المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - علم الشعراء بأسرار العربية - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٤

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الثانى

- ‌الفصل الأوّل:الحياة السياسية

- ‌1 - استيلاء الترك على مقاليد الحكم

- ‌2 - تدهور الخلافة

- ‌3 - ثورة الزنج

- ‌4 - ثورة القرامطة

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثّانى:الحياة الاجتماعية

- ‌1 - طبقات المجتمع

- ‌2 - الحضارة والترف والملاهى

- ‌3 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌4 - المجون والشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالث:الحياة العقلية

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة وتفلسف

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد والتاريخ

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه

- ‌5 - الاعتزال وانبثاق المذهب الأشعرى

- ‌الفصل الرّابع:نشاط الشعر

- ‌1 - علم الشعراء بأسرار العربية

- ‌2 - ذخائر عقلية خصبة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - نمو الموضوعات الجديدة

- ‌5 - نمو الشعر التعليمى

- ‌الفصل الخامس:أعلام للشعراء

- ‌1 - على بن الجهم

- ‌2 - البحترى

- ‌3 - ابن الرومى

- ‌4 - ابن المعتز

- ‌5 - الصنوبرى

- ‌الفصل السّادس:شعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الخلفاء العباسيين

- ‌مروان بن أبى الجنوب أبو السمط

- ‌أبو بكر الصولى

- ‌2 - شعراء الشيعة

- ‌ محمد بن صالح العلوى

- ‌الحمّانى العلوىّ

- ‌المقجّع البصرىّ

- ‌3 - شعراء الثورات السياسية

- ‌ محمد بن البعيث

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌ أبو على البصير

- ‌ أحمد بن أبى طاهر

- ‌ ابن دريد

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ الصّيمرى

- ‌الحمدونى

- ‌ابن بسام

- ‌الفصل السّابع:طوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل وشاعراته

- ‌فضل

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ الحسين بن الضحاك

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف

- ‌ الحلاّج

- ‌الشبلىّ

- ‌4 - شعراء الطرد والصيد

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌جحظة

- ‌الخبز أرزىّ

- ‌الفصل الثامن:نشاط النثر

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطابة والمواعظ والنثر الصوفى

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التّاسع:أعلام الكتاب

- ‌2 - الجاحظ

- ‌3 - ابن قتيبة

- ‌4 - سعيد بن حميد

- ‌5 - أبو العباس بن ثوابة

- ‌خاتمة

الفصل: ‌1 - علم الشعراء بأسرار العربية

‌الفصل الرّابع:

نشاط الشعر

‌1 - علم الشعراء بأسرار العربية

كل من يتابع جهود اللغويين فى القرنين الثانى والثالث للهجرة يلاحظ توّا كثرة ما أدوه للعربية وشعرائها من دراسات متنوعة، فقد جمعوا مادتها الشعرية واللغوية جمعا مستقصيا صوّروه فى مباحث مفردة كمبحث عن الإبل أو الشجر أو الكلأ أو النخل والكرم أو خلق الإنسان أو الميسر والقداح أو الأنواء، وكمبحث عن الاشتقاق أو عن علامات التأنيث أو الهمز وتحقيقه أو عن فعلت وأفعلت أو عن الأضداد، أو عن الوحش والسباع والطير والهوام وحشرات الأرض.

وكادوا لا يتركون موضوعا ولا صيغة لغوية فيها بعض الاشتباه إلا دوّنوا فيها الرسائل القصيرة والطويلة. ثم ألّفوا الكتب المجلدة. واستطاعوا منذ أواسط القرن الثانى للهجرة أن يضعوا قواعد النحو العربى وضعا نهائيّا وبالمثل قواعد الصرف والتصريف، وأيضا قواعد الأوزان الشعرية والقوافى، بحيث أصبح الشعر العربى ولغته جميعا مذلّلين منقادين للناشئة، وفى أثناء ذلك وضعت القواعد لوضع المعجم العربى، بحيث يضم بين دفّتيه كل الكلمات العربية المستعملة والأخرى المهملة، على نحو ما هو معروف عن معجم العين المنسوب إلى الخليل بن أحمد، وألّف على غراره بأخرة من العصر ابن دريد معجمه المشهور: الجمهرة، كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع.

وعلى هذا النمط أخذ اللغويون يجمعون للناشئة من الشعراء وغير الشعراء مادة اللغة، كما أخذوا يبسطون لهم قواعدها النحوية والصرفية والموسيقية، وقد مضوا منذ مطالع العصر العباسى يجمعون لهم عيون الشعر العربى فى مجاميع كثيرة، غير ما جمعوه

ص: 180

من الدواوين القديمة الجاهلية والإسلامية، وما أخذوا يجمعونه من دواوين العصر العباسى للشعراء النابهين، وكانوا يشرحون ما يجمعونه من أشعار تلك الدواوين حتى تفقهه الناشئة فقها حسنا، وشاركهم الشعراء فى هذا الصنيع على نحو ما مر بنا فى الفصل السالف مما صورناه عند أبى تمام والبحترى، وقد يكون مما دفعهما إلى هذه المشاركة أنهما وجدا اللغويين يهتمون فى كثير من الأمر بالشعر الغريب، ليتخذوا منه مادة للتعليم على نحو ما يلقانا فى كتابات ابن السكيت وثعلب، فأرادا أن يقفا الناشئة بجانب ذلك على طرائف الشعر القديم والحديث، وكان كثير من اللغويين قد عنى بالترجمة للشعراء القدماء الجاهليين والإسلاميين، فانبرى بعض الشعراء والأدباء يترجم للشعراء العباسيين فى كتب يفردها لهم، كما يلقانا فى كتاب طبقات الشعراء المحدثين لابن المعتز وكتاب الورقة لمحمد بن داود بن الجراح، وجمع ابن قتيبة بين القدماء والمحدثين فى كتابه «الشعر والشعراء» . وكانت قد سبقت ذلك كله كتب فى تراجمهم للأصمعى وأبى عبيدة ودعبل، وكتاب طبقات الشعراء لابن سلام مشهور.

وكل ذلك مكّن الناشئة من إتقان العربية والوقوف على كثير من أسرارها التركيبية والموسيقية، وزاد من وقوفهم على هذه الأسرار أن بيئة المتكلمين أخذت تعنى منذ القرن الثانى الهجرى بتلقين الناشئة بعض قواعد البيان والبلاغة، حتى يحسنوا الجدل والحوار وحتى يخلبوا ألباب سامعيهم، وإذا هذه القواعد تتفجر على ألسنتهم عند بشر بن المعتمر وأمثاله، وإذا الجاحظ يؤلف فى ملاحظاتهم وملاحظاته البيانية كتابه «البيان والتبيين» مصوّرا فيه كثيرا من أسرار البيان العربى تصويرا يتيح للشباب أن يقفوا فى غير مشقّة على خصائص العربية وأن يتذوّقوا هذه الخصائص تذوقا دقيقا. وشارك الجاحظ فى هذا المجال كثير من اللغويين، على نحو ما مرّ بنا فى الفصل السالف أمثال أبى عبيدة والمبرد، ولم يلبث أن انبرى شاعر نابه هو ابن المعتز لتصوير فنون البيان الشعرى الرائع فى كتابه «البديع» واستطاع أن يضع لها المصطلحات التى كانت تجمعها فى عصره، وأن يتيح لها من التعريف بها ووصف أساليبها ما لم يتح لمتكلم أو لغوى أو شاعر من قبله، باثا فى ثنايا ذلك ملاحظات دقيقة فى الفن الشعرى وجماله المتنوع الذى لا ينضب معينه.

ص: 181

ومعنى ذلك كله أن العربية بخصائصها الجمالية والموسيقية والصرفية والنحوية وضعت تحت أعين الناشئة فى القرن الثالث الهجرى وضعا علميّا دقيقا حتى أصبح فى ميسور كل ناشئ أن يتقنها، إذ يستطيع أن يقرأ أشعارها فى غير عناء ويفهمها فى غير مشقة ويتذوقها فى غير تكلف، بحيث يستطيع أن يسيغها، بل أن يتمثلها تمثلا دقيقا. على أنه يحسن أن نعترف بأن عربية مولدة أخذت تشيع على ألسنة العامة بجانب العربية الفصحى، وكانت تتداولها الطبقات الدنيا وقد يشركها أفراد من الطبقات الوسطى، وكانت تنتشر فى العراق على ألسنة النبط وأهل الذمة، وساعد على انتشارها تحول مقاليد الحكم العباسى من أيدى الفرس أصحاب الحضارة العريقة إلى أيدى الترك، وكانوا لا يعرفون أى حضارة ولم يكن يعنيهم أن يحسنوا العربية، فاستخدموا اللغة الدارجة فى أحاديثهم، وكان ذلك عاملا مساعدا فى إشاعتها لهذا العصر بين من يعلمون معهم فى الدواوين وأعمال الدولة المختلفة، وليس ذلك فحسب، فقد كان نفر من كتابهم يستظهرون على ألسنتهم بعض الكلمات العامية، وعمّم ذلك بعض الباحثين فى الشعراء، إذ رأوا ابن قتيبة يحيل كتابه «أدب الكاتب» إلى أسواط حامية يشوى بها وجوه الكتاب لعصره معلنا النكير عليهم لعنايتهم بالمنطق والفلسفة والهندسة وعلم الفلك، مسجلا قعودهم عن التثقيف ثقافة عميقة باللغة واشتقاقاتها وأبنيتها، وكيف أنهم لا يعرفون المدلولات الدقيقة للألفاظ ولا مواضع استخدامها، مع جهلهم بكثير من الصيغ وما بينها من الفروق» فهم لا يعرفون فرق ما بين اسم المرة واسم الهيئة فى الصيغة، ولا كيف تتبادل الحروف أمكنتها، وكذلك الأفعال اللازمة والمتعدية، مع ما يلوكون من الكلمات الفارسية.

وطبيعى أن هذه الحملة التى شنّها ابن قتيبة على الكتّاب لا تشمل جمهورهم، إنما هى تشمل أفرادا منهم، لم يكونوا من بلغاء العصر ولا من كتّابه الممتازين، ومن أجل ذلك يجب ألا نعممها فى الكتّاب فضلا عن الشعراء، ويجب ألا يغيب عن بالنا أن اللغويين كانوا لهم بالمرصاد، فمن انحرف منهم عن جادة الفصحى شنّعوا عليه وسقطوا به من حالق سقطة لا إقالة له منها أبدا، إذ كانوا يعدّون أنفسهم حماة الفصحى، وأن من نوّهوا به من الشعراء طار اسمه ومن أزروا به لم تقم له قائمة، وكان الشعراء يسلمون لهم بهذه المنزلة، فكانوا يعرضون عليهم أشعارهم

ص: 182

وخاصة فى أول أمرهم، كما يحدثنا أبو الشبل أحد الشعراء لعصر المتوكل إذ يقول:

«لما عرض لى الشعر أتيت جارا لى نحويا هو المازنى وأنا يومئذ حديث السنّ، فقلت له إن رجلا لم يكن من أهل الشعر ولا من أهل الرواية قد جاش صدره بشئ من الشعر، فكره أن يظهره حتى تسمعه، قال: هاته، وكنت قد قلت شعرا ليس بجيد، إنما هو قول مبتدئ، فأنشدته إياه فلما سمعه نهرنى عليه وذمّه (1)» ، ومنذ بشار بن برد فى العصر العباسى الأول نجد اللغويين يتعقبون الشعراء فى أساليبهم، فكلما بدا من أحدهم انحراف عن جادّة الفصحى أعلنوا النكير عليه، حتى لو كان فى انحرافه الظاهر إنما يقيس على أمثلة الشعراء القدماء وأبنيتهم أو على بعض أبنية العرب المسموعة، ومما يصوّر ذلك عند بشار أنه رأى العرب يصوغون من الفعل فعلى للدلالة على السرعة فيقولون حجلى للدلالة على سرعة السير، فقاس على هذه الصيغة وجلى من الوجل قائلا:

والآن أقصر عن سميّة باطلى

وأشار بالوجلى علىّ مشير

فأخذ كثير من اللغويين يحمل عليه مخطئا له (2)، وبشار محق، لأن من حقه القياس، وإذا كان من حقنا أن نقيس فى شئون الدين، كما قرّر ذلك الفقهاء المعاصرون له من أمثال أبى حنيفة فأولى أن يقيس الشعراء فى أبنية اللغة واشتقاقاتها الصرفية، وارتضت كثرة اللغويين منهم أن يخضعوا أحيانا لضرورات الأوزان وأنغامها التى يصوغون عليها أشعارهم، وسمّوا ذلك ضرورات شعرية، غير أن بعض المحافظين المسرفين فى محافظتهم كانوا يعدّون الضرورات عيوبا، وكانوا لا يزالون يحصونها على الشعراء كما يحصون عليهم بعض أقيستهم مما لم يسمع عن العرب، وظل ذلك دأبهم فى هذا العصر كما كان دأبهم فى العصر العباسى الأول حين كانوا يراجعون بشارا وأضرابه. واحتفظ كتاب الموشح للمرزبانى بطائفة كبيرة من مراجعاتهم لمعاصريهم، من ذلك قول على بن الجهم:

ونحن أناس أهل سمع وطاعة

يصحّ لكم إسرارها وعلانها

(1) الأغانى (طبع دار الكتب المصرية) 14/ 196.

(2)

أغانى 3/ 209.

ص: 183

فقد ذكروا أنه أخطأ فى قوله: «علانها» بكسر العين وإنما سمع عن العرب: «إعلانها» وكأن ابن الجهم صاغ من كلمة العلن عالنه كما قالوا أعلنه واشتق منها: عالنه علانا. وسمعه المبرد يقول فى بعض حديثه: «أظننى مأزورا فى قعودى» ، فقال: لقد نقص فى عينى حين سمعت منه هذا القول، إذ المسموع موزور لا مأزور (1)، وكأن ابن الجهم قاس هذه الصيغة على مثال مأجور ومأثور.

وهذان المثالان هما كل ما رواه اللغويون من أخطاء ابن الجهم، وحتى على فرض خطئه فيهما وأنه لم يصب فى اجتهاده كان يحسن أن يغفروهما له وأن يشيدا بمدى معرفته للعربية وأمثلتها فى البنية والصياغة، إذ لم يحدث أن أخطأ فيها-إن سلمنا لهما بهذا الخطأ-سوى مرتين. وشاعر ثان هو على بن محمد العلوى الكوفى المعروف بالحمّانى فقد أخذوا عليه خطأين: خطأ نحويّا وخطأ اشتقاقيّا صرفيّا، فأما الخطأ النحوى ففى قوله:

وجه هو البدر إلا أن بينهما

فضلا تلألأ فى حافاته النّور

فى وجه ذاك أخاطيط مسوّدة

وفى مضاحك هذا الدرّ منثور

فقد قالوا إن حق كلمة «منثور» فى آخر البيت الثانى النصب، لأنها فى موقع الحال، والطريف أن المرزبانى حاول إخراج الحمانى من هذا الخطأ وردّه عنه، فقال إن رفع منثور جائز بمعنى هو منثور (2)، والمسألة لا تحتاج إلى كل هذا التأويل فإن الحمانى تبادر إليه أن كلمة منثور خبر لكلمة الدر، وكلمة «فى مضاحك هذا» متعلقة بها، ولا عيب ولا خطأ فى ذلك. وأما الخطأ الاشتقاقى الذى عابوه على الحمّانى ففى قوله:

أرقت وما ليل المضام بنائم

وقد ترقد العينان والقلب ساهر

فقد قالوا إن الصواب مضيم بفتح الميم، إذ لا يقال أضمته وإنما يقال ضمته (3) فهى فى غير حاجة إلى التعدية بالهمزة. وربما سمع الحمانى من العرب من يقول أضام أو ربما قرأ ذلك فى بعض الأشعار القديمة. وهو على كل حال خطأ واحد يشهد

(1) انظر الموشح للمرزبانى (طبعة دار نهضة مصر) ص 528.

(2)

الموشح ص 520.

(3)

الموشح ص 544.

ص: 184

بسلامة لغته. وحتى البحترى الذى اشتهر بفصاحته وإتقانه للعربية وعلمه بأسرارها وقدرته البارعة على استخدام مفاتيحها الموسيقية نجد اللغويين يتوقفون بإزاء بعض استعمالاته ليثبتوا عليه الخطأ فى هذا الموضع أو ذاك، وقد زعموا أن من اللحن عنده قوله فى بعض شعره:

يا عليّا بل يا أبا الحسن الما

لك رقّ الظريفة الحسناء

وواضح أن المنادى العلم، وهو على، فى أول البيت منصوب منون. وحقه الضم (1)، وهى مسألة يعرفها الناشئة ومن يشدون شيئا من النحو، وغريب أن يخطئ فيها البحترى، وهو فعلا لم يخطئ، فإن رواية الكلمة فى الديوان «يا على» وإذن لا خطأ، وقد يكون تقوّل عليه ذلك بعض خصومه. وأخذوا عليه قوله فى الفتح بن خاقان:

يا مادح الفتح ويا آمله

لست امرأ خاب ولا مثن كذب

فقد قالوا إن كلة «مثن» فى البيت كان حقها النصب، فيقال مثنيا، لأنها معطوفة على منصوب هو كلمة «امرأ» وفاتهم أن البحترى رفع الكلمة على إضمار مبتدأ محذوف أى:«ولا أنت مثن كذب» ومن حقه أن يصنع ذلك حين يريده.

وأخذوا عليه أيضا قوله:

ولو أنصف الحسّاد يوما تأمّلوا

مساعيك هل كانت بغيرك أليقا

فإنه سكّن كلمة «مساعيك» وكان حقها النصب: «مساعيك» لأنها مفعول به، وأنكروا عليه قوله فى مطلع رثائه للمتوكل:

محلّ على القاطول أخلق داثره

وعادت صروف الدهر جيشا تغاوره (2)

وقالوا المروىّ: دثر مخلقة. ولا يقال: «أخلق داثره» لأن الداثر لا بقية له فتخلق أى تبلى وتستجد، وهم مبالغون فى قولهم. لأن العرب يقولون أطلال داثرة، وهم يريدون بقاياها أو قل بقايا الديار قبل أن تمحى محوا نهائيّا.

(1) انظر فى هذا اللحن وما يتلوه مما أخذوه على البحترى الموشح ص 511 وما بعدها.

(2)

المحل هنا: قصر المتوكل الذى قتل فيه وكان قد بناه على جدول القاطول بسامراء.

ص: 185

ويلاحظ الصاحب بن عباد أنه ذكر الفعل الناقص: «نسيه» بإشباع الياء وإسكانها بدلا من فتحها فى قوله (1):

أبو غالب بالجود يذكر واجبى

إذا ما غبىّ الباخلين نسيه

وكأن ابن عباد لم يلتفت إلى أن البحترى إنما صنع ذلك لضرورة القافية التى تنتهى بها قصيدة البيت، وأيضا فإنه لم يلتفت إلى أن هذه لغة معروفة لطيئ قبيلة الشاعر إذ ينطقون مثل «رضى» بفتح الياء «رضى» بإسكانها وإشباعها. ومما يدل دلالة واضحة على تعنت اللغويين إزاء البحترى وغيره من الشعراء أن نجد صاحب خزانة الأدب يروى عنهم أنهم أنكروا عليه تسكين اللام فى كلمة «طلحاته» من قوله مادحا:

عدلتم بطلحة عن حقّه

ونكّبتم عن موالاته

وكيف يجوز لكم جحده

وطلحتكم بعض طلحاته

قالوا كيف يسوّغ لنفسه تسكين اللام والوجه أن تكون مفتوحة (2)، وواضح أنه صنع ذلك لضرورة الشعر، ومعروف أنها تبيح للشاعر أن يخرج على القواعد النحوية والصرفية أحيانا، فما بالنا بالحركة والسكون حين يتبادلان مواضعهما وفى الحق أن كل ما أنكروه على البحترى مما يحق له ولا تجوز مؤاخذته عليه، وهى صورة من التزمّت وضيق الأفق عند بعض اللغويين. ومما يدخل فى هذا الباب من التعنت القبيح أن نجد بعض اللغويين يستمع إلى ابن الرومى يمدح الموفق حين قضى على ثورة صاحب الزنج التى مرت بنا فى غير هذا الموضع، فيقول فى بعض مديحه مخاطبا الموفق:

ثناك له مقداره فكأنما

تقوّض ثهلان عليه وصندد (3)

فيعترض على نطقه: «صندد» بفتح الدال الأولى قائلا إنها «صندد» بكسرها (4). وإنما أطلنا فى بيان ذلك كله لندل على أن اللغويين لم يكونوا يستطيعون

(1) الكشف عن مساوئ المتنبى للصاحب ابن عباد (طبعة القاهرة) ص 9.

(2)

خزانة الأدب للبغدادى 3/ 394.

(3)

ثهلان وصندد: جبلان.

(4)

ديوان المعانى لأبى هلال العسكرى (طبعة بغداد) 2/ 56.

ص: 186

أن يتعلقوا فى هذا العصر على الشعراء النابهين بأخطاء جوهرية فى اللغة أو فى للتصريف، بل لقد كانوا لا يزالون يلتقطون بعض الضرورات الشعرية ليعدوها أخطاء، وحتى الحركات الداخلية فى الكلمات وأبنيتها كانوا لا يزالون يتعقبونها على نحو تعقبهم لابن الرومى فى كلمة «صندد» . وكل ما ذكره المرزبانى وسجله عن علماء اللغة فى هذا الباب لا يعدو مثل هذه الصور التى وصفناها، ومثلها ما حاول بعض معاصريه أن يسجلو مثل الصاحب بن عباد وأبى هلال العسكرى، فإنهم لم يتجاوزا فى الغالب الضرورات الشعرية، مما يدل دلالة قاطعة فى العصر على سلامة اللغة وسلامة الألسنة، وحقّا كما قلنا كانت هناك لغة عامية تتداول فى الحياة اليومية، ولكنها ظلت لا تجور على العربية، وظلت الناشئة فى كل مكان تتغذى بالفصحى وتتلقنها على أساتذتها النابهين. وكان هناك كثيرون لا يزالون يستخدمونها فى حياتهم اليومية العاملة، كان ذلك يرفع منهم فى أعين الناس، حتى ليقول إسحق (1) بن خلف الطّنبورىّ:

النحو يبسط من لسان الألكن

والمرء تعظمه إذا لم يلحن

وإذا طلبت من العلوم أجلّها

فأجلّها عندى مقيم الألسن

وإذا كان الإعراب فى رأى بعض المغنين أو الضاربين على الطنبور يبلغ هذا المبلغ من المنزلة الرفيعة، فأولى أن تكون منزلته أرفع وأعلى شأنا عند الشعراء الذين عاصروه، وفى الحق أنهم ظلوا يحافظون بكل قوة على الصياغة العربية فى المفردات والتراكيب وعلى قواعد الإعراب والتصريف، بحيث نجد شاعرا ضخما مثل البحترى أو ابن الرومى لا يكاد اللغويون يتعلقون عليه بشئ ذى بال، بل حتى الشعراء الذين اشتهروا بأنهم كانوا أميين لا يقرءون ولا يكتبون والذين لم يجالسوا العلماء لأخذ قواعد النحو والتصريف مثل الخبز أرزىّ، الذى كان يخبز بالبصرة خبز الأرز ويبيعه فى دكان متكسبا به، والناس يزدحمون عليه لسماع شعره كان لا يعدو الفصحى فى نظمه.

(1) عيون الأخبار لابن قتيبة (طبعة دار الكتب المصرية) 2/ 157.

ص: 187

ولعل فى كل ما قدمنا ما يصور من بعض الوجوه كيف كان الشعراء يتزودون بالعربية الفصيحة أزوادا مكّنتهم من الوقوف على خصائصها ودقائقها الإعرابية والصرفية، بحيث نفوا عن أساليبهم كل الشوائب التى كان من المفروض أن تسيل من العامية المتداولة إلى الفصحى، ولم ينفوها فحسب، بل عملوا جاهدين على أن يحتفظوا بالصياغة العربية الأصيلة بدون أن يدخل عليها نبوّ أو انحراف أو أى اعوجاج أو أى نقص فى الأداء. ويكفى أن يكون همّ جماعة كبيرة من اللغويين أن يتعقبوا سقطات شاعر مثل البحترى فيعوزهم المثال، فيلجئون إلى بعض الضرورات الشعرية عنده يسجلونها، ومعروف أن شاعرا لم يكثر فى هذا العصر كما أكثر ابن الرومى، ومع ذلك لم يسعفهم الفحص فى أشعاره إلا أن يسجلوا فى بناء عنده حركة داخلية على تقدير صحتها إن سلم لهم ذلك. فإذا قلنا إن الشعراء فى هذا العصر تمثلوا العربية وأسرارها التركيبية أقوى تمثل وأروعه لم نكن مغالين ولا مبعدين، بل لقد تمثلوا أسرارها الجمالية كما مر بنا تمثلا بارعا، وهو تمثل جعل الشعراء يعنون عناية بالغة باختيار الألفاظ والملاءمة الصوتية بين اللفظة واللفظة فى الجرس، بل بين الحروف نفسها، حتى يلذ الشعر الألسنة التى تنطق به والآذان التى تستمع له والأفئدة التى تصغى إليه، وما زال الشعراء مكبين على قيثاراتهم يستخرجون منها أعذب الأنغام، حتى استطاع البحترى أن يصل من ذلك إلى كل ما كان يحلم به الشاعر العربى منذ وجد امرؤ القيس حتى عصره، فإذا شعره يستحيل أنغاما وألحانا خالصة.

والبحترى إنما هو رمز لحركة التمسك بالصياغة العربية، بل التمثل لها بحيث تجرى فى نفس الشاعر سليقة الشعر العربى بكل سماتها وشاراتها وبكل معانيها وخواصها، بل بحيث يفقه ذلك كله فقها تامّا دقيقا، بما أتيح له عند العلماء وأصحاب البلاغة من ملاحظات جمالية، تنبع من الثقافة بالشعر السابق قديمه وحديثه ومن الذوق المصفى المتحضر ومن الشعور المرهف الرقيق. وإذا لغة الشعر تصبح تارة رضينة ناصعة كأتم ما تكون النصاعة والرصانة، وحينا تصبح عذبة خفيفة تكاد تطير لخفتها ورشاقتها عن الأفواه طيرانا. ومن هنا كنا نستطيع أن نقول إن أساليب الشعر فى العصر ظل لها رونقها وبهاؤها، بل لقد ازدادت بهاء

ص: 188