الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السّابع:
طوائف من الشعراء
1 - شعراء الغزل وشاعراته
ظل تيّار الغزل حادّا فى العصر، وظل الشعراء ومن كان ينطق به من الجوارى ينظمونه. مضيفين فيه كثيرا من الخواطر والمعانى، ويخيّل إلى الإنسان كأن كل من شد؟ ؟ ؟ بالشعر نظم فيه، مصوّرا ألوانا من هذا الحب الذى كان يستأثر بالنفوس ويملك عليها من أمرها كلّ شئ. وكانوا ينظمونه فى نفس الاتجاهين اللذين عرضنا لهما فى العصر العباسى الأول، ونقصد اتجاه الغزل الصريح واتجاه الغزل العفيف، وكان الاتجاه الأول هو الغالب على الشعراء، بسبب كثرة الإماء ودور النخاسين التى كانت تزخر بالجوارى من كل جنس: روميات وفارسيات وغير فارسيات وروميات. ويصور الجاحظ فى رسالته الخاصة بالقيان مدى ما كنّ يشبعن فى جوّ بغداد من التحلل الخلقى، فكان طبيعيّا أن تنفق سوق الغزل المادى، وخاصة أن القيان والجوارى كن يكثرن من التغنىّ به على إيقاعات الطبول والآلات الموسيقية، فسعرن قلوب الشعراء شبانا وكهولا، ولم يعودوا يستطيعون أن يردّوا أنفسهم إلى شئ من القصد، فقد أخذ الحب الصريح يثور فى نفوسهم وأخذوا يعبرون عنه تعبيرا صريحا حرّا، بل حارّا له حرارة الحمّى.
وظل اتجاه الغزل العفيف النقى الطاهر حيّا بجانب هذا الاتجاه، وكانت تمده أسراب كثيرة من غزل العذريين فى العصر الأموى ومن غزل من ساروا فى دروبهم من شعراء العصر العباسى الأول أمثال العباس بن الأحنف، غزل له حمّاه ولكن بثوره لا تظهر على الجسد، غزل قوى حار، لا يعرف المتاع المادى ولا اقتطاف زهرات الحب وثماره، إنما يعرف ناره المحرقة كما يعرف الحرمان والشقاء به، مهما أمّل صاحبه ومهما استعطف ومهما تضرّع، فليس
هناك إلا العذاب وإلا تجرّع الغصص واحتمال الأهوال والآلام، ولا مشفق ولا رسيم.
وعلى هذا النحو ظل الغزل الصريح بجوار الغزل العفيف، يحيى معه هذه الحياة التى تضيف إليه خصبا فوق خصب، إذ كان الغزلون الماديون يستمدون دائما من مخازن الغزل العفيف كثيرا من المعانى التى تصور لوعات الحب وعذابه.
ولن نستطيع أن نعرض طرائف النوعين. فقد مرت من ذلك لمحة، إنما يكفى أن نذكر شيوعهما على ألسنة الناس جميعا من خلفاء ووزراء وولاة وكتّاب ورجال ونساء، مكتفين ببعض النماذج والأمثلة. وأكبر شاعر بين الخلفاء-وإن لم تبق خلافته سوى يوم وليلة-هو ابن المعتز. ومرّ بنا حديث مفصّل عنه. وكان عمه المنتصر شاعرا، وله قطع مختلفة فى الحب، كان يطرحها على المغنين ويوقعونها على آلات الطرب، وفى مقدمتهم مغنيه بنان، ومما غنّاه به قوله (1):
رأيتك فى المنام أقلّ بخلا
…
وأطوع منك فى غير المنام
ولو أن النعاس يباع بيعا
…
لأغليت النعاس على الأنام
وكان أشعر منه الخليفة الراضى، وكان له ديوان شعر سقط من يد الزمن.
وروى له الصولى فى كتابه: «أخبار الراضى بالله والمتقى بالله» طائفة كبيرة من أشعاره. وله قطعة تداولتها الكتب فى ترجمته وهى فى وصف جارية مغنية كان يفتن بها، وتجرى على هذا النمط (2):
قد أفصحت بالوتر الأعجم
…
وأفهمت من كان لم يفهم
جارية تحبّ من لطفها
…
مخاطبا ينطق لا من فم
جسّت من العود مجارى الهوى
…
جسّ الأطباء مجارى الدّم
وكثير من الوزراء كانوا شعراء، ومعروف أنهم كانوا يختارون من صفوة كتّاب الدواوين. وكان كثير منهم يسيل الشعر على لسانه، فيعبّر به عن عواطفه
(1) مروج الذهب 4/ 48.
(2)
معجم الشعراء ص 431 وفوات الوفيات 2/ 376.
ومشاعره وأهوائه، وطبيعى أن يوقد الحب فى نفوسهم الجذوة التى طالما أوقدها فى نفوس المحبين، فإذا هم ينظمون قطعا من الأبيات يسجلون بها بعض خواطرهم، من مثل قول الفتح بن خاقان وزير المتوكل (1):
أيها العاشق المعذّب صبرا
…
فخطايا أخى الهوى مغفوره
زفرة فى الهوى أحطّ لذنب
…
من غزاة وحجّة مبروره
وكان سليمان بن وهب وزير المهتدى يحسن الشعر ونظمه، وله فى الأغانى ترجمة طويلة ومثله القاسم حفيده وزير المعتضد كان يصوغ بعض خواطره شعرا، وروى له المرزبانى مقطوعات متعددة فى الحب من مثل قوله (2):
كئيب حزين واكف الدّمع هامله
…
تخوّنه من آجل البين عاجله
جريح صدود قد أضرّ به الهوى
…
ورقّ له عوّاده وعواذله
واشتهر بعض كبار رجال الدولة من الولاة ورؤساء الدواوين ممن كانوا يحسنون الشعر بحب عنيف كان يحتلّ أفئدتهم ويستأثر بكل ما فيهم من عواطف ومشاعر، وفى مقدمتهم إبراهيم بن المدبر وسعيد بن حميد وعبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وقد تولى إبراهيم-كما مرّ بنا-ولايات مختلفة منها ولاية البصرة ورأس بعض الدواوين التى كان يعمل بها منذ زمن المتوكل وكان يهوى عريب ولهما أخبار كثيرة ساقها أبو الفرج الأصبهانى فى ترجمته لكل منهما (3). كما ساق كثيرا مما كان بينهما من المعاتبات والمحاورات، ومن قوله فيها (4):
زعموا أنى أحب عريبا
…
صدقوا والله حبّا عجيبا
حلّ من قلبى هواها محلاّ
…
لم تدع فيه لخلق نصيبا
هى شمس والنساء نجوم
…
فإذا لاحت أفلن غيوبا
وهو فى هذه الأبيات يصرّح بأنه لا يشرك معها جارية فى حبه وهيامه، ولكن
(1) معجم الشعراء ص 191.
(2)
معجم الشعراء ص 220.
(3)
أغانى (طبعة الساسى) 18/ 175، 19/ 114.
(4)
أغانى 19/ 124.
يبدو أنه كان يشرك معها من حين إلى حين أخريات، كن يأسرنه بجمالهن وفتنتهن وما يزرعن فى القلوب من الهوى مثل جارية تسمى نبتا، كانت من الجوارى القيان، وفيها يقول (1):
نبت إذا سكتت كان السكوت لها
…
زينا وإن نطقت فالدرّ ينتثر
وإنما أقصدت قلبى بمقلتها
…
ما كان سهم ولا قوس ولا وتر
وكان سعيد بن حميد يعمل فى الدواوين، وأسندت إليه رياسة ديوان الإنشاء فى عهد المستعين، واشتهر بتبادله الحب مع فضل الشاعرة، وسنعرض فى ترجمتها لما كان بينهما من محاورات شعرية طريفة، وله فيها غزل كثير بديع من مثل قوله يشكو السهاد وطول الليل (2):
يا ليل بل يا أبد
…
أنائم عنك غد
يا ليل لو تلقى الذى
…
ألقى بها أو تجد
قصّر من طولك أو
…
ضعّف منك الجلد
أشكو إلى ظالمة
…
تشكو الذى لا تجد
وقف عليها ناظرى
…
وقف عليه السّهد
وعرف عبيد الله بن عبد الله بن طاهر حاكم بغداد بأن قينة تسمى شاجى شغفت قلبه حبّا، فنظم فيها شعرا كثيرا، وتزوجها وظل يهيم بها ويشملها بحبه وعطيه؟ ؟ ؟ وحنانه ويكلف بها كلفا شديدا، كما كان يكلف بها قبل زواجه وفى شبابه، وإلى ذلك يشير بقوله (3):
زرعت وشاجى بيننا فى شبيبتى
…
غراس الهوى فاعتمّ بالثمر العذب
وماتت قبله، فظل يبكيها بكاء مرّا، جازعا عليها جازعا لم ير مثله، وظل يزور قبرها وهو ينوح عليها ويتفجع بمثل قوله (4):
(1) أغانى 19/ 117 وأقصدت: جرحت.
(2)
المختار من شعر بشار ص 18.
(3)
كتاب الديارات ص 111
(4)
الأغانى (طبعة الساسى) 8/ 43
يمينا بأنى لو بليت بفقدها
…
وبى نبض عرق للحياة وللنكس
لأوشكت قتل النفس عند فراقها
…
ولكنها ماتت وقد ذهبت نفسى
وكثير من الجوارى فى العصر كن ينظمن الشعر ويحسنّ نظمه، وكنّ- كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع-يكتبن أبياتا منه على طررهن وعصائبهن وجوانب ثيابهن. فيوقدن الحب فى قلوب الرجال ويشعلنه إشعالا. ونرى ابن المعتز يفرد لمجموعة منهن صحفا فى كتابه طبقات الشعراء المحدثين. ويذكر بينهن عريب وفضلا الشاعرة، والخنساء جارية هشام المكفوف. ومن الجوارى اللائى كن يحسنّ الشعر إحسانا بعيدا محبوبة جارية المتوكل، وكانت قد أدّبت وثقفت، وتمرنت على قول الشعر حتى أحسنته. وكانت تلحّنه وتغنى به على العود.
وكانت تحلّ من قلب المتوكل محلا رفيعا، ويروى أنه غاضبها ذات يوم، ولم يلبث قلبه أن نازعه إليها. فاقترب من حجرتها، فإذا هى تضرب على عود وتغنىّ على ضربها مصوّرة لوعتها من خصامه ومغاضبته وأنها لا تطيق الصبر عن لقائه (1):
أدور فى القصر لا أرى أحدا
…
أشكو إليه ولا يكلمنى
حتى كأنى أتيت معصية
…
ليس لها توبة تخلّصنى
فمن شفيع لنا إلى ملك
…
قد زارنى فى الكرى وصالحنى
حتى إذا ما الصباح عاد لنا
…
عاد إلى هجره وقاطعنى
فصفّق المتوكل طربا. ودخل إليها. وتصالحا. ويروى أنه رأى ذات يوم جارية من جواريه كتبت على خدها بالمسك اسمه: «جعفرا» فأعجبه ذلك وتمنى لو صوّر ذلك شاعر من شعرانه: البحترى أو على بن الجهم أو مروان بن أبى الجنوب. وبادرت محبوبة ممسكة بعودها، وتغنّت (2):
وكاتبة فى الخدّ بالمسك جعفرا
…
بنفسى محطّ المسك من حيث أثّرا
(1) مروج الذهب 4/ 43 والأغانى (طبعة الساسى) 19/ 134.
(2)
مروج الذهب 4/ 42.
لئن أودعت خطّا من المسك خدّها
…
لقد أودعت قلبى من الوجد أسطرا
فيا من لمملوك يظلّ مليكه
…
مطيعا له فيما أسرّ وأظهرا
وهى من أبيات قالتها على البديهة مما يدل على شاعرية جيدة. وكانت محبوبة وأضرابها يتطارحن مع الشعراء خواطرهن الرقيقة، وليس من ريب فى أنهن عملن على أن يعبر الشعراء فى الحب عن حس دقيق وذوق مرهف. ونعرض بالتفصيل ثلاثة: شاعرين وشاعرة اشتهروا بكثرة ما نظموا من الغزل فى العصر، وهم خالد ابن يزيد الكاتب، ومحمد بن داود، وفضل.
خالد (1) بن يزيد الكاتب
كان أحد كتّاب الجيش، وأصله من خراسان، وليس بين أيدينا عنه أخبار كثيرة، وأول ما يلقانا من أخباره أنه كان على ديوان النفقات فى الجيش الذى خرج بقيادة على بن هشام أحد قواد المأمون للقضاء على فتنة بمدينة «قم» الفارسية وفى الطريق بلغ عليّا أنه شاعر فأحضره وأنس به واتخذه فى ندمائه. ولما وزر الفضل بن خالد للمعتصم قرّبه منه، حتى إذا أخذ المعتصم فى بناء سامرّا بادر خالد ينظم مقطوعة يشيد فيها بالخليفة وبناء تلك المدينة العظيمة، ونقلها الفضل إلى المعتصم فسرّ بها، وأمر لخالد بخمسة آلاف درهم، وينظم فيه وفى المدينة أشعارا أخرى ويغنىّ المغنون المعتصم بها، وينثر على خالد جوائزه. وظل قريبا منه ومن وزيره محمد بن عبد الملك الزيات. ولا نقرأ له أشعارا فى مديح الخلفاء فى العصر مع أنه عاصر منهم المتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدى والمعتمد، إذ يقال إنه توفى سنة 262 وقيل بل سنة 269. ويقول مترجموه إنه قصر نفسه على الغزل فكان لا ينظم إلا فيه، ولا يعنى بمديح ولا هجاء، ومع ذلك نجد له بعض الهجاء القليل فى بعض منافسيه من الشعراء، غير أنه لم يبرز فيه فانصرف عنه، وقصر نفسه على الغزل، ويقال إنه وسوس واختلط عقله
(1) انظر فى ترجمة خالد وأشعاره الأغانى (طبعة الساسى) 21/ 31 وطبقات الشعراء لابن المعتز ص 405 وتاريخ بغداد 8/ 308 والديارات (انظر الفهرس) ومعجم الأدباء 11/ 47 والنجوم الزاهرة 3/ 36 وله ديوان مخطوط بالمكتبة العمومية بدمشق
فى أواخر حياته. ويجمع من ترجموا له على أنه لم يكن يتجاوز فى الغزل أربعة أبيات، وكأنه كان يرى الزيادة عنها فضلا، ويقول ابن المعتز: شعره حسن جدّا، وليس لأحد من رقيق الغزل ماله، وينشد من غزله قوله:
وضع الدموع مواضع الحزن
…
حىّ السهاد وميّت الجفن
عبراته نطق بما ضمنت
…
أحشاؤه ولسانه يكنى
فى كل جارحة له مقل
…
تبكى على قلب له رهن
لم يدر إلا حين أسلمه
…
قدر للحظة واحد الحسن
والأبيات فيها دقة فى التفكير وفيها خيال بعيد، وتعبيره بميت الجفن تعبير غريب، ومثله فى الحسن تعبيره عن الجوارح بأن لها مقلا تبكى على قلبه الذى رهنته منه صاحبته، وأيضا تعبيره عن صاحبته بأنها واحدة الحسن، وكأنه كان يحاول أن يأتى بأفكار مبتكرة، من مثل قوله:
كيف خانت عين الرقيب الرقيبا
…
أخطأتنى لما رأيت الحبيبا
رحمتنى فساعدتنى فقبّل
…
ت بعينى مع الحبيب الرقيبا
فهو لا يشكو من الرقيب على عادة الشعراء، فالرقيب قد رحمه وساعده، وقلب الشكوى المنتظرة شكرا، وإذا كان الشعراء ألموا بالليل ووصف استطالته شاكين من ذلك متبرمين فإنه يعترف بأن ليل المحبين دائما طويل لسهادهم المستمر، يقول:
رقدت ولم ترث للسّاهر
…
وليل المحب بلا آخر
ولم تدر بعد ذهاب الرقا
…
د ما صنع الدمع بالناظر
وهو ليس سهادا فحسب، بل هو سهاد ودموع وإحساس عميق بظلام لا ينتهى، وصاحبته بجانبه ولا تدرى ما يعانى من عذاب الحب المبرّح، وهو يتجرع غصص حبه محتملا مقاوما، والصباح كأنما ضل طريقه، فعم الكون ليل لا آخر له، ومن قوله:
قد استعار الحسن من وجهه
…
والغصن الناعم من قذّه
وقد تعاتبنا بأبصارنا
…
فيما جناه الخلف من وعده
حتى تجارحنا بتكرارنا
…
للّحظ فى قلبى وفى خدّه
فأدرك الثأر وأدركته
…
وسرّنى بالصّدّ عن صدّه
فمنها يستعير الحسن جماله والغصن قدّه وقوامه، وهما يتعاتبان عتابا رقيقا، ويكرران النظر، وكأنما يؤلم طرفه خدّ صاحبته ويترك فيه أثرا من طول تكراره أما طرفها فيؤلم قلبه بما يرسله من سهامه التى تجرحه فى الصميم. وكأنما كل منهما ظفر من صاحبه بثأره. ولكن شتان ما بين الثأرين: ثأر يجرح الخدود وثأر يجرح القلوب. ويختم الأبيات بفكرة طريفة إذ يقول إنها صدّت عن الصد وانصرفت عن الهجر. وكان يلمّ أحيانا ببعض الأديرة أو يفضى إلى تعاطى بعض كئوس الخمر، أو لعله كان يذكر ذلك على سبيل الدعابة، وكان يمزج هذا الحديث بغزله على عادته، فالغزل دائما مبتغاه من شعره على نحو ما نرى فى قوله:
رأت منه عينى منظرين كما رأت
…
من البدر والشمس المضيئة بالأرض
عشيّة حيّانى بورد كأنّه
…
خدود أضيفت بعضهن إلى بعض
وناولنى كأسا كأنّ رضابها
…
دموعى لما صدّ عن مقلتى غمضى
وولّى وفعل السّكر فى حركاته
…
من الراح فعل الرّيح بالغصن الغضّ
وتشبيه الورود المجتمعة بخدود المحبين، وقد تلاصقت وسرى فيهم الخجل، نوّه به القدماء طويلا. وهذه الكأس التى ناولها صاحبته كأس المحبين التى طالما شربوا منها لا الخمر وإنما الدموع، دموعهم التى لا تجف والتى ماتنى تسقط فتمتلئ منها كئوسهم التى لا يعرف الناس أتمتلئ شرابا أم نارا. وله:
إذا كنت فى كلّى بكلّك مفرغا
…
فأىّ مكان من مكانك ألطف
فمنّى إذا ما غبت فى كل مفصل
…
من الشوق داع كلما غبت يهتف
فهما روحان فى جسد، وهو يحس فراغا لا حدّ له إذا غابت عنه، وكأن كل
جزء فيه يفقد تمامه، فهو ماينى يهتف بها حتى يستكمل وجوده، فقد غاب نصفه وهو يتيعه، ويتبعه قلبه من ورائه؛ قلبه الممزق مثل مفاصله، ومثل كبده الجريح، يقول:
كبد شفّها غليل التّصابى
…
بين عتب وسخطة وعذاب
كلّ يوم تدمى بجرح من الشو
…
ق ونوع مجدّد من عذاب
يا سقيم الجفون أسقمت جسمى
…
فاشفنى كيف شئت، لا بك ما بى
فهو يصلى نيران العتاب والسخط، وكل يوم يتجدد جرحه ويتجدد عذابه، وقد أعداه مريض الجفون ولكن لا فى جفونه وإنما فى جسمه بما أصابه به من نحول وذبول وهزال وضنا. ومن أرق الدعاء قوله فى آخر الأبيات:«لا بك ما بى» . وتدور له فى كتب الأدب أبيات مفردة تروع بخفتها وطرافة فكرتها من مثل قوله:
كيف ترجى لذاذة الإغتماض
…
لمريض من العيون المراض
وقوله:
ليت ما أصبح من رقّ
…
ة خدّيك بقلبك
وقوله:
وبكى العاذل من رحمتى
…
فبكائى لبكا العاذل
ولعل فى كل ما أسلفنا ما يدل أوضح الدلالة على صدق كلمة ابن المعتز عنه من أنه يبلغ الغاية فى رقة الغزل. وجعله ذلك مألفا لكثير من معاصريه أمثال على بن المعتصم. وكان كثيرون يدعونه إلى مجالسهم ليسمعوا منه غزله ويطرحوه على المغنين والمغنيات، ليكتمل الأنس والطرب، ونحس دائما أنه ظامئ إلى لقاء محبوبته، ويقال إنه فعلا أحب جارية فى مطالع حياته، ولم يستطع لقاءها وقد ظل ظامئا إلى هذا اللقاء حتى مماته.
محمد (1) بن داود الظاهرى
أبوه داود بن على بن خلف الأصفهانى مؤسس المذهب الظاهرى فى الفقه، أصله من الكوفة ودرس ببغداد، واعتنق مذهب الإمام الشافعى. ومضى يجتهد حتى استطاع أن يؤسس له فى الفقه مذهبا مستقلا عن المذاهب الأربعة: المذهب الحنفى والمالكى والشافعى والحنبلى. وقد أقامه على رفض القياس والرأى والتقليد للأئمة المذكورين واشتقّ الأحكام الفقهية من ظاهر الكتاب والسنة. ولذلك سمى مذهبه باسم المذهب الظاهرى. وعنى بتربية ابنه محمد. وبدأ من ذلك بتحفيظه القرآن، ويقال إنه حفظه وله سبع سنوات. ثم دفعه إلى التأدب على ثعلب الإمام اللغوى والنحوى المشهور، وهو يروى فى كتاب الزهرة كثيرا من الأشعار عنه.
ولزم حلقة أبيه وتمثّل مذهبه ولما توفى سنة 270 كان لا يجاوز السادسة عشرة من سنه، فخلفه على رياسة المذهب، ومضى يحاور ويجادل فيه العلماء وخاصة ابن سريج إمام المذهب الشافعى فى عصره. وكانت حلقة تدريسه تغصّ بالطلاب، وله مصنفات مختلفة فى المذهب الظاهرى. ومن أهم مصنفاته كتاب الزهرة الذى عنى نيكل وإبراهيم طوقان بنشر جزئه الأول. والكتاب كله مائة باب جعلها فى جزءين خصّ الأول منهما بالحب العذرى العفيف. وهو يتضمن خمسين بابا فى كل باب مائة بيت من الشعر، وبالمثل أبواب الجزء الثانى الخمسون. فكل منها يشتمل على مائة بيت. وأهمها ما دار فى تعظيم أمر الله عز وجل والتنبيه على نعمه وقدرته والتحذير من سطوته. ويهمنا فى حديثنا عن الغزل الجزء الأول، وهو فى الأبواب الأولى منه يتحدث عن أسباب الهوى، ثم يتلوها بأحواله من الفراق والشوق ويخص الأبواب الأخيرة بالحديث عن الوفاء، وعادة يضع للباب عنوانا مسجوعا مثل «من كثرت لحظاته دامت حسراته» و «ليس بلبيب من لم يصف ما به لطبيب» و «التذلل للحبيب من شيم الأديب» . وهى عناوين غير مضبوطة.
(1) انظر فى حياة ابن داود وأشعاره تاريخ بغداد 5/ 256 ومروج الذهب للمسعودى 4/ 205 وابن خلكان والوافى بالوفيات للصفدى 3/ 58 ومرآة الجنان لليافعى 2/ 228 وطبقات الشافعية للسبكى فى ترجمة ابن سريج 3/ 23 وما بعدها، وطبع له الجزء الأول من كتاب النزهة بيروت.
وبالمثل ما يليها من الأشعار، ولاحظ هو نفسه ذلك فقال إنه اضطرّ لأن يضيف إلى البيت المتصل بموضوع الأبيات أبياتا أخرى حتى لا يكون مبتورا. والأبيات أو قل الشواهد فى الأبواب تمتد على طول الزمن من العصر الجاهلى حتى عصره.
وقد بدأ بتأليف الكتاب فى حياة أبيه وهو لا يزال حدثا، وفى ذلك يقول:«بدأت بعمل كتاب الزهرة وأنا فى الكتّاب ونظر فى أكثره» . وكان فطنا ذكيّا نافذ البصيرة كما كان شاعرا. ويروى أن شخصا سأله فى حلقته عن حد السكر متى هو؟ ومتى يكون الإنسان سكران؟ فأجابه: إذا عزبت عنه الهموم، وباح بسره المكتوم. وفى هذه الإجابة ما يدل على أنه كان ظريفا. ويروى أيضا أن رجلا جاء إلى حلقته فدفع إليه ورقة، فأخذها وتأملها طويلا، وظن تلامذته أنها مسألة فقهية، وقلبها وكتب فى ظهرها الإجابة، فراجعوها. وخاصة حين عرفوا أن الرجل هو ابن الرومى الشاعر المشهور، وإذا فى الرقعة مكتوب:
يا بن داود يا فقيه العراق
…
أفتنا فى قواتل الأحداق
هل عليهن فى الجروح قصاص
…
أم مباح لها دم العشاق
وإذا الجواب:
كيف يفتيكم قتيل صريع
…
بسهام الفراق والإشتياق
وقتيل التلاق أحسن حالا
…
عند داود من قتيل الفراق
ويقال إنه كان يهوى فتى من أصبهان يقال له محمد بن جامع الصيدلانى العطار وكان طاهرا فى هواه. فهو إن صح كان هوى نقيّا، أو قل إنه كان تعلقا أوشك أن يكون هوى أو ظنه الناس هوى. وكان ترجمانا للهوى العذرى فى عصره كما كان مؤلفا فيه، إذ صنّف فى أشعاره الجزء الأول من كتابه الزهرة كما أسلفنا. وله فيه أشعار كثيرة يعزوها أو ينسبها إلى أهل عصره كما لاحظ ذلك المسعودى. من مثل قوله:
عن كبدى من خيفة البين لوعة
…
يكاد لها قلبى أسى يتصّدع
يخاف وقوع البين والشمل جامع
…
فيبكى بعين دمعها متسرّع
فلو كان مسرورا بما هو واقع
…
كما هو محزون بما يتوقّع
لكان سواء برءه وسقامه
…
ولكنّ وشك البين أدهى وأوجع
وهو يشكو من لوعات الحب التى تكاد تمزّق قلبه حسرات. وهو يخاف البين قبل وقوعه، فيبكى بدموع غزار، فما باله والبين يوشك أن يقع؟ إنه يمعن فى البكاء ويمعن فى الالتياع ويمعن فى الألم والعذاب، ومن قوله:
تمتّع من حبيبك بالوداع
…
إلى وقت السرور بالاجتماع
فكم جرّبت من وصل وهجر
…
ومن حال ارتفاع واتّضاع
وكم كأس أمرّ من المنايا
…
شربت فلم يضق عنها ذراعى
ولم أر فى الذى لاقيت شيئا
…
أمرّ من الفراق بلا وداع
تعالى الله كلّ مواصلات
…
وإن طالت تؤول إلى انقطاع
وهو يدعو إلى ألا يشكو المحب من الفراق ولحظة الوداع التى طالما عصرت قلوب المحبين، ويقول إنها ليست آخر لحظة يلقى فيها الحبيب، فستأتى بعدها لحظات لقاء، وهكذا الحب أحوال من وصل وفراق ولقاء وهجر. ويقول كم شرب من الحب كئوسا مرة أمر من الموت، فتحمّلها صابرا. وليس أمر من الفراق بلا وداع ولا سلام ولا حتى تحية من بعيد، فإن هذا عذاب لا يطاق، عذاب كأنه الجحيم.
ويثوب الفقيه إلى رشده فالله قد كتب على كل شئ الزوال والفناء. ومن تتمة ذلك عند الفقيه أن يرضى بالقدر المقدور وما كتبه القضاء المحتوم، كأن يقول فى بعض غزله:
أفوّض أسبابى إلى الله كلّها
…
وأقنع بالمقدور فيها وأرتضى
فهو دائما يسلّم-فى عذابه بالحب وآلامه فيه وما يصلى من هجر وبعد وفراق-بما أرادته له المقادير. وتشيع فى شعره كلمات فقهية كثيرة مثل كلمات الحلال والحرام والتوبة، ويعلن غير مرة أن حبه عفيف نقى طاهر لا تشوبه أدنى شائبة، يقول:
لا تلزمنّى فى رعى الهوى سرفا
…
وما أوفّيه إلا دون ما يجب
فى عفّة أن يلم بها
…
سوء الظنون وأن تغتالها الرّيب
ويكثر فى غزله من ذكر المنازل والديار والفيافى والقيعان والرّكبان والمطايا، وهو يتساءل والمنازل لا تجيب، فقد رحل الأحبة وخلفوا له وجدا ما مثله وجد، وعبثا يخفيه فكل ما حوله يبصره، يقول:
يخفى هواه وما يخفى على أحد
…
حتى على العيس والرّكبان والحادى
ويذيع شعره فى بغداد ويغنىّ فيه المغنون والمغنيات، وهو لا يدرى من أمره شيئا فقد كان منكبّا دائما على حلقات الدرس وعلى التصنيف والتأليف. ويساير ذات يوم القاضى محمد بن يوسف فيسمع جارية تغنىّ بقوله:
أشكو غليل فؤاد أنت متلفه
…
شكوى عليل إلى إلف يعلّله
سقمى تزيد على الأيام كثرته
…
وأنت فى عظم ما ألقى تقلّله
الله حرّم قتلى فى الهوى سلفا
…
وأنت يا قاتلى ظلما تحلّله
ويلتفت إلى صاحبه قائلا: كيف السبيل إلى ارتجاع مثل هذا الشعر الذى تلوكه أفواه المغنين والمغنيات، فيوئسه من ردّه قائلا؛ هيهات سارت به الركبان.
ومن طريف ما يروى له:
فلا تطف نار الشوق بالشوق طالبا
…
سلوّا فإن الجمر يسعر بالجمر
ولم تمتد حياته طويلا. فقد توفى سنة 297 وهو فى الثانية والأربعين من عمره، ويقال إنه لما مات جلس ابن سريج مناظره المذكور آنفا فى مجلسه وبكى وجلس على التراب. وقال: ما آسى إلا على لسان أكله التراب من ابن داود. وحزن عليه تلاميذه حزنا شديدا. ويقال إن نفطويه جزع عليه جزعا عظيما. ولم يجلس فى حلقته للناس يحاضرهم سنة كاملة.