الوزير-وكان صديقا له-ولاّه على معونة الأهواز وخراجها، ثم تنكّر له، فوجّه إليه بمحاسب كبير يسمى أبا الجهم ليكشفه، فتحامل عليه تحاملا شديدا، وقال إن أموالا كثيرة لم تؤدّ إلى بيت الخراج، وغضب ابن الزيات، وأمر بعزله واعتقاله فى ولايته. وكانت محنة كبيرة لإبراهيم لم يبل فيها صديقه ابن الزيات وحده، بل بلا فيها كثيرا من الأصدقاء ومن كانوا يظهرون له المودة، إذ قلبت له منهم جماعة ظهر المجنّ مثل أحمد بن المدبر، الذى كان يوغر صدر ابن الزيات عليه ويحثه على محاسبة عمّاله واستخراج الأموال منهم، مما جعله يزهد فيما بعد فى صحبة الإخوان والرفقاء وكان إذا سئل فى ذلك قال:«ما مثل الإخوان إلا كمثل النار قليلها مقنع وكثيرها محرق أو قليلها متاع وكثيرها بوار» . ولعل ذلك ما جعله ينظم أشعارا كثيرة فى الصداقة والصديق، كأنما يريد أن يرسم واجباتها ومسئولياتها. ولم يعدم بعض الإخوان الذين كانوا يشفعون له عند ابن الزيات وهو ماض فى النكاية به، وقد كتب إليه شعرا ونثرا كثيرا يستعطفه، ومن أطرف ما كتب له هذه الرسالة (3):
«كتبت إليك وقد بلغت المدية المحزّ، وعدت الأيام بك علىّ بعد عدوى بك عليها، وكان أسوأ ظنى وأكثر خوفى أن تسكن فى وقت حركتها،
(1) الأغانى 10/ 52.
(2)
الفهرست ص 182.
(3)
الأغانى 10/ 56 ومعجم الأدباء 1/ 170.
وتكفّ عند أذاها، فصرت علىّ أضرّ منها، وكفّ الصديق عن نصرتى وبادر إلىّ العدوّ تقرّبا إليك. وكتب تحت ذلك:
أخ بينى وبين الدّه
…
ر صاحب أيّنا غلبا
صديقى ما استقام فإن
…
نبا دهر علىّ نبا
وثبت على الزمان به
…
فعاد به وقد وثبا
ولو عاد الزمان لنا
…
لعاد به أخا حدبا»
والرسالة توضّح شخصيته الأدبية فهو كاتب شاعر، ويقول المسعودى:«كان كاتبا بليغا وشاعرا مجيدا، لا يعلم فيمن تقدم وتأخر من الكتّاب أشعر منه» (1).
ويقول ابن الجرّاح فى كتابه الورقة: «أشعر نظرائه الكتّاب وأرقهم لسانا، وأشعاره قصار ثلاثة أبيات ونحوها إلى العشرة، وهو أنعت الناس للزمان وأهله غير مدافع» (2) ويقول أبو الفرج الأصبهانى: «كان يقول الشعر ثم يختاره، ويسقط رذله، ثم يسقط الوسط، ثم يسقط ما سبق إليه، فلا يدع من القصيدة إلا اليسير، وربما لم يدع منها إلا بيتا أو بيتين» (3). وشعره مقطوعات حقّا، ولكنها مقطوعات ترقى إلى مرتبة رفيعة فى البلاغة، مثلها مثل هذه الرسالة القصيرة التى كتب بها لابن الزيات راجيا أن يخلصه من محنته، فكل كلمة فيها قد اختارها ذوق أدبى مصفّى، وكل عبارة قد أحكمت، أحكمتها يد صناع، فالمدية قد بلغت المحز كناية عن بلوغ المحنة الحد الأقصى، والأيام تعدو بابن الزيات عليه بعد أن كان يعدو به عليها، لقد كان ينتصر به عليها، فإذا هى تقهره به، وما أدق قوله له فى رسالة أخرى (4):
وكنت أعدّك للنائبات
…
فها أنا أطلب منك الأمانا
فناصره أصبح قاهره. ويتوالى الطباق فى الرسالة، فالسكون يقابل الحركة والكف يقابل المبادرة والصديق يقابل العدو. وظل ابن الزيات لا يعفو عنه، حتى بلغ منه كل مكروه، ثم عرف الواثق تحامله عليه وأنه مظلوم فيما نسبه إليه
(1) مروج الذهب 4/ 23.
(2)
كتاب الورقة ص 136.
(3)
الأغانى 10/ 43.
(4)
الأغانى 10/ 57 ومعجم الأدباء 1/ 171.
أبو الجهم، فأمر ابن الزيات بردّ حربته إليه وانتظامه فى حاشيته وبلاطه مصونا، فبسط لسانه فى غريمه ونظم فيه أشعارا كثيرة ذامّا هاجيا. وقد يكون ما حدث بينه وبين ابن الزيات هو الذى جعل المتوكل يقرّبه منه منذ أول عهده بالخلافة، فقد كان بدوره ينقم على ابن الزيات أشياء كثيرة، فلم يكد يتقلّد الخلافة حتى صادر أمواله، وعذبه فى تنّور ملئ بمسامير من الحديد حتى مات.
وأصبح إبراهيم بن العباس حظيّا عند المتوكل، فقلّده ديوان رسائله ودواوين مختلفة، وظل حتى وفاته يكتب عن المتوكل كل الكتب التى تصدر عنه، سواء أكانت منشورات أم عهودا لأولياء العهد أم فتوحا أم تهنئات بالأعياد أم تعازى باسم الخليفة، وأحيانا ينصّ الطبرى أن هذا الكتاب أو ذاك من إنشائه، وأحيانا لا ينص. ومن أوائل ما كتب له المنثور الموجّه إلى عمّاله فى الآفاق بشأن النصارى وأهل الذمة وأخذهم بلبس الطّيالسة والزّنانير، مما عرضنا له فى غير هذا الموضع، وهو يستهله على هذه الشاكلة (1):
وواضح من هذا الاستهلال للمنشور مدى ما كان يأخذ به إبراهيم بن العباس نفسه من الاحتفال بصناعة الكلام. فهو لا يكتب ما يرد على ذهنه عفوا،
(1) طبرى 9/ 172.
بل هو يفكر فيما يكتب. ويختار له الألفاظ الجزلة الناصعة محدتا بينها ضروبا من التلاؤم بحيث يبدو كلامه مقطّعا، وإن لم يتخذ شكل تقطيع السجع، وهو بذلك أقرب إلى ذوق أسلوب الازدواج الذى يوازن بين العبارات دون أن يحيلها سجعا وتنميقا خالصين. وكان من أحداث خلافة المتوكل ثورة إسحق بن إسماعيل فى شمالىّ أرمينية وإحراقه لمدينة تفليس سنة 238 وقد نازلته جيوش المتوكل، وهزمته هزيمة ساحقة، وأخذ أسيرا، فضربت عنقه وصلبت جثته وحمل رأسه إلى سامرّاء. ولإبراهيم بن العباس رسالة فى هذا الفتح نوّه بها القدماء، وفيها يقول (1):
وبلاغة الصولى التى اشتهر بها واضحة فى هذه الرسالة، فهو يعنى بكلامه محمّلا له معانى غزيرة، ومطرفا فيه بكل ما يستطيع من تقسيم على نحو ما صنع أول هذه الفقرة. وهو يضيف إلى ذلك مقابلة بين المعانى تنتهى إلى الطباق، فقد كان إسحق بن إسماعيل فى معقل فأصبح فى عقال، وكان فى آمال وحياة رغدة فأصبح فى آجال وموت رهيب. ويضيف إلى ذلك الصور، فقد أرضعتهم
(1) مروج الذهب 4/ 25.
المعصية من لبنها وأطمعتهم باسطة لهم فى الأمانى العذاب، وأسرعت بهم مخاطرها. وكل تلك صور متلاصقة. ثم يسوق عبارة كأنها مثل من الأمثال، إذ يقول. انقضى رضاع وآن فطام. والكناية واضحة. وعاد إلى التصوير، وكأنما يريد أن يرسم لوحة ذات خطوط وظلال وأضواء. ويعود إلى الطباق، فيضع الرضاع مع الفطام والمر مع الحلو والذل مع العز والترحة مع الفرحة والحسرة مع المسرة. ثم يعود ثالثة إلى التصوير، وكأنما الفتنة جحيم يتأجج باللهب، وتعمّ حتى لتأخذ بمخنّق كل شخص، وحتى تجعله فى دنياه جزرا وقطعا من اللحم تنوشها السباع، أما فى الآخرة فتجعله حطبا ووقودا للنار. ويختم الفقرة بآى من القرآن. والطباق اللون البديعى العقلى الذى كان يروع العباسيين يكثر فيها، كما يكثر التصوير، وكأن إبراهيم بن العباس يريد أن يثبت إبداعه باستخدام فنون البديع التى كانت تخلب معاصريه، فهو يبدؤها بالتقسيم، وهو يشيع فيها الجناس كما يشيع الطباق على نحو ما يتضح فى مثل: معقل وعقال وآجال وآمال، وفرحة وترحة وأسرا وقسرا وعاجل وآجل. ومضى يوغل فى الموازنة بين عباراته، وإذا هو لا يكتفى بما قد يحدث فيها من تقطيعات صوتية، إذ يطلب ازديادا فى التلاؤم وفى الجرس، فليس يكفى أن تتقابل العبارات وتتوازن، بل يحسن أن تلتحم نغماتها وإزناناتها، فإذا هو يكثر من السجع وترصيفه. واحتفظت كتب الأدب بتحميده لهذه الرسالة، وهو يمضى فيه على هذا النحو (1):
والتحميد يحمل نفس الخصائص المبثوثة فى الرسالة، وفيه اتجاه واضح نحو السجع وأن الكاتب يريد أن يلذّ كلامه الأسماع والآذان، كما يلذّ العقول والأذهان، بملا أماته بين الكلمة والكلمة فى الجرس، وبما يستخدم من طباقات
(1) جمهرة رسائل العرب 4/ 174.
وجناسات وتصويرات مختلفة. ولم تصلنا رسالة الخميس التى كتب بها إلى الولايات المختلفة بتولى المتوكل الخلافة، ولكن وصلنا التحميد الذى وضعه فى صدرها على هذا النحو (1):
«أما بعد فالحمد لله الذى جلّت نعمه، وتظاهرت مننه، وتتابعت أياديه، وعمّ إحسانه، إله كل شئ وخالقه، وبارئه ومصوّره، والكائن قبله، والباقى بعده، كما قال فى كتابه:{(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)} العالى فى مشيئته والقاهر فوق عباده المتعالى عن شبه خلقه: {(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)} خلق العباد بقدرته، وهداهم برحمته، وأوضح لهم السبيل إلى معرفته، بما نصب لهم من دلائله، وأراهم من عبره، وصرّفهم فيه من صنعه، كما قال جل جلاله:{(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)} . وذلك كله من خلقه إياهم بتمثيله ما مثّل لهم من الدلائل التى نصبها لهم والأعلام التى جعلها إزاء قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم، ويسرّ لهم خواطرهم وفكرهم، والهيئة التى هيّأها لهم، ليقع الأمر والنّهى عليهم، فلا يكلفهم فوق طاقتهم، ولا يجشمهم ما يقصر عنه وسعهم، نظرا منه تبارك وتعالى إليهم، ورحمة بهم، ليؤمنوا به ويعبدوه، فيستحقّوا به رحمته ورضوانه والخلود فى النعيم المقيم والظلّ المديد والعيش الدائم، كما قال تعالى ذكره:{(إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ)} . وكان من نظره ورأفته بهم أن بعث فيهم أنبياءه ورسله، يدعونهم إلى طاعته، ويبينون لهم هداه، ويوضّحون لهم سبيله، ويهدونهم إلى رحمته، ويعدونهم ثوابه، وينذرونهم عقابه، ويبسطون لهم توبته، ويحذّرونهم سخطه، ويبينون لهم سننه وشرائعه، ويكشنون لهم مواعظه، ويعلّمونهم كتابه وحكمته، كما قال تبارك وتعالى:
{(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)} وكان من رأفته بهم ونظره لهم أن بعثهم إليهم بالحجج الظاهرة، والأعلام البيّنة، والشواهد الناطقة التى أظهر بها صدقهم، وأقام بها
(1) جمهرة رسائل العرب 4/ 172.
برهانهم، وأوضح بها دليلهم، وأثابهم عمل سواهم ليكون أدعى لهم إلى تصديقهم والقبول عنهم، وأوكد للحجة على من أبى ذلك منهم».
والتحميد يدور على موضوعين أساسيين هما: نعم الله وآلاؤه على الناس إذ بسط لهم الأسباب فى الهدى والرشاد، ونعمه أيضا وآلاؤه إذ أرسل لهم الرسل مبشرين ومنذرين. ونراه فى مستهل تحميده يشير إلى تنزيه الله عن شبه خلقه، وهو أصل من الأصول الأساسية عند المعتزلة، فهو منزه عن التحيز فى جوهر وعرض، لا يدركه حسّ ولا يحيط به خيال، منزه عن كل شبه بالآدميين فى خلقهم وصفاتهم. وليس من الضرورى أن يكون من المعتزلة، فيكفى أن يكون على صلة بمباحثهم، وهو ما نريد إثباته، فالتحميد كله كأنما كتبه اعتزالى كبير إذ كانوا يتكلمون كثيرا عن تنزيه الله فى صفاته وذاته وإبداعه للكون وللإنسان بما يشهد بعظمته وقدرته. وكانوا يستمدون ذلك كله من القرآن وما دعا إليه من التأمل فى النظام الكونى وما بثّ الله فيه من آيات تدل على وحدانيته وقدرته الباهرة. ويصوّر القرآن كما فى آيات خلق الإنسان التى اقتبسها الصولى كيف أنشأ الله الخلق إنشاء بديعا وكيف أودع فيهم من ملكات السمع والبصر والأفئدة ما يحقق لهم جميع حاجاتهم وكمالاتهم، وإنه لحرى بهم أن يستغلوا هذه الملكات ليستقر فى نفوسهم الإيمان بالكائن الأعلى. ويبثّ الصولى هذه الفكرة فى الشطر الأول من تحميده.
ويخرج منها إلى الفكرة التى طالما كررها المعتزلة فكرة أنه كان من رحمة الله بالناس أن أرسل إليهم الرسل ليهدوهم إلى طريق الحق والخير، إذ لم يخلقهم عبثا ولا دون غاية سامية، فقد خلقهم ليتّبعوا هداه، وليقع الأمر والنهى عليهم، فكان لا بد لهم من رسل يوضحون لهم سبل الهدى، حتى يعرفوا العمل الصالح وما ينتظرهم فى الآخرة من ثواب وعقاب، مبينين لهم السنن والشرائع التى تكفل لهم السعادة فى الدارين، وكيف أن من يجور عن الطريق يحق عليه العذاب إلا من تاب وأناب فإن الله غفور رحيم. وقد صاغ إبراهيم بن العباس هذه المعانى فى ألفاظه جزلة رصينة، يجرى فيها التقطيع الصوتى الذى ذكرناه آنفا، وإن لم يبلغ مداه فى الرسالة السابقة، إذ لم يتحول به إلى إرنانات السجع التى شاعت فيها، وكأنما كان مشغولا هنا عن السجع بالمعانى التى أثارها فى تحميده والتى جعلته يتمثل ببعض
آى الذكر الحكيم. وبالمثل كان مشغولا عن الجناسات والطباقات والصور إلا ما جاء فى النادر وعفو الخاطر. ومن تحميداته فى أحد الفتوح (1):
ونحسّ قدرته على اصطفاء الكلمات فى هذا التحميد، ولا نصل إلى قوله:
«وجعل الباطل بهم فلاّ منكوبا ودحيضا زهوقا» ، حتى يتجسّد لنا هذا الاصطفاء وأن الكاتب يعنى بالموازنة الدقيقة بين العبارات. ويتضح لنا ذلك أكثر حين نصل إلى قوله:«يكون الحقّ الطالب الأعزّ، والباطل المطلوب الأذلّ، وأولياء الحق الأعلين يدا وأيدا، وأشياع الضلال الأخسرين أعمالا وكيدا» وكأن العبارات توضع فى صفوف لا فى سطور، لتأخذ كل كلمة بيد أختها، وكأننا فى مرقص للكلمات تتشابك فيه أيديها، فكل كلمة توشك أن تمسك بيد أختها فى العبارة التالية لعبارتها. فكلمة الحق تتلاقى مع كلمة الباطل، وتتلاقى كلمة الطالب مع كلمة المطلوب وكلمة الأعز مع كلمة الأذل. وبالمثل تتلاقى فى العبارتين التاليتين كلمة الحق وكلمة الضلال وكلمة الأعلين يدا وكلمة الأخسرين أعمالا.
فالكلمات فى العبارات تتجاذب تجاذبا شديدا، فى الصوت والجرس والأداء وفى المعانى المتقابلة المتناقضة، فقد عمّ فيها الطباق وكأنما أحدث بكثرته بينها نوعا من صلة القربى ووشائج الرحم. وانظر كيف وضع إبراهيم بن العباس كلمة «يدا»
(1) جمهرة رسائل العرب 4/ 176.
بجانب كلمة «أيدا» طلبا للتلاؤم فى الجرس الذى قد يخفى أحيانا، وأحيانا يتضح وضوح الشمس فى كبد السماء. وفى ذلك ما يدل بوضوح على مدى إحكامه لصنعة الكتابة وقدرته على اختيار اللفظ وانتخابه بحيث يروق اللسان والجنان. وينهى الرسالة باقتباس من القرآن الكريم، ويكثر عنده اصطناعه لبعض ألفاظه المونقة كقوله فى هذا التحميد:«الأخسرين أعمالا» . ودائما نحس عنده القدرة على استخدام العبارة المطنبة والأخرى المجملة الموجزة، حتى لكأنما يصوغ أمثالا كما أشرنا إلى ذلك آنفا. ومن خير ما يصوّر ذلك عنده رسالة كتب بها لسنة 240 عن المتوكل إلى أهل حمص حين ثاروا على عامل المعونة وقتلوا جماعة من أصحابه وأخرجوا صاحب الخراج من مدينتهم، والرسالة تمضى على هذا النمط (1):
«أما بعد فإن أمير المؤمنين يرى من حق الله عليه، مما قوّم به من أود (عوج) وعدّل به من زيغ، ولمّ به من منتشر، استعمال ثلاث، يقدّم بعضهن على بعض، أولاهنّ ما يتقدّم به من تنبيه وتوقيف، ثم ما يستظهر به من تحذير وتخويف، ثم التى لا يقع حسم الداء بغيرها:
أناة فإن لم تغن عقّب بعدها
…
وعيدا فإن لم يغن أغنت عزائمه»
وقرأ إبراهيم بن العباس الرسالة على المتوكل فملأت نفسه إعجابا، وأومأ إلى وزيره عبيد الله بن يحيى بن خاقان-وكان حاضرا-أما تسمع؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن إبراهيم فضيلة خبأها الله لك، وذخيرة ذخرها على دولتك. ويقال إن البيت فى هذه الرسالة أول شعر نفذ فى كتاب عن الخلفاء العباسيين. والمتوكل إنما أعجب بالرسالة لأن إبراهيم أدّى الغرض الذى كانت تكتب فيه الرسائل الطويلة بأوجز عبارة دون أى تقصير ودون أى إخلال، بل مع الوفاء به إلى أبعد حد.
وكأننا لا نقرأ صيغا متعاقبة فى رسالة، وإنما نقرأ حكما وأمثالا، لدنة المعانى ودقة أدائها وصياغتها، وقد أجرى فيها ضروبا من النقطيعات الصوتية، وإن لم تأخذ الصورة النهائية على نحو ما يتضح فى أوائلها، ولم يلبث أن أضاف فيها سجعة طريفة، كما أضاف صورة بديعة إذ عبّر عن الحرب بحسم الداء. والكتاب بحق
(1) معجم الأدباء 1/ 187.
يصور مرانا طويلا على استخدام الكلام ووضعه فى مواضعه، بل قل إنه يصوّر خبرة طويلة امتدت عشرات السنين. ومن طراز هذه الرسالة رسالة أكثر منها قصرا كتب بها فى شفاعة إلى أحد أصدقائه يزكّى رجلا يستحق العناية به (1):
«فلان ممن يزكو (ينمو) شكره، ويحسن ذكره، ويعنينى أمره، والصنيعة عنده واقعة موقعها، وسالكة طريقها:
وأفضل ما يأتيه ذو الدّين والحجى
…
إصابة شكر لم يضع معه أجر»
والرسالة موجزة ولكنها تؤدّى الغرض منها أداء واضحا، وقد استخدم فيها إبراهيم بن العباس السجع، وبلغ من شدة تدقيقه فى المعنى أن أخرج البيت الذى ضمّنه الرسالة مخرج الأمثال. وكان كتّاب الرسائل يكتبون فى عيدى الفطر والأضحى رسائل إلى الرعية يبشرونهم فيها بسلامة الخلفاء، وقد يوجهونها إلى حكام الولايات ليحمدوا الله على سلامة الخليفة ويذكّروهم واجبهم، من ذلك قوله فى رسالة (2):
والترادف والازدواج واضحان فى السطور الأولى من الرسالة، فمورده يليها مستنبطه بنفس المعنى، وبالمثل مرجعه تليها موئله، وتأثلها يليها تمكنها، واستتبابها يليها استقامتها. وفى ذلك حرص واضح على إرضاء الأذن، وفى كلامه عن الأصول والفروع ما قد يشير إلى أنه كان مثقفا ثقافة فقهية، وقد جمع الأصول الدالة على حسن الحكم وتدبيره فى أربعة: سكون الناس دون إحداث أى فتن أو ثغرات مما يدل على رضاهم عن حاكمهم، وصلاح الولاية فى شئونها السياسية والاقتصادية
(1) الأغانى 10/ 53 ومعجم الأدباء 1/ 178.
(2)
جمهرة رسائل العرب 4/ 189.
والإدارية، وأمن الناس على نفوسهم، وظهور النعم عليهم وأنهم لا يعانون البؤس والضنك فى الحياة. ويكتب باسم المتوكل وأبنائه تعزيات مختلفة، من ذلك تعزية باسمه إلى طاهر بن عبد الله واليه على خراسان، وفيها يقول (1):
والرسالة تحمل طائفة من دقائق المعانى، فواجب الإنسان إزاء ربه شكره على نعمه واستسلامه لما ينزل به قضاؤه فإنه بذلك يستحق رضوانه. والله يمتع أمير المؤمنين به حتى يطوف به طائف الفناء الذى لا بقاء معه، والذى ينتقل به إلى البقاء الذى لا فناء بعده. ويقول له: قدّم حق الله عليك بالطاعة له والرضا بقدره، وبذلك تستحق ثوابه، هو خير عوض للراضين المقرّبين. وفى كتب الأدب قطع مختارة لإبراهيم ابن العباس تزخر بالسجع، ويبدو أنه كان يستخدمه أحيانا فى جوانب من رسائله مسهبا فيه، على نحو ما نرى فى القطعة التالية التى احتفظ بها ياقوت فى معجم الأدباء إذ يقول:(2)
«ووجد أعداء الله زخرف باطلهم، وتمويه كذبهم سرابا بقيعة {(يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً)} وكوميض برق عرض فأسرع، ولمع فأطمع، حتى إذا انحسرت (انكشفت) مغاربه، وتشعّبت مولّية مذاهبه، وأيقن راجيه وطالبه، أن لا ملاذ ولا وزر، ولا مورد ولا صدر (صدور) ولا من الحرب مفرّ، هنالك ظهرت عواقب الحق منجية، وخواتم الباطل مردية،
(1) جمهرة رسائل العرب ص 182.
(2)
معجم الأدباء 1/ 190.
سنّة الله فيما أزاله وأداله (هزمه){(وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً)} ولا عن قضائه تحويلا».
والقطعة سجع خالص، وتحمل اقتباسات من آى القرآن، وكلماتها منتخبة انتخبها ذوق مرهف، وتجرى فيها الخصائص التى ذكرنا لإبراهيم بن العباس، ففيها الازدواج والتكرار فى مثل:«زخرف باطلهم وتمويه كذبهم» ، ومثل «أزاله وأداله» ، وفى الكلمة الأخيرة جناس ناقص. وتلقانا بعض طباقات مثل:«ولا مورد ولا صدر» ومثل «عواقب الحق وخواتم الباطل» ونعثر على بعض صور مثل زخرف الباطل وتمويه الكذب ومثل تشبيه زخرف الباطل بالسراب. وكأنه كان فى نثره مثل شعره وما وصفه به أبو الفرج، كما مر بنا، يكتب ثم يختار، وما يزال يصلح ويسقط حتى تخرج الرسالة نخبة من الصياغات الأدبية الطريفة. وله توقيعات بديعة تدور فى الكتب الأدبية، فمن ذلك أن بعض الكتاب كتب إليه يذم شخصا ويمدح آخر، فوقّع فى الرسالة (1):
والسجع واضح فى التوقيع، ولكن المهم طرافة التقسيم. ويقول المسعودى:
«ولإبراهيم بن العباس مكاتبات قد دونت، وفصول حسان من كلامه قد جمعت» .
ويروى عنه أنه كان يقول: «مثل أصحاب السلطان مثل قوم علوا جبلا ثم وقعوا منه، فكان أقربهم إلى التلف أبعدهم فى الارتقاء» (2). ويذكر ياقوت له ديوان شعر وديوان رسائل، وفى الحق أنه كان كاتبا بليغا بلاغة رائعة.
(1) جمهرة رسائل العرب 4/ 461.
(2)
مروج الذهب 4/ 26.