المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - طبقات المجتمع - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٤

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الثانى

- ‌الفصل الأوّل:الحياة السياسية

- ‌1 - استيلاء الترك على مقاليد الحكم

- ‌2 - تدهور الخلافة

- ‌3 - ثورة الزنج

- ‌4 - ثورة القرامطة

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثّانى:الحياة الاجتماعية

- ‌1 - طبقات المجتمع

- ‌2 - الحضارة والترف والملاهى

- ‌3 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌4 - المجون والشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالث:الحياة العقلية

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة وتفلسف

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد والتاريخ

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه

- ‌5 - الاعتزال وانبثاق المذهب الأشعرى

- ‌الفصل الرّابع:نشاط الشعر

- ‌1 - علم الشعراء بأسرار العربية

- ‌2 - ذخائر عقلية خصبة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - نمو الموضوعات الجديدة

- ‌5 - نمو الشعر التعليمى

- ‌الفصل الخامس:أعلام للشعراء

- ‌1 - على بن الجهم

- ‌2 - البحترى

- ‌3 - ابن الرومى

- ‌4 - ابن المعتز

- ‌5 - الصنوبرى

- ‌الفصل السّادس:شعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الخلفاء العباسيين

- ‌مروان بن أبى الجنوب أبو السمط

- ‌أبو بكر الصولى

- ‌2 - شعراء الشيعة

- ‌ محمد بن صالح العلوى

- ‌الحمّانى العلوىّ

- ‌المقجّع البصرىّ

- ‌3 - شعراء الثورات السياسية

- ‌ محمد بن البعيث

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌ أبو على البصير

- ‌ أحمد بن أبى طاهر

- ‌ ابن دريد

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ الصّيمرى

- ‌الحمدونى

- ‌ابن بسام

- ‌الفصل السّابع:طوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل وشاعراته

- ‌فضل

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ الحسين بن الضحاك

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف

- ‌ الحلاّج

- ‌الشبلىّ

- ‌4 - شعراء الطرد والصيد

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌جحظة

- ‌الخبز أرزىّ

- ‌الفصل الثامن:نشاط النثر

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطابة والمواعظ والنثر الصوفى

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التّاسع:أعلام الكتاب

- ‌2 - الجاحظ

- ‌3 - ابن قتيبة

- ‌4 - سعيد بن حميد

- ‌5 - أبو العباس بن ثوابة

- ‌خاتمة

الفصل: ‌1 - طبقات المجتمع

‌الفصل الثّانى:

الحياة الاجتماعية

‌1 - طبقات المجتمع

كان يتوزّع مجتمع العصر العباسى الثانى ثلاث طبقات أساسية: طبقة عليا تشتمل على الخلفاء والوزراء والقواد والولاة ومن يلحق بهم من الأمراء وكبار رجال الدولة ورءوس التجار وأصحاب الإقطاع من الأعيان وذوى اليسار، وطبقة وسطى تشتمل على رجال الجيش وموظفى الدواوين والتجار والصناع الممتازين، ثم طبقة دنيا تشتمل على العلمة من الزّراع وأصحاب الحرف الصغيرة والخدم والرقيق، ويأتى فى إثر تلك الطبقات أهل الذمة.

وكانت الطبقة الأولى تغرق فى النعيم، يتقدمها الخلفاء وكانت تجبى إليهم أموال الخراج من سواد العراق وأقاصى الدولة وأدانيها غير ما كان يجبى من المكوس على الواردات والصادرات، وعادة كان الوالى يرسل إلى بغداد ما تبقى لديه من الإنفاق على شئون إمارته وحاجتها من المساجد والبيمارستانات ومن بها من الجند والموظفين.

وذكر ابن خرداذبة أن الدخل من سواد العراق لسنة 240 للهجرة بلغ ثمانية وسبعين مليونا من الدراهم، وبلغ دخل جزء منه فى عهد المعتضد لسنة 280 مليونين وخمسمائة وعشرين ألفا من الدنانير (1). وتدهور الدخل فى عهد المقتدر ومع ذلك نرى خراج سواد العراق يبلغ مليونا وخمسمائة وسبعة وأربعين ألف دينار، ويورد الصابى مع هذا الإحصاء الدخل العام لعهده فى سنة 306، ويذكر أنه بلغ أربعة عشر مليونا وثمانمائة وتسعة وعشرين ألفا وثمانمائة وأربعين دينارا (2).

(1) كتاب الوزراء الهلال بن المحسن الصابى ص 10 وما بعدها.

(2)

رسوم دار الخلافة للهلال الصابى ص 21.

ص: 53

وكانت هذه القناطير المقنطرة من الدراهم والدنانير تنفق سنويّا، وقلما كان يتبقى منها شئ ويقال إنه لما ولى المعتضد (279 - 289 هـ) ادّخر من كل سنة من سى خلافته مليون دينار، بلغ ما ادخره تسعة ملايين (1)، وخلفه ابنه المكتفى (289 - 295 هـ)، فبلغ بالمدّخر أربعة عشر مليونا (2). وجاء بعده المقتدر فلم يقف عن الادخار فحسب، بل أتلف كل المدّخر مع ما صار إليه من أموال الخراج سنويّا ومما كانت تغلّه الضياع السلطانية الواسعة، حتى قالوا إنه بدّد-كما مرّ بنا فى الفصل الماضى-ثمانين مليونا من الدنانير. ويورد الصابى فى كتابيه: الوزراء ورسوم دار الخلافة أثباتا (3) بما كان ينفق على حواشى الخليفة وداره فى عصر المعتضد والمقتدر (295 - 320 هـ)، وهى تصور عظم هذه النفقات. فقد كان ينفق على القصر والحرم والخدم أكثر من ستين ألف دينار شهريّا وكان ينفق على المطابخ الخاصة والعامة أكثر من عشرة آلاف دينار شهريّا، بل قد يبلغ ذلك أكثر من ثلاثين ألفا، غير ما ينفق على البوابين من البيض والسودان وكان يبلغ ألف دينار، وغير ما ينفق على المماليك والحرس وكانوا يعدّون بالآلاف، وغير ما ينفق على المرسومين لخدمة الدار من القرّاء وأصحاب الأخبار والمنجمين والبوقيبن والمصحكين والطبالين وأصحاب الصيد والملاّحين فى السفن وأصحاب المشاغل والأطباء، ويقول الصابى إن نفقة ذلك كله وما يجرى مجراه مما يلزم الدار كان يبلغ أكثر من مليونين وخمسمائة ألف دينار سنويّا. ويقال إنه كان فى الدار لأيام المكتفى عشرون ألف غلام للحرس وعشرة آلاف خادم من السود والصقالبة، أما فى أيام المقتدر فكان بها أحد عشر ألف خادم منهم تسعة من السود وأربعة من الصقالبة وأربعة آلاف امرأة بين حرة ومملوكة وألوف من الغلمان الحجرية (المقيمين فى الحجر)، وكانت النوبة لحفظة الدار خمسة آلاف غير أربعمائة من الحراس، وكان عدد الفراشين ثمانمائة (4). ويروى المؤرخون أن الراضى (322 - 329 هـ)، عمل على القصد الشديد فى نفقات دار الخلافة، حتى بلغت مع

(1) كتاب الوزراء ص 189.

(2)

كتاب الوزراء ص 190.

(3)

الوزراء ص 11 وما بعدها ورسوم دار الخلافة ص 21 ويذكر الصابى فى الكتاب الأول أن نفقات الحضرة لعهد المعتضد كانت سبعة آلاف دينار يوميا.

(4)

رسوم دار الخلافة ص 10 ويقال إن الخدم فى عهد المتوكل كانوا سبعمائة. انظر الديارات للشابنىّ (الطبعة الثانية) ص 160.

ص: 54

شدة الحذف والاقتصاد ثلاثة آلاف دينار (1) يوميّا.

وقد بدأ العصر بالمتوكل، ويقال إن النفقات لم تبلغ فى عصر من عصور الخلفاء ما بلغته فى عصره، وخاصة فى بناء القصور، وقد أحدث فيها البناء الموسوم باسم البناء الحيرى، وكان يجعل فيه دون القصر ثلاثة أبواب عظام، وكان فى الراق مجلس الخليفة، وأمامه بيتان بهما خواصه وعلى اليمين خزانة الكسوة وعلى اليسار ما يحتاج إليه من الشراب (2). وكان كلما بنى قصرا أتبعه بآخر، حتى بلغت قصوره نحو العشرين، وهى: بركوار (دار الهناءة) والشاه والعروس والبركة والجوسق والمختار والجعفرى والغريب والبديع والصبيح والمليح والشبداز والقصور والجامع والقلاية والبرج والمتوكلية والبهو واللؤلؤة، وبلغ ما أنفقه على تلك القصور مائتين وأربعة وسبعين مليونا من الدراهم (3). وكان البرج من أجملها زينة إذ جعل فيه صور عظيمة من الذهب والفضة، وبركة جعل فرشها ظاهرا وباطنا صفائح الفضة، وشجرة ذهب على أغصانها وفروعها طيور تغرّد وتصفر مكللة بالجوهر، وسميت طوبى (من أشجار الجنة). واتّخذ له سرير كبير من الذهب عليه تمثالا سبعين عظيمين ودرج عليه صور السباع والنسور. وألبست حيطان القصر من الداخل والخارج بالفسيفساء والرخام المذهب، ويقال إن نفقة هذا القصر وحده بلغت مليونا وسبعمائة ألف دينار (4). وتبارى الخلفاء بعد المتوكل فى بناء القصور، فبنى المعتز ابنه قصره المعروف باسم التاج أو الساج وكان قصرا ضخما (5)، وبنى المعتمد (256 - 279 هـ) قصره المعشوق على شاطئ دجلة (6)، وبنى المعتضد قصر الثّريّا، وكان أبنية متلاصقة، ووصل بينها وبين قصر التاج بسرداب طويل لتمشى فيه حظاياه، وفيه يقول ابن المعتز (7):

وبنيان قصر قد علت شرفاته

كصفّ نساء قد تربّعن فى الأزر

(1) رسوم دار الخلافة ص 30.

(2)

مروج الذهب 4/ 4.

(3)

الديارات للشابشىّ (الطبعة الثانية) ص 159.

(4)

الديارات ص 160 وانظر المروج 4/ 40.

(5)

انظر ياقوت فى التاج وديوان البحترى (طبع دار المعارف) 3/ 1483.

(6)

ديوان البحترى 3/ 1467.

(7)

ديوان ابن المعتز (طبعة دار صادر ببيروت) ص 215 وانظر معجم البلدان فى الثريا.

ص: 55

ولعل فى كثرة هذه القصور ما يشير إلى أن دار الخلافة كانت واسعة، وكان القصر الواحد أحيانا يمتد إلى فرسخ أو يزيد، ويقال إن قصر الثريا كان يمتد إلى ثلاثة فراسخ وإنه كلّف المعتضد-كما قدمنا فى الفصل الماضى-أربعمائة ألف دينار.

وكأنما كانت دار الخلافة وقصورها أشبه بمدينة، ومرّ بنا آنفا عدد من كان بها فى عصر المكتفى والمقتدر من الغلمان والحرس والخدم، وأنهم كانوا يعدّون بالآلاف، فطبيعى أن يكون بها فلاحون وأكرة للعمل ومساجد وحمامات تفوت الحصر حتى قالوا إن الحمامات بلغت بها أحيانا أربعمائة (1). وكانت الدار تشتمل على بساتين وجداول متصلة بدجلة وقباب شتى وأروقة وبرك ومياه جارية.

وكان الوزراء يعيشون فى هذا النعيم نفسه لما كانوا يأخذونه من رواتب ضخمة وإقطاعات وما كانوا يختلسونه لأنفسهم من أموال الدولة، ويقال إن الوزير كان يأخذ إقطاعا يدرّ عليه مائة وسبعين ألف دينار، حتى إذا كان عهد المقتدر أجرى عليه راتب قدره خمسة آلاف دينار فى كل شهر، ثم صار سبعة آلاف (2).

ولكى نتصور مبلغ ثراء الوزراء يكفى أن نعرف أن المعتمد (256 - 279) استخلص-كما مر بنا فى الفصل الماضى-من وزيره سليمان بن وهب وابنه عبيد الله نحو مليون دينار، ويروى أنه أحصى ما وجد لوزيره صاعد من الرقيق والمتاع والكسوة والسلاح والآلات فى خاصة نفسه دون ما وجد لأخيه عبدون فكان مبلغه ثلثمائة ألف دينار، وكان مبلغ غلته فى سائر ضياعه مليونا وثلثمائة ألف (3).

ويذكر المؤرخون عن ابن الفرات وزير المقتدر أنه كان يملك-كما ذكرنا فى غير هذا الموضع-من الفضة والضياع والأثاث ما يزيد على عشرة ملايين من الدنانير.

وكانت لسليمان بن وهب دار كبيرة جعلتها الدولة بعده لكل وزير حتى سنة 320، وكانت تسمى دار المخرّم، وكانت مساحتها تربو على ثلثمائة ألف ذراع (4). وكانت دار ابن الفرات مدينة ضخمة حتى كان بها فوجان من الخياطين (5)، ويقال إنه

(1) رسوم دار الخلافة ص 8.

(2)

كتاب الوزراء ص 282، 351.

(3)

مروج الذهب 4/ 121.

(4)

مسكويه 5/ 410.

(5)

كتاب الوزراء ص 176.

ص: 56

لما عين وزيرا زاد ثمن الشمع فى يوم تعيينه لأنه كان من رسمه ألا يخرج أحد من داره وقت العشاء إلا ومعه شمعة، وسقى فى داره فى ذلك اليوم وليلته أربعون ألف رطل ثلجا (1).

وكان للوزير بدار الخلافة بناء مفرد يجلس فيه والخواصّ والحواشى بين يديه إلى أن يستدعيه الخليفة، وكان يغدو إليه الكتّاب، فيقفهم على الأعمال المطلوبة منهم ويسلم إلى كل كاتب ما يتعلق بديوانه ويوصيه بما يريد منه، ثم يروحون إليه بما عملوا، وفى أثناء ذلك تعرض عليه الكتب بالنفقات والتسبيبات والحسبانات (2)، والكتّاب جلوس بين يديه كلّ فى مكانه ومعه دواته.

وكان الوزير يتخذ مثل الخليفة حرسا على باب داره وقذ يعدون بالعشرات (3) وكان مجلسه يغصّ بغلمان مسلّحين، وكان يركب إلى دار الخلافة وبين يديه الحجاب والقواد والغلمان، ويقال إنه كان لحامد بن العباس أحد وزراء المقتدر أربعمائة مملوك يحملون السلاح أمامه، ولكل مملوك نفر من المماليك والغلمان يتبعونه، ويروى بعض الكتاب أنه أحصى الموائد المنصوبة فى داره فوجدها ثلاثين ونيفا ويقال، بل كانت أربعين، وكان يجلس إلى كل مائدة ثلاثون رجلا، وعلى كل واحدة جدى أو جداء وبوارد وحلوى مما لذ وطاب (4). وكان الوزير يتولّى إدارة مالية البلاد والقيام على الدخل والخرج وفرض الضرائب. واشتهر غير بيت بتوليه الوزارة مثل بيت بنى وهب وأصلهم من نصارى العراق، وعمل كثير منهم فى الدواوين وبلغوا فيها أعلى المناصب، أما الوزارة فتولاها منهم فى هذا العصر أربعة، كان فى مقدمتهم سليمان بن وهب الذى مرّ بنا ذكره ثم ابنه عبيد الله، ثم ابن عبيد الله القاسم، ويقال إن المكتفى زوّج ابنه أبا أحمد من ابنته، وإنه خلع عليه أربعمائة خلعة، أما الصداق فكان مائة ألف دينار (5)، وأنفق على

(1) كتاب الوزراء ص 63، 195.

(2)

كتاب الوزراء ص 238.

(3)

كتاب الوزراء ص 121.

(4)

كتاب الوزراء ص 112 والنجوم الزاهرة 3/ 208 والهمدانى ص 20، 27.

(5)

النجوم 3/ 131.

ص: 57

الوليمة أكثر من عشرين ألف دينار (1).

وعلى نحو ما كان الوزراء والخلفاء يعيشون فى هذا الترف كان يعيش فيه أيضا القواد، وكان بيدهم مصير الخلفاء وكانوا يفدون أنفسهم منهم بكل ما يطلبون من أموال، وكانوا يقطعونهم إقطاعات كثيرة على نحو ما كانوا يقطعون الوزراء، فكانت لهم ضياع واسعة تغلّ عليهم أموالا وفيرة، ولعل خليفة لم يكثر من الإقطاع لهم كما أكثر المقتدر، ويقال إن إقطاعات يانس الموفقى فى عهده كانت تغلّ سنويّا ثلاثين ألف دينار. وبلغ حينئذ من مكانة القواد أن خلع المقتدر على مؤنس لقب المظفر (2)، ولما قدم بغداد فى عام 312 للهجرة ركب الوزير ابن الفرات السلام عليه وتهنئته بمقدمه (3)، وهو ما لم تجربه عادة وزير من قبله، فقد أصبح القواد يقدّمون على الوزراء. وكان لهم حجّابهم ومماليكهم وحشمهم وخدمهم ونفقاتهم الواسعة على نحو ما كان للوزراء. وبالمثل كان ولاة الأقاليم، وكان حامد ابن العباس الذى مر بنا ذكره قبل توليته الوزارة للمقتدر واليا على فارس والبصرة ومن ولايتهما كوّن ثروته الواسعة. ويروى أن خمارويه صاحب مصر حين زوّج ابنته قطر الندى من المعتضد الخليفة العباسى حمل معها من الجهاز ما لم ير مثله ولا يسمع به، وكان ابن الجصاص الجواهرى البغدادى القائم على الجهاز، ويقال إنه سأله هل بقى بينى وبينك من الحساب شئ؟ فأجابه كسر (باق) طفيف وإذا هو أربعمائة ألف دينار (4)، فما بالنا إذن بنفقات الجهاز كله. ويتوقف المؤرخون ليقصوا لنا هدايا الصفار والى فارس للمعتضد وما كان معها من تماثيل وملايين الدراهم وصناديق الثياب (5). وكان مما أرسله إسماعيل بن أحمد السامانى والى خراسان إلى المكتفى سنة 292 ثلثمائة بعير عليها صناديق فيها المسك والعنبر والثياب من كل لون (6). وكأنما أموال الولايات ودخولها كانت ملكا للولاة ينفقونها فى بذخهم ويهدونها بحسب مشيئاتهم. وتوفى لسنة 301 على بن أحمد الراسبى وكان متوليّا من حدود واسط فى العراق إلى جنديسابور ومن السوس إلى شهرزور، وخلّف مليون دينار ومن آنية الذهب والفضة ما قيمته مائة ألف دينار

(1) عريب ص 53.

(2)

النجوم 3/ 203.

(3)

الوزراء ص 50.

(4)

النجوم 3/ 62.

(5)

مروج الذهب 4/ 148.

(6)

النجوم 3/ 156.

ص: 58

ومن الخزّ ألف ثوب، وخلّف ألف فرس وألف بغل وألف بعير، وكان له ثمانون طرازا (مصنع ثياب) تنج فيها الثياب التى لملبوسه (1) وملبوس حرمه وحواشبه وخدمه.

وكان أبناء البيت العباسى يتقاضون من الدولة رواتب ثابتة، ومثلهم العلويون والهاشميون بصفة عامة، وكثيرون منهم كانوا يتولون مناصب هامة، وكان منهم دائما من يحج بالناس فى كل عام. وكان الخلفاء ما يزالون يقطعون المقرّبين منهم إقطاعات وضياعا كثيرة، بالإضافة إلى كثير من الضياع التى كانوا يرثونها عن آبائهم وأجدادهم. وكان الوزراء كثيرا ما يتقربون إليهم بالهدايا والعطايا، ويقال إن على بن عيسى وزير المقتدر كان ينفق فى كل سنة-على شحّه-أربعين ألف درهم فى صلات الطالبيبين والعباسيين وأولاد الأنصار والمهاجرين وفى مصالح الحرمين (2) وكان المعتضد يجرى على أبناء المتوكل وأولادهم ذكورا وإناثا ألف دينار شهريّا، وكان يجرى على أولاد الواثق والمهتدى والمستعين خمسمائة دينار فى الشهر (3).

وأعان ذلك كله على اتساع الطبقة الأرستقراطية وأن تنشأ أجيال من أبنائها غارقة فى الدعة والنعيم، وفى مقدمتهم أبناء الخلفاء والوزراء والقواد والأمراء وبالمثل أبناء كبار الكتاب، وكثيرا ما كان يصل آباؤهم إلى الوزارة، وحتى من لم يصل إلى الوزارة كان يتقاضى أحيانا مائة دينار فى الشهر وقد يرتفع راتبه إلى خمسمائة (4)، غير ما كان يأتيهم من الهدايا وأحيانا من الرشوة وخاصة من عمال الخراج. وكان منصب القاضى منصبا رفيعا، وكان يتقاضى راتبا عاليا مائة وعشرين أو مائتين من الدنانير (5)، ومن الحق أن منهم من كان يتعفف عن أخذ شئ نظير عمله، ولكن من الحق أيضا أن منهم من كان مترفا موسّع الرزق مثل إبراهيم بن جابر القاضى بحلب والعواصم من أرض الشام إذ يروى المسعودى أنه «قطع لزوجته أربعين ثوبا تستريّا وقصبا (حريرا) وأشباه ذلك من الثياب فى يوم واحد وخلّف أموالا عظيمة» (6).

(1) النجوم الزاهرة 3/ 183.

(2)

كتاب الوزراء ص 322.

(3)

كتاب الوزراء ص 20.

(4)

كتاب الوزراء ص 156 وانظر ص 20، 314.

(5)

الولاة والقضاة الكندى ص 377، 421.

(6)

مروج الذهب 4/ 174.

ص: 59

وكان يدخل فى هذه الطبقة الأرستقراطية ورثة الإقطاع والضياع الواسعة وكبار التجار الذين كانوا يتجرون برءوس أموال ضخمة فى مطالب تلك الطبقة من أدوات الترف والزينة، وكان فى مقدمتهم النخاسون الذين كانوا يجلبون الرقيق والجوارى من أطراف الأرض، وتجار الطرف النفيسة التى كانت تجلبها السفن من جميع أنحاء العالم. وبالمثل تجار الجواهر ويكفى أن نذكر ابن الجصاص التاجر الجوهرى البغدادى الذى أشرف على جهاز قطر الندى بنت خمارويه كما أسلفنا، فقد هيأ لها من الثياب والجواهر وأدوات الزينة ما كلف أباها مئات الألوف، وحين صودرت أمواله لعهد المقتدر سنة 302 للهجرة أخذ منه من المال والجوهر ما عدّ بالملايين حتى قيل إنه بلغ ستة عشر مليونا من الدنانير، ويقول المسعودى:

«الذى صحّ مما قبض من ماله من العين (الذهب) والورق (الفضة) والجوهر والفرش والثياب والمستغلات خمسة ملايين وخمسمائة ألف دينار» (1). وكانت كل طائفة من التجار تقيم فى سوق واحد فيقال سوق النخاسين وسوق الوراقين، وكان من أقربهم إلى الترف البزازون (تجار الأقمشة) والعطارون. وكانت أسواق الأخيرين وأصحاب الدهون والخزازين (تجار الحرير) والجوهريين والصيادلة بعضها إلى جانب بعض ببغداد. وكان الأطباء يحصلون على أموال ضخمة، وخاصة أطباء دار الخلافة وبيمارستانات بغداد، وتزخر كتب طبقات الأطباء بملايين الدراهم والدنانير التى صارت إليهم من الخلفاء، ويقول محمد بن زكريا الرازى الطبيب المشهور إن سبب تعلقه بتعلم الطب إنه أصيب برمد فى عينيه، فأبى الطبيب الذى عرض نفسه عليه أن يعالجه إلا بخمسمائة دينار (2). وحتى الشعراء والعلماء والندماء كان منهم من يغدق عليهم الخلفاء الصلات، وكذلك الوزراء، حتى ليغدون من علية القوم مثل على بن يحيى المنجم الذى أثرى ثراء طائلا من منادمته للخلفاء.

وإذا تركنا الطبقة العليا إلى الطبقة الوسطى وجدنا كثيرين يندمجون فيها، وفى مقدمتهم علماء العربية والفقه والتفسير والحديث، وكان كثير منهم يأخذ رواتب

(1) مروج الذهب 4/ 218 والنجوم 3/ 185.

(2)

حكماء الإسلام البيهقى ص 21.

ص: 60

من الدولة، وكان منهم معلمون يختلف إليهم الناشئة، وكانوا يدفعون إليهم أجورا قليلة، حتى لقد تكون رغفانا من الخبز أحيانا، وكانت هذه الرغفان تختلف اختلاف أسر الصبيان فى الغنى والفقر، ولذلك ضربت الأمثال فى الاختلاف والتفاوت مفاوت رغفان المعلم واختلافها فى الجودة، وكان من الآباء من يدفع أجر أولاده دراهم معدودة. وكان من يعلم أولاد الطبقة العليا تنهال عليه الهبات ويقدّر له راتب شهرى معلوم.

ويدخل فى عداد هذه الطبقة المغنون والشعراء وكان كثير منهم تتدفق عليه الأموال تدفقا، وسنعرض لذلك فى موضع آخر، والمهم أن هذا التدفق كان خاصّا بأفراد منهم ارتفعوا إلى الطبقة الأرستقراطية وعاشوا فى بذخ وترف شديد، أما عامتهم فيسلكون فى الطبقة الوسطى، وقد رأينا كبار الكتاب فى الدواوين ينتظمون فى الطبقة العليا، ولكن كان وراءهم عشرات إن لم يكن مئات يعملون فى الدواوين ويأخذون رواتب متوسطة، وخاصة فى دواوين الخراج ودواوين الجيش وفى أعمال الحسبة ورقابة الأسواق وفى البريد ودواوين الأخبار وفى المكوس والضرائب الجمركية.

ويضمّ إلى كتّاب الدواوين وعمّالها رؤساء الجند ممن يلون القادة، فلم تكن لهم رواتبهم الرفيعة، ولكن كانت لهم رواتب متوسطة تكفل لهم رزقا حسنا.

ومن هذه الطبقة أوساط الصناع وخاصة من كانوا يقومون على أثاث المساكن والأزياء والطعام، ويدخل فى الأثاث صناعة البسط والسجاجيد والنمارق والمقاعد والتخوت والوسائد. وكان مركز الصناعات الأسواق مثلها مثل التجارات، وكانوا جميعا يتناولون غداءهم بمطاعم فى أسواقهم أو فى دكاكينهم، وكانوا لا يتركونها إلا فى المساء. وكان هناك جهابذة كثيرون لاستبدال النقود، وكانت هناك فنادق للغرباء، وكانت المساكن تستأجر وكذلك أثاثها. وإذا عرفنا أنه كان يسكن بغداد بضعة ملايين فى تقدير بعض المؤرخين عرفنا كثرة من كان بها من التجار والصناع، ونجد من كبارهم من كان يربح فى صفقة واحدة ألوف الدنانير (1)، أما أوساطهم

(1) الوزراء والكتاب للجهشيارى (طبعة الحلبى) ص 185، 319.

ص: 61

فقلما كان يزيد رأس أموالهم فى تجاراتهم على ثلاثة آلاف دينار (1)، وكان الناس يودعون أموالهم لدى بعض التجار الأمناء للاتجار لهم بها مناصفة فى الأرباح.

ونستطيع أن نتصور مستوى المعيشة فى بغداد مما يروى من أن الأسرة المتوسطة كان يكفيها شهريّا خمسة وعشرون درهما، كأن نفقات اليوم المتوسطة لا تحتاج إلى أكثر من درهم واحد (2). وفى الفرج بعد الشدة للتنوخى خبر يدل على مستوى الحياة وأوسط ما كان الناس يتجرون فيه، إذ يروى عن شخص رقيق الحال أنه ورث أربعين ألف دينار فجأة وعلى غير انتظار، فبنى لنفسه دارا بألف دينار، واشترى آلات وفرشا وثيابا وجوارى ثلاثا بسبعة آلاف دينار، وأعطى تاجرا ألفى دينار ليتّجر له فيها، وخزن عشرة آلاف للشدائد، واشترى بالباقى ضيعة تغلّ له فى كل سنة ما يزيد على مقدار نفقته (3). وقد لا يصوّر ذلك حياة الطبقة الوسطى تماما، ولكنه يشير إلى أن نفقاتها لم تكن كبيرة، وكان يعدّ من يقتنى سبعمائة دينار صاحب ثروة كبيرة، وكثير من الصناع والتجار لم تكن ثرواتهم تزيد على ذلك، وهم الذين كانوا يندمجون فى الطبقة الوسطى من الأمة.

وتأتى بعد ذلك الطبقة العامة من الرعية، وهى التى كان يقع عليها عبء العمل كله فى الزراعة وفى الصناعات الصغيرة وفى خدمة أرباب القصور، فهى التى تعمل فى الإقطاعات والضياع، وهى التى تقوم على تقديم أسباب الحياتين للطبقتين الوسطى والعليا، عاملة تارة أو صانعة، أو خادمة تارة ثانية. فكل ما تتقلب فيه الطبقتان من النعيم إنما هو من أيدى هذه الطبقة العامة، يسلبونه منها بطرق شتى ولا يبقون لها سوى الضنك والضيق والبؤس والشقاء. ومرّت بنا فى الفصل السابق ثورة الزنج وكيف أنهم كادوا يدمرّون الدولة تدميرا، لشدة نقمتهم على الأوضاع التى كانت سائدة، وما كادت تخمد حتى هبّت ثورة القرامطة، وعنفت بالدولة هى الأخرى عنفا شديدا، وشاعت معها فكرة المهدى المنتظر الذى ينشر العدالة بين الناس فى الأرض، ولو أن دعوة القرامطة وجهت توجيها سليما على أساس العدالة التى

(1) البخلاء للجاحظ (طبعة دار الكاتب المصرى) ص 101.

(2)

مصارع العشاق؟ ؟ ؟ ص 159.

(3)

الفرج بعد الشدة للتنوخى 2/ 17.

ص: 62

لا تصلح حياة الناس بدونها وبيان فساد الحكم العباسى حينئذ وما داخله من جور وعسف لنجحت إلى أقصى حد، ولكنها وجهت توجيها خاطئا على أساس دعوة باطنية، حتى لكأنما محى منها مقصد الإصلاح الاجتماعى، ولذلك أخفقت إخفاقا ذريعا.

ووسائل شتى كانت تبتزّ بها أعمال هذه الطبقة العامة وما بأيديها من أموال قليلة، أما من يعملون فى الأرض من الأكرة والزراع فكانوا عبيدا لا يترك لهم إلاّ ما يسدّ رمقهم، وإن سدّه كان ذلك شيئا كثيرا. وأما صغار الصناع والتجار الأصاغر والفعلة. والفرّاشون والبوّابون وكل من يؤلفون الطبقة العامة فقد كان مثلهم مثل رقيق الأرض لا يكادون يجدون ما يتبلّغون به إلا نادرا وحين يعملون فى الدولة بأجر مهما يكن طفيفا، لأنه يضمن لهم القوت اليومى. وكان من يوجد لديه مال كأنما يقع تحت طائلة العقاب بسبب كثرة الضرائب التى كانت تفرض حتى على الأسواق وما يصنع فيها وما يباع ويشترى. ومما زاد هذه الطبقة بؤسا أن الأسعار لم تكن ثابتة، فكثيرا ما كان يرتفع ثمن القمح والشعير حتى يصبح حصول العامة عليهما عسيرا وحتى لتجأر بالشكوى إلى الخليفة، على نحو ما صنع أهل البصرة فى عهد المعتضد إذ أرسلوا وفدا كبيرا إليه يشكو ما نزل بمدينتهم من غلاء فاحش آملين أن يمدّ الخليفة لهم يد المساعدة (1)

وكانت هذه الطبقة تعمل فى كل المهن الحقيرة، ومن المؤكد أنه نشأت طبقات كثيرة حينئذ من الحرفيين أو المهنيين وأن التخصص أخذ طريقه إليهم، فكان لكل حرفة أصحابها الخاصون، يؤكد ذلك ما روى من أن الجاحظ لم تكن له حلقة على وجه بابه إذا أراد اصطفاقه فطلب من نجار أن يثقب له موضعها، فلما ثقبه قال له: قد جوّدت الثقب وانظر أى نجّار يدق فيها «الرّزّة (2)» وكأن من النجارين من كان للثقب ومن كان لتركيب الرزة، وهو ما يعنى الاختصاص الدقيق. ولا ريب فى أن ذلك هو الذى أدّى إلى أن تنشأ فى العالم العربى من قديم فكرة النقابات للحرفيين والصناع وإن كانت حينئذ

(1) مروج الذهب 4/ 149.

(2)

الحيوان 3/ 276 - 277.

ص: 63

لا تعدو دور النشأة البسيطة.

وأدّى بؤس هذه الطبقة العامة إلى أن ينشأ فيها كثير من القرّادين وأصحاب الملاهى الصغيرة الطّوّافين والحوّائين كما ينشأ فيها كثير من المهرجين الذين ينقطعون لإضحاك الطبقتين الوسطى والعليا، وكان منهم من يتصل بخليفة أو وزير فتبتسم له الدنيا. ونشأ فيها أيضا كثير من راضة الخيل والسوّاس وأصحاب القنص والصيد بالكلاب والفهود. ونشأت طبقة من الأدباء المتسولين المسمون بالمكدين، وكانوا حينئذ خليطا من هؤلاء الأدباء ومن متظاهرين بالنسك، مستعملين كل حيلة من شعر أو تقى أو رقية، فهم يطلبون المال من كل طريق، مستخدمين كل حيلة. ويدل دلالة قوية على ما كانت تعانيه هذه الطبقة العامة من البؤس والعيش المر أن كثر بها اللصوص، حتى غدوا فى أوقات كثيرة مصدر خطر عظيم ببغداد، لكثرتهم، ولشدة فتكهم، ويشير الجاحظ إليهم فى كتاباته مرارا كما يشير إلى رؤسائهم وأنه كانت لهم مروءة الفرسان، وكأنهم كانوا امتدادا لصعاليك الجاهلية (1).

ووراء تلك الطبقات الدنيا والوسطى والعليا كان هناك عدد ضخم من أهل الديانات الأخرى، من النصارى واليهود والمجوس والصابئة، وكانوا يسمون أهل الذمة إشارة إلى أنهم فى ذمة الإسلام وعهده ورعايته وما وضعه من مبادئ التسامح الرائع، فإذا هم يصانون ويحرسون ويحرس نساؤهم وأسرهم، حتى ليصبح لكل أهل ملة منهم كيانهم الخاص فلهم معابدهم ولهم رؤساؤهم الدينيون:

للنصارى مثلا الجاثليق والبطرك. ولهم محاكمهم الخاصة التى تفصل بينهم فى خصوماتهم. تسامح لم يعرفه دين ولم تعرفه أمة قبل الإسلام، ولا ظلم ولا جور، بل عدالة مطلقة تعمهم وحماية بدون حدود، وليس عليهم للدولة إلا ضريبة مالية محدودة هى الجزية التى لم يكن يدفعها إلا القادر على حمل السلاح، أما المريض بعلة لا برء منها وذوو العاهات والأطفال والنساء والشيوخ ورجال الدين فى كل ملة فلا يؤدون شيئا، ولم تكن هذه الضريبة أو الجزية تتعدّى ثلاثة دنانير لأصحاب

(1) انظر قصة خالد بن يزيد فى مطالع كتاب البخلاء

ص: 64

الثراء الطائل منهم ودينارين لمتوسطى الثراء ودينارا لعامتهم ممن يتكسبون كسبا لا يضيرهم معه دفعه. وكانت قيمة الدينار حينئذ نحو اثنى عشر درهما، وهذا كل ما يدفعونه فى العام المتطاول، وهو فى حقيقته لم يكن سوى ضريبة دفاع عنهم.

ويتراوح ما كان يؤديه أهل الذمة ببغداد فى أوائل القرن الثالث بين مائة وعشرين ألف درهم ومائتى ألف (1)، مما يدل على أن دافعى الجزية فى تلك الحقب كانوا لا يزيدون على نحو عشرين ألفا، فإذا أضفنا إليهم العاجزين عن الكسب من النساء والأطفال والشيوخ وغيرهم ممن ذكرناهم آنفا تبين أن عدد أهل الذمة حينئذ ببغداد كان لا يقلّ عن نحو ستين ألفا. وكانوا جميعا يشدّون إلى أوساطهم زنانير أشبه بأحزمة.

وكان أهل بغداد وغير بغداد من المسلمين يعاملونهم معاملة حسنة، فكانوا يوسعون لهم فى كل عمل معهم، وكانت العامة تأنس خاصة للمسيحيين منهم، إذ كانوا يؤثرونهم على المجوس ويرونهم أسلم صدورا من اليهود، كما يقول الجاحظ فى رسالته الرد (2) على النصارى، وفيها يذكر أن الخلفاء والولاة قربوهم منهم واستخدموهم فى الدواوين وقاموا لهم على كثير من شئونهم وأنهم كانوا ينهضون بحرف جليلة مثل العطارة والصيرفة، وكان منهم أطباء الخلفاء والوزراء وعلية القوم وأطباء البيمارستانات، حتى استقر فى أنفس الناس أن الطبيب الحاذق لا يكون إلا مسيحيّا. أما اليهود فكانوا يعملون فى أحقر المهن، حتى ليقول الجاحظ فى الرسالة آنفة الذكر:

«لا تجد اليهودى إلا صباغا أو دبّاغا أو قصّابا (جزارا) أو شعّابا (مصلح جرار وأحدية)» ؛ ويقول ابن قتيبة إنهم أنتن خلق الله فناء (3). وكان النصارى يتخذون أفخر الدواب والثياب والخدم ويتمتعون مثل العلية بلعب الصوالجة، وحتى تسموا بأسماء المسلمين مثل الحسن والحسين كما يقول الجاحظ.

ويأمر المتوكل لسنة 235، بأن يلبس أهل الذمة كلهم الطيالس العسلية

(1) كتاب الخراج لقدامة (طبع ليدن) ص 251 وابن خرداذبة ص 120.

(2)

انظرها فى ثلاث رسائل للجاحظ نشر فنكل.

(3)

أدب الكاتب لابن قتيبة (طبعة ليدن) ص 66.

ص: 65

ويشدوا فى أوساطهم الزنانير وأن يركبوا السروج بركب الخشب ويجعلوا على مؤخرها كرتين ومن لبس قلنسوة مثل قلنسوة المسلمين يجعل عليها زرّين، وأمر أيضا أن يجعلوا رقعتين على ثياب مماليكهم يخالف لونهما لون الثوب الموضوعين عليه، وتوضع إحدى الرقعتين على الصدر والأخرى خلف الظهر، وكل من الرقعتين بمقدار أربع أصابع ويكون لونها عسليّا، وتلبس المرأة منهم إزارا عسليّا وأمر بهدم بيعهم وكنائسهم المحدثة وألا يستعان بهم فى الدواوين وأعمال الدولة، حتى لا تجرى أحكامهم على المسلمين (1).

ويبدو أنه منذ المتوكل أخذت هذه الأوامر الشديدة تخفّف عن النصارى حتى لنجده هو نفسه يجعل النفقة فى سنة 245 على بناء قصره الجعفرى بيد دليل بن يعقوب النصرانى كاتب بغا (2). وكثر أهل الذمة بعده فى الدواوين ولعل ذلك ما جعل العامة فى سنة 272 للهجرة تثور عليهم (3).

ويعظم أمر أهل الذمة فى أواخر القرن الثالث، إذ يكثر استخدامهم فى الكتابة وفى امور المسلمين فيأمر المقتدر لسنة 296 بألا يستخدم أحد منهم إلا فى الطب والجهبذة وأن يطالبوا بلبس العسلى وتعليق الرقاع المصبوغة على أظهرهم (4)، ومع ذلك نرى وزيره ابن الفرات يتخذ منهم أربعة كتّاب كان يدعوهم يوميّا إلى طعام مع خمسة آخرين اختصّ بهم جميعا (5).

وواضح من هذا كله ما يدل على أن أهل الذمة لم يكونوا مضطهدين طوال العصر وأن الأوامر التى كانت تصدر أحيانا بالتشديد عليهم لم تكن تنفّذ، وأنهم كانوا يعملون فى مختلف الأعمال حتى الوظائف الديوانية وأعمال الخراج. وكان كثير منهم-وخاصة من النصارى-يعيشون فى نعيم غدق لما يصير إليهم من الطب والصيرفة والأعمال التجارية المربحة.

(1) طبرى 9/ 171 وانظر 9/ 196.

(2)

طبرى 9/ 272.

(3)

طبرى 10/ 9.

(4)

النجوم الزاهرة 3/ 165.

(5)

كتاب الوزراء ص 245 وانظر ص 95.

ص: 66