المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌4 - شعراء الطرد والصيد - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٤

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الثانى

- ‌الفصل الأوّل:الحياة السياسية

- ‌1 - استيلاء الترك على مقاليد الحكم

- ‌2 - تدهور الخلافة

- ‌3 - ثورة الزنج

- ‌4 - ثورة القرامطة

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثّانى:الحياة الاجتماعية

- ‌1 - طبقات المجتمع

- ‌2 - الحضارة والترف والملاهى

- ‌3 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌4 - المجون والشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالث:الحياة العقلية

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة وتفلسف

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد والتاريخ

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه

- ‌5 - الاعتزال وانبثاق المذهب الأشعرى

- ‌الفصل الرّابع:نشاط الشعر

- ‌1 - علم الشعراء بأسرار العربية

- ‌2 - ذخائر عقلية خصبة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - نمو الموضوعات الجديدة

- ‌5 - نمو الشعر التعليمى

- ‌الفصل الخامس:أعلام للشعراء

- ‌1 - على بن الجهم

- ‌2 - البحترى

- ‌3 - ابن الرومى

- ‌4 - ابن المعتز

- ‌5 - الصنوبرى

- ‌الفصل السّادس:شعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الخلفاء العباسيين

- ‌مروان بن أبى الجنوب أبو السمط

- ‌أبو بكر الصولى

- ‌2 - شعراء الشيعة

- ‌ محمد بن صالح العلوى

- ‌الحمّانى العلوىّ

- ‌المقجّع البصرىّ

- ‌3 - شعراء الثورات السياسية

- ‌ محمد بن البعيث

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌ أبو على البصير

- ‌ أحمد بن أبى طاهر

- ‌ ابن دريد

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ الصّيمرى

- ‌الحمدونى

- ‌ابن بسام

- ‌الفصل السّابع:طوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل وشاعراته

- ‌فضل

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ الحسين بن الضحاك

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف

- ‌ الحلاّج

- ‌الشبلىّ

- ‌4 - شعراء الطرد والصيد

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌جحظة

- ‌الخبز أرزىّ

- ‌الفصل الثامن:نشاط النثر

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطابة والمواعظ والنثر الصوفى

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التّاسع:أعلام الكتاب

- ‌2 - الجاحظ

- ‌3 - ابن قتيبة

- ‌4 - سعيد بن حميد

- ‌5 - أبو العباس بن ثوابة

- ‌خاتمة

الفصل: ‌4 - شعراء الطرد والصيد

‌4 - شعراء الطرد والصيد

مرّ بنا فى كتاب العصر العباسى الأول أن الخلفاء والوزراء وعلية القوم شغفوا بالصيد والطّرد حينذاك وأن الشعراء وفى مقدمتهم أبو نواس نظموا طرديّات كثيرة، اختاروا لها وزن الرجز، ولأبى نواس نحو خمسين طرديّة أحسن فيها غاية الإحسان.

واستمر الخلفاء وأبناؤهم وكثير من الناس فى هذا العصر يولعون بالصيد، وممن كان يولع به من الخلفاء ولعا شديدا المتوكل، إذ كان يولع بالفهود والصيد بها كما كان يولع بالشباك. ولعل خليفة فى العصر لم يشغف بالصيد كما شغف المعتضد ومرّ بنا فى الفصل الثانى أنه كان يخرج لصيد الأسود، ويقال إنه كان يتقدّم لها وحده، وفى ذلك يقول له بعض معاصريه (1):

يا صائد الأسد إن صيدكها

لجامع خلّتين من رشد

فلذّة تجتنى ومنفعة

للسالكين السّبيل والقعد (2)

ويذكر الصابى أنه كان ينفق يوميّا سبعين دينارا لأصحاب الصيد من البازياريين والفهّادين والكلاّبين (3). وورث ابنه المكتفى عنه هذه الهواية، فكان يولع بالفهود والعقبان والصيد بهما. وكان المعتز مثلهما يخرج للصيد فى مواكب حافلة. وانتشر ذلك بين ذوى الوجاهة انتشارا واسعا، مما أهّل لازدهار شعر الطرد فى العصر، حتى كاد لا يكون هناك شاعر نابه لا ينظم فيه طرديّة بل طرديات، وقد مضوا ينظمونها فى بحور وأوزان مختلفة غير مكتفين بالرجز، إذا نحن استثنينا ابن المعتز، وكأنه رأى أن يظل متمسكا بوزنها القديم، أما معاصروه فرأوا الاتساع بها، بحيث تنظم فى أى وزن حسب مشيئاتهم الفنية، ولم يتركوا ضاريا من ضوارى الصيد إلا وصفوه ولا جارحا من جوارحه إلا نعتوه، نعتوا الكلاب

(1) المصايد والمطارد لكشاجم ص 173.

(2)

القعد: جمع قاعد.

(3)

كتاب الوزراء ص 11 وما بعدها.

ص: 486

والفهود والبزاة والشواهين والصّقور والعقبان، ونعتوا الصيد من حمر الوحش وأتنه وثيرانه وبقره وظبائه ونعامه وكذلك من الأرانب والثعالب والذئاب والآساد والطير والإوزّ، وألموا بآلاته من النّبل والسهام والنشّاب والفخاخ والشباك والحبال المسماة بالأوهاق التى تجعل فى أطرافها أنشوطة وترمى على الحيوان فتمسك بعنقه.

والجلاهق وهو بندق مدوّر من طين يرمى به. وكان لهذا النشاط الواسع فى الصيد وما يتصل به من الشعر أثر فى أن أخذت تؤلّف كتب مختلفة فى البيزرة وفى المصايد والمطارد. تفصّل القول فى الصيد وآلاته وضواريه وجوارحه. وقد نظمت حينئذ طرديات كثيرة، لا نستطيع أن نستقصيها ولا أن نستقصى شعراءها لكثرتهم المغرطة، ونكتفى بالوقوف عند أعلامهم، وأول من نقف عنده على بن الجهم، وكان قد خرج يوما مع طاهر بن عبد الله بن طاهر أمير خراسان إلى الصيد واتفق لهما فى مرج للزعفران كثير من الطير والوحش، فاصطادا منهما كثيرا بالبزاة والصقور والشواهين والكلاب، وفى ذلك يقول (1):

وطئنا رياض الزّعفران وأمسكت

علينا البزاة البيض حمر الدّرارج (2)

ولم تحمها الأدغال منا وإنّما

أبحنا حماها بالكلاب النّوابج (3)

بمستروحات سابحات بطونها

على الأرض أمثال السهام الزّوالج (4)

ومستشرفات بالهوادى كأنها

وما عقفت منها رءوس الصوالج (5)

ومن دالعات ألسنا فكأنها

لحى من رجال خاضعين كواسج (6)

فلينا بها الغيطان فليا كأنها

أنامل إحدى الغانيات الحوالج (7)

قرنّا بزاة بالصقور وحوّمت

شواهيننا من بعد صيد الزّمامج (8)

وهو يصور الصقور والكلاب تصويرات بديعة. فمنقار الصقر كأنه صولجان،

(1) ديوان على بن الجهم ص 120.

(2)

الدرارج: جمع دراج وهو طير ملون الريش.

(3)

النوابج: النوابح.

(4)

مستروحات: تشم آثار الصيد. سابحات: مسرعات. الزوالج: التى تنزلق بسرعة.

(5)

الهوادى: الأعناق. عقفت: تعوجت. الصوالج: جمع صولجان.

(6)

دالعات: مخرجات. الكواسج: جمع كوسج وهو من لحيته على ذقنه دون عارضيه.

(7)

فلينا: فحصنا. الحوالج: اللائى يخلصن البذور من القطن.

(8)

الزمامج: جمع زمج: طير جارح أصغر من العقاب

ص: 487

والكلاب حين تدلع ألسنتها لاهثات كأنما ألسنتها لحى مرسلة على الذقون، وقد فحصت المرج البزاة والكلاب فحصا دقيقا حتى لكأنها أنامل دقيقة لسيدة تفلى القطن وتخلّص الحبّ منه، فلا تبقى حبة مختبئة، بل كل الحب يستخلص، تستخلصه أنامل مرهفة. ومرّ بنا فى الفصل الرابع تصوير البحترى لصيد الأسد وكذلك تصويره لصيده الذئب وقد لقيه فى فلاة موحشة، وهما لوحتان رائعتان.

ولابن الرومى غير قصيدة فى الطّرد والصيد، ونكتفى من طردياته بالقطعة التالية التى يصور فيها صيد صحابه للطير، وقد تقلّدوا أوعية حمراء من جلد أودعوها كثيرا من البندق الذى يرمى به. وأشرعوا أقواسهم مسدّ دين البندق منها للطير الهاجع وقت السحر، يقول (1):

وجدّت قسىّ القوم فى الطير جدّها

فظلّت سجودا للرّماة وركّعا

طرائح من بيض وسود نواصع

تخال أديم الأرض منهن أبقعا (2)

فكم ظاعن منهن مزمع رحلة

قصرنا نواه دون ما كان أزمعا (3)

وكم قادم منهنّ مرتاد منزل

أناخ به منا منيخ فجعجعا (4)

هنالك تغدو الطير ترتاد مصرعا

وحسبانها المكذوب ترتاد مرتعا

مباح لراميها الرّمايا كأنما

دعاها له داعى المنايا فأسمعا

لها عولة أولى بها ما تصيبه

وأجدر بالإعوال من كان موجعا

وما ذاك إلا زجرها لبناتها

مخافة أن يذهبن فى الجوّ ضيّعا

وظلّ صحابى ناعمين ببؤسها

وظلّت على حوض المنيّة شرّعا (5)

ويبثّ ابن الرومى فى وصفه حيوية خافقة، فالطير ماتنى ساقطة ساجدة راكعة، منها ما هبط إلى الأرض جشّة هامدة، ومنها ما هو فى سبيله إلى الهبوط، وهى مطروحة فى الأرض أبيضها وأسودها، وكأنما أصبحت الأرض أديما مخطّطا،

(1) الديوان ص 300.

(2)

الأبقع: ما ببه سواد وبياض.

(3)

يريد بالنوى وجهته فى الارتحال. مزمع: عازم.

(4)

الجعجعة: صوت البعير ورغاؤه عند إناخته.

(5)

شرعا: واردة الماء.

ص: 488

وكم طائر كان يريد الارتحال فحالوا بينه وبين وجهته، وكم طائر كان يريد المقام سقط دون أمنيته، وهو يصرخ صراخ البعير عند إناخته، لقد كان يريد المرتع الخصب فإذا هو يجد المصرع الذى لم يكن له على بال، وكأنما دعاه ودعا رفاقه من الرمايا داعى الموت فأسمع وأصمى، والطير تعول غير متنبهة للرمى والرماة، خيفة على بناتها من أن تضل الطريق فى الجو، على حين تترامى على حياض الموت، بؤس ما بعده بؤس والصائدون ناعمون نعيما ما بعده نعيم. وقد عرضنا فى غير هذا الموضع بعض طرديات لابن المعتز. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنه أكبر شاعر نظم طرديات فى العصر. ويذكر مترجموه أنه صنّف كتابا فى جوارح الصيد وضواريه، ولا يكاد ضار أو جارح يفلت منه فى شعره أو قل فى طردياته، فمنها ما يصف فيه كلاب الصيد وفهوده ومنها ما يصف فيه بزاته وصقوره، ومنها ما يصف شباكه وبندقه، ودائما تجرى الكلاب وراء الظباء والأرانب حتى تصيدها وقلما أفلتت منها، ومن قوله فى كلبة ماهرة فى الصيد (1):

قد أغتدى والليل كالغراب

داجى القناع حالك الخضاب

بكلبة تاهت على الكلاب

تفوت سبقا لحظة المرتاب

تنساب مثل الأرقم المنساب

كأنما تنظر من شهاب

بمقلة وقف على الصواب

فهو يخرج بكلبته وقت السحر، والليل لا يزال فى دجاه وحلوكته، تصحبه كلبة تيّاهة على الكلاب بسرعتها حتى لتسبق لحظة من وقعت فى نفسه الريبة، فهو ينظر خلسة وفى سرعة يريد أن يتحقق من صحة ريبه، وهى تنساب زاحفة كأنها أفعى، مسرعة لا تلوى، ناظرة لا بعين لمّاحة، وإنما بشهاب قبس، مقلة لا تخطئ الصيد، بل دائما تصيب وتصيد. ومن قوله فى وصف باز من بزاته (2):

(1) الديوان وأشعار أولاد الخلفاء ص 209.

(2)

أشعار أولاد الخلفاء للصولى ص 209. والمصايد والمطارد الكشاجم ص 67.

ص: 489

ذو مقلة تهتك أستار الحجب

كأنها فى الرأس مسمار ذهب

يعلو الشمال كالأمير المنتصب

أمكنه الجود فأعطى ووهب

ذو منسر مثل السّنان المختضب

وذنب كالذيل ريّان القصب (1)

كأن فوق ساقه إذا انتصب

من حلل الكتّان رانا ذا هدب (2)

وتشبيه مقلة البازى الصفراء بمسمار الذهب تشبيه بديع، ويقول إنه يقف رافع الرأس كالأمير يفرّق عطاياه ويهب ما يصيد، ثم يصف منسره بأنه كسنان الرمح المخضب بالدماء من كثرة ما يصيد، ويقول إن ذنبه كالذيل الزاهى بريشه، وكأن فوق ساقه ثوبا أبيض من الكتان تسترسل أهدابه، وله فى باز آخر (3):

فارس كفّ ماثل كالإسوار

ذو جؤجؤ مثل الرخام المرمار (4)

أو مصحف منمنم ذى أسطار

ومقلة صفراء مثل الدينار

ترفع جفنا مثل حرف الزّنّار

ومخلب كمثل عطف المسمار

وهو فارس كف لأنه يحمل على الكف عادة، ويقول إن صدره مثل الرخام الناعم أو مثل المصحف المزخرف بالسطور، أما مقلته فصفراء مثل الدينار، وأما جفنه فكحرف الزنّار الذى يضعه النصارى فى أوساطهم تمييزا لهم، وأما المخلب فكعطفة المسمار. وله يصف فهدة (5):

ولا صيد إلا بوثّابة

تطير على أربع كالعذب (6)

فإن أطلقت من قلاداتها

وطار الغبار وجدّ الطّلب

فزوبعة من بنات الرياح

تريك على الأرض شيئا عجب

تضمّ الطّريد إلى نحرها

كضمّ المحّبة من لا يحبّ

فأرجلها كالخيوط من خفتها، وحين تطلق من قلائدها ويجدّ طلبها لطرائدها

(1) المنسر لسباع الضير بمنزلة المنقار لغيرها.

(2)

رانا: ثوبا.

(3)

الديوان وديوان المعانى 2/ 140.

(4)

الجؤجؤ: الصدر. المرمار: الناعم. الإسوار: الحاذق فى الرمى.

(5)

المصايد والمطارد ص 192 وأشعار أولاد الخلفاء ص 121.

(6)

العذب: خيوط ترفع بها الموازين.

ص: 490

ويعلوها الغبار لسرعة عدوها تصبح كأنها زوبعة أو عاصفة من بنات الرياح، مما يملؤك عجبا، وإذا هى قد صادت الطريد وضمته إلى نحرها وصدرها لا ضمّ حنان ولكن ضم عدوان، كضم المحبة من لا يحبها. وهو تصوير رائع. وللصنوبرى طرديات مختلفة، منها قوله فى باز (1):

ذو منسر أقنى ورسغ كزّ

ومخلب لم يعد إشفا (2) الخرز

مسربل مثل حبيك القزّ

أو مثل جزع اليمن الأرزّى (3)

لما لززنا الطير بعد اللّزّ

بأسفل القاع وأعلى النّشز (4)

آب لنا بالقبج والإوزّ

من جبل صلد ومرج نزّ (5)

وهو يصور منسره ومخالبه الحادة التى ينقضّ بها على الطير انقضاضا فلا تستطيع منه خلاصا، ويصور ثيابه من الريش كأنها الحرير أو كأنها الجزع أو الخرز اليمانى الذى تغنّى به امرؤ القيس، والطير مبثوثة فى القيعان وعلى المرتفعات وقد آب منها بكثير من الحجل والإوز. ومن قوله فى الطّرد ووصف كلابه وما صادت من الوحش (6):

يا روضة من حلل

ما خاطها خيّاط

الوحش فى أرجائها

قبائل أخلاط

غاديتها ولم يقم

أعلامها الغطاط (7)

بأكلب لو لم تطر

أطارها النشاط

فجئن والطّلّ على

آذانها أقراط

انبسطت كالشّهب لا

يعجزها انبساط

(1) ديوان الصنوبرى ص 133.

(2)

إشفا: مخرز.

(3)

حبيك: محبوك. القز: الحرير. والجزع اليمانى: خرز. أرزى: أبيض كالأرز.

(4)

النشز: المرتفعات.

(5)

القيج: الحجل. نزّ: به بعض المياه.

(6)

الديوان ص 287.

(7)

الغطاط: القطا.

ص: 491

وطفقت والوحش فى

مجالها بساط

صرعى تشقّ قمصها

عنها ولا تخاط

وهو يبدأ بالحديث عن الروضة مكان الصيد وما انتشر عليها من حلل الأزهار والأنوار، ويذكر كثرة الوحش بها وأنه باكرها قبل أن يستيقظ القطا وغيره من الطير مرسلا عليها كلابه المسرعة التى تكاد تطير طيرانا، غير آبهة ببرودة الطّقس وما قرّط به آذانها من النّدى، فقد زحفت وانتشرت كالشهاب الساطع، تصرع كثيرا من الوحش وتشق عنه جلده وأديمه وتمزّقه تمزيقا لا يمكن رتقه.

وكما يعرض لصيد البرّ يعرض لصيد البحر بصنانيره الشبيهة بالأظفار وبالشبكة وعيونها الكثيرة، وفى ذلك يقول (1):

أفضل ما أعددته من العدد

وما حوى صحبى به غنى الأبد

بنات قين حاز فى الحذق الأمد

على مقادير مخاليب الصّرد (2)

لها رءوس فى أعاليها أود

كمثل أنياب الأفاعى وأحدّ (3)

عجنا بها من حيث ما عاج أحد

فى ظل صفصاف علينا قد برد (4)

شاطئ نهر لابس درع زبد

ولم تزل ترسل طورا وتمدّ

ثم بعثنا ألف عين فى جسد

فجئننا بمثلهنّ فى العدد

ألف من الحيتان بيض كالبرد

وواضح أنه صوّر الصنانير والصيد ثم الشبكة وما صوّر أفاء الله عليهم من الحيتان الكثيرة: ولعل من الخير أن نكتفى بهذا العرض عند أعلام الشعراء، وأن نتركهم إلى شاعر اشتهر بكثرة طرديّاته فى العصر هو أبو العباس الناشئ فقد كان مولعا بالطّرد والصيد، وله طرديات كثيرة.

(1) الديوان ص 475.

(2)

القين: الحداد صانعها. الصرد: طائر ضخم الرأس والمنقار وهو من الجوارح.

(3)

أود: عوج إذ تشبه حرف الراء.

(4)

عجنا: عرجنا وانعطفنا.

ص: 492

أبو العباس (1) الناشئ الأكبر

هو عبد الله بن محمد المعروف بابن شرشير، من أهل الأنبار وفيها ولد ونشأ، ثم تركها إلى بغداد، واستقر بها طويلا، وفيها تلقّن علم الكلام كما تلقن كثيرا من العلوم، وكان ذكيّا ذكاء حادّا، وصرف ذكاءه فى مناهضة العباقرة من عالمه والعالم الخارجى، إذ ألف كتابا ينقض به منطق أرسطو وكتابا ثانيا ينقض به آراء الخليل ابن أحمد فى العروض ومثّل لقواعده بغير أمثلته. وحاول أن ينقض علل النحويين.

ونظم قصيدة طويلة فى فنون العلوم والآداب بلغت أربعة آلاف بيت فى روىّ واحد وقافية واحدة لم تصلنا، وربما كانت منها الأبيات التى أنشدها الحصرى له فى موضوعات الشعر وصفاته اللفظية والمعنوية. وكان شيعيّا، وربما شيعيته هى التى جعلته يترك بغداد عاصمة الدولة العباسية إلى مصر ويتوفّى بها سنة 293 للهجرة.

وله كتاب فى تفضيل الشعر مما يدل على أنه لم يكن شاعرا ولا عالما فقط بل كان أيضا ناقدا، ولعل هذا الكتاب هو الذى جعل أبا حيان التوحيدى يعجب به وبنقده للشعر إذ يقول:«ما أصبت أحدا تكلم فى نقد الشعر وترصيفه أحسن مما تكلم به الناشئ المتكلم، وإن كلامه ليزيد على كلام قدامة وغيره، وله مذهب حلو وشعر بديع واحتفال عجيب» ، وينقل أبو حيان فى تضاعيف كتابه بعض ما قرأه له، فمن ذلك حديثه عن دواعى الشعر وبواعثه، وهو يجرى على هذا النمط:

«أول الشعر إنما يكون بكاء على دمن، أو تأسفا على زمن، أو نزوعا لفراق، أو تلوعا لاشتياق، أو تطلعا لتلاق، أو إعذارا إلى سفيه، أو تغمدا لهفوة، أو تنصلا من زلّة، أو تحضيضا على أخذ بثأر، أو تحريضا على طلب أوتار، أو تعديدا للمكارم، أو تعظيما لشريف مقام، أو عتابا على طويّة أو متابا من مقارفة ذنب، أو تعهدا لمعاهد أحباب، أو تحسرا على مشاهد أطراب، أو

(1) انظر فى الناشئ وحياته وأشعاره طبقات الشعراء لابن المعتز ص 417 وتاريخ بغداد 10/ 92 وابن خلكان والنجوم الزاهرة 3/ 158 وشذرات الذهب 2/ 214 والبصائر والذخائر لأبى حيان 2/ 117، 260، 273، 619 ومقالات الإسلاميين ص 184، 500 وزهر الآداب 1/ 177، 3/ 50، والمصايد والمطارد لكشاجم (انظر الفهرس) والعمدة لابن رشيق 1/ 7 والديارات ص 26 والفهرست ص 255 وديوان المعانى 1/ 254 و 2/ 228.

ص: 493

ضربا لأمثال سائرة، أو قرعا لقوارع زاجرة، أو نظما لحكم بالغة، أو تزهيدا فى حقير عاجل، أو ترغيبا فى جليل آجل، أو حفظا لقديم نسب أو تدوينا لبارع أدب». والقطعة تلمّ فى دقة بالبواعث النفسية لنظم الشعر، فهو شاعر بصير بفنه وبصناعته وقد روى له الحصرى قطعة فى وصفه لشعره يقول فيها:

يتحيّر الشعراء إن سمعوا به

فى حسن صنعته وفى تأليفه

شجر بدا للعين حسن نباته

ونأى عن الأيدى جنا مقطوفه

ويذكر من ترجموا له أنه كان شاعرا بارعا غزير الشعر، وسلكه ابن خلكان فى طبقة ابن الرومى والبحترى، ويبدو من بقايا أشعاره أنه نظم فى موضوعات شتى، منها ما يتصل بعلم الكلام وافتخاره بالمتكلمين عامة لما ينيرون من المشكلات الصعبة، يقول:

مطالع الحق ما من شبهة غسقت

إلا ومنهم لديها كوكب يقد (1)

ومنها ما يتصل بالطبيعة وبالغزل ومجالس الأنس، وصبّ أكثر عنايته على وصف الطرد والصيد وجوارحه وضواريه ومصيداته وآلاته. ويكفى لبيان كثرة هذا الجانب عنده واستنفاده لأكثر شعره أن نجد «كشاجم» يجعل أشعاره ركنا أساسيّا صنع «كتابه المصايد والمطارد» فقد اعتمد فيه على طردياته اعتمادا شديدا، وأول ما نقف عنده فى هذا الكتاب طردية له فى صيد أحد الكلاب يستهلّها على هذا النمط:

قد أغتدى والفجر فى حجابه

لم يحلل العقدة من نقابه

بأغضف عيشه من عذابه

من صولة بظفره ونابه (2)

يراح أن يدعى ليغتدى به

روحة ذى النّشوة من شرابه (3)

يخطّ بالبرثن فى ترابه

خطّ يد الكاتب فى كتابه (4)

والطريف فى هذا الاستهلال أنه جعل الكلب كادحا لا يقيم أوده إلا بعرق جبينه وصولاته بظفره ونابه، وأيضا فإنه جعله يشعر بنشوة ما بعدها نشوة حين

(1) غسقت: دجت وأظلمت. يقد: يشتعل.

(2)

أغضف: مسترخى الأذن.

(3)

يراح: يجد خفة ونشاطا.

(4)

البرثن: المخلب.

ص: 494

يندبه صاحبه للصيد، وتستحيل الأرض كأنها مشق أو صحيفة وهو يخطّ فيها ببراثنه، ويتبع كشاجم هذه الطّردية بطردية أخرى تطرّد على هذا السياق:

يا ربّ كلب ربّه فى رزقه

برى حقوق النفس دون حقّه

متّبعا بخلقه لخلقه

كأنما يملك عقد رقّه

يصونه بجلّه ودقّه

كآمل من مالك لعتقه (1)

تراه فى تسريحه وربقه

كعاشق أضناه طول عشقه (2)

أصفر يلهى العين حسن خلقه

كذهب أبرزته من حقّه

ذو غرّة فارقة لفرقه

وذو حجول بيّنت عن سبقه (3)

وقد جعل الناشئ ربّ هذا الكلب وصاحبه يقدّمه على نفسه فى غذائه، ويأتسى به، حتى لكأنما يشتق أخلاقه من أخلاق هذا الكلب أو قل السيد المطاع الذى يملك رقه، وإنه ليرعاه فى كل كبيرة وصغيرة، وكأنه عبد يتقرب لمالكه بكل ما يصونه ويحفظه حتى يفك رقبته ويرد عليه حريته. ويعود إلى فكرة عشق الكلب للصيد، فيجعله حين يكون فى ربقته وحبله كعاشق طال عليه البين والهجران، حتى أصابه ضنى شديد، ويتحدث عن حسنه وجمال صفرته الأخاذة وغرّته فى جبهته وحجوله فى سيقانه، وبياضها يلمع فى أثناء عدوه كأنه ضوء ساطع. وله فى البازى طرديات مختلفة يصور فيها حسنه وما خلع عليه الخالق من ريشه وجماله، وفيه يقول:

ألبسه الخالق من ديباجه

ثوبا كفى الصانع من نساجه

حال من السّاق إلى أوداجه

وشيا يحار الطّرف فى اندراجه (4)

فى نسق منه وفى انعراجه

وزان فوديه إلى حجاجه (5)

بزينة كفته عزّ تاجه

وظفره يخبر عن علاجه

لو استضاء المرء فى إدلاجه

بعينه كفته عن سراجه

فالخالق جلّ شأنه كساه ثوبا من الديباج يملأ النفس إعجابا بوشيه وخطوطه

(1) الجل والدق: الكثير والقليل.

(2)

الربق: من الربقة وهى حبل يشد منه الكلب.

(3)

الحجول: بياض فى سيقلن الكلب.

(4)

الأوداج: عروق فى العنق.

(5)

الحجاج: عظم الحاجب.

ص: 495

ونقوشه من ساقه إلى مفرقه وعلى رأسه، وكأنما حلاّه بتاج كتاج الملوك المتألق بحليه وزينته، ويذكر مخالبه الحادة حدة الإبر، وعينه المضيئة ضياء السراج فى الليالى الداجية. وينظم فى الصقر غير طردية، وفى إحداها يقول:

سباه من كان به خليقا

فرخا صغيرا ما أقلّ موقا

زيّنه برأيه شفيقا

كما يصون العاشق المعشوقا

حتى انتهى وحمل الحقوقا

ونفع الصاحب والصديقا

وهو يصوّر تدريب صاحبه له، وكيف أنه ربّاه صغيرا وما زال يرعاه محبّا له حب العاشق لمعشوقه، وما زال يثقفه ويدرّ به على الصيد، حتى مهر فيه، وحتى أصبح يجلب من الإوزّ وغيره ما ينفع به أصدقاء صاحبه وأحبّاءه. ومن قوله فى وصف شاهين:

يظلّ من جناحه المزين

فى قرطق من خزّه الثّمين (1)

يشبه فى طرازه المصون

برد أنوشروان أو شيرين

ذو منسر محدّد مسنون

واف كشطر الحاجب المقرون

منعطف مثل انعطاف النون

هو يتحدث عن جمال هذا الشاهين وتلاوين ريشه التى تجعله يلبس قرطقا أو قباء مفوفا من الحرير كأنه ثوب أنوشروان أو ثوب شيرين زوج كسرى أبرويز، وإن منسره أو مخلبه المنحنى كحرف الراء ليشبه شطر حاجب مقرون أو كأنه انعطاف حرف النون. وله طردية طريفة فى وصف صيد الطير بالجلاهق أو البندق، تحدّث فيها عن صيد الكراكى، وهى طير طويل المنقار والرجلين، مفرده كركىّ، ويسمّى الغرنيق وجمعه غرانق، ويطرد وصفه عند الناشئ على هذا النمط:

ومورد يجذل قلب الوامق

منظّم بالغرّ والغرانق (2)

(1) القرطق: قباء ذو طابق واحد. الغر: طير الغرانق: الكراكى.

(2)

يجذل: يسر. الوامق: مديم النظر.

ص: 496

وكلّ طير صافر أو ناعق

مكتهل وبالغ ولا حق

موشيّة الصدور والعواتق

بكل وشى فاخر وفائق (1)

تختال فى أجنحة خوافق

كأنما تختال فى قراطق

يرفلن فى قمص وفى يلامق

كأنهن زهر الحدائق (2)

حمر الحداق كحل الحمالق

كأنما يجلن فى مخانق (3)

وهو يصوّر موردا عذبا يسر قلب الناظر إليه رصّع بالطير والكراكى من صافرة وناعقة وكبيرة وصغيرة، إذ وشّيت فى صدورها وكواهلها بوشى بديع، وقد اكتست أجنحتها بقراطق وأقبية أنيقة، بل إنها لترفل فى كسوة ذات تلاوين حتى لكأنها زهر حدائق مختلف الأصباغ والنقوش. وهى هناك بأحداقها الحمر وجفونها المكحولة، تطوّق أعناقها القلائد الباهرة. وفى كتاب المصايد والمطارد بجانب الطرديات السابقة طرديتان فى صيد الأسد، ونرى الناشئ يصوره فى إحداهما بهذه الصورة الفذة:

ربّ ذى شبلين قسورة

قد أحمّ الحين فى أجمه (4)

لا ترى حيّا يطيف به

لا، ولا يدنو إلى حرمه

كمجنّ الحرب هامته

وكغور الغار رحب فمه (5)

وكأن البرق ما قدحت

عينه بالّلحظ من ضرمه

وكأن الموت معترض

بين لحييه وملتشمه

وهو يقول إن هذا الأسد القسورة هبط به القضاء فى عرينه، إذ حان حينه، بعد أن كان الناس لا يلمّون بحرمه مخافة بأسه وسطوته، لما ملأهم به من الرعب والفزع والهلع، ويقول إن هامته كانت مثل ترس حرب صلابة وقوة، وكان فمه كالغار

(1) العواتق: الكواهل.

(2)

اليلامق: جمع يلمق وهو نوع من القباء.

(3)

الحمالق: جمع حملاق، وهو باطن جفن العين. المخانق: القلائد.

(4)

أحم: نزل. الحين: الموت. الأجم: بيت الأسد

(5)

المجن: الترس.

ص: 497

يسقط فيه كل ما يقضمه. أما عينه فمن شدة توقدها كانت كأنها البرق الخاطف.

وكأن الموت كان يجم على فمه بين لحييه وملتثمه.

وللناشئ وراء طردياته أشعار كثيرة تدل على أنه حقّا كان صاحب شاعرية خصبة. وقد رفدها مبكرا بثقافته الكلامية التى أعدته ليحاور ويداور أرسطو والخليل بن أحمد وعلماء النحو واللغة. ولا ريب فى أنها وصلته بكل ينابيع الثقافة فى عصره يونانية وغير يونانية. ويقول من ترجموا له إنه كان يقول فى خلاف كل معنى قالت فيه الشعراء، غير أنهم لم يوردوا لنا شيئا من هذا القول، إنما أوردوا له هنا وهناك بعض أبيات رائعة الصور من مثل بيتيه اللذين أنشدناهما فى الفصل الرابع وهما فى وصف سحاب هاطل.

وفى الحق أنه كان يعرف كيف يولّد الصور وكيف يستخرجها من مكامنها وكيف ينظمها شعرا عذبا، يحفل بكل ما يملأ النفس إعجابا به على شاكلة قوله:

متعاشقان مكاتمان هواهما

قد نام بينهما العتاب فطابا

يتناقلان اللحظ من جفنيهما

فكأنما يتدارسان كتابا

وقوله:

يلوح فى خدّه ورد على زهر

يعود من حسنه غضّا إذا قطفا

والزهر فى البيت طبعا هو زهر النرجس الذى تشبه به العيون، وعبّر عن القبلة بأنها اقتطاف لورد الخدود، وجعلها تثير فيها من الحمرة ما يعود بها غضّة إلى أول مجتناها وباكورته. وله:

ليس شئ أحرّ فى مهجة العا

شق من هذه العيون المراض

والخدود المضرّجات اللواتى

شيب جريالها بحسن البياض

وطروق الحبيب والليل داج

حين همّ السّمّار بالإغماض

ص: 498