المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الحسين بن الضحاك - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٤

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الثانى

- ‌الفصل الأوّل:الحياة السياسية

- ‌1 - استيلاء الترك على مقاليد الحكم

- ‌2 - تدهور الخلافة

- ‌3 - ثورة الزنج

- ‌4 - ثورة القرامطة

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثّانى:الحياة الاجتماعية

- ‌1 - طبقات المجتمع

- ‌2 - الحضارة والترف والملاهى

- ‌3 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌4 - المجون والشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالث:الحياة العقلية

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة وتفلسف

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد والتاريخ

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه

- ‌5 - الاعتزال وانبثاق المذهب الأشعرى

- ‌الفصل الرّابع:نشاط الشعر

- ‌1 - علم الشعراء بأسرار العربية

- ‌2 - ذخائر عقلية خصبة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - نمو الموضوعات الجديدة

- ‌5 - نمو الشعر التعليمى

- ‌الفصل الخامس:أعلام للشعراء

- ‌1 - على بن الجهم

- ‌2 - البحترى

- ‌3 - ابن الرومى

- ‌4 - ابن المعتز

- ‌5 - الصنوبرى

- ‌الفصل السّادس:شعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الخلفاء العباسيين

- ‌مروان بن أبى الجنوب أبو السمط

- ‌أبو بكر الصولى

- ‌2 - شعراء الشيعة

- ‌ محمد بن صالح العلوى

- ‌الحمّانى العلوىّ

- ‌المقجّع البصرىّ

- ‌3 - شعراء الثورات السياسية

- ‌ محمد بن البعيث

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌ أبو على البصير

- ‌ أحمد بن أبى طاهر

- ‌ ابن دريد

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ الصّيمرى

- ‌الحمدونى

- ‌ابن بسام

- ‌الفصل السّابع:طوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل وشاعراته

- ‌فضل

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ الحسين بن الضحاك

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف

- ‌ الحلاّج

- ‌الشبلىّ

- ‌4 - شعراء الطرد والصيد

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌جحظة

- ‌الخبز أرزىّ

- ‌الفصل الثامن:نشاط النثر

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطابة والمواعظ والنثر الصوفى

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التّاسع:أعلام الكتاب

- ‌2 - الجاحظ

- ‌3 - ابن قتيبة

- ‌4 - سعيد بن حميد

- ‌5 - أبو العباس بن ثوابة

- ‌خاتمة

الفصل: ‌ الحسين بن الضحاك

وهى خمرية بديعة لعب فيها خيال الناشئ بفكرة ضوء الخمر، فهى تارة تحيل الشمس ظلاما، ونارة ترى وكأنما لا يحملها إناؤها أو قل كأسها الزجاجى.

وهى متناهية فى الرقة حتى لتكاد تتميز من الماء حين يمزج بها، وهى أيضا متناهية فى الصفاء حتى ليرى الجو الصافى كدرا بالقياس إليها، وهى داء ودواء وسقام وشفاء. ونقف عند ثلاثة اشتهروا باللهو والمجون فى العصر. وهم‌

‌ الحسين بن الضحاك

وأبو الشبل البرجمىّ وعبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع.

الحسين (1) بن الضحاك

من كبار الخلعاء المجان، ولد بالبصرة ونشأ بها، ثم تركها إلى بغداد لعصر الأمين. وربما قبل عصره، فقد عاش دهرا طويلا، وكان ظريفا، فاتخذه الأمين نديما له، ونادم من بعده المعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر ابنه. وقد جزع جزعا شديدا حين توفى الأمين، ورثاه مراثى كثيرة، وكان مما قال فيه باكيا متفجعا.

هلا بقيت لسدّ فاقتنا

فينا وكان لغيرك التّلف

قد كان فيك لمن مضى خلف

فاليوم أعوز بعدك الخلف

فلما جاء المأمون من خراسان إلى بغداد علم بموقفه منه، وأنه طالما نظم أشعارا ضد طاهر بن الحسين قائده فى حرب الأمين كما نظم أشعارا يبكى بها بغداد حين ضربها طاهر بالمجانيق. وكان أشد ما أسخطه عليه البيتان السالفان ودعاؤه فيهما عليه بالتلف، فلما ذكر له فى الشعراء قال: لا حاجة لى به ولا يرى وجهى إلا على قارعة الطريق أى فى مواكبه العامة. وظل لا يقرب القصر طوال خلافة المأمون، بل لقد بارح بغداد إلى البصرة، حتى إذا خلفه المعتصم استقدمه من موطنه وقرّبه منه، فمضى يمدحه وينال جوائزه، وقد أقطعه كما أقطع رجال

(1) انظر فى ترجمة الحسين بن الضحاك وأشعاره ابن المعتز ص 268 وتاريخ بغداد 8/ 54 والأغانى (طبع دار الكتب) 7/ 143 ومعجم الأدباء وابن خلكان ومرآة الجنان 2/ 156 وشذرات الذهب 2/ 123 وأشعار الخليع الحسين بن الضحاك جمع وتحقيق عبد الستار فراج (طبع دار الثقافة ببيروت).

ص: 462

حاشيته دارا فى سامرّاء، واتخذه الواثق نديما له، وله فيه مدائح كثيرة، وخلفه المتوكل فسلكه فى ندمائه، وكذلك صنع ابنه المنتصر، وله فيه مدائح مختلفة مثل أبيه، ومن قوله فى تهنئته له بالخلافة:

هنتك أمير المؤمنين خلافة

جمعت بها أهواء أمة أحمد

وأعجب المنتصر بالقصيدة، فقال له: إن فى بقائك بهاء للملك، ولحق بعده عصر المستعين، وفيه توفى سنة 251 للهجرة.

وكان يعرف باسم الخليع لكثرة مجونه وعكوفه على الخمر، حتى أصبح اسمه مقرونا باسم أبى نواس أكبر ماجن فى العصر السابق، وهو مثله فارسى الأصل، وكان يصحب فى شبابه، ويبدو أنه تمثل أشعاره تمثلا نادرا وخاصة أشعار الخمر والمجون، حتى اختلط الأمر على القدماء فنسبوا كثيرا من أشعاره إلى أبى نواس، وزعم نفر منهم أن أبا نواس كان يحاكيه فى بعض أشعاره، والصحيح أن الحسين هو الذى كان يحاكى أستاذه وأستاذ الخمر والمجون فى العربية عامة. ويقول ابن المعتز إنه كان أنقى من أبى نواس شعرا وأقل تخليطا منه، وهى ملاحظة صحيحة غاية الصحة، فإن أبا نواس كان يختلط بأبناء الشعب البغدادى من المجّان وغيرهم فى الحانات بالكرخ وغير الكرخ وفى الأديرة، وكان لا يرتفع بلغته وألفاظه عنهم، بل كان يدنو منهم دنوّا شديدا. وكان ينظم كثيرا من خمريّاته فى أثناء سكره، فبدا فى أشعاره تخليط كما لاحظ ابن المعتز، فهو تارة يرتفع حين ينظم فى مجلس الأمين أو فى مجلس بعض الوزراء والنابهين، وتارة يسفّ حين ينظم فى مجالس العامة، وخاصة حين يخاطب غلمان الحانات وكانوا أخلاطا من الفرس ممن لا يحسنون العربية الفصيحة. أما الحسين فكان فى جمهور حياته يعيش فى قصور الخلفاء والوزراء وأبنائهم، فكان يعنى أشد العناية بلغته وألفاظه، ولا يكتفى فيها بالفصاحة بل يطلب أيضا الرصانة والجزالة حينا، وحينا العذوبة والنعومة وما يلائم الأذواق الرفيعة فى المجتمع، لذلك قل التخليط عنده كما يلاحظ ابن المعتز، بل كاد ينعدم انعداما، ولذلك أيضا شاع فى أشعاره النقاء والصفاء إذ كان يطلب فيها دائما أن تلذ الأسماع والأفئدة. وظاهرة ثانية يختلف فيها عن أستاذ المجون والخمر فى عصره هى شئ من الحشمة المصطنعة فى مجونه، فهو لا يذيع فيه ما يذيعه

ص: 463

أبو نواس من الفحش، لأنه كان يعيش فى أوساط الخلفاء والوزراء وأبنائهم، فكان يحتشم وقلما يعلن أنه يقترف إثما منكرا، أما أبو نواس فلم يكن يعرف شيئا من الحشمة ولا كان يخفى شيئا من آثامه. وليس معنى ذلك أن الحسين كان أقل من أبى نواس مجونا وشغفا بالخمر، فقد كان مثله مفتونا بها فتنة شديدة، وكان يطلبها فى الحانات وفى الأديرة وكان دائم الاختلاف إليها، ومن طريف ما نظمه فى دير سابر بقرب بغداد وخمره المعتقة قوله:

وعواتق باشرت بين حدائق

ففضضتهنّ وقد حسن صحاحا (1)

اتبعت وخزة تلك وخزة هذه

حتى شربت دماءهن جراحا

أبرزتهنّ من الخدور حواسرا

وتركت صون حريمهنّ مباحا

وهو يصور فتنته بزقاق الخمر الممتلئة التى لم يمسسها أحد قبله، وقد ضحكت الطبيعة فى دير سابر من حوله، وهو يفتح الزقاق ويشرب من دمائها أرطالا. وكان يختلف إلى ديارات العراق عامة، وله فى دير سرجس بالقرب من الكوفة قصيدة بديعة، يقول فيها:

أخوىّ حىّ على الصّبوح صباحا

هبّا ولا تعدا النديم رواحا

مهما أقام على الصّبوح مساعد

وعلى الغبوق فلن أريد براحا (2)

عودا لعادتنا صبيحة أمسنا

فالعود أحمد مغتدى ومراحا

هل تعذران بدير سرجس صاحبا

بالصّحو أو تريان ذاك جناحا

إنى أعيذكما بألفة بيننا

أن تشربا بقرى الفرات تراحا (3)

عجّت قواقزنا وقدّس قسّنا

هزجا وأصخبنا الدّجاج صياحا (4)

وهو يتلطف إلى صاحبيه فى آخر الليل ويدعوهما أن يتناولا معه الصبوح كما تناولاه بالأمس، ويعذراه ولا يريا فى ذلك جناحا ولا إثما، ويستحلفهما بما

(1) العواتق: زقاق الخمر.

(2)

الصبوح: شرب الصباح، والغبوق: شرب الماء.

(3)

الماء القراح: الماء الصافى.

(4)

القواقز: القداح. وقدس القس: رتل بعض التراتيل.

ص: 464

بينهما وبينه من ألفة ومودة وأخوة ألا يشربا ماء الفرات النمير، بل يشربا معه صبوحه المسكر المحبب إلى نفسه. وكان أبو عيسى بن الرشيد يدفع غلامه «يسرا» إلى معابثته فكان ينظم فيه بعض غزله، وكذلك كان المتوكل يدفع غلامه «شفيعا» إلى العبث به، وكان وضئ الوجه مثل يسر فكان ينظم فيه أيضا بعض الغزل.

وواضح أنه غزل كان يراد به إلى الهزل وإضحاك المتوكل وأبى عيسى. وله فى الغزل عامة شعر كثير من مثل قوله:

وصف البدر حسن وجهك حتى

خلت أنى-وما أراك-أراكا

وإذا ما تنفّس النّرجس الغ

ضّ توهّمته نسيم شذاكا

خدع للمنى تعلّلنى في

ك بإشراق ذا وبهجة ذاكا

لأدومنّ يا حبيبى على الو

دّ لهذا وذاك إذ حكياكا

والقطعة رائعة التصوير وتسيل عذوبة، وهى عذوبة تشيع فى كثير من أشعاره الغزلية والخمرية، وهى طبيعية لشاعر كان يعيش فى قصور الحلفاء ومجالسهم، ويسمع فى كل ليلة أوتار العيدان والطنابير والمعازف من كل لون، مما جعل أذنه الموسيقية ترهف إرهافا شديدا، فإذا كثير من شعره يتحول ألحانا وأنغاما خالصة على شاكلة قوله:

عالم بحبّيه

مطرق من التّيه

يوسف الجمال وفر

عون فى تعدّيه

وهو غير مكترث

للذى ألاقيه

لا وحقّ ما أنا من

عطفه أرجّيه

ما الحياة نافعة

لى على تأبّيه

النعيم يشغله

والجمال يطغيه

والقطعة من وزن عباسى حديث هو وزن المقتضب، وهى تطير عن الفم بخفة. ولم يقف تأثير الغناء وآلات الطرب لعصره فى شعره عند الملاءمة بين

ص: 465

جرس الكلمات، بل تجاوز ذلك إلى الأوزان، فكان يفزع إلى مجزوءاتها كثيرا إرضاء لآذان السامعين، وحتى يتيح للمغنين والمغنيات فى شعره الفرص كى يجهروا بألفاظه ويهموا بها حسب حاجاتهم الغنائية.

أبو الشبل (1) البرجمىّ

اسمه عاصم بن وهب، ولد بالكوفة ونشأ وتأدّب بالبصرة، يقول أبو الفرج:

«قدم إلى سامرّاء فى أيام المتوكل ومدحه، وكان طبّا نادرا، كثير الغزل، ماجنا فنفق عند المتوكل بإيثاره العبث، ونادمه وخصّ به فأثرى» ثم يذكر بعض مديحه للمتوكل وما أسبغ عليه من عطاياه. ويبدو من اصطفاء المتوكل له أنه كان ظريفا خفيف الروح، ويقصّ ابن المعتز بعض نوادره، مما يدل على أنه كان فكه المحضر. وكان خليعا مثل الحسين بن الضحاك يسرف على نفسه فى المجون ويتهالك على اللذات، ويطلبها فى الحانات وفى الديارات، ويقول من ترجموا له إنه كان عاكفا على الشراب لا يفارقه، ولا يوجد إلا سكران قد أخذ منه السكر مأخذا شديدا. ويقولون إنه كان يتطرّح فى الديارات والحانات ومواطن اللهو، لا يغبّها ولا يتأخر عنها، بل دائما فى حانة أو فى دير أو فى بستان أو متنزّه وقد شرب وأغرق فى الشرب حتى لم يعد يستطيع أن يقف على قدميه، بل لم يعد يستطيع حراكا. وكان كثير الاختلاف إلى دير أشمونى بقرية قطربّل شمالىّ بغداد وكانت القرية أشبه بحانة كبيرة يختلف إليها أصحاب البطالة والمجون. وكان عيد هذا الدير فى اليوم الثالث من أكتوبر، وكان يجتمع فيه كل من ببغداد من أهل الطرب واللهو، يخرجون إليه جماعات، منهم من يركب السفن النهرية بدجلة، ومن يركب الخيل المطهمة، وينزلون فى أكناف القرية وحاناتها وديرها الكبير ضاربين خيامهم وفساطيطهم، وكلّ فد أعدّ ما استطاع لقصفه ولهوه، والقيان تعزف عليهم، وآلات الطرب تسمع فى كل مكان، والناس يطربون ويشربون وقد يرقصون طربا واستحسانا لما يسمعون. وطبيعى أن يتأثر الماجن الكبير أبو الشبل

(1) انظر فى أبى الشبل وأخباره وأشعاره طبقات الشعراء لابن المعتز ص 380 والأغانى (طبع دار الكتب المصرية) 14/ 193 ومعجم الشعراء للمرزبانى ص 123 والديارات للشابشىّ ص 50 وما بعدها.

ص: 466

بمناظر هذا العيد، وقد أخذ الشراب منه مأخذا عظيما فيتغنّى بمثل قوله:

شهدت مواطن اللذّات طرّا

وجبت بقاعها بحرا وبرّا

فلم أر مثل أشمونى محلاّ

ألذّ لحاضريه ولا أسرّا

به جيشان من خيل وسفن

أناخا فى ذراه واستترّا

كأنهما زحوف وغى ولكن

إلى اللذات ما كرّا وفرّا

سلاحهما القواقز والقنانى

وأكواس تدور هلمّ جرّا (1)

وضربهما المثالث والمثانى؟ ؟ ؟

إذا ما الضرب فى الحرب استحرّا

وكان مثل الحسين وعامة مجّان عصره يكثر من الغزل، وكان يستهتر فيه أحيانا ويتهتك ويتمدح بالتهتك والاستهتار مسفّا فى شعره. وكأنما كان ينظم مثل هذا اللون من الغزل للمجان من أمثاله مشيعا فيه غير قليل من الفحش. وكان ينظم بجانبه غزلا آخر لا يسفّ فيه هذا الإسفاف، بل يبقى فيه على مروءته وكرامته إن كان للمجان من أضرابه فضل من كرامة، على شاكلة قوله:

بأبى ريم رمى قل

بى بألحاظ مراض (2)

وحمى عينى أن تل

تذّ طيب الإغتماض

كلما رمت انبساطا

كفّ بسطى بانقباض

أو تعالى أملى في

هـ رماه بانخفاض

فمتى ينتصف المظ

لوم والظالم قاضى

والأبيات خفيفة. ولكنه لا يلحق الحسين بن الضحاك فى عذوبة نغمه وخفة روحه وحرارة عاطفته. وكان الحسين أعف منه لسانا إذ لم يكن يسف إلى الفحش إسفافه. وقد عمّر عمرا طويلا حتى وهن العظم منه واشتعل الرأس شيئا وبلغ من الكبر عتيّا. وكان طبيعيّا أن ينصرف عنه حينئذ الجوارى. وفى ذلك يقول:

عذيرى من جوارى الحىّ

إذ يرغبن عن وصلى

(1) القواقز: القداح كما مرّ. والأكواس: الكئوس.

(2)

الريم: الظبى خالص البياض.

ص: 467

رأين الشيب قد ألب

سنى أبّهة الكهل

فأعرضن وقد كنّ

إذا قيل أبو شبل

تساعين فرقّعن ال

كوى بالأعين النّجل (1)

ومرّ بنا هجاء الخنساء جارية هشام المكفوف له، وله فيها هجاء مسف إسفافا شديدا، وهو فى هجائه يفحش إلى درجة بعيدة تؤذى الأذواق السليمة. وكان قد اشترى كبشا لعيد الأضحى فظل يعلفه ويسمّنه، وأفلت يوما منه على قنديل كان يسرجه بين يديه وعلى سراج وقارورة للزيت، فكسر القنديل وانصبّ الزيت على ثيابه وكتبه وفراشه، فلما رأى منه ذلك ذبحه قبل الأضحى، ونظم قصيدة فى رثاء قنديله يقول فيها:

يا عين بكّى لفقد مسرجة

كانت عمود الضياء والنور

صينيّة الصين حين أبدعها

مصوّر الحسن بالتصاوير

مسرجتى كم كشفت من ظلم

جلّيت ظلماءها بتنوير

إن كان أودى بك الزمان فقد

أبقيت منك الحديث فى الدّور

ومضى يصور كيف انتقم للمسرجة، فذبح الكبش ومزقه بالمدى وألقى به فى القدور وكيف أن السّنانير والحدأة والغربان والكلاب طعمت من لحمه وعظامه، وكان ذلك عرسا لها جميعا بدون مزامير ومغنين. وتلك عاقبة البغى، مصرعه وخيم.

ودخل داره بعض أصدقائه ورأى أن يعبث به، ولفته ثلث قرطاس كان يحتفظ به أبو الشبل، فأخذه ولم يعلمه بما صنع، فلما مرت بعض أيام جاء صديقه، فأنشده مرثية طويلة لذلك الجزء من القرطاس، وفيه يقول:

فكر تعترى وحزن طويل

وسقيم أنحى عليه النّحول

ليس يبكى رسما ولا طللام

حّ كما تندب الرّبى والطّاول (2)

إنما حزنه على ثلث كا

ن لحاجاته فغالته غول (3)

(1) الكوى: الخروق فى الأبواب والنوافذ.

(2)

مح: عفا ودرس.

(3)

غالته: أهلكته.

ص: 468

كان للسرّ والأمانة والكت

مان إن باح بالحديث الرسول

وضحك صديقه طويلا. واعترف له بأخذه، وردّه عليه. وهذا هو أبو الشبل ماجن خليع، يسرف فى الخلاعة والمجون، بل فى الاستهتار والتهتك، وهو مع ذلك صاحب نوادر، لا نوادر يحكيها فحسب، بل نوادر حدثت له كان يحكيها وينظم فيها أشعاره.

عبد الله (1) بن العباس بن الفضل بن الربيع

حفيد الفضل بن الربيع وزير الرشيد والأمين، نشّئ فى الحلية والترف والنعيم، وقد عنى أبوه بتعليمه وتثقيفه حتى أحسن الشعر، وكان يقوله على الطبيعة مرسلا نفسه على سجيتها، لا يتكلف فيه ولا يتعمّل. ويقول أبو الفرج شعره مطبوع ظريف مليح المذهب من أشعار المترفين وأولاد النعم، ويقول: كما كان شاعرا مطبوعا كان مغنيا محسنا جيد الصنعة. ويقال إن سبب تعلمه الغناء أنه تعلق بجارية لعمّته رقيّة كانت تتقن الغناء، تسمى عاليج، شغفت قلبه حبّا. فكان يلزمها بعلة الغناء. وكان يأخذ عنها وعن صواحبها ما أحسنّه من الأصوات والأدوار، حتى أقررن له بالحذق. وصار يلازم من يختلفون إلى بيته من المغنين أمثال إسحق الموصلى. وكاد لا يترك لهم صوتا دون أن يأخذه. وكان جوارى الحارث بن بسخنّر وابنه محمد يدخلن إلى داره فيطرحن على الجوارى بها ما ليس عندهن من غناء.

وكل ذلك أتاح له أن يتثقف بالغناء، بل أن يصبح ماهرا فيه. وترتفع شهرته فى إحسانه إلى آذان الخلفاء، فيطلبونه اسماع أغانيه، وكان أول من طلبه الواثق، وله فيه أصوات مدحه بها. وغنّاه فيها فملأه طربا، من ذلك ما يروى من أن الواثق عوفى من مرض ألمّ به فطلبه مع طائفة من المغنين، فلما صار قريبا من مجلسه بحيث يسمع صوته ضرب على عود مغنيا بيتين قالهما فى طريقه إليه على هذا النمط:

(1) انظر فى عبد الله وحياته وأشعاره الأغانى (طبعة الساسى) 17/ 121 وتاريخ بغداد 10/ 36 والديارات ص 63 وما بعدها وذيل زهر الآداب ص 115

ص: 469

اسلم وعمّرك الإله لأمة

بك أصبحت قهرت ذوى الإلحاد

لو تستطيع وقتك كلّ أذيّة

بالنفس والأموال والأولاد

وكان الواثق يغمره بجوائزه وصلاته، وغمره من بعده المتوكل بالأموال، ويقصّ صاحب الأغانى من ذلك بعض أخبار، وله فيه أيضا مدائح قصيرة كان يغنيه بها فيهتز طربا، وفيه يقول:

أكرم الله الإمام المرتضى

وأطال الله فينا عمره

سرّه الله وأبقاه لنا

ألف عام وكفانا الفجره

وكان يغنى الخليفتين والمنتصر من بعدهما فى غزل كثير من أشعار السابقين وفى كثير من غزله الذى نظمه فى عساليج وفى غيرها من الجوارى اللائى فتنّ قلبه وفى مقدمتهن مصابيح جارية الأحدب المقيّن وكانت تغنى فى كثير من شعره.

وهى جارية نصرانية هام بها قلبه هياما شديدا، ويقال إنه كان يلزم بيع النصارى فى أعيادهم من أجلها شغفا بها، وفيها يقول:

تتثنّى بحسن جيد غزال

وصليب مفضّض آبنوس

كم رأيت الصليب فى الجيد منها

كهلال مكلّل بشموس

وتتردّد فى غزله أسماء الأعياد المسيحية كما يتردد ذكر كثير من الديارات مثل دير سرجس ودير قوطا القريب من بغداد، وكان ينزل فيهما أياما مع بعض رفاقه، يشربون ويقصفون ويمجنون، وله يصوّر ما كان من هذا المجون والقصف والشراب مع بعض صحبه فى دير قوطا، إذ يقول:

يا دير قوطا لقد هيجت لى طربا

أزاح عن قلبى الأحزان والكربا

كم ليلة فيك واصلت السرور بها

لما وصلت لها الأدوار والنّخبا

فى فتية بذلوا فى القصف ما ملكوا

وأنفقوا فى التّصابى المال والنّشبا (1)

(1) النشب: المال والعقار.

ص: 470

وهو يكثر من الحديث عن صاحبته النصرانية وعن جوارى البيع والأديرة، وكأنما كان قلبه يتبعهن جميعا ويتمنى لو استطاع أن يجنى معهن زهرات الحب، أو لو أتيح له ذلك من حين إلى حين، ومن قوله فى إحدى جوارى الدير السالف:

وشادن ما رأت عينى له شبها

فى الناس لا عجما منهم ولا عربا

إذا بدا مقبلا ناديت واطربا

وإن مضى معرضا ناديت: واحربا

ويصرّح مرارا بأنه لا يحب سوى خمر الأديرة المعتقة، لما كان يخامره فيها من سكرين: سكره بالخمر الحقيقية وسكره برؤية الراهبات المتبتلات ومن يراهن هناك من العذارى الفاتنات. وله يتحدث عن خمر قرية من قراهن تسمى كركين وعن يوم الشعانين وهو العيد المسيحى الذى يقع فى يوم الأحد قبل عيد الفصح:

ألا اصبحانى يوم الشّعانين

من قهوة عتّقت بكركين

عند أناس قلبى بهم كلف

وإن تولّوا دينا سوى دينى

ومن الحق أنه لم يكن يبقى لنفسه شيئا من الحشمة فى مجونه، وهو من هذه الناحية شبيه بأبى الشبل، بعيد الشبه من الحسين بن الضحاك مع أنه كان مثله يعاشر الخلفاء والأمراء، وكأن هذه العشرة كانت شيئا سطحيّا، وهو نفسه كان حفيد وزير ومن أسرة رفيعة أو أرستقراطية. وربما جاءه ذلك من أنه كان لا يفيق من الخمر، إذ يقول أبو الفرج إنه كان يشرب الصّبوح كل يوم من دهره ما عدا أيام الجمع وشهر رمضان، فهو نهاره سكران، وكذلك كان ليله. ومثله يسفّ ويهبط إلى الدنيّات، لذلك لا نعجب إذا رأينا الشابشتى يقول عنه:«كان صاحب غزل ومجون كثير التطرح فى الديارات والحانات والاتّباع لأهل اللهو والخلاعة» . ومع ذلك له غزل كثير رقيق اشتهر به بين معاصريه، ويروى أن ابن الزيات وزير الواثق وكان أديبا بارعا فى الشعر والنثر قال له: أنشدنى شيئا من شعرك، فقال إنما أعبث ببعض الأبيات، ولست بمكان من ينشدك شعره، فقال له: أتقول هذا وأنت القائل:

ص: 471

يا شادنا رام إذ م

رّ فى الشعانين قتلى

تقول لى كيف أصبح

ت كيف يصبح مثلى

أنت والله أغزل الناس وأرقهم شعرا، ولو لم تقل غير البيت الأخير لكفاك ولكنت شاعرا مجيدا. وروى له الأغانى أشعارا كثيرة كان يغنى فيها هو وعساليج ومصابيح وغيرهما من مغنيات العصر ومغنيه. ومن الأصوات التى طرب لها الواثق طربا شديدا حين غنّاه بها قوله:

بأبى زور أتانى بالغلس

قمت إجلالا له حتى جلس

فتعانقنا جميعا ساعة

كادت الأرواح فيها تختلس

قلت يا سؤلى ويا بدر الدّجى

فى ظلام الليل ما خفت العسس

قال: قد خفت ولكنّ الهوى

آخذ بالروح منى والنّفس

زارنى يخطر فى مشيته

حوله من نور خدّيه قبس

والقطعة بديعة فى خواطرها وفى تصويرها للهيام بالمعشوق، وللمعشوق نفسه وجماله الساحر الوضئ، وأيضا فى صياغتها وموسيقاها. وشعر عبد الله كله شعر وافر الموسيقى، وهو شئ طبيعى لأنه كان يغنيه ويوقعه على آلات الطرب، وكان الجوارى والمغنون من حوله يغنون فيه، فكان يضعه فى نسق موسيقى، تشترك فيه آذانه الداخلية: أذن الشاعر وأذن المغنى وأذن الموسيقىّ، شركة تصفيه من كل الأدران، فإذا ألفاظ الشعر متلاحمة مع قوافيه تلاحما إلى أبعد حدود الدقة، فلا عوج ولا انحراف لا فى لفظ بل لا عوج ولا انحراف فى حرف ولا فى حركة، إذ يعمّ الانسجام والإحكام.

وهذا الأثر الموسيقى فى الألفاظ والحروف والحركات كان يرافقه أثر آخر فى الأوزان إذ نرى عبد الله يشغف بالأوزان المجزوءة والأخرى القصيرة حتى يوفر لأغانيه أو قل لبعضها كل ما يريد من خفة ورشاقة موسيقية.

ص: 472