المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2 - الجاحظ - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٤

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الثانى

- ‌الفصل الأوّل:الحياة السياسية

- ‌1 - استيلاء الترك على مقاليد الحكم

- ‌2 - تدهور الخلافة

- ‌3 - ثورة الزنج

- ‌4 - ثورة القرامطة

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثّانى:الحياة الاجتماعية

- ‌1 - طبقات المجتمع

- ‌2 - الحضارة والترف والملاهى

- ‌3 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌4 - المجون والشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالث:الحياة العقلية

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة وتفلسف

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد والتاريخ

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه

- ‌5 - الاعتزال وانبثاق المذهب الأشعرى

- ‌الفصل الرّابع:نشاط الشعر

- ‌1 - علم الشعراء بأسرار العربية

- ‌2 - ذخائر عقلية خصبة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - نمو الموضوعات الجديدة

- ‌5 - نمو الشعر التعليمى

- ‌الفصل الخامس:أعلام للشعراء

- ‌1 - على بن الجهم

- ‌2 - البحترى

- ‌3 - ابن الرومى

- ‌4 - ابن المعتز

- ‌5 - الصنوبرى

- ‌الفصل السّادس:شعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الخلفاء العباسيين

- ‌مروان بن أبى الجنوب أبو السمط

- ‌أبو بكر الصولى

- ‌2 - شعراء الشيعة

- ‌ محمد بن صالح العلوى

- ‌الحمّانى العلوىّ

- ‌المقجّع البصرىّ

- ‌3 - شعراء الثورات السياسية

- ‌ محمد بن البعيث

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌ أبو على البصير

- ‌ أحمد بن أبى طاهر

- ‌ ابن دريد

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ الصّيمرى

- ‌الحمدونى

- ‌ابن بسام

- ‌الفصل السّابع:طوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل وشاعراته

- ‌فضل

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ الحسين بن الضحاك

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف

- ‌ الحلاّج

- ‌الشبلىّ

- ‌4 - شعراء الطرد والصيد

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌جحظة

- ‌الخبز أرزىّ

- ‌الفصل الثامن:نشاط النثر

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطابة والمواعظ والنثر الصوفى

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التّاسع:أعلام الكتاب

- ‌2 - الجاحظ

- ‌3 - ابن قتيبة

- ‌4 - سعيد بن حميد

- ‌5 - أبو العباس بن ثوابة

- ‌خاتمة

الفصل: ‌2 - الجاحظ

‌2 - الجاحظ

(1)

اشتهر بلقبه الدال على نتوء حدقتيه وجحوظهما، واسمه أبو عثمان عمرو بن بحر. وقيل إنه من كنانة، وقيل بل هو كنانى ولاء وإن جدّه فزارة كان عبدا أسود جمّالا لعمرو بن قلع الكنانى. واختلف فى السنة التى ولد فيها، على حين اتفق الرواة على أنه توفى سنة 255 للهجرة، والمظنون أنه ولد فى العقد السادس من القرن الثانى للهجرة، وكأنه عاش ما يقرب من مائة سنة، ويروى عنه أنه قال فى أواخر حياته يشكو من الفالج (الشلل) والنقرس (الروماتزم):

«أنا فى هذه العلل المتناقضة التى يتخوّف من بعضها التلف، وأعظمها ست وتسعون سنة» (2). وليس بين أيدينا شئ واضح عن نشأته إلا أنه نشأ بالبصرة مسقط رأسه، وفى مطالع الجزء الثانى من كتابه «الحيوان» ما يشير إلى أنه كان يختلف إلى بعض الكتاتيب مع لداته من الصّبية، وكانوا يتعلمون فيها القراءة وشيئا من النحو والفقه والحساب، ويحفظون بعض القرآن وبعض الأشعار، حتى إذا شبّ عن الطوق مضى إلى المساجد يستمع إلى محاضرات العلماء فيها، وكانوا يحاضرون فى كل فن، وكانت أشبه بجامعات مفتوحة الأبواب لكل من أراد الدرس. وقد أخذ يلتهم كل ما يسمعه فيها من فقه وعلوم شريعة ومن نحو وعلوم لغة ومن مناقشات ومحاورات بين المتكلمين من كل الفرق. وكان يختلف إلى المربد يأخذ عن فصحاء العرب اللغة وبعض ما ينشدونه من الأشعار، وكان المربد سوقا تجارية وأدبية كبيرة منذ

(1) انظر فى الجاحظ وحياته وأخباره وثقافته الفهرست ص 175 وتاريخ بغداد 12/ 212 ومروج الذهب 4/ 109 ومعجم الأدباء 16/ 74 ونزهة الألباء لابن الأنبارى وابن خلكان فى عمرو ومرآة الجنان لليافعى 2/ 156 وأمالى المرتضى 1/ 194 ولسان الميزان 4/ 355 والأنساب الورقة 118 وميزان الاعتدال 3/ 247 وضحى الإسلام لأحمد أمين 1/ 386 وكتابنا الفن ومذاهبه فى النثر العربى ص 54 والجاحظ لطه الحاجرى (طبع دار المعارف) والجاحظ لشارل بلات (طبع دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر).

(2)

تاريخ بغداد 12/ 219 ومعجم الأدباء 16/ 113.

ص: 587

العصر الأموى. وفى أخباره أنه كان يبيع الخبز والسمك بسيحان (1) أحد نهيرات البصرة، وقد يشير ذلك إلى أن نشأته كانت بسيطة، وأنه كان فى حاجة إلى أن يكتسب معاشه. ويروى أن أمه ضاقت بانهماكه فى الدرس والقراءة، فطلب منها يوما طعاما، فجاءته بطبق ملئ بكراريس أودعها البيت، وقالت له:

ليس عندى من طعام سوى هذه الكراريس، تريد أن تنبهه إلى التكسب. فذهب إلى الجامع مغتمّا، ولقيه مويس بن عمران أحد رفاقه الأثرياء فى الدرس، فسأله ما شأنك؟ فحدّثه بحديث أمه، فأخذه إلى منزله وأعطاه خمسين دينارا، فأخذها فرحا، ودخل السوق، واشترى الدقيق وحمله الحمّالون إلى داره، وسألته أمه من أين لك هذا؟ فقال لها من الكراريس التى قدّمتها إلىّ (2).

وكأن مويس بن عمران كان رمزا مبكرا لما سيصيبه من أموال وعطايا من الخلفاء والوزراء.

ولم تقف ساحات تثقفه عند المسجد والمربد وما كان يأخذه عن جلّة العلماء أمثال الأصمعى وأبى زيد والأخفش وأبى عبيدة أصحاب اللغة والأخبار ولا عند أبى الهذيل العلاف وبشر بن المعتمر وثمامة بن أشرس والنظّام من المعتزلة، ولا عند كبار الفقهاء والمحدّثين فى عصره، بل امتدت إلى كل فروع الثقافة، عن طريق المكتبات، وكان الكتاب بمجرد أن يؤلّف أو يترجم فى البصرة أو فى بغداد تتكاثر نسخه فى أيدى الورّاقين أصحاب المكتبات ودكاكين الكتب. ومعروف أن البصرة كانت دار الترجمة قبل نشوء بغداد وفيها ترجم ابن المقفع كليلة ودمنة وكتب الآداب الفارسية ومنطق أرسططاليس، وبهذه الثقافة العلمية التى حققتها لنفسها مبكرة استطاعت أن تضع علم النحو وقوانينه النهائية، كما استطاعت أن تظفر بالمعتزلة أصحاب الفكر الحر فى الدراسات الدينية، وصلة المعتزلة بالفلسفة مقرّرة معروفة، ولذلك يكون من الخطأ أن يزعم زاعم أن الجاحظ لم يقرأ الترجمات اليونانية إلا فى بغداد (3) بعد أن تجاوز الأربعين من عمره، حين دخلها وأقام فيها لعهد المأمون، فقد كانت تحت بصره فى دكاكين

(1) معجم الأدباء 16/ 74.

(2)

المعتزلة لابن المرتضى ص 380.

(3)

الجاحظ لشارل بلات ص 115 وفى مواضع متفرقة.

ص: 588

الوراقين، ولم يكن يكتفى بقراءة كتاب أو كتب فى اليوم الواحد، إذ يذكر صاحب الفهرست أنه كان يكترى دكاكين الورّاقين ويبيت فيها للقراءة والنظر (1). ويقول أبو هفّان:«لم أر قط ولا سمعت من أحبّ الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنا ما كان» (2). وكان أشبه بآلة مصورة فليس هناك شئ يقرؤه إلا ويرتسم فى ذهنه، ويظل فى ذاكرته آمادا متطاولة. ومن أكبر الدلالة على شغفه بالقراءة والكتب المقدّمة الطويلة التى وضعها بين يدى كتابه الحيوان، وهى نحو مائة صفحة فى تمجيد الكتب، وقد ضمنها فهرست كتبه الكثيرة التى صنّفها قبل الحيوان.

وكان من أهم ما شغف به الاعتزال، وقد مضى يلزم أساتذته فى عصره، ويستوعب كل ما كان عندهم، بادئا بأبى الهذيل العلاّف، وكلما اشتهر معتزلى لزم حلقته، وكان من أهم من لزمهم النظام (3)، وكان لا يبارى فى المناظرة وإفحام الخصوم بالبراهين والأدلة القاطعة، فتلقّن ذلك عنه، وسنراه يطبقه فى كل جانب من جوانب كتاباته الكثيرة، وفيه يقول:«لولا مكان المتكلمين لهلكت العوام من جميع الأمم، ولولا مكان المعتزلة لهلكت العوام من جميع النّحل، وأقول لولا أصحاب إبراهيم، وإبراهيم (النظام) لهلكت العوام من المعتزلة فإنى أقول إنه قد أنهج لهم سبلا وفتق لهم أمورا واختصر لهم أبوابا ظهرت فيها المنفعة وشملتهم بها النعمة» (4) وكان النظام يمزج بقوة بين الاعتزال والفلسفة، وكأنه هو الذى دفع الجاحظ دفعا للتزود من جداولها بكل ما استطاع. ويبدو أنه هو الذى غرس فى نفسه فكرة الثقافة الموسوعية فإن ما رواه عنه فى كتابه «الحيوان» يدل على أنه كان مستوعبا لكل الثقافات فى عصره من فارسية وهندية وعربية وإسلامية. وهداه طول تفكيره فى آراء أستاذه الاعتزالية وغيره من المعتزلة إلى أن يعتنق مجموعة من الآراء كوّنت له فرقة سميت بالجاحظية نسبة إليه، ويعرض الخياط المعتزلى فى كتابه الانتصار طائفة من هذه الآراء، ويشيد بكتابه فضيلة المعتزلة طويلا (5). ولا نعرف متى بدأ الجاحظ كتاباته

(1) الفهرست ص 175.

(2)

معجم الأدباء 16/ 75.

(3)

معجم الأدباء 16/ 75.

(4)

الحيوان 4/ 206.

(5)

الانتصار ص 103 وانظر فى آراء الجاحظ فهرس هذا الكتاب والفرق بين الفرق للبغدادى ص 175.

ص: 589

ويبدو أنه كان يلقى كثيرا من الإهمال فى أول أمره، حتى كان يضطر حين يؤلف كتابا أو رسالة أن ينسب عمله إلى بعض الكتاب القدماء النابهين أمثال ابن المقفع أو الخليل أو العتّابىّ أو سلم صاحب بيت الحكمة، حينئذ كان الكتاب يروج، ويأتى الناس لروايته (1) عنه. وكان زملاؤه وأساتذته من المعتزلة يعرفون فضله، وفى مقدمتهم بشر بن المعتمر وثمامة بن أشرس، حتى إذا شغل المأمون بعقيدة الإمامة ومستحقيها من العباسيين أو الشيعة بعد رجوعه من مرو إلى بغداد أشار عليه ثمامة بأن يطلب إلى الجاحظ الكتابة فى هذا الموضوع، وكتب الجاحظ وأعجب المأمون إعجابا لا حدّ له بما كتب (2)، وكان ذلك فاتحة عهد جديد للجاحظ، لا لأنه تحول من البصرة إلى بغداد، ولكن لأنه أصبح كاتبا رسميّا للدولة، ونظن ظنّا أنه أصبح له راتب منذ هذا التاريخ، ويقال إن المأمون حاول أن يقلده ديوان الرسائل، ولكنه لم يستطع المقام به سوى ثلاثة أيام (3)، عاد بعدها إلى صناعته من التأليف والكتابة الأدبية، مكتفيا-فيما يبدو-براتبه، وربما كان قبحه الذى عرف به هو السبب الحقيقى فى أنه وجد وظيفة ديوان الرسائل لا تلائمه. وفى بغداد طاب له المقام وأخذ يتعرف على بيئاتها الأدبية والعلمية فى النوادى والمساجد وحلقات الدرس والمناظرة. وتتحول الخلافة إلى سامرّاء فى عهد المعتصم، ويتحوّل معها الجاحظ، ويتخذ سامرّاء دار مقام له وتتوثق الصلة بينه وبين وزير المعتصم ابن الزيات الكاتب الشاعر المشهور، وفيها يتعرّف على كثير من الأدباء، وخاصة أصحاب الفكاهات والنوادر من أمثال أبى العيناء والجمّاز وغيرهما من المضحكين ندماء الخلفاء، وجعلته صلته بابن الزيات يقف فى صفه ضد خصمه أحمد بن أبى دؤاد قاضى القضاة، ولا يلبث المعتصم أن يتوفّى ويتبعه ابنه الواثق وتصير الخلافة إلى المتوكل، وكان يضطغن على ابن الزيات أمورا كثيرة مما جعله يقبض عليه ويعذّبه فى تنّور محمىّ بالنار حتى يموت. ويقرّب المتوكل فى هذه الأثناء ابن أبى دؤاد، ويرسل فى طلب الجاحظ، ويأتونه به مقيّدا، ويأخذ فى تعنيفه، ويقول له الجاحظ:

(1) مجموعة رسائل الجاحظ (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) ص 108.

(2)

البيان والتبيين 3/ 223.

(3)

معجم الأدباء 16/ 78.

ص: 590

«خفّض عليك-أيّدك الله-فو الله لأن يكون لك الأمر علىّ خير من أن يكون لى عليك، ولأن أسئ وتحسن أحسن من أن أحسن فتسئ، وأن تعفو عنى فى حال قدرتك أجمل من الانتقام منى» . وعفا عنه ابن أبى دؤاد (1). ولا نلبث أن نرى الفتح بن خاقان وزير المتوكل شغوفا به وبمجالسته ونراه يكتب إليه بأمر من المتوكل أن يصنف رسالة فى الرد على النصارى (2)، ويغلب أن يكون هذا التكليف فى سنة 235، وهى السنة التى أخذ فيها المتوكل النصارى وأهل الذمة بلبس الطيالس كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع. وكأن مهمته كاتبا رسميّا للدولة ظلت قائمة منذ مطالع القرن الثالث الهجرى حتى هذا العام. ولا بد أن الدولة كانت تكفيه عيشه كما كانت تكفى كثيرين من العلماء والشعراء، وكان حين يهدى الوزراء والقوّاد وكبار الكتّاب بعض كتبه يهدونه بعض أموالهم، فقد أهداه ابن الزيات خمسة آلاف دينار على كتابه الحيوان حين قدّمه إليه، وبالمثل صنع ابن أبى دؤاد حين أهدى إليه كتاب البيان والتبيين وإبراهيم بن العباس الصولى حين أهدى إليه كتاب الزرع والنخيل. وكان قليل من المال يسدّ حاجته، إذ لم يتزوج ولم يرزق الأولاد، إنما هو وجاريتان، وهذا كل ما هناك. ويظهر أن مرض الفالج (الشلل) ألمّ به مبكرا ولكنه لم يقعده عن الحركة ولا عن الكتابة، فقد ألّف كتاب الحيوان الذى قدّمه لابن الزيات المتوفى سنة 233 للهجرة وهو مفلوج (3)، وبالمثل البيان والتبيين والزرع والنخيل وكثير من رسائله الأدبية. وأصابه النقرس وطال به العمر، وإذا صح أنه صحب الفتح بن خاقان فى زيارته لدمشق سنة 243 فإنه يكون قد ظل محتفظا بقواه على الأقل حتى هذا التاريخ. وحين اشتد به المرض عاد إلى البصرة وأمضى بها بقية حياته. ويقول المبرد: «دخلت على الجاحظ فى آخر أيامه. فقلت له:

كيف أنت؟ فقال: كيف يكون من نصفه مفلوج لو حزّ بالمناشير ما شعر به، ونصفه الآخر منقرس لو طار الذباب بقربه لآلمه». ووجّه إليه المتوكل فى سنة 247 شخصا يحمله إليه، فقال:«وما يصنع أمير المؤمنين بامرئ ليس بطائل، ذى شقّ مائل، ولعاب سائل، وعقل حائل (4)؟ ! » .

(1) معجم الأدباء 16/ 79

(2)

معجم الأدباء 16/ 99 وما بعدها ونراه فى كتابه إليه يشير إلى راتب شهرى معلوم كان يجرى على الجاحظ.

(3)

ذيل زهر الآداب للحصرى ص 165.

(4)

انظر فى الخبرين السابقين معجم الأدباء 16/ 113.

ص: 591

ويعدّ الجاحظ أكبر كاتب ظهر فى العصر العباسى، وهو فى الحق الثمرة الناضجة لكل الجهود العقلية الخصبة التى نهض بها المعتزلة، سواء من حيث وضوح المنطق أو من حيث قوة الاستدلال أو من حيث القدرة على التوليد للمعانى، وكأنه يستمد من مخازن عقلية لا تنفد، ولاحظ ذلك ابن المعتز وغيره من القدماء عنده، فقالوا إنه يستخدم المذهب الكلامى فى كتاباته (1)، ويريدون به قوة الحجة المنطقية والقدرة على التسبيب والتعليل، وكأنما يأخذ من نهر لا ينضب، نهر لا يزال يجلب منه الحجة ونقيضها، تسعفه فى ذلك قدرة على الجدل والحوار لا تتوقف عند حد، ومن أجل ذلك قال ابن العميد عنه عبارته المأثورة:«إن كتب الجاحظ تعلم العقل أولا والأدب ثانيا» بما يستنبطه من خفيات المعانى وما يثيره من دقائق الفكر فى الروح والجسم والحواس والخير والشر والجوهر والعرض، بل أيضا من خفايا المجتمع الذى عاشه وظواهره وما فيه من أخلاق وغير أخلاق مما يتصل بطبقاته الشعبية من لصوص ومكدين ورقيق وغير رقيق وقيان وغير قيان وما يتصل بطبقاته الوسطى من تجار وموظفين فى الدواوين وعلماء وشعراء وما يتصل بطبقاته العليا الحاكمة وغير الحاكمة من خلفاء ووزراء ورؤساء دواوين وقضاة وقواد وما يتصل بأهل الذمة من المجوس والنصارى واليهود، وما يتصل بالحيوان وبالنبات وبالعرب والعجم وفضائل الشعوب، وكأنك تدور فى كتاباته بمتحف لا تزال تفجؤك فيه الطرف والصور. وتارة يعرض عليك مسألة كلامية معقدة، وتارة يعرض حادثة من حوادث الحياة اليومية فى البصرة أو فى بغداد أو فى سامراء، ومرة يطوف بك فى ردهات الفكر العميق أو فى بعض آى القرآن، ومرة يطوف بك فى شارعات المدن السابقة وأزقتها وحوانيتها الصغيرة والكبيرة ودور النخاسة ومن فيها من الجوارى، وهو فى هذا كله لا تفوته قسمة وجه ولا إشارة يد ولا دخيلة نفس.

وبجانب هذا الفكر المنطق فى البحث وفى الوصف وفى الرواية الذى ينقل لك الواقع بكل شياته وسماته، وكأنك بإزاء أشرطة سينمائية تعرض عليك كل ما فى مدن العراق الكبيرة من صور الحياة فى أشدها ترفا ونعيما وأشدها بؤسا وضنكا، حتى لكأنما كتبه دائرة معارف لكل ما كان هناك من أزياء وعادات ومستوى معيشة وأخلاق. ويبلغ من نقله لواقع مجتمعه أنه كان لا يتحرج من ذكر أى شئ حتى

(1) كتاب البديع لابن المعتز (طبعة كراتشة وفسكى) ص 53.

ص: 592

العورات أحيانا، ويعلن ذلك فى صراحة صريحة دون أى مواربة إذ يقول:

«وبعض الناس إذا انتهى إلى ذكر (العورات) ارتدع وأظهر التقزز واستعمل باب التورع، وأكثر من تجده كذلك فإنما هو رجل ليس معه من العفاف والكرم والنبل والوقار إلا بقدر هذا الشكل من التصنع، ولم يكشف قط صاحب رياء ونفاق إلا عن لؤم مستفحل ونذالة متمكنة. (1)»

وبجانب ذلك لا يزال الجاحظ يحاول إطرافك بالنوادر المضحكة، وكان القدماء يلاحظون ذلك بوضوح، حتى ليقول المسعودى:«كتب الجاحظ مع انحرافه المشهور (يريد خصومته للشيعة، وكان المسعودى متشيعا) تجلو صدأ الأذهان وتكشف واضح البرهان، لأنه نظمها أحسن نظم، ورصفها أحسن رصف، وكساها من كلامه أجزل لفظ، وكان إذا تخوف ملل القارئ وسآمة السامع خرج من جدّ إلى هزل، ومن حكمة بليغة إلى نادرة ظريفة» (2) ويصوّر ذلك الجاحظ نفسه فيقول: «وليس ينبغى لكتب الآداب والرياضات أن يحمل أصحابها على الجد الصّرف وعلى العقل المحض وعلى الحق المرّ وعلى المعانى الصعبة التى تستكدّ النفوس وتستفرغ المجهود، وللصبر غاية وللاحتمال نهاية، ولا بأس أن يكون الكتاب موشّحا ببعض الهزل» (3). وخصّ الهزل والنوادر بكتابه المشهور «البخلاء» وهو مجموعة كبيرة من الأقاصيص الفكهة عن الأشحاء البخلاء فى عصره. وبنى رسالة له فى هجاء أحد الكتاب المسمى بأحمد بن عبد الوهاب، وهى رسالة التربيع والتدوير، على الضحك به والتندر عليه إذ كان قصيرا مليئا، فجعل يصفه فى رسالته وصفا مضحكا، ثم حوّله إلى دراسة واسعة فى الجمال، وهل يكون فى القصر أو يكون فى الطول أو يكون فى النحافة أو يكون فى الامتلاء أو يكون فى التربيع والتدوير، وهى تمتد إلى عشرات الصفحات وتمتلئ بالدعابة تارة وبالسخرية تارة أخرى، وفيها يقول مدافعا عن المزاح:«ولو استعمل الناس الرصانة فى كل حال والجد فى كل مقال. . . لكان السفه الصّراح خيرا لهم، والباطل محضا أردّ عليهم. . . ولكن لكل شئ قدر ولكل حال شكل، فالضحك فى موضعه كالبكاء فى موضعه» (4).

(1) الحيوان 3/ 45.

(2)

مروج الذهب 4/ 109.

(3)

رسالة فى النساء مجموعة رسائل الجاحظ نشر السند وبى ص 266.

(4)

رسالة التربيع والتدوير (طبعة شارل بلات بدمشق) ص 53.

ص: 593

وجرّت رغبة الجاحظ فى أن يتخلّل كتاباته بالنوادر وما يطرف القارئ رغبة مماثلة فى أن يورد فى تضاعيف كتاباته بعض آى القرآن وبعض الآثار والأخبار وبعض الأشعار والحكم، مما أشاع فى رسائله وكتبه كثرة الاستطراد، وكان يقصد إليه قصدا ويتخذه مذهبا فى كتابته، حتى لا يملّ القارئ، وحتى يظل له نشاطه وإقباله على ما يكتبه، وهو يعلن ذلك مرارا فى كتبه، كقوله فى كتاب الحيوان:«قد عزمت-والله الموفّق-أنى أوشّح هذا الكتاب وأفصّل أبوابه بنوادر من ضروب الشعر وضروب الأحاديث ليخرج قارئ هذا الكتاب من باب إلى باب ومن شكل إلى شكل فإنى رأيت الأسماع تملّ الأصوات المطربة والأغانى الحسنة والأوتار الفصيحة إذا طال ذلك عليها، وما ذلك إلا فى طريق الراحة التى إذا طالت أو رثت الغفلة» (1). ويقول فى موضع آخر: «ومتى خرج (القارئ) من آى القرآن صار إلى الأثر، ومتى خرج من أثر صار إلى خبر ثم يخرج من الخبر إلى شعر، ومن الشعر إلى نوادر، ومن النوادر إلى حكم عقلية ومقاييس سداد. . . حتى يفضى إلى مزح ونكاهة، وإلى سخف وخزافة» (2).

ودائما يعنى الجاحظ بصياغته، بادئا بموادّها من الألفاظ، فهى تارة ألفاظ جزلة رصينة، وتارة ألفاظ عذبة رشيقة، ولكل لفظة موضعها من الكلام ومن المعنى الذى تؤدّيه، وهو يصيح فى البيان والتبيين وغيره من كتاباته: التلاؤم التلاؤم ومطابقة الكلام لمقتضى الحال، أو بعبارة أخرى لسامعيه، يقول:«وكما لا ينبغى أن يكون اللفظ عاميّا وساقطا سوقيّا فكذلك لا ينبغى أن يكون غريبا وحشيا إلا أن يكون المتكلم بدويّا أعرابيّا، فإن الوحشىّ من الكلام يفهمه الوحشىّ من الناس، كما يفهم السوقىّ رطانة السّوقىّ» (3). ودائما يبدئ ويعيد فى أن الأسلوب ينبغى أن يكون وسطا بين لغة العامة ولغة الخاصة، وأن تشفّ الألفاظ عن المعانى حتى تلذّ الأسماع والقلوب، يقول:«أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره ومعناه فى ظاهر لفظه. . . وإذا كان المعنى شريفا واللفظ بليغا. . . صنع فى القلوب صنيع الغيث فى التربة الكريمة» (4). وأكثر من

(1) الحيوان (طبعة الحلبى) 3/ 7.

(2)

الحيوان 1/ 93.

(3)

البيان والتبيين 1/ 144.

(4)

البيان والتبيين 1/ 83.

ص: 594

الحديث فى البيان والتبيين عن حسن الصياغة وجمال العبارات، وهو بحقّ الذى أعدّ فى قوة لشيوع أسلوب جديد فى الكتابة، هو أسلوب الازدواج، وهو أسلوب يقوم على التوازن الدقيق بين العبارات بحيث تتلاحق فى صفوف متقابلة، دون أن تتّحد نهاياتها على نحو ما هو معروف فى السجع. هى تتقابل وتتعادل صوتيّا، ولكن دون أن تحقق التوازن الصوتى المألوف فى السجع، ومع ذلك تحقق ضروبا من الإيقاع، فالكلمات تتوازن وتتعادل، وكأن كل كلمة فى عبارة تقابلها كلمة فى العبارة التالية على شاكلة قوله:«لا أعلم قرينا أحسن موافاة، ولا أعجل مكافأة ولا أحضر معونة، ولا أخفّ مئونة، ولا شجرة أطول عمرا، ولا أجمع أمرا، ولا أطيب ثمرة، ولا أقرب مجتنى، ولا أسرع إدراكا، ولا أوجد فى كل إبّان من كتاب ولا أعلم نتاجا فى حداثة سنه، وقرب ميلاده، ورخص ثمنه وإمكان وجوده، يجمع من التدابير العجيبة، والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصحيحة، ومحمود الأذهان اللطيفة، ومن الحكم الرفيعة، والمذاهب القويمة، والتجارب الحكيمة، ومن الإخبار عن القرون الماضية، والبلاد المتنازحة، والأمثال السائرة، والأمم البائدة. ما يجمع لك الكتاب» (1). وبمثل هذا الأسلوب المتدفق الذى يحفّ، جمال الصوت من كل جانب دون أن يخرج به الجاحظ إلى تكلف السجع كان يؤلف ويصنّف الكتب الطوال والرسائل المتنوعة الموضوعات، دون أن تتأبّى عليه كلمة أو صيغة، فقد أصبحت اللغة مرنة فى لسانه وعلى قلمه إلى أقصى حد، لغة شفّافة يشيع فيها الوضوح وهذا الأسلوب المصفّى الذى يروق الآذان والأسماع بأصواته كما يروق القلوب والعقول بمعانيه وأفكاره.

ودائما تلقانا هذه الخصائص العامة لكتابات الجاحظ، إذ يعنى دائما بأسلوبه وسريان الازدواج فيه وبألفاظه وصياغاته وملاءمتها لمعانيها وموضوعاتها وقرّائها، كما يعنى بسريان روح الدّعابة والاستطراد من شعر إلى خبر إلى فكرة كلامية إلى نادرة إلى بيان سمة لشخص من معاصريه إلى قرآن أو حديث إلى فكرة عن علم من علوم عصره كالفلك إلى عقيدة للمجوس إلى ما لا يحصى من المعارف

(1) الحيوان 1/ 42.

ص: 595

وأحوال مجتمعه. وبذلك ينفرد عن أدباء عصره إذ جعل أدبه أدبا واقعيّا يصوّر مجتمعه وكل ما فيه من أخلاق وعادات تتصل بالرجال أو بالنساء والقيان وكيدهن.

ودائما تلقاك طوابعه العقلية من القدرة على الجدل واستنباط البراهين والأدلة ودقائق المعانى والأفكار خائضا بك فى أعمق المباحث الكلامية من تنزيه الله عن الشبه بالمخلوقات أو الكلام عن صفاته أو فى المعرفة أو فى الاستطاعة، مع ذكر أطراف مما يجرى فيه الناس ويخوضون فيه، ومع التنقل فى كل الموضوعات من الإنسان أو الحيوان أو النبات.

ولسنا بصدد البحث العام فى الجاحظ، إنما نريد أن نقف قليلا عند عرضه لبعض المناظرات وما كتبه من رسائل إخوانية وأدبية ونثر قصصى ونوادر، ومرّ بنا أنه طبع كثيرا من رسائله بطابع المناظرة والحوار فى مدح الشئ وذمه، ولعل أكبر مناظرة ساقها مناظرة النظام ومعبد فى الكلب والديك أيهما أفضل، إذ شغلت نحو مجلّد ونصف من كتاب الحيوان، ويذكر أن الغرض منها بيان حكمة الله وتدبيره فى الكلب والديك، يقول:«إنما نتنظّر (نجادل) فيما وضع الله عز وجل فيهما من الدلالة عليه وعلى إتقان صنعه وعلى عجيب تدبيره وعلى لطيف حكمته، وفيما استخزنهما من عجائب المعارف وأودعهما من غوامض الإحساس وسخّر لهما من عظام المنافع والمرافق، ودلّ بهما على أن الذى ألبسهما ذلك التدبير وأودعهما تلك الحكم يحب أن يفكّر فيهما ويعتبر بهما ويسبّح الله عز وجل عندهما» . وهو يردّد ذلك فى جوانب من المناظرة ليبين الغاية منها والغرض. وقد بدأ فيها بالحديث عن الكلب وما قاله معبد فى ذمه وما قاله النظام فى مدحه، ولخّص ذلك يقول (1):

«باب ما ذكر صاحب الديك من ذمّ الكلاب وتعداد أصنافها ومعايبها ومثالبها من لؤمها وجبنها، وضعفها وشرهها، وغدرها وبذائها، وجهلها وتسرعها، ونتنها وقذرها، وما جاء فى الآثار من النّهى عن اتخاذها وإمساكها ومن الأمر بقتلها وطردها، ومن كثرة جناياتها وقلة ودّها، ومن ضرب المثل بلؤمها ونذالتها، وقبحها وقبح ملازمتها، ومن سماجة نباحها وكثرة أذاها، وتقذّر المسلمين

(1) الحيوان 1/ 222.

ص: 596

من دنوّها وأنها تأكل لحوم الناس، وأنها كالخلق المركب، والحيوان الملفق:

كالبغل فى الدوابّ وكالراعبىّ فى الحمام، وأنها لا سبع ولا بهيمة، ولا إنسية ولا جنّية، وأنها من الجنّ دون الجنّ، وأنها مطايا الجنّ ونوع من المسخ وأنها تنبش القبور وتأكل الموتى، وأنها يعتريها الكلب من أكل لحوم الناس.

فإذا حكينا ذلك حكينا قول من عدّد محاسنها، وصنّف مناقبها، وأخذنا فى ذكر أسمائها وأنسابها وأعراقها، وتفدية الرجال إيّاها، واستهتارهم بها، وذكر كسبها وحراستها، ووفائها وإلفها وجميع منافعها، والمرافق التى فيها، وما أودعت من المعرفة الصحيحة، والفطن العجيبة، والحسّ اللطيف، والأدب؟ ؟ ؟ .

وذلك سوى صدق الاسترواح وجودة الشم، وذكر حفظها ونفاذها واهتدائها، وإثباتها لصور أربابها وجيرانها وصبرها، ومعرفتها بحقوق الكرام، وإهانتها اللئام، وذكر صبرها على الجفاء، واحتمالها للجوع، وذكر ذمامها وشدة منعها معاقد الذّمار منها، وذكر يقظتها وقلة غفلتها، وبعد أصواتها، وكثرة نسلها وسرعة قبولها. . . مع اختلاف طبائع ذكورها. . . وتردّدها فى أصناف السباع، وسلامتها من أعراق البهائم، وذكر لقنها وحكايتها، وجودة ثقافتها ومهنها وخدمتها، وجدّها ولعبها فى جميع أمورها، بالأشعار المشهورة والأحاديث المأثورة، وبالكتب المنزلة، والأمثال السائرة، وعن تجربة الناس لها وفراستهم فيها، وما عاينوا منها، وكيف قال أصحاب الفأل فيها وأخبار المتطيرين عنها، وعن أسنانها ومنتهى أعمارها، وعدد جرائها، ومدة حملها وعن سماتها وشياتها، وعن دوائها وأدوائها وسياستها، وعن اللاتى لا تلقن منها، وعن أعراقها والخارجىّ منها، وعن أصول مواليدها ومخارج بلدانها».

وعلى هذا النحو يستقصى الجاحظ جميع الوجوه التى تذمّ بها الكلاب، فيذكرها على لسان معبد وينقضها على لسان النظام، ثم يأتى بمحاسنها ومحاولات معبد فى نقضها، وفى أثناء ذلك يستعين بالأشعار وبآى القرآن والحديث ومعارف العرب، كما يستعين بمعارف غيرهم وبنوادرهم ونوادر اليونان. مع الرجوع دائما إلى التجربة. وهو فى تضاعيف ذلك يستطرد إلى كثير من المباحث الكلامية وإلى

ص: 597

كثير أيضا من عادات العرب. والمناظرة فى رأينا مناظرة بين الشعوبية والعرب، أما الشعوبية فرمزهم الديك الذى يرى فى قراهم ومدنهم، وأما العرب فرمزهم الكلب الذى لا يفارقهم فى منازلهم ومراعيهم، وكأن معبدا والنظام المعتزليين اسمان اختارهما الجاحظ ليقيم مناظرته، أما فى حقيقة الأمر فليس هناك معبد ولا النظام، وإنما هناك الجاحظ بلسنه وقدرته الرائعة على دراسة الموضوعات سواء اتصلت بالحيوان أو لم تتصل، وهناك العرب والشعوبية التى تستقذر الكلب وحيوانات الصحراء، مما جعل الجاحظ يعقد فى حيوانه مناظرة أخرى بين البعير والفيل (1)، فدائما الشعوبية تتحرش بالعرب وتهجّن حياتها وكل ما اتصل بها، وكأن الجاحظ أقام نفسه رصدا لهم، ومن الممكن أن يكون من هذا الباب كتابه الزرع والنخيل الذى أهداه إلى إبراهيم بن العباس الصولى، فالزرع رمز الحضارة والشعوبية، والنخيل رمز العرب والبادية، وقد هاجم الجاحظ الشعوبية مرارا، فى كتابه البيان والتبيين إذ أفرد لها فصلا طويلا وفى كتابات أخرى له متعددة عن العرب والعجم. ونسوق فقرة من ذم صاحب الديك للكلب وبعض صفاته وردّ صاحب الكلب عليه، وهى تجرى على هذه الصورة (2):

«قال صاحب الديك: إن أطعمه اللص بالنهار كسرة خبز خلاّه، ودار حوله ليلا، فهو فى هذا الوجه مرتش وآكل سحت، وهو مع ذلك أسمج الخلق صوتا، وأحمق الخلق يقظة ونوما، ينام النهار كله على نفس الجادّة (الطريق) وعلى مدقّ الحوافر وفى كل سوق وملتقى طريق. . . وقد سهر الليل كله بالصياح والصخب، والنّصب والتعب، والغيظ والغضب، وبالمجئ والذهاب، فيركبه من حب النوم على حسب حاجته إليه، فإن وطئته دابة فأسوأ الخلق جزعا، وألأمه لؤما، وأكثره نباحا وعواء، فإن سلم ولم تطأه دابة ولا وطئه إنسان فليست تتم له السلامة، لأنه فى حال متوقع للبليّة، ومتوقع البليّة فى بليّة، فإن سلم فليس على ظهرها مبتلى أسوأ حالا منه، لأنه أسوأهم جزعا وأقلهم صبرا، لأنه الجانى ذلك على نفسه، وقد كانت الطرق الخالية له معرّضة. وأصول الحيطان مباحة، وبعد فإن كلّ خلق فارق أخلاق الناس فإنه

(1) الحيوان 7/ 193.

(2)

الحيوان 1/ 282 وما بعدها.

ص: 598

مذموم، والناس ينامون بالليل الذى جعله الله تعالى سكنا، وينتشرون بالنهار الذى جعله الله تعالى لحاجات الناس مسرحا. قال صاحب الكلب: لو شئنا أن نقول إن سهره بالليل ونومه بالنهار خصلة ملوكية لقلنا. ولو كان خلاف ذلك ألذّ لكانت الملوك بذلك أولى. وأما الذى أشرتم إليه من النوم فى الطرق الخالية، وعبتموه به من نومه على شارعات الطرق والسكك العامرة، وفى الأسواق الجامعة فكل امرئ أعلم بشأنه، ولولا أن الكلب يعلم ما يلقى من الأحداث والسفهاء وصبيان الكتّاب من رضّ عظامه بألواحهم إذا وجدوه نائما فى طريق خال ليس بحضرته رجال يهابون، ولا مشيخة يرحمون ويزجرون السفهاء. وأن ذلك لا يعتريه فى مجامع الأسواق لقلّ خلافه عليك ولما رقد فى الأسواق. وعلى أن هذا الخلق إنما سيعترى كلاب الحرّاس، وهى التى فى الأسواق مأواها ومنازلها، وبعد فمن أخطأ وأظلم ممن يكلف السباع أخلاق الناس وعادات البهائم؟ وقد علمنا أن سباع الأرض عن آخرها إنما تهيج وتسرح وتلتمس المعيشة ليلا، لأنها تبصر بالليل. . . أما تركه الاعتراض على اللصّ الذى أطعمه أياما، وأحسن إليه مرارا، فإنما وجب عليه حفظ أهله لإحسانهم إليه وتعاهدهم له. فإذا كان عهده ببرّ اللصّ أحدث من عهده ببرّ أهله لم يكلّف الكلب النظر فى العواقب وموازنة الأمور. والذى أضمر اللص من البيات غيب قد ستر عنه، وهو لا يدرى أجاء ليأخذ أم جاء ليعطى. . . ولعل أهله أيضا أن يكون قد استحقوا ذلك منه بالضّرب والإجاعة، وبالسبّ والإهانة. وأما سماجة الصوت فالبغل أسمج صوتا منه، وكذلك الطاووس على أنهم يتشاءمون به. وليس الصوت الحسن إلا لأصناف الحمام من القمارىّ والدّباسىّ وأصناف الشفانين (ضرب من العصافير) فأما الأسد والذئب وابن آوى والخنزير وجميع الطير والسباع والبهائم، فكذلك، وإنما لك أن تذم الكلب فى الشئ الذى لا يعمّ. . . وربما كان من الناس-بل كثيرا ما تجده-من صوته أقبح من صوت الكلب، فلم تخصّون الكلب بشئ عامة الخلق فيه أسوأ حالا من الكلب. وأما عواؤه من وطء الدابة وسوء جزعه من ضرب الصبيان فجزع الفرس من وقع عذبة (طرف) السوط أسوأ من جزعه».

ص: 599

وواضح كيف أن صاحب الديك ثلب الكلب مثالب مختلفة فى وفائه لأصحابه وفى غلظ صوته وفى نومه بالنهار على الطرق وفى الأسواق، وفى كثرة نباحه وعوائه حين تطؤه دابّة. وينقض صاحب الكلب كل تلك المثالب فهو ينام بالنهار مثل الملوك والسلاطين، وفى الأماكن الجامعة لما يلقى من السفهاء والصبيان، حتى يزجرهم الناس، ومع ذلك ليست كل الكلاب ترقد فى الأسواق إنما تلك كلاب الحراسة، وهذا طبيعى لأن الأسواق دورها ومنازلها. أما أنه لا يفى لأصحابه حين يلقى له لصّ بكسرة خبز، فإن محاسبته على ذلك لإحسانهم إليه، وإحسان اللص أحدث من إحسانهم، ثم هو كلب لا يعرف نية اللص وما أضمر من سرقة أهله، ولا يدرى أجاء ليأخذ أو جاء ليعطى، وربما كان أهله يعاملونه معاملة سيئة. وسماجة صوته ليست مثلبة، فالبغل أسمج صوتا منه، وكذلك الطاووس الجميل المنظر، والصوت الحسن إنما يكون لأصناف الحمام دون جميع الطير والسباع والبهائم. وحتى الناس منهم من تهبط منزلة صوته فى القبح درجات عن صوت الكلب، وذلك لا يعيبهم.

أما جزعه من وطء والدوابّ ضرب الصبيان له فربما كان جزع الفرس من ضرب السياط أسوأ من جزعه. وهكذا تسقط جميع المثالب التى وصف بها صاحب الديك الكلب ولا يبقى منها فى يده شئ. وهى براعة فائقة فى الحوار وفى الاستدلال والتلطف للبرهان والاحتيال له بالعقل الثاقب، مع التأنى والتمكين للحجج، وهى توضع فى صورة أدبية بديعة، هى صورة الأسلوب المزدوج الذى تتوازن فيه العبارات والصيغ وتنعادل إيقاعاتها تعادلا محكما. وتمتد المناظرة فى الكلب ومحاسنه ومساوئه من صفحة 190 فى الجزء الأول من الحيوان إلى صفحة 233 من الجزء الثانى فتشغل بذلك مجلدا ضخما، ثم تبدأ المناظرة فى مساوئ الديك ومحاسنه وتسمر إلى صفحة 375 من هذا الجزء الثانى. ومما احتج به صاحب الديك من محاسنه صياحه الدال على معرفته لساعات الليل فى الفجر وغير الفجر، حتى كأنه فوق الإسطرلاب الذى يرصد الفلك ومنازل القمر، ويردّ عليه صاحب الكلب هذه المحمدة، لأن الحمار يشرك الديك فيها بنهيقه فى الأسحار، يقول (1):

(1) الحيوان 2/ 255 وما بعدها.

ص: 600

«لولا أن وجدنا الحمار المضروب به المثل فى الجهل يقوم فى الصباح وفى ساعات الليل مقام الديكة لقد كان ذلك قولا ومذهبا غير مردود، ولو أن متفقدا تفقد ذلك من الحمار لوجده منظوما يتبع بعضه بعضا على عدد معلوم، ولوجد ذلك مقسوما على ساعات الليل، ولكان لقائل أن يقول فى نهيق الحمار فى ذلك الوقت: ليس تجاوبا إنما ذلك شئ يتوافى معا، لاستواء العلة، فلم تكن للديك الموصوف بأنه فوق الإسطرلاب فضيلة ليست للحمار. . . والحمار أجهل الخلق، فليس ينبغى للدّيك أن يقضى له بالمعرفة، والحمار قد ساواه فى يسير علمه» .

وعلى هذا النحو لا يدلى صاحب الديك بمحمدة إلا وينقضها عليه النظّام نقضا، وبالمثل ينقض معبد محامد الكلب. ويشتد الحوار بين المتناظرين، ونصبح وكأننا بإزاء بانيين لحصون من الأدلة والبراهين لا تلبث حين تقوم أن تنقضّ.

وكما قلنا ليس البانيان والناقضان سوى الجاحظ نفسه، فهو الذى أقام تلك المناظرة التى ظاهرها كلب وديك وباطنها عرب وشعوبية، وكان يتعصب للعروبة فى أعماقه، مما جعله ينفض عن الكلب كل مذامّه ومثالبه ويضفى عليه كثيرا من المحامد والمحاسن فى حماسة بالغة.

وهذا لون من ألوان أدبه. ولون ثان هو رسائله الإخوانية، وهى تموج بطرف فكره وبلاغته، فمن ذلك أن صديقه ابن الزيات تلوّن له وتنكّر فترة إذ أحسّ انشغاله عنه، فكتب إليه الجاحظ يستعطفه بالرسالة التالية (1):

«أعاذك الله من سوء الغضب، وعصمك من سرف الهوى، وصرف ما أعارك من القوة إلى حب الإنصاف، ورجّح فى قلبك إيثار الأناة (الحلم) فقد خفت -أيّدك الله-أن أكون عندك من المنسوبين إلى نزق السفهاء، ومجانبة سبل الحكماء، وبعد فقد قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت:

وإنّ امرأ أمسى وأصبح سالما

من الناس إلا ماجنى لسعيد

وقال الآخر:

ومن دعا الناس إلى ذمّه

ذمّوه بالحق وبالباطل

(1) زهر الآداب 2/ 108.

ص: 601

فإن كنت اجترأت عليك-أصلحك الله-فلم أجترئ إلا لأن دوام تغافلك عنى شبيه بالإهمال الذى يورث الإغفال، والعفو المتتابع يؤمن من المكافأة (المجازاة) ولذلك قال عيينة بن حصن بن حذيفة لعثمان رحمه الله: عمر كان خيرا لى منك: أرهبنى فأتقانى، وأعطانى فأغنانى. فإن كنت لا تهب عقابى -أيّدك الله-لحرمة، فهبه لأياديك عندى، فإن النعمة تشفع فى النقمة، وإلاّ تفعل ذلك لذلك فعد لحسن العادة، وإلا فافعل ذلك لحسن الأحدوثة، وإلا فأت ما أنت أهله من العفو، دون ما أنا أهله من استحقاق العقوبة. فسبحان من جعلك تعفو عن المتعمد، وتتجافى عن عقاب المصرّ، حتى إذا صرت إلى من هفوته بكر (أولى) وذنبه نسيان، ومن لا يعرف الشكر إلا لك، ولا الإنعام إلا منك هجمت عليه بالعقوبة. واعلم-أيّدك الله-أن شين غضبك علىّ كزين صفحك عنى، وأن موت ذكرى مع انقطاع سببى منك، كحياة ذكرى مع اتصالى سببى بك، واعلم أن لك فطنة عليم، وغفلة كريم، والسلام».

والرسالة على قصرها تحمل خصائص الجاحظ الأدبية، ففيها شعر وخبر، وفيها المهارة العقلية على التدليل واستنباط الأفكار، فابن الزيات هو الذى طال تغافله عن الجاحظ ويشبّه التغافل بالإهمال ضربا من القياس ليصل إلى إغفاله له، ويسوق دليلا ملزما، فهو دائما يعفو عنه والعفو المتتابع يجعل المعفوّ عنه آمنا من المجازاة وأن يصاب بسوء. ثم مضى يلزمه الرضا عنه، بمنزل متعددة منه، إما لمنزلة حرمته منه، وإما لما تتابع عليه من أياديه، والنعمة تشفع فى النقمة، برهانا ساطعا، وإما لحسن العادة، وإما لحسن الأحدوثة، وإما لأنه أهل للعفو عن المستحقين للعقوبة من أمثاله. ويتلطّف له قائلا إنه أول ذنب لى وليس ذنبى إلا النسيان، وهل عرفت الشكر إلا لك ولا الإنعام إلا منك. فماذا يملك ابن الزيات إزاء هذا البيان الرائع إلا أن يعود إلى الرضا التام؟ وتتقابل عبارات الرسالة فى صفوف، وكأن كل كلمة فى عبارة سابقة تجذب قرينتها فى العبارة اللاحقة، دون محاولة لسجع أو نغم متماثل فى نهايات الجمل المتلاحقة، وهكذا الجاحظ دائما يكتفى بجمال التوازن العام فى أسلوبه المزدوج. وانظر إلى التوازن الدقيق فى العبارات الأخيرة من الرسالة. «فشين غضبك» توازن «زين صفحك» ، و «موت ذكرى

ص: 602

مع انقطاع سببى» توازن «حياة ذكرى مع اتصال سببى» . وتكامل مثل هذا التوازن فى أسلوبه يتيح له وفرة فى النغم، مع ما يتّسم به أسلوبه عامة من رصانة وجزالة ونصاعة.

ولون ثالث من كتاباته هو الرسائل الأدبية، وهى تعدّ بالعشرات، ويكفى أن نرجع لعنوانات المطبوع منها لنرى مدى تنوعها وأنها تناولت جوانب كثيرة من المجتمع ومن المسائل الكلامية ومن الأخلاق ومن الطوائف كالترك والمعلمين والقيان والمغنين غير ماله من رسائل فى حجج النبوة واستحقاق الامامة وخلق القرآن. وكثير منها مكتوب بأسلوب الجدل والمناظرة، إن لم نقل إنها جميعها كتبت بهذا الأسلوب ونكتفى بعرض رسالة منها ولتكن رسالته (1) فى فخر السودان على البيضان، وقد عرض فيها مناقب السودان ممثلة فى شخصيات بارزة مثل لقمان الحكيم وسعيد بن جبير العبد الصالح الذى قتله الحجاج وبلال الحبشى والمقداد الصحابى الجليل أول من عدا به فرسه فى الإسلام، ومثل مكحول الفقيه والحيقطان الشاعر الذى يفتخر بقومه، ويذكر قصيدة له تحتج بها العجم والحبش على العرب، ويشرح أبياتها، ومثل سنيح بن رباح المعاصر لجرير ويروى قصيدته فى الفخر بالزنج، ويذكر أبناء الزنجيات من العرب مثل العباس بن مرداس وعنترة الفوارس. ويذكر من احتجاجهم أنهم ملكوا ذات يوم بلاد العرب من لدن الحبشة إلى مكة وقتلوا ذا نواس وأقيال (تبابعة) حمير، ويذكر مشاركتهم فى بعض الأحداث والحركات السياسية فى العصرين الأموى والعباسى، ثم يقول:

«الناس مجمعون على أنه ليس فى الأرض أمة السخاء فيها أعم وعليها أغلب من الزنج. . . وهم أطبع الخلق على الرقص الموزون من غير تأديب ولا تعليم. وليس فى الأرض أحسن حلوقا منهم، وليس فى الأرض أخف على اللسان من لغتهم، ولا فى الأرض قوم أذرب (أفصح) ألسنة، ولا أقل تمطيطا منهم. . . والرجل منهم يخطب عند الملك بالزنج من لدن طلوع الشمس إلى غروبها، فلا يستعين بلفتة ولا بسكتة حتى يفرغ من كلامه. وليس فى الأرض أمة فى شدة الأبدان وقوة الأسر أعم منهم فيهما، وإن الرجل ليرفع الحجر الثقيل الذى تعجز عنه

(1) انظر الرسالة فى مجموعة رسائل الجاحظ. (نشر مكتبة الخانجى) 1/ 177 - 226.

ص: 603

الجماعة من الأعراب وغيرهم، وهم شجعان أشداء الأبدان أسخياء. وهذه هى خصال الشرف. والزنجى مع حسن الخلق وقلة الأذى لا تراه أبدا إلا طيب النفس ضحوك السنّ حسن الظنّ، وهذا هو الشرف».

ويرد على أناس قالوا إنهم صاروا أسخياء لضعف عقولهم، ويقول لو كان البخل بمقدار قوة العقل، لكان الصقالبة أعقل من الروم لأنهم أبخل منهم والروم أشد عقولا. ويقول لخصومهم إنكم أقررتم لهم بالسخاء وادعيتم عليهم ما لا يعرف من ضعف العقل، ولو كان هذا القياس صحيحا لكان الجبان أعقل من الشجاع.

ويذكر فخر الزنج بملوكهم. ثم يعود إلى ذكر طائفة من شعرائهم وافتخارهم بالنجاشى الذى أكرم المهاجرين إليه من الصحابة، ثم يقول بلسانهم:

«ونحن أهول فى الصدور وأملأ للعيون. . . كما أن الليل أهول من النهار. . .

ودهم الخيل أبهى وأقوى، والبقر السود أحسن وأبهى، وجلودها أثمن وأنفع وأبقى، والحمر (ج حمار) السود أثمن وأحسن وأقوى، وسود الشّاء أدسم ألبانا وأكثر زبدا. . . وكل جبل وكل حجر إذا كان أسود كان أصلب صلابة، وأشد يبوسة، والأسد الأسود لا يقوم له شئ، وليس من التمر شئ أحلى حلاوة من الأسود ولا أعم منفعة ولا أبقى على الدهر، والنخيل أقوى ما تكون إذا كانت سود الجذوع. . . وأحسن الخضرة ما ضارع السواد، قال الله عز وجل:{(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ)} ثم قال لما وصفهما وشوّق إليهما: {(مُدْهامَّتانِ)} قال ابن عباس: خضراوان من الرىّ سوداوان، وليس فى الأرض عود أحسن خشبا ولا أغلى ثمنا ولا أثقل وزنا. . .

ولا أجدر أن ينشب فيه الخطّ من الآبنوس. . . والإنسان أحسن ما يكون فى العين ما دام أسود الشعر، وكذلك شعورهم فى الجنة، وأكرم ما فى الإنسان حدقتاه وهما سوداوان، وأكرم الكحل الإثمد، وهو أسود. . . وأنفع ما فى الإنسان له كبده».

ونحس كأن الكلام سيول تتدافع، وهى سيول تحيط بفكرة السواد وترفع منها محصية إحصاء دقيقا مواقعه فى الطبيعة وفى الحيوان وفى الجماد وفى الثمار والأشجار وفى الزروع والأعواد والأخشاب وفى الإنسان وفى الجنة ونعيمها الخالد. وكل ذلك

ص: 604

يسوّى فى أسلوب الازدواج وما يحمل من متاع موسيقى للآذان والأسماع ويتحدث الجاحظ عن اقتران السواد بالشدة والصلابة والصرامة، وأنه لا يوجد لون أرسخ فى جوهره من السواد، ويذكر أن العرب تفخر بسواد اللون وأنه كان كثيرون من سادتهم سودا دهما. ويتحدث عن كثرة عدد الزنج، وكيف أن كثيرين من العرب مثل الفرزدق كانوا يفضلون زوجاتهم السودانيات. ويجعل سكان الجزر الهندية وكذلك القبط جنسا من السودان ويذكر أن إبراهيم الخليل تزوج منهم امرأة ولدت له إسماعيل عليه السلام. ويقول إن الله تعالى لم يجعلهم سودا تشويها لخلقهم، وإنما فعلت بهم ذلك البيئة، ويسلك فيهم من العرب بنى سليم بن منصور وكل من نزل الحرّة لسريان السواد فيهم، ويقول إنه بلغ من أمر تلك الحرّة (حرّة بنى سليم) أن ظباءها ونعامها، وهوامّها وذبابها، وثعالبها وشاءها، وحميرها وخيلها، وطيرها، كلها سود.

ونحس فى حرارة دفاعه عن السودان كأنه يدافع عن أصوله إذا صحّ أن جده كان عبدا أسود. وأكبر الظن أنه أول من أشاد بالسودان فى عصره، وكأنما أصبح لهم شئ من الخطر فى الحياة الاجتماعية العباسية، ولم تمض على وفاته سوى عشر سنوات حتى شبت ثورة الزنج التى تحدثنا عنها فى غير هذا الموضع.

ولون رابع من كتاباته هو النثر القصصى، إذ كان بارعا فى تصوير الشخصيات والنفوس، ولو أنه عرف الأدب التمثيلى لأسعفته ملكته فى المناظرة والحوار بقصص تمثيلية كثيرة، وهو بحق لا يبارى فى وصف الحركات الجسدية والمشاعر النفسية، ومن خير ما يصوّر هذه النزعة القصصية عنده أقصوصته فى كتابه الحيوان عن «القاضى والذباب» وهى تجرى على هذه الصورة الرائعة (1):

«كان لنا بالبصرة قاض يقال له عبد الله بن سوّار، لم ير الناس حاكما قط ولا زمّيتا (2) ولا ركينا (3)، ولا وقورا حليما ضبط من نفسه، وملك من حركته، مثل الذى ضبط وملك. كان يصلّى الغداة (4) فى منزله، وهو قريب

(1) الحيوان 3/ 343.

(2)

زميتا: وقورا.

(3)

ركينا: رزينا.

(4)

الغداة: صلاة الضحى النافلة.

ص: 605

الدار من مسجده، فيأتى مجلسه، فيحتبى، ولا يتكئ، فلا يزال منتصبا، لا يتحرّك له عضو ولا يلتفت ولا يحلّ حبوته (1)، ولا يحوّل رجلا عن رجل، ولا يعتمد على أحد شقّيه، حتى كأنه بناء مبنىّ أو صخرة منصوبة فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى صلاة الظهر، ثم يعود إلى مجلسه، فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى صلاة المغرب. . . كذلك كان شأنه فى طوال الأيام وفى قصارها، وفى صيفها وفى شتائها، وكان مع ذلك لا يحرّك يده ولا يشير برأسه، وليس إلا أن يتكلم فيوجز ويبلغ بالكلام اليسير المعانى الكثيرة، فبينما هو كذلك ذات يوم وأصحابه حواليه وفى السماطين (2) بين يديه، إذ سقط على أنفه ذباب، فأطال المكث، ثم تحول إلى مؤق (3) عينه، فرام الصبر فى سقوطه على المؤق وعلى عضّه ونفاذ خرطومه، كما رام الصبر على سقوطه على أنفه من غير أن يحرك أرنبته (4) أو يغضّن وجهه أو يذبّ بإصبعه. فلما طال ذلك عليه من الذباب وشغله وأوجعه وأحرقه، وقصد إلى مكان لا يحتمل التغافل أطبق جفنه الأعلى على جفنه الأسفل، فلم ينهض (الذباب) فدعاه ذلك إلى أن والى بين الإطباق والفتح، فتنحىّ ريثما سكن جفنه، ثم عاد إلى مؤقه بأشد من مرّته الأولى، فغمس خرطومه فى مكان كان قد أوهاه قبل ذلك، فكان احتماله له أضعف وعجزه عن الصبر فى الثانية أقوى. فحرّك أجفانه وزاد فى شدة الحركة وفى فتح العين وفى تتابع الفتح والإطباق، فتنحّى عنه بقدر ما سكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه، فما زال بلحّ عليه حتى استفرغ صبره وبلغ مجهوده. فلم يجد بدّا من أن يذبّ عن عينيه بيده، ففعل، وعيون القوم إليه ترمقه. فتنحّى عنه بقدر ما ردّ يده وسكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه، ثم ألجأه إلى أن ذبّ عن وجهه بطرف كمّه، ثم ألجأه، إلى أن تابع بين ذلك. وعلم أن فعله كله بعين من حضره من أمنائه وجلسائه. فلما نظروا إليه قال: أشهد أن الذباب ألجّ من الخنفساء وأزهى من الغراب، وأستغفر الله، فما أكثر من أعجبته نفسه، فأراد الله عز وجل أن يعرّفه من ضعفه ما كان عنه مستورا. وقد علمت أنى عند الناس من أزمت

(1) يحتبى: من الحبوة، وهى أن يجمع الرجل بين ظهره وساقيه بعمامة ونحوها.

(2)

السماطين؛ مثنّى سماط وهو الصف.

(3)

المؤق: طرف العين مما يلى الأنف.

(4)

أرنبته: طرف أنفه.

ص: 606

الناس، فقد غلبنى وفضحنى أضعف خلقه، ثم تلا قوله تعالى:{(وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)} .

والأفصوصة تتألف من ثلاثة أجزاء واضحة، أما الجزء الأول فيصف فيه الجاحظ وقار القاضى عبد الله بن سوّار وتزمته وما بلغه من سيطرته الشديدة-التى لم يبلغها أحد-على نفسه وحركته. وهى سيطرة كانت تظل تلازمه طوال اليوم من الغداة حتى صلاة المغرب، بل لكأنما أصبحت له فطرة ثابتة، فإذا هو يجلس محتبيا غير متكئ فى المسجد، منتصبا كأنه سارية أو عمود من أعمدته، لا يتحرك له عضو ولا يلتفت يمنة ولا يسرة، ولا يغيّر وضعا له فى جلسته، حتى لكأنه بناء مبنى أو صخرة منصوبة. ويقول إنه يتخذ هذا الوضع لا فى يوم من أيام السنة، بل فى جميع أيامها طوالها وقصارها، وشئ منه لا يتحرك، لا رجل ولا يد ولا رأس، حتى إذا اجتمع الناس له فى سماطين وعظهم وعظا بليغا.

وهذا هو الجزء الأول فى القصة أو الأقصوصة، ويليه جزء ثان يصور فيه الجاحظ إلحاح الذباب الضعيف على هذا البناء الضخم من الوقار والتزمت والرزانة وهو يسترسل فى العظة، ويصمد البناء لهذا الإلحاح فترة، ثم تأخذ قواه فى الوهن شيئا فشيئا، والجاحظ يلاحظ ويسجل ملاحظاته مصورا أدق الدقائق من حركة الذباب وكيف تحول من أنف القاضى إلى مؤقه، والقاضى يستشعر وقاره صابرا صبرا عظيما على عضّ الذباب لمؤقه ونفاذ خرطومه فيه دون أن يغمض طرفه أو يغضّن وجهه أو يذبّه. ويظل على وقاره صابرا يوجعه الذباب ويحرقه، حتى إذا نفد صبره أطبق جفنه الأعلى على جفنه الأسفل، فلم يتنحّ الذباب وظل فى إحراقه وإيجاعه، فوالى بين الإطباق والفتح وهو لا يفقد وقاره. وتنحىّ الذباب قليلا ثم عاد بأشد مما كان، لأن المكان كان قد وهى، فكان احتماله له أضعف، فحرّك أجفانه وزاد فى شدة الحركة وفى تتابع الفتح والإطباق. فتنحى الذباب عن المؤق ولم يلبث أن عاد إلى موضعه، وما زال يلحّ على القاضى حتى نفد صبره، فذبّ عن عينيه بيده وعيون الجالسين أمامه ترمقه. وتنحى عنه بقدر ما ردّ يده وسكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه. حينئذ خرج عن وقاره المألوف إذ لم يجد بدّا أن يذبّ عن عينيه بطرف كمه. وعاوده مرارا، وهو يتابع ذبّه بطرف الكم. وننتقل مع الجاحظ إلى الجزء الثالث من الأقصوصة وفيه يصوّر تعلق أعين السامعين،

ص: 607

الذين شهدوا المنظر بالقاضى، ناظرين إليه وكأنهم يريدون منه تعليقا أو عظة.

ويبدأ ببيان إلحاح الذباب، ويعترف بضعفه أمام أضعف مخلوقات الله، ويصرّح بأن الذباب غلبه وقهره وفضحه، وأنه لا يختلف فى ذلك عن بنى جنسه بشهادة الآية القرآنية الكريمة. والأفصوصة محبوكة حبكا دقيقا بما أودعها الجاحظ من دقائق التصوير والتفاصيل، وكأنها مشهد نراه بأعيننا إذ نقله لنا بحذافيره نقلا واعيا، أو قل نقل عين بصيرة لا يفوتها شئ فى الرؤية الحسية ولا فى الرؤية النفسية.

ولون خامس فى كتابات الجاحظ الأدبية هو كثرة ما أذاع فيها من نوادر ترويحا عن نفس القارئ وتنشيطا له، على نحو ما صوّر ذلك بنفسه فيما أسلفنا من الحديث عن خصائصه، وقد وضع لها قاعدة لغوية عامة ألا تغيّر ولا تبدّل صورتها اللفظية، سواء جرت على ألسنة البدو أو ألسنة العامّة، يقول (1):

«ومتى سمعت-حفظك الله-بنادرة من كلام الأعراب، فإياك أن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها، فإنك إن غيّرتها بأن تلحن فى إعرابها وأخرجتها مخارج كلام المولّدين والبلديين خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير. وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوامّ وملحة من ملح الحشوة والطغام فإياك أن تستعمل فيها الإعراب، أو تتخيّر لها لفظا حسنا أو تجعل لها من فيك مخرجا سريّا، فإن ذلك يفسد الإمتاع بها، ويخرجها من صورتها ومن الذى أريدت له، ويذهب استطابتهم إياها واستملاحهم لها» .

وطبّق هذه القاعدة على نفسه تطبيقا شديدا، فالنادرة تروى بألفاظها كما ندّت من ألسنة أصحابها، وإذا كان لفظها عاميّا أو أعرابيّا مسرفا فى البداوة ظلت كما اجتلبت دون أى تعديل، فإنها إن عدّلت مسخت وأصبحت مشوّهة الخلق، وفارقتها طبيعتها، ولم تعد مضحكة. وتكثر النوادر فى البخلاء بل كل الكتاب نوادر إن صح هذا التعبير، وهو يعرض فيه شخصيات المجتمع الفذة الفلسفية والكلامية ومحركاته من شعوبية وغير شعوبية وكثيرا من تقاليده ومطاعمه وملابسه، فكل ما فى المجتمع البصرى من صور حياة يعرض عرضا دقيقا بكل شياته وسماته. وله فى المعلمين كتاب ملأه بنوادرهم، ونسوق له هذه النادرة التى صوّر فيها حمق المعلمين وضعف عقولهم لملازمتهم الصّبية، قال:

(1) البيان والتبيين 1/ 145.

ص: 608

«كنت ألّفت كتابا فى نوادر المعلمين وما هم عليه من الغفلة، ثم رجعت عن ذلك وعزمت على تقطيع الكتاب، فدخلت يوما قرية، فوجدت فيها معلما فى هيئة حسنة، فسلّمت عليه فردّ علىّ أحسن ردّ، ورحّب بى، فجلست عنده، وباحثته فى القرآن، فإذا هو ماهر، ثم فاتحته فى الفقه والنحو وعلم المعقول وأشعار العرب، فإذا هو كامل الأدوات، فقلت: هذا والله مما يقوّى عزمى على تقطيع الكتاب. وكنت أختلف إليه وأزوره، فجئت يوما لزيارته وطرقت الباب، فخرجت إلىّ جارية وقالت: ما تريد؟ قلت: سيّدك. فدخلت وخرجت، وقالت: باسم الله! . فدخلت إليه، وإذا به جالس كئيبا، فقلت:

عظّم الله أجرك {(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)} ، {(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ)} ، فعليك بالصبر، ثم قلت له: هذا الذى توفى ولدك؟ قال: لا، قلت: فوالدك؟ قال: لا، قلت: فأخوك؟ قال: لا، قلت: فزوجتك؟ قال: لا. فقلت: وما هو منك؟ قال: حبيبتى. فقلت فى نفسى: هذه أول المناحس، فقلت: سبحان الله! النساء كثير، وستجد غيرها، فقال: أتظن أنى رأيتها؟ قلت: هذه منحسة ثانية، ثم قلت: وكيف عشقت من لم تر؟ فقال: اعلم أنى كنت جالسا فى هذا المكان، وأنا أنظر من الطاق (النافذة) إذ رأيت رجلا عليه برد (ثوب) وهو يقول:

يا أمّ عمرو جزاك الله مكرمة

ردّى علىّ فؤادى أينما كانا

لا تأخذين فؤادى تلعبين به

فكيف يلعب بالإنسان إنسانا

فقلت فى نفسى: لولا أن أم عمرو هذه ما فى الدنيا أحسن منها ما قيل فيها هذا الشعر، فعشقتها، فلما كان منذ يومين مرّ ذلك الرجل بعينه، وهو يقول:

لقد ذهب الحمار بأمّ عمرو

فلا رجعت ولا رجع الحمار

فعلمت أنها ماتت، فحزنت عليها، وأغلقت المكتب، وجلست فى الدار، فقلت: يا هذا: إنى كنت ألفت كتابا فى نوادركم معشر المعلمين، وكنت حين صاحبتك عزمت على تقطيعه، والآن قد قوّيت عزمى على إبقائه، وأول ما أبدأ فيه بك إن شاء الله».

ص: 609

والنادرة طريفة منتهى الطرافة، والمعلم فيها يأخذ سمتا جادّا، يزينه فى أول الأمر علمه الواسع بالقرآن وتفسيره وبالفقه والنحو وبأشعار العرب وما شدا من علوم الأوائل أو علم المعقول كما يقول الجاحظ، حتى ظن أنه كامل الأدوات وعزم على تقطيع كتاب كان ألّفه فى نوادر المعلمين وغفلتهم وحمقهم. ويصحبه فترة، ويلاحظ أنه أغلق كتّابه فيزوره فى داره، وإذا هو جالس جلسة حزين مكتئب، فظن أنه فقد عزيزا لديه، وأخذ يسأله عنه، وهو يجيب جادّا، حتى عرف أنه فقد معشوقته.

وكأنما أطلّ حمقه على الجاحظ، وإذا هو يقول له إنه لم يرها، وتتوالى غفلته فى هذا الحب الأحمق الذى تهوى فيه كل قواعد المنطق، وكأننا فى مسرح هزلى نفضى فيه إلى الضحك، وكلما مضينا فى النادرة أغربنا فيه، لا نتوقف، وكأنما اختلّ توازننا، أو كأنما نندفع فى انحدار بقوة ولا نملك الوقوف أو السيطرة على أنفسنا من هذا السيل الجارف للغفلة المجسمة وما يطوى فيها من حمق فظيع، حمق يدفعنا إلى الضحك العريض. ولعل من الطريف أن الجاحظ كان يتندّر على كل شئ حتى على نفسه وشكله القبيح، ويروى عنه أنه قال:«ما أخجلنى إلا امرأة مرت بى إلى صائغ فقالت له: اعمل مثل هذا، فبقيت مبهوتا، ثم سألت الصائغ فقال: هذه امرأة أرادت أن أعمل لها صورة شيطان، فقلت: لا أدرى كيف أصوّره، فأتت بك لأصوره على صورتك» .

ولعل فى كل ما قدمنا ما يصور شخصية الجاحظ الأدبية وخصائصه الفنية فى كتاباته. ومن المؤكد أن العربية لم تعرف كاتبا فرض نفسه على عصره والعصور التالية كما عرفت فى الجاحظ الذى ملأ الدنيا وشغل الناس بملكاته النادرة، وما وصلها به من ذخائر الثقافات الأجنبية، وما جسّدها فيه من طوابع عقلية ومن جدّ وهزل ومن نقل لكل صور الحياة فى مجتمعه ومن استطرادات تحمل كثيرا من الطّرف والنوادر ومن أسلوب ملئ بالنغم، يجرى فيه دائما الازدواج الذى يروع القارئ بجرسه، إذ يمتع الألسنة حين تنطق به والآذان حين تصغى إليه، كما يمتع بمضامينه العقول والأفئدة.

ص: 610