المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌5 - الزهد والتصوف - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٤

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الثانى

- ‌الفصل الأوّل:الحياة السياسية

- ‌1 - استيلاء الترك على مقاليد الحكم

- ‌2 - تدهور الخلافة

- ‌3 - ثورة الزنج

- ‌4 - ثورة القرامطة

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثّانى:الحياة الاجتماعية

- ‌1 - طبقات المجتمع

- ‌2 - الحضارة والترف والملاهى

- ‌3 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌4 - المجون والشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالث:الحياة العقلية

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة وتفلسف

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد والتاريخ

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه

- ‌5 - الاعتزال وانبثاق المذهب الأشعرى

- ‌الفصل الرّابع:نشاط الشعر

- ‌1 - علم الشعراء بأسرار العربية

- ‌2 - ذخائر عقلية خصبة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - نمو الموضوعات الجديدة

- ‌5 - نمو الشعر التعليمى

- ‌الفصل الخامس:أعلام للشعراء

- ‌1 - على بن الجهم

- ‌2 - البحترى

- ‌3 - ابن الرومى

- ‌4 - ابن المعتز

- ‌5 - الصنوبرى

- ‌الفصل السّادس:شعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الخلفاء العباسيين

- ‌مروان بن أبى الجنوب أبو السمط

- ‌أبو بكر الصولى

- ‌2 - شعراء الشيعة

- ‌ محمد بن صالح العلوى

- ‌الحمّانى العلوىّ

- ‌المقجّع البصرىّ

- ‌3 - شعراء الثورات السياسية

- ‌ محمد بن البعيث

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌ أبو على البصير

- ‌ أحمد بن أبى طاهر

- ‌ ابن دريد

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ الصّيمرى

- ‌الحمدونى

- ‌ابن بسام

- ‌الفصل السّابع:طوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل وشاعراته

- ‌فضل

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ الحسين بن الضحاك

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف

- ‌ الحلاّج

- ‌الشبلىّ

- ‌4 - شعراء الطرد والصيد

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌جحظة

- ‌الخبز أرزىّ

- ‌الفصل الثامن:نشاط النثر

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطابة والمواعظ والنثر الصوفى

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التّاسع:أعلام الكتاب

- ‌2 - الجاحظ

- ‌3 - ابن قتيبة

- ‌4 - سعيد بن حميد

- ‌5 - أبو العباس بن ثوابة

- ‌خاتمة

الفصل: ‌5 - الزهد والتصوف

الجبّائى. وكان أهم من ورث عن ابن الراوندى إلحاده وزندقته وطعنه على الدين الحنيف، بل على جميع الديانات الطبيب أبو بكر محمد (1) بن زكريا الرازى المتوفى سنة 320، وكان كيميائيّا ماهرا إلا أنه اتبع هواه وضل ضلالا بعيدا إذ مضى على هدى ابن الراوندى وأشباهه ينكر النبوات وألف فى ذلك كتابه «مخاريق الأنبياء» وسقط بدوره من يد الزمن، إلا أن أبا حاتم الرازى أورد فى كتابه «أعلام النبوة» اقتباسات كثيرة منه ردّ عليها ونقضها نقضا، وقد حلّلها الدكتور بدوى تحليلا (2) جيدا، وأظهر أنه يتابع فى حججه وأدلته ابن الراوندى، فالعقل يكفى وحده لمعرفة الخير والشر، ولا حكمة ولا داعى لإرسال الأنبياء، وأيضا لا معنى لأن يخصّ الله نفرا (يريد الأنبياء) من البشر لإرشادهم وتوجيههم، والناس جميعا متساوون فى الفطن والمواهب. وبرهانه المنكسر ما ذكره من أن الأنبياء متناقضون فيما بينهم، زاعما أن اختلافهم لم يصدروا فيه عن الله جاهلا بأنه كان من حكمة الله أن يحدث هذا الاختلاف تخفيفا على الناس ورحمة بهم.

وينقد الأديان عامة ويدخل فيها ديانات المجوسية، كما ينقد الكتب المقدسة، ويزعم أنها جميعها زاخرة بالتناقض، وأن خيرا منها للناس العلوم التى استنبطها الفلاسفة والعلماء بعقولهم. وهو خلط بين حاجات البشر المادية وحاجاتهم الروحية.

ولعل فى هذا كله ما يصور نشاط الملحدين والزنادقة فى العصر وكان لهم المعتزلة والمتكلمون بالمرصاد فنقضوا آراءهم وأوضحوا ما فيها من فساد وزيف ودحضوها دحضا.

‌5 - الزهد والتصوف

يجب ألا يتبادر إلى الأذهان من حديثنا عن الزندقة والشعوبية والمجون فى العصر العباسى الثانى أنه كان عصرا ملحدا غلبت عليه العنصرية كما غلب المجون

(1) انظر فى ترجمته الفهرست ص 518 وابن أبى أصيبعة والقفطى ص 271 ودائرة المعارف الإسلامية.

(2)

انظر كتاب من تاريخ الإلحاد فى الإسلام ص 198.

ص: 104

والإلحاد وانحلال الأخلاق فإن ذلك إنما كان يشيع فى طبقات خاصة، أما المجون فكان يشيع فى الطبقة المترفة، وأما الشعوبية فكانت تشيع بين نفر من أبناء الأعاجم، وبالمثل الزندقة كانت مقصورة على أفراد. ومن الخطر أن نجعل ذلك كله صفات عامة للمجتمع، فقد كان المجتمع مجتمعا إسلاميّا، وكانت الطبقة العامة فيه حسنة الإسلام تتمسك بفرائضه وسننه وشعائره، ولم تكن تعزف الترف ولا ما يجر إليه من مجون وانحلال وفساد فى الأخلاق، إنما كانت تعرف الشظف والبؤس والحرمان، وكانت ساخطة سخطا شديدا على المجان وعلى الشعوبيين والملحدين من أعداء الإسلام والعروبة.

وإذا كانت الحانات ودور النخاسة اكتظت فى بغداد وسامراء وغيرهما من مدن العراق بالخمر والقيان والضرب على الآلات الموسيقية، وشركتها فى ذلك البساتين والأديرة من بعض الوجوه فإن مساجد سامراء وبغداد وغيرهما كانت مكتظة بالعبّاد والنسّاك وكانوا أكثر كثرة من المجّان وأهل الفساد. وكان فى كل مسجد حلقة، بل حلقات لوعاظ مختلفين كانوا لا يزالون يذكّرون الناس بالله واليوم الآخر وأنهم معروضون يوم الحساب فإما إلى الجنة والنعيم وإما إلى النار والجحيم. واختلط الوعظ بقصص دينى كثير على نحو ما صوّرنا ذلك فى كتاب العصر العباسى الأول، وكثر حينئذ النساك والزهاد فى متاع الحياة الدنيا، وعاشوا معيشة كلها شظف وتقشف وتبتل وعبادة، واقرأ فى تراجم الفقهاء والمحدّثين لهذا العصر فستجدهم أو على الأقل ستجد كثرتهم وهم يعدّون فى العالم الإسلامى بالمئات إن لم يكن بالآلاف قد أخذوا أنفسهم بالانصراف عن متاع الحياة الدنيا، بل لكأنما تجرّدوا للجهاد فى سبيل ذلك أسوة بزاهد الأمة الأول محمد صلى الله عليه وسلم، منتظرين، ما عند الله من النعيم الخالد الذى لا يزول. ويكفى أن نرجع إلى ترجمة واحد منهم مثل إبراهيم (1) بن إسحق الحربى، وكان من كبار المحدثين، وكان لا يأخذ على محاضراته فى الحديث أجرا من أحد، إذ عزف عن كل متاع فى الحياة، وعاش معيشة زاهدة مبالغة فى الزهد إلى أقصى حد، حتى إنه ليرفض

(1) راجع فى ترجمته تاريخ بغداد 6/ 27 ومعجم الأدباء 1/ 112 والأنساب للسمعانى 162 وصفة الصفوة 2/ 228 وشذرات الذهب 2/ 190 والنجوم الزاهرة 3/ 116 ويقال كان يقاس بابن حنبل فى علمه وزهده.

ص: 105

فى إباء أى مال يأتيه من خليفة أو صاحب سلطان أو جاه، ويروى أن المعتضد أرسل إليه بعشرة آلاف درهم مع بعض أتباعه، فردّها، وعاد الرسول يقول له إن المعتضد يسألك أن تفرقها فى جيرانك، فقال له: عافاك الله، هذا ما لم نشغل أنفسنا بجمعه فلا نشغلها بتفرقته، قل لأمير المؤمنين إن تركتنا أقمنا وإلا تحوّلنا عن جوارك.

وظل يلزمه صداع خمسا وأربعين سنة بدون أن يخبر به أحدا، وقد أفنى من عمره ثلاثين سنة لا يأكل إلا رغيفا واحدا فى اليوم والليلة، إن جاءته به زوجته أو إحدى بناته أكله وإلا بقى جائعا ظامئا إلى الليلة الثانية. وهى درجة رفيعة فى الزهد، وكان على غراره كثيرون من المحدثين والفقهاء يصومون الدهر ويعيشون على الكفاف بل على أقل من الكفاف كما يعيشون على العبادة والورع.

وأخذت تتسع فى هذا العصر موجة التصوف، وكانت مقدماتها أخذت تظهر منذ أواخر القرن الثانى الهجرى عند إبراهيم بن أدهم وشقيق البلخى صاحب اليد الطولى فى مبدأ التوكل وإشاعته (1) بين أوائل المتصوفة ومعروف الكرخى الذى أشاع مبدأ المعرفة الإلهية وأنها غاية المتصوف وحدها لا النجاة من عذاب الآخرة (2).

ويعرض القشيرى فى رسالته أقوالا مختلفة فى اشتقاق كلمة صوفى، وهل هى من الصوف لأنهم كانوا يلبسونه تمييزا لهم من أهل الرّفه والتنعم، أو هى من الصّفاء أو هى من الصّفّة نسبة إلى أهل الصفة الذين كانوا ينقطعون للعبادة فى المسجد لعهد الرسول عليه السلام، ولا يدلى القشيرى برأى حاسم، وذهب البيرونى إلى أنها مشتقة من كلمة صوفيا اليونانية بمعنى الحكمة (3). ويبدو أن أوجه الآراء الرأى القائل بأن الكلمة مشتقة من الصوف لأن كثيرين من الزهاد فى القرن الثانى الهجرى كانوا يلبسونه، وشاع لبسه بين المتصوفة بعد ذلك.

ومنذ أواسط القرن الماضى يعنى المستشرقون بدراسة التصوف وبيان التأثيرات الأجنبية التى أثرت فى نشأته وتطوره، وكان من أسبقهم إلى ذلك فون كريمر،

(1) النجوم الزاهرة 2/ 21.

(2)

فى التصوف الإسلامى لنيكلسون ترجمة أبى العلا عفيفى وطبع لجنة التأليف والترجمة والنشر ص 5.

(3)

ما للهند من مقولة للبيرونى (الطبعة الأوربية) ص 16.

ص: 106

وكان يذهب إلى أن التصوف يشتمل على عنصرين أساسيين، عنصر مسيحى وعنصر بوذى هندى، ويتضح العنصر الثانى-عنده-فى فكرة وحدة الوجود التى تمثلها، كما يقول، الحلاج فى أواخر القرن الثالث (1) الهجرى. وذهب نيكلسون فيما بعد إلى أن الحلاج لم يتمثل هذه الفكرة لا هو ولا غيره من متصوفة القرن الثالث.

وممن شدد على التأثير الأجنبى جولد تسيهر، إذ ربط بين التصوف وتعاليم الأفلاطونية الحديثة وما يندرج فيها من مذهب الفيض ووحدة الوجود، كما ربط بينه وبين البوذية (2) الهندية. وخفف من حدة القول بهذا التأثير الأجنبى ماسينيون فى بحوثه عن الحلاج، إذ ذهب إلى أن التصوف نشأ من صميم الإسلام نفسه، وإن تأثر فى الطريق بمؤثرات الثقافة الهيلينية التى كانت منتشرة فى الشرق منذ ميلاد المسيح (3).

وبالمثل خفّف من حدة القول بالتأثير الأجنبى نيكلسون، وإن لاحظه مع مر الزمن، كما هو الشأن عند ذى النون وتأثره فى رأيه بالأفلاطونية الحديثة إذ كان على علم بالحكمة اليونانية الشائعة فى عصره، وأيضا كما هو الشأن عند أبى يزيد البسطامى وتأثره فى رأيه بالفلسفة الهندية الفارسية. على أنه مضى فى بحوثه يعلى من شأن التأثير الإسلامى فى نشأة التصوف، ويقلل من أهمية التأثيرات الأجنبية، وكان أهم معول هدم به القول بهذه التأثيرات ما كان قد تبادر لكثير من الباحثين من إيمان أبى يزيد البسطامى والحلاج بنظرية وحدة الوجود، فقد نفاها عنهما، ولم يثبتها إلا منذ ابن عربى المتوفى سنة 638. وبذلك انتهى إلى القول بأن جميع الأفكار التى وصفت بأنها دخيلة على المسلمين ووليدة ثقافة أجنبية غير إسلامية إنما هى وليده الزهد والتصوف اللذين نشآ فى الإسلام وكانا إسلاميين فى الصميم (4)

وإذن فالتصوف إسلامى فى جوهره وفى نشأته وتطوره، وهو الرأى العلمى الصحيح، ولكى نتصور التصوف فى دقة فى أثناء هذا العصر، يحسن أن نستعرض أئمته الذين غرسوا مبادئه وأحواله ومقاماته ومصطلحاته فى نفوس العصور التالية،

(1) انظر نيكلسون فى مبحثه عن الحلاج ومقدمة عليق.

(2)

العقيدة والشريعة فى الإسلام لجولد تسير (طبعة دار الكاتب المصرى) ص 136 وما بعدها.

(3)

راجع مقدمة عليق لكتاب نيكلسون السالف.

(4)

انظر مقدمة عليق وكتاب فى التصوف الإسلامى فى مواضع مختلفة.

ص: 107

وأولهم الحارث (1) بن أسد المحاسبى المتوفى سنة 234 وقد نشرت له رسائل مختلفة، وهى تدل بوضوح على أنه جدّ فى ربط التصوف بالشريعة على طريقة أهل السنة وكان يعتنق مذهب الشافعى ويرى أن الرافضة خرجوا على حدود الإسلام وملته، ولذلك يروى أنه لما مات أبوه وكان هو فى عوز وإملاق فى حين خلف ابوه ثروة طائلة رفض أن يأخذ منها درهما، لأن أباه كان رافضيّا، وقال: أهل ملتين لا يتوارثان. ومن أهم ما يميزه بين خلفائه ومعاصريه من المتصوفة أنه دعا فى قوة إلى محاسبة النفس ومراقبتها ومجاهدتها وتزكيتها باتباع الكتاب والسنة، وهو أول من فرق بين التوكل على الله وبين الرضا بقضاء الله وأحكامه، وجعله-وتابعه فى ذلك متصوفة العراق-من الأحوال التى لا تكتسب، على حين جعله متصوفة خراسان من المقامات (2)، ورفض أن يفضى التوكل إلى عدم التكسب، فلابد من السعى فى الأرض سعيا ينال به الإنسان الفضل والثواب.

وكان يعاصره ذو النون (3) المصرى المتوفى سنة 245 ويرى نيكلسون أنه الواضع الحقيقى لأسس التصوف، إذ هو-كما يقول ابن تغرى بردى-أول من تكلم فى مصر فى الأحوال والمقامات، ويعمم ذلك نيكلسون، فيجعله لا أستاذ المصريين وحدهم فى التصوف بل أستاذ المشارقة أيضا، وينقل عن تذكرة الأولياء للجامى حديثه عن العارف والمعرفة، وفيه قسم المعرفة ثلاثة أقسام: قسما مشتركا بين عامة المسلمين، وقسما خاصّا بالفلاسفة والعلماء، وقسما خاصّا بالأولياء الذين يرون الله بقلوبهم. وبذلك فصل المعرفة الصوفية عن المعرفة العلمية والفلسفية، فالأولى قلبية، تنزع نحو القلب، وتعتمد على التجربة الحدسية، والثانية عقلية

(1) نشأ فى البصرة ثم انتقل فى شبابه إلى بغداد، انظر فى ترجمته تاريخ بغداد 8/ 211 والأنساب للسمعانى 509 وابن خلكان وطبقات الشافعية السبكى 2/ 275 ومرآة الجنان 2/ 142 والنجوم الزاهرة 2/ 316 والتهذيب لابن حجر 2/ 134 وكتاب طبقات الصوفية للسلمى (طبع باريس) ص 46.

(2)

انظر باب الرضا فى الرسالة القشيرية.

(3)

راجع فى ترجمة ذى النون وآرائه الفهرست ص 517 وطبقات الصوفية السلمى ص 23، وتاريخ بغداد 8/ 393 وتاريخ دمشق لابن عساكر 5/ 271 ومرآة الجنان لليافعى 2/ 149 والنجوم الزاهرة 2/ 320 والطبقات الكبرى الشعرانى 1/ 59 وأخبار الحكماء للقفطى 185 شذرات الذهب 2/ 107 ورسالة القشيرى فى ص 9 وفى مواضع متفرقة ونيكلسون ص 7 وما بعدها.

ص: 108

تعتمد على الأفكار كما تعتمد على المنطق. ومن هنا كان التصوف ليس علما ولا فلسفة ولا مذهبا، وإنما هو أحوال ومقامات، ويقال إنه سئل كيف عرف ربّه؟ فقال:«عرفت ربّى بربى ولولا ربّى لما عرفت ربّى» ، وسئل عن الذكر، فقال:«هو غيبة الذاكر عن الذكر» ، وقال:«ليس من احتجب عن الخلق بالخلوة كمن احتجب عنهم بالله» . وكأنه هو الذى وصل فى قوة بين التصوف وعلم الباطن، أو قل هو الذى فسح فيه للباطن، وقد قال إنه مقصور على الخواص من أهل الله ومن هنا فرق دائما بين الخواص والعوام، ومن قوله:«توبة العوام تكون من الذنوب وتوبة الخواص تكون من الغفلة» . وكان يقول: «إياك أن تكون بالمعرفة مدّعيا» يقصد معرفة الصوفية القلبية القائمة على الإدراك الحدسى. ومن قوله أيضا: «الصوفى من إذا نطق أبان نطقه عن الحقائق وإن سكت نطقت عنه الجوارح بقطع العلائق» وكان يقول إن العارف (الصوفى) لا يلزم ربه فى حالة واحدة وإنما يلزمه فى الحالات كلها. وكانت تجرى فى كلامه ألفاظ المحبة والوجد، وكان يقول علامة التوكل انقطاع المطامع. . . وكان يقول:«من غلامات المحب لله متابعة حبيب الله فى أخلافه وأفعاله وأوامره وسننه» . وفى ذلك ما يدل بوضوح على أنه لم يحدث عنده أى انفصام بين التصوف والشريعة، فهو يكملها بمحتواه وممارساته العملية، بل هو لا يكون له قوام بدونها، وبدون ما شرعت من فرائض ونوافل وعبادة وتقوى.

وكان السّرىّ (1) السّقطى المتوفى سنة 251 شيخ متصوفة بغداد وإمامهم فى وقته، وكان تاجرا فهجر التجارة ولزم بيته وانقطع للعبادة، ويقال إنه أول من تكلم ببغداد فى لسان التوحيد وحقائق الأحوال، أو هو بعبارة أخرى أول من تكلم فى المقامات والأحوال هناك، وبذلك يكون أول تال لذى النون تحدث فيها حديثا مستفيضا. وكان يقول:«التوكل الانخلاع عن الحول والقوة» و: «من علامات المعرفة بالله القيام بحقوق الله» ، وهو بذلك كان يصل بين التصوف والشريعة، بل يجعلها قوامه، ويوضح ذلك أنه سئل عن المتصوف من هو؟ فقال:

(1) راجع فى ترجمة السقطى طبقات الصوفية للسلمى ص 41 وابن خلكان وتاريخ دمشق لابن عساكر 5/ 71 وطبقات الشعرانى 1/ 63.

ص: 109

«هو اسم لثلاثة معان، هو الذى لا يطفئ نور معرفته نور ورعه ولا يتكلم بباطن عن علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب، ولا تحمله الكرامات من الله على هتك أستار محارم الله» (1)، وهو يذكر الكرامات ولعله لم يكن يريد معناها الدقيق الذى عرف للكلمة فيما بعد وأن الله يجرى على أيدى الأولياء ما يشبه معجزات الأنبياء. وكان يكثر من الحديث عن محبة الله منشدا:

من لم يبت والحبّ حشو فؤاده

لم يدر كيف تفتّت الأكباد

ويبدو أنه كان يأخذ نفسه بمجاهدات زهدية وتقشفية عنيفة.

وإذا كان ذو النون هو الذى أدخل فى التصوف بقوة النزعة نحو المعرفة الإلهية، فإن أبا يزيد طيفور (2) بن عيسى البسطامى المتوفى سنة 261 هو الذى أدخل فيه-على ما يظهر-فكرة الفناء فى الذات العلية، وقد أثبت له نيكلسون كثيرا من الأقوال من مثل قوله:«للخلق أحوال ولا حال للعارف لأنه محيت رسومه وفنيت هويّته بهويّة غيره، وغيبّت آثاره بآثار غيره» ، وقوله:«خرجت من الحق إلى الحق حتى صاح منى فىّ: يا من أنت أنا! فقد تحققت بمقام الفناء فى الله» . وروى من أقواله التى تنعكس عليها أفكار وحدة الوجود قوله: «سبحانى ما أعظم شانى» وقوله: «خرجت من بايزيديّتى كما تخرج الحية من جلدها، ونظرت فإذا العاشق والمعشوق والعشق واحد، لأن الكل واحد فى عالم التوحيد» . ويمكن أن يردّ هذان القولان وما ساقه نيكلسون من أقوال له أخرى إلى فكرة الفناء. ومما نسبوه إليه أيضا قصة معراجه إلى السماء وقد قصّها العطار بالتفصيل إذ روى عنه قوله: «صعدت إلى السماء وضربت قبتى بإزاء العرش» . ولا شك فى أنها قصة منحولة عليه هى وأقواله التى قد تفهم منها فكرة وحدة الوجود على نحو ما أشار إلى ذلك الذهبى فى كتابه ميزان الاعتدال إذ قال: «وقد نقلوا عنه أشياء يشك فى صحتها عنه، منها:

«سبحانى» و: «ما فى الجبّة إلا الله» و: «ما النار؟ ! لأستندنّ إليها غدا وأقول

(1) تهذيب ابن عساكر 6/ 78 ونيكلسون ص 29.

(2)

انظر فى ترجمته طبقات الصوفية للسلمى ص 60 وابن خلكان والرسالة للقشيرى فى مواضع مختلفة وطبقات الشعرانى 1/ 65 وميزان الاعتدال للذهبى 2/ 346 والنجوم الزاهرة 3/ 35 ونيكلسون ص 22 وما بعدها.

ص: 110

اجعلنى لأهلها فداء، وما الجنة؟ ! إنها لعبة صبيان. ونسب إليه أهل بلدته بسطام-فى الجنوب الشرقى لبحر الخزر-أنه زعم أن له معراجا إلى السماء كمعراج الرسول عليه السلام». ولعل فى ذلك ما يدل على أنه وضعت على لسانه من قديم أقوال وقصص غريبة، وكأنه تحول شخصية أسطورية فى تاريخ التصوف ورجاله، ويبدو أنه كانت تجرى على لسانه شطحات وعبارات موهمة كثيرة أعدّت لأن تصبح له هذه الشخصية، غير أنه مما لا ريب فيه أنه صاحب فكرة الفناء فى الذات الإلهية، تلك الفكرة التى أخذت مكانا مهمّا فى التصوف الإسلامى. ويبدو أنه أول من أدخل فى التصوف فكرة السكر بجانب فكرة العشق الإلهى، وفى الرسالة القشيرية أن معاصره الصوفى يحيى بن معاذ كتب إليه:«سكرت من كثرة ما شربت من كأس محبة الله» فأجابه: «غيرك شرب بحور السموات والأرض وما روى بعد ولسانه خارج من العطش، ويقول هل من مزيد» (1)، وكان ينكر ما يردده الناس عن كرامات الصوفية. وكان يؤمن بأن التصوف لا يقوم بدون الشريعة والمحافظة على فرائضها والصدوع بأوامرها ونواهيها (2).

ونشعر أن معالم التصوف ومبادئه أخذت فى الوضوح منذ أوائل النصف الثانى من القرن الثالث الهجرى، حتى لتنشأ طبقه تحاضر فيه مثل يحيى بن معاذ الذى ذكرناه آنفا، ومثل أبى حمزة الصوفى المتوفى سنة 269، وهو أول من تكلم على رءوس المنابر ببغداد فى اصطلاحات الصوفية من صفاء الذكر وجمع الهمة والعشق والقرب والأنس (3)، ومثل أبى سعيد الخراز المتوفى سنة 277 وهو أول من توسع فى الكلام عن الفناء (4). ويظهر حينئذ حمدون (5) القصّار النيسابورى المتوفى عام 271 وقد ذهب بعيدا فى تقشفه، إذ دعا مريديه إلى سلوك طريق الملامة بأن يتظاهروا

(1) الرسالة القشيرية ص 146 وانظر شذرات الذهب 2/ 143.

(2)

انظر ترجمته فى ميزان الاعتدال، ويقول الذهبى: ما أحل قوله: لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات حتى يرتفع فى الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف هو عند الأمر والنبى وحفظ حدود الشريعة.

(3)

النجوم الزاهرة 3/ 46.

(4)

طبقات الصوفية السلمى ص 223.

(5)

انظر السلمى ص 114 وكتاب الملامتية والصوفية وأهل الفتوة لأبى العلا عفيفى.

ص: 111

باتخاذ أشياء ينكرها الشرع، حتى يتلومهم العوام من حولهم فلا يقفوا على حقيقة تصوفهم وإخلاصهم لله، ومنهم انتشر مذهب الملامتية بنيسابور، إذ يبدون فى مظهر المذنبين دائما، مما أعدّ للقعود-فيما بعد-عن النهوض بفرائض الشريعة.

أما فى هذا العصر فنجد المتصوفة دائما يعلنون تمسكهم بها، حتى ليقول سهل ابن عبد الله التسترى الصوفى المتوفى سنة 283:«أصولنا سبعة أشياء: التمسك بكتاب الله تعالى، والاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكل الحلال، وكفّ الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق» (1) وفى رسالة القشيرى أنه كان ينكر الكرامات إنكارا شديدا.

وأهم صوفى ظهر بأخرة من القرن الثالث الجنيد (2) المتوفى سنة 297 وينعت بالقواريرى الخزّاز، لأن أباه كان يبيع الزجاج وكان هو يبيع الخزّ، وأصله من نهاوند بالقرب من همذان، إلا أن مولده ومنشأه ببغداد، وهو ابن أخت السرىّ السقطى وعنه أخذ الطريقة، وأخذها السّرىّ بدوره عن معروف الكرخى. وكان ورده فى اليوم ثلثمائة ركعة وثلاثين ألف تسبيحة، وفى طبقات الصوفية للسّلمى أنه كان يقول:«ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، ولكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات» ، ويقال إنه أقام عشرين سنة لا يأكل إلا من الأسبوع إلى الأسبوع، وكان يصلى كل ليلة أربعمائة ركعة. وكان يقول:

«طريقنا مضبوط بالكتاب والسنة، ومن لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث ولم يتفقّه لا يقتدى به» . وتتردد على لسانه كلمتا الطريق والمريد، مما يدل على أنه أخذ يشيع منذ العصر العباسى الثانى نظام الطرق والمريدين فى التصوف، فللإمام الصوفى طريقة، يحملها عنه مريدوه من تلاميذه وأتباعه وينشرونها فى موطنه وغير موطنه من العالم الإسلامى. وأتاح هذا النظام البقاء لكثير من طرق الصوفية، وصبغها بصبغة جماهيرية شعبية، وإن كان قد رشّح لأن يكون الارتباط فى الطريقة بالإمام الصوفى نفسه لا بمبادئه وأفكاره، وبذلك أوجد صلة وثيقة بين الشيخ

(1) السلمى ص 203.

(2)

انظر فى ترجمة الجنيد تاريخ بغداد 7/ 241 والرسالة القشيرية فى مواضخ مختلفة وابن خلكان والسلمى ص 141 وطبقات الشافعية للسبكى 2/ 260 ومرآة الجنان اليافعى 2/ 251 والنجوم الزاهرة 3/ 169 وشذرات الذهب 2/ 8.

ص: 112

ومريديه وتلاميذه، فكانوا يأتمرون بتوجيهاته، وكانوا يحيطونه بهالة من الإجلال والتوقير، هيأت فيما بعد لأن تصبح لكل شيخ قداسته. وكان الجنيد يستخدم أسلوبا مليئا بالمبالغات فى الترغيب والترهيب زاخرا بالألفاظ الطنانة الكثيرة الإيهام والإيحاء، وأخذ عنه تلميذه الحلاج هذا الأسلوب وأصبح ميزة أساسية له فى أقواله وأشعاره، وهو أسلوب كثرت فيه الشطحات، ولا حظ ذلك القدماء إذ نرى السراج فى كتابه اللمع يعرض طائفة من شطحات الجنيد ويفسرها تفسيرا بينا. وأشهر تلاميذ الجنيد الحسين بن منصور المشهور باسم الحلاج وسنعرض له بالحديث فى غير هذا الموضع.

ومن أهم الصوفيين المتأخرين فى العصر الحكيم (1) الترمذى محمد بن على بن الحسن بن بشر المتوفى سنة 320 وكان يحاول صنع أسسن فلسفية لعلم الكلام، غير أنه مضى يدرس التصوف وتعمق فيه كما تعمق فى دراسة اتجاهات الشيعة، وعاش للتصوف يؤلف فيه كتبا كثيرة. ويقال إنه هو الذى أدخل بقوة نظرية الولاية فى البيئات الصوفية وكل ما جرّت إليه من إيمان بكرامات الصوفية أولياء الله وصفوته فى خلقه، وقد ألف فيها كتابا سماه ختم الولاية زعم فيه أن للأولياء خاتما كما أن للأنبياء خاتما وأن الولاية تفضل النبوة لقوله عليه السلام:«يغبطهم النبيون والشهداء» إذ لو لم يكن الأولياء أفضل منهم ما غبطوهم! ! وذكر فى الكتاب المذكور أن عيسى يعود فى آخر الزمان، وبذلك يكون خاتم الأولياء، وثار عليه أهل بلدته «ترمذ» ففر إلى نيسابور وبها توفّى. وقال السبكى: دافع عنه السلمى معتذرا عنه ببعد فهم الفاهمين. وعلى كل حال يعدّ الترمذى الحكيم أول من عمل على إشاعة فكرة الاعتقاد بولاية الصوفية وما جرت إليه من تصور الكرامات.

ومنذ أواخر القرن الثالث الهجرى تلفانا ظاهرة جديدة فى بيئات المتصوفة، فقد كان السابقون منهم لا ينظمون الشعر بل يكتفون بإنشاد ما حفظوه من أشعار المحبين، وهم فى أثناء ذلك يتواجدون وجدا لا يشبهه وجد، أما منذ أبى الحسين النورى

(1) انظر فى ترجمة الحكيم الترمذى طبقات الصوفية للسلمى ص 216 وطبقات الشافعية للسبكى 2/ 245 وطبقات الشعرانى 1/ 106 ورسالة القشيرى فى مواضع مختلفة وتذكرة الحفاظ للذهبى 2/ 218.

ص: 113

المتوفى سنة 295 فإن صوفيين كثيرين ينظمون الشعر معبرين به عن التياع قلوبهم فى الحب آملين فى الشهود مستعطعين متضرعين، مصورين كيف يستأثر حبهم لربهم بأفئدتهم استئثارا مطلقا، نذكر منهم سمنون أبا الحسين الخواص المتوفى سنة 303 وأبا على الروذبارى المتوفى سنة 322 والشبلى دلف بن جحدر المتوفّى سنة 334 وجميعهم من تلامذة الجنيد.

وواضح مما تقدم أن العصر العباسى الثانى لم يكد ينتهى حتى تاصلت فى التصوف فكرة المعرفة الإلهية ومحبة الله، كما تأصلت فكرة أن الصوفية أولياء الله، وسنرى فى موضع آخر كيف أن الحلاج أحاط الرسول عليه السلام بهالة قدسية تشبه الهالة التى يحيط بها المسيحيون المسيح عليه السلام، وكان لكل ذلك أثر عميق فى حياة التصوف وتطوره على مر الأجيال.

ص: 114