المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌4 - ثورة القرامطة - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٤

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الثانى

- ‌الفصل الأوّل:الحياة السياسية

- ‌1 - استيلاء الترك على مقاليد الحكم

- ‌2 - تدهور الخلافة

- ‌3 - ثورة الزنج

- ‌4 - ثورة القرامطة

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثّانى:الحياة الاجتماعية

- ‌1 - طبقات المجتمع

- ‌2 - الحضارة والترف والملاهى

- ‌3 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌4 - المجون والشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالث:الحياة العقلية

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة وتفلسف

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد والتاريخ

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه

- ‌5 - الاعتزال وانبثاق المذهب الأشعرى

- ‌الفصل الرّابع:نشاط الشعر

- ‌1 - علم الشعراء بأسرار العربية

- ‌2 - ذخائر عقلية خصبة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - نمو الموضوعات الجديدة

- ‌5 - نمو الشعر التعليمى

- ‌الفصل الخامس:أعلام للشعراء

- ‌1 - على بن الجهم

- ‌2 - البحترى

- ‌3 - ابن الرومى

- ‌4 - ابن المعتز

- ‌5 - الصنوبرى

- ‌الفصل السّادس:شعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الخلفاء العباسيين

- ‌مروان بن أبى الجنوب أبو السمط

- ‌أبو بكر الصولى

- ‌2 - شعراء الشيعة

- ‌ محمد بن صالح العلوى

- ‌الحمّانى العلوىّ

- ‌المقجّع البصرىّ

- ‌3 - شعراء الثورات السياسية

- ‌ محمد بن البعيث

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌ أبو على البصير

- ‌ أحمد بن أبى طاهر

- ‌ ابن دريد

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ الصّيمرى

- ‌الحمدونى

- ‌ابن بسام

- ‌الفصل السّابع:طوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل وشاعراته

- ‌فضل

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ الحسين بن الضحاك

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف

- ‌ الحلاّج

- ‌الشبلىّ

- ‌4 - شعراء الطرد والصيد

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌جحظة

- ‌الخبز أرزىّ

- ‌الفصل الثامن:نشاط النثر

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطابة والمواعظ والنثر الصوفى

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التّاسع:أعلام الكتاب

- ‌2 - الجاحظ

- ‌3 - ابن قتيبة

- ‌4 - سعيد بن حميد

- ‌5 - أبو العباس بن ثوابة

- ‌خاتمة

الفصل: ‌4 - ثورة القرامطة

الموفق فى هذه الأثناء بجيش له فى غربى نهر أبى الخصيب فمزّقه شر ممزق، وطلب الأمان كثيرون من الزنج وقوادهم وفى مقدمتهم الشعرانى وشبل (1) بن سالم.

وجمع الموفق المستأمنة من الزنوج العارفين بمسالك المدينة المختارة ومضايق طرقها وحصونها كى يمحضوه النصيحة فى الوصول إلى صاحبها، ودلّوه راضين، فاستولى على قصره فى صفر لسنة 270 بعد موقعة عظيمة، ووافاه البشير بقتله، فخرّ لله ساجدا على ما أولاه، وأمر بصلب قائديه سليمان بن جامع وعلى (2) بن أبان المهلبى.

وكان الموفق قد جرح جرحا بليغا فى صدره فى أثناء المعارك الأخيرة، ولم يثنه ذلك عن الحرب حتى كتب له فيها النصر المبين، ولذلك يقول ابن المعتز فى تهنئته بهذا النصر من قصيدة صوّر فيها بطولته:(3).

شقّ الصفوف بسيفه

وشفى حزازات الإحن

دامى الجراح كأنها

ورد تفتّح فى غصن

وبذلك انتهت ثورة الزنج، ويقال إنه ذهب ضحيتها نحو مليون ونصف، وأمر الموفق بالنداء فى أهل البصرة والأبلّة وكور دجلة والأهواز وواسط بقتل صاحب الزنج ورجوع كل مواطن إلى داره وبلده آمنا على نفسه وماله وأهله (4).

‌4 - ثورة القرامطة

مرّ بنا فى كتاب العصر العباسى الأول أن الشيعة كانوا فرقا، وظلت هذه الفرق نشطة فى العصر العباسى الثانى، وأهمها فرقة الزيدية التى حملت السلاح دائما فى وجوه العباسيين، ثم فرقة الإمامية التى كانت تعيش على التقية وتعمل سرّا ضد العباسيين، وقد انقسمت مبكرة إلى اثنى عشرية آمنت بأن الإمامة توالت فى اثنى عشر إماما، آخرهم محمد المهدى المنتظر المتوفى سنة 260 للهجرة، وإلى إسماعيلية نسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، وكان قد توفى قبل أبيه، فقالوا إن

(1) طبرى 9/ 643.

(2)

طبرى 9/ 654 وما بعدها.

(3)

ذيل زهر الآداب ص 157.

(4)

طبرى 9/ 663.

ص: 33

الإمامة انتقلت منه إلى ابنه محمد، لأنها تنتقل حتما إلى الابن الأكبر، حتى لو مات فى عهد أبيه. وأخذت تتكوّن سريعا حول محمد الحركة (1) الإسماعيلية، وكان الذى نظّمها ووضع مبادئها عبد الله بن ميمون القداح، وهو فارسى كان واسع المعرفة بجميع المذاهب والأديان، وأخذ فى سرعة يكوّن حول محمد بن إسماعيل جمعية سرية تعمل على تقويض الدولة العباسية، وكان يستعين على جذب الناس إليه بطرق تتناسب مع كل شخص، فأشخاص يجذبهم بالسحر والشعوذة، وأشخاص يجذبهم بإظهار التقوى والنسك. وكان يزعم أن دينه دين النور الخالص، ودعا كل أعضاء جمعيته إلى الاشتراك فى كل ما يكسبون مقيما بينهم ضربا من الألفة. وبدأ بدعوته فى موطنه بالأهواز، ثم تركها إلى البصرة ومعه رفيقة الحسين الأهوازى، وأحسّ بمطاردة والى البصرة لهما، فهرب مع رفيقه إلى «سلمية» بقرب اللاذقية في الشام، ومن هناك أخذ يرسل دعاته إلى العراق، كما أخذ ينظم الدعوة الإسماعيلية باثّا فيها تعاليم مانوية فارسية وفلسفية يونانية غير بعض تعاليم جلبها من فرق الشيعة الغالية كفرقة الخطابية. ودعا فى قوة إلى فكرة التأويل فى الآيات القرآنية حتى يمكن فهم معانيها الباطنة المستترة أو قل معانيها الخفية التى ترمز إليها من بعيد. وزعم أن تاريخ الأمة ينقسم إلى حلقات، كل حلقة يمثلها سبعة من الأئمة، سابعهم هو الإمام الناطق الذى ينسخ بشريعته ما قبله من الشرائع، أما الأئمة الستة قبله فأئمة صامتون.

وزعم أيضا أن أئمة الدعوة قسمان: أئمة حقيقيون مستورون أو مستقرّون، وأئمة بجانبهم مستودعون وهم رءوس الدعاة المسمون بالحجج، وبذلك أصبح هو نفسه إماما مستودعا، وتبعه على ذلك أبناؤه، ومن هنا جاء الشك فى نسب الأسرة الفاطمية الإسماعيلية التى حكمت مصر نحو قرنين من الزمان، فهل كان أئمتها مستقرين أو كانوا مستودعين؟ وجعل ابن ميمون الدعوة مراتب يصعد فيها التابعون، وهى سبع مراتب، مرتبة للعامة، ومرتبة لمن فوقهم، ومرتبه لمن مرّ عليه عام، ومرتبة لمن مرّ عليه عامان، ومرتبة لمن مرّ عليه ثلاثة أعوام، ومرتبة لمن مرّ عليه أربعة أعوام، ثم المرتبة السابعة، وجعلت المراتب فيما بعد تسعا.

وما يلبث عبد الله بن ميمون-وقيل بل ابنه أحمد خلفه-أن يرسل الحسين

(1) انظر فى الحركة الإسماعيلية والقرامطة كتاب عبد العزيز الدورى ص 126 وما بعدها.

ص: 34

الأهوازى إلى الكوفة وسوادها ليدعو إلى الجمعية، فالتقى فى السواد بنبطى يحمل بعض الغلات على أثوار له اسمه حمدان، كان أهل قريته يلقبونه-فيما زعم الطبرى- لقبا نبطيّا هو قرمط لاحمرار عينيه الدائم (1)، وزعم بروكلمان أن معنى هذا اللقب المعلم السرى (2). وكأنما وجد الأهوازى فى هذا الرجل طلبته، فدعاه إلى مذهبه واستجاب له فى حماسة بالغة، وأحسّ الأهوازى بدنو أجله، فعهد إليه برياسة الدعوة، وجدّ فيها. حتى أصبحت له فرقة كبيرة دعيت جميعها باسم القرامطة نسبة إليه.

وكان داهية فأخذ فى تنظيم الحركة، وفرض على جميع أتباعه أن يدفع كل منهم سنويّا درهما واحدا، ثم جعله دينارا تأهبا للانتقال إلى دار الهجرة، وفرض على أهل المرتبة السابعة سبعة دنانير، ولم يلبث أن فرض على كل إنسان من أتباعه أن يؤدى إليه خمس ماله، وأخيرا فرض عليهم جميعا الألفة، وهى الشركة فى الأموال، وبذلك هيّأ لظهور نظام اشتراكى كامل. ولما اطمأن إلى نجاح دعوته أخذ يحلّ لأتباعه ترك الفرائض الدينية وأن يتخذوا بيت القدس قبلتهم ويحجّوا إليه، وزعم لهم أن الصوم يومان فى السنة: يوم عيد المهرجان ويوم عيد النيروز وأن النبيذ حرام والخمر حلال، ووضع قانونا هو أن كل من حاربه وجب قتله، ومن لم يحاربه وخالفه يجب أخذ الجزية منه (3). وفى سنة 277 اتخذ لأتباعه دار هجرة بقرب الكونة سماها «مهماباد» نزلها كثيرون من الرجال والنساء. وكان أكبر معاونيه فى حركته صهره عبدان، ويذكر له كتاب صوّر فيه طريق التابع ومراتبه السبع آنفة الذكر التي تنتهى به إلى الخضوع المطلق للإمام الخفى أو المستتر وممثليه من الأئمة المستودعين.

وأقبل على الانضمام إلى الدعوة كثير من الفلاحين فى سواد الكوفة والبصرة لما وعدتهم به من تغيير ظروفهم الاقتصادية السيئة، إذ كان الملاك الإقطاعيون يسومونهم سوء العذاب مع التقتير الشديد فى الأجور، وانضم إليها أيضا كثير من الطبقة الكادحة فى المدن ممن كانوا يعيشون فى بؤس مدقع، وقد وعدهم جميعا حمدان وأتباعه بأنهم سينقلونهم من الشقاء إلى السعادة ومن الفقر ودله إلى الغنى وعزه. غير أنهم لم يقفوا

(1) طبرى 10/ 26.

(2)

تاريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان (الطبعة العربية) ص 229.

(3)

طبرى 10/ 25 وما بعدها.

ص: 35

جميعا بدعوتهم عند إنشاء مجتمع اشتراكى، إذ مضوا يدعون إلى التحلل من الدين الحنيف وفروضه حتى ليقول البغدادى إنهم أنكروا البعث والحساب والجنة والنار، وقالوا: هل الجنة إلا هذه الدنيا ونعيمها وهل النار وعذابها إلا ما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنّصب فى الصلاة والصيام والحج والجهاد (1)، وزعموا:«أن الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وكل من ادعى النبوة كانوا أصحاب نواميس ومخاريق أحبوا الزعامة على العامة، فخدعوهم بنيرنجات واستعبدوهم بشرائعهم» (2). ومضى حمدان يتخذ لهم أعلاما بيضاء دلالة على أن دينهم دين النور، ويقال إنه كان يكتب عليها:{(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ).}

وقد أرسل مبكرا دعاة إلى اليمن جاهروا فيها بدعوته وأحدثوا شغبا كثيرا، ونزل «كلواذى» وأخذ يدير منها دعوته، ومن أهم دعاته الذين اتخذهم حينئذ أبو سعيد الحسن بن بهرام الجنّابىّ. وجنّابة من قرى بحر فارس، وقد أرسل به إلى جنوبى إيران، واستطاع أن ينشر هناك الدعوة، والتفّ حوله كثيرون اتخذ من نفسه مشرفا على إدارة أموالهم. غير أن ولاة العباسيين تنبهوا لحركته هناك وصادروا ما جمع من أموال، ففرّ على وجهه إلى حمدان، يبلغه الخبر، فأمره أن يتجه إلى منطقة أخرى، واختار له الأحساء فى منطقة البحرين، وهناك استجابت له قبيلة عبد القيس وعشائرها البدوية، واستطاع لسنة 286 أن ينشئ فى تلك الأصقاع النائية دولة اشتراكية جعل عاصمتها «المؤمنية» بدلا من «هجر» العاصمة القديمة وهى المسماة اليوم باسم «الهفوف» «وفى السنة نفسها أغار على «القطيف» القريبة من البصرة وقتل من لقيه بها من الرجال والنساء (3). وفى السنة التالية هددت جنوده البصرة (4). وأحسّ حمدان بقوته فأخذ يدفع أتباعه إلى الإغارة على قرى السواد، وتصدّى لهم بدر غلام الطائى، وأوقع بهم على غرة بنواحى روذميستان وقتل منهم مقتلة عظيمة (5). ويعودون إلى الانتشار فى سواد الكوفة لسنة 289 ويفتك بهم شبل غلام الطائى ويقع فى أسره قائدهم المعروف بابن أبى قوس (6)، فيرسل به إلى المعتضد،

(1) الفرق بين الفرق البغدادى (طبعة محمد محيى الدين عبد الحميد ص 295.

(2)

المصدر نفسه ص 302.

(3)

طبرى 10/ 71.

(4)

طبرى 10/ 75.

(5)

طبرى 10/ 82.

(6)

فى الطبرى: فوارس.

ص: 36

فيضرب عنقه، ويصلبه على الجسر فى جماعة من القرامطة، ويذكر ذلك ابن المعتز فى أرجوزته آنفة الذكر، منددا بالدعوة القرمطية، قائلا:

ابن أبى قوس لهم نبىّ

إمام عدل لهم مرضىّ

خفّف عنهم من صلاة الفرض

وقال: ناب بعضها عن بعض

فاذهب إلى الجسر تجده فارسا

على طمرّ (1) لأسير جالسا

وتلك عقبى الغىّ والضلال

والكفر بالرحمن ذى الجلال

وهو يسجل هنا على القرامطة جهلهم حتى ليزعمون أن ابن أبى قوس نبى، مع تخفيفهم للصلاة وكفرهم بالرحمن، وسجل عليهم فى الأرجوزة قبل هذه الأبيات الشريعة الجديدة التى اتخذوها وأنهم يجاهدون فيها عن إمام مختف لا يظهر أبدا.

ومنذ هذا التاريخ الذى قتل فيه ابن أبى قوس يختفى من العراق وسواده اسم حمدان وصهره عبدان، ونفاجأ بداعية يتولى زعامة القرامطة مكانهما يسمى زكرويه (2). ويبدو أنهما أحسّا بتغير فى المبادئ التى (3) كانا يدعوان إليها، فأرسل حمدان بعبدان إلى سلمية ليقف على حقائق الأمور، فوجد أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح توفى وخلفه ابنه الحسين، ولما اجتمع به سأله عن الإمام الذى يدعون إليه وعن حجّته، فعجب الحسين من سؤاله، وقال له:

«من هو الإمام إذن؟ » فأجابه عبدان إنه محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق الذى دعا له أبوك وكان حجته، فاستنكر الحسين القداحى إجابته، وقال له:

إن الإمام إنما كان والده، وحلّ هو محله الآن. وعندئذ أدرك عبدان حقيقة القدّاحين وأنهم تظاهروا بالدعوة لمحمد بن إسماعيل خداعا للناس وتمويها عليهم حتى يجتذبوهم إلى صفوفهم. وعاد عبدان إلى حمدان فوقفه على حقيقة الأمر، وأشار عليه بوقف الدعوة وأن يجمع الدعاة ويبين لهم الحقيقة. وأخذ حمدان برأيه، فوقف الدعوة فى الأماكن القريبة منه، ولم يستطع توضيحها لمن كانوا فى الأماكن النائية، وترك كلواذى واختفى هو وصهره عبدان من مسرح التاريخ، ويبدو أن

(1) طمر: فرس.

(2)

كان أحد دعاة قرمط المهمين. الطبرى 10/ 94.

(3)

الدورى ص 165.

ص: 37

القداحين عملوا على اغتيالهما، واتّخذ زكرويه أداة لتنفيذ هذا الاغتيال.

وعلى هذا النحو صارت رياسة الدعوة فى سواد الكوفة والعراق إلى زكرويه الدّندانى، وكان أعظم نشاطا من حمدان قرمط وصهره عبدان، ولما رأى الدولة تتعقب القرامطة بسواد الكوفة وأنه لا غناء عندهم سعى فى استغواء البدو من أسد وطيئ وتميم وغيرهم، وتابعته منهم جماعات، غير أن كثرة البدو المحيطين بجنوبى العراق لم تستجب له، فأرسل أولاده يحيى والحسين ومحمدا إلى عشائر قبيلة كلب فى بادية السماوة بين العراق والشام، فأصاخوا لهم وبايعوهم، وكان مما زعموه لهم أنهم من ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، حتى إذا رأوهم يدعونهم إلى العقيدة القرمطية نفروا منهم ولم يتابعهم إلا بنو العليص، إذ بايعوا فى آخر سنة 289 يحيى بن زكرويه متلقبا لهم بالشيخ وزاعما أنه أبو عبد الله على بن محمد ابن إسماعيل بن جعفر الصادق، وقيل بل زعم أن اسمه محمد بن عبد الله. وزعم لهم فيما زعم أن أباه-ودعاه أبا محمود-يدعو له، وأنه يتبعه فى السواد بالعراق وفى المشرق والمغرب مائة ألف، وأيضا زعم لهم فيما زعم أن ناقته التى يركبها مأمورة، وأنهم إذا اتبعوها فى لقاء عدوّ نزل عليهم الفتح المبين، وتكهّن لهم أو ادعى فيهم الكهانة، وأظهر لهم عضدا له ناقصة، وذكر أنها آيته (1). ومضى فى سنة 290 بمن تبعوه يعيث فسادا فى المدن السورية، وكانت تتبع حينئذ الدولة الطولونية، وكانت تعانى من ضعف شديد، وكانت قد ولت عليها طغجا الإخشيدى قبل ولايته على مصر، فأرسل لابن زكرويه جيشا سرعان ما هزم وقتل قائده (2). وقصد ابن زكرويه الرقة فى جمع كثير يقتل وينهب، وواقع هناك جيشا للخليفة المكتفى وهزمه وقتل قائده. وحاصر دمشق غير أنها صمدت لحصاره، وسرعان ما قتل على أبوابها، فبايع أتباعه أخاه الحسين ونادوا به خليفة من بعده، وزعم لهم بدوره أنه أحمد بن عبد الله بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وأظهر لهم شامة فى وجهه الملثّم ذكر أنها آيته، ولذلك سمّى بصاحب الشامة، ووفد عليه ابن عم له يسمى عيسى بن مهرويه، فزعم أنه مثنه من نسل جعفر الصادق ولقّبه المدّثّر، وزعم أنه المقصود بسورة المدثر (3)! وأجابه كثير

(1) طبرى 10/ 95.

(2)

طبرى 10/ 97.

(3)

طبرى 10/ 96.

ص: 38

من البدو، واشتدت شوكته، فزحف بجموعه على دمشق وخافه أهلها فصالحوه على خراج يؤدونه إليه. وتقدّم إلى حمص، فتغلب عليها، وخطب له على منابرها باسم المهدى المنتظر، ثم سار إلى حماة والمعرة وبعلبك يقتل ويسفك الدماء وينهب. ونزل سلمية، وبدأ بقتل من بها من بنى هاشم ثم قتل أهلها أجمعين حتى صبيان الكتاتيب، ولم يبق بها عينا تطرف (1). ويظهر أنه كان يريد القضاء على الأئمة المستودعين من أسرة القداحين ومن وراءهم من الأئمة المستورين إن كان يوجد أحد منهم حقّا، حتى يصفو الجو له ولإمامته ودعوته وخلافته، ونرى الطبرى يحتفظ بكتاب منه إلى بعض عماله يستهله على هذا النمط:«بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله أحمد بن عبد الله المهدى، المنصور بالله، الناصر لدين الله، القائم بأمر الله، الحاكم بحكم الله، الداعى إلى كتاب الله، الذابّ عن حرم الله، المختار من ولد رسول الله، أمير المؤمنين، وإمام المسلمين، ومذلّ المنافقين، خليفة الله على العالمين، وحاصد الظالمين، وقاصم المعتدين، ومبيد الملحدين، وقاتل القاسطين، ومهلك المفسدين، وسراج المبصرين، وضياء المستضيئين، ومشتت المخالفين، والقائم بسند سيه المرسلين، وولد خير الوصيين، صلى الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين، وسلّم كثيرا. . .» (2).

وواضح أن الحسين بن زكرويه لم يكتف بأن يكون إماما مستودعا مثل القداحين، بل رأى أن يكون الإمام المستور نفسه. ولذلك ادّعى له نسبا إلى محمد ابن إسماعيل بن جعفر الصادق، وتلقب بالمهدى وخليفة الله أمير المؤمنين. وفرّ منه عبيد الله المهدى رأس الدولة الفاطمية، ومضى فى فراره حتى شمالىّ إفريقيا.

ولما تكاثرت فظائعه وضجّ أهل الشام منه بالشكوى إلى الخليفة المكتفى أرسل إليهم جيشا جرارا بقيادة محمد بن سليمان، فنازل الحسين وأتباعه بالقرب من حماة فى المحرم لسنة 291 وسحقهم سحقا ذريعا. ففرّ كثيرون من جنده إلى البوادى.

وفر على وجهه مع بعض خاصته إلى الشرق ميمما الفرات، وأسروا هناك جميعا، وصلبوا ببغداد مع عشرات من القرامطة جئ بهم من الكوفة، وكان بينهم بغداديون ذاقوا المصير نفسه (3). ويذكر الطبرى أن أخا لصاحب الشامة-لعله الأخ الثانى

(1) طبرى 10/ 100.

(2)

طبرى 10/ 105.

(3)

طبرى 10/ 108.

ص: 39

المسمى محمدا-عاث ببعض الأعراب فى نواحى دمشق لسنة 293 ثم صار إلى طبرية فغلب عليها ودخلها وقتل عامة أهلها من الرجال والنساء ونهبها وانصرف إلى ناحية البادية (1). وأرسل زكرويه فى السنة نفسها داعية له إلى بادية الشام يسمى أبا غانم، فالتفّ حوله كثيرون وانتهب بهم بعض المدن القريبة من البوادى مثل بصرى وأذرعات، وتعقبتهم جنود الخلافة من ماء إلى ماء، وقتل أبا غانم أحد أتباعه (2) فقضى على تلك الثورة. وبذلك تنتهى حركة زكرويه فى بوادى الشام، إذ يقضى العباسيون عليهم هناك قضاء مبرما، وأحكم لهم ذلك أنهم قضوا فى الوقت نفسه على الدولة الطولونية التى كانت قد ضعفت ضعفا شديدا، مما مكن لزكرويه وأبنائه وأتباعه أن يحدثوا هناك شغبا وفتنا كثيرة.

واستعادت الدولة سيطرتها كاملة على سواد الكوفة ومن كان به من أتباع زكرويه ويذكر المؤرخون أنه أنفذ إلى البدو داعية له من أهل السواد يسمى القاسم بن أحمد يدعوهم للخروج معه ومع شيعته من سواد الكوفة، واجتمع له كثيرون، حتى إذا كان المحرم من سنة 294. هاجم قوافل الحجاج فى أوبتها من المسجد الحرام ونهب جميع ما كان معها من الأموال مما قدّرت قيمته بنحو مليونين من الدنانير وقتل من الحاج نحو عشرين ألفا، وبلغ النبأ بغداد، فندب له الخليفة المكتفى وصيف بن صوارتكين فى جيش جرار، فلقيه فى الرابع من شهر ربيع الأول وقتل من شيعته مقتلة عظيمة، وخلص بعض الجند إلى زكرويه فضربه بالسيف وهو فارّ ضربة اتصلت برأسه، فاستسلم، وأخذه أسيرا، وأسروا نائبه وخواصه وابنه وأقاربه وكاتبه وامرأته، وحمل وهو جريح فتوفى فى الطريق إلى بغداد من أثر الضربة (3). وبذلك قضى على حركة زكرويه فى سواد الكوفة وبوادى الشام قضاء نهائيّا.

وإذا كانت حركة القرامطة قد باءت فى هاتين المنطقتين بإخفاق ذريع فإنها نجحت إلى حد بعيد فى منطقة الأحساء والبحرين على يد أبى سعيد الحسن بن بهرام الجنّابى الذى مرّ ذكره آنفا، وكان من كبار دعاة حمدان قرمط، واستطاع أن

(1) طبرى 10/ 121 والنجوم الزاهرة 3/ 158.

(2)

طبرى 10/ 122.

(3)

طبرى 10/ 124 وعريب ص 11 والنجوم الزاهرة 3/ 159.

ص: 40

يؤسس هناك دولة ظلت آمادا متطاولة إلى نحو منتصف القرن الرابع إذ دخلوا منذ سنة 358 فى طاعة الخليفة العباسى وخطبوا له على المنابر. وكانت تسود فى دولة أبى سعيد الروح الاشتراكية التى بثّها أستاذه حمدان قرمط، وعظم أمره. وكثيرا ما كان يحدث لعهد الخليفة المكتفى أن يتقدم بجنوده نحو البصرة، وتلقاه جيوش الخلافة، ويقتتل الطرفان قتالا شديدا (1). وما زال يسوس دولته، حتى قتله غلام له صقلبى فى سنة 301 وقتل معه جماعة من قواده (2)، فقام بالأمر من بعده ابنه أبو طاهر سليمان بن الحسن الجنّابىّ، ونراه يهاجم البصرة بأتباعه بمجرد استيلائه على الحكم (3)، حتى إذا كانت سنة 307 عاد إلى مهاجمتها وإعمال النهب والسلب فيها (4). ودخلها لسنة 311 فى ألف وسبعمائة من أتباعه، وضعوا السيف فى أهلها، وقتلوا واليها سبكا المفلحى، وأحرقوا المربد وبعض الجامع ومسجد قبر طلحة، وظل بها سبعة عشر يوما يحمل على إبله ما نهبه من الأموال والمتاع (5). وفى السنة التالية رصد الحاجّ فى مقدمهم من مكة لشهر المحرّم وأخذ يوقع بقوافلهم، وينهب الأموال، ويأسر ويقتل، وجاء الخبر إلى بغداد بذلك فوقع النّوح والبكاء وخرج النساء منشّرات الشعور مسوّدات الوجوه يلطمن ويندبن (6). وفى سنة 313 سار الحجاج من بغداد ومعهم جعفر بن ورقاء فى ألف فارس، فلقيهم أبو طاهر، فناوشهم بالحرب، فخاف الناس ورجعوا إلى بغداد، فاتجه إلى الكوفة، فقاتلوه ورجحت كفته ودخل البلدة وأقام بها ستة أيام ينهب ويسلب، وكان مما نهبه منها أربعة آلاف ثوب وشى وثلثمائة راوية زيت (7). وفى سنة 315 خرج فى ألف فارس وخمسة آلاف راجل متجها إلى الكوفة، وعلم المقتدر فجهّز لحربه يوسف بن أبى الساج فى عشرين ألفا، وتقاتلا على أبواب الكوفة، ودارت الدوائر على ابن أبى الساج وأسر جريحا، وقتلت جماعة كثيرة من أصحابه. وبلغ ذلك المقتدر فراعه الخبر، وندب مؤنسا لقتاله، فخرج بالعساكر إلى الأنبار فى أربعين ألفا، وانضم إليه أبو الهيجاء بن حمدان وإخوته فى أصحابهم وأعوانهم، ووقعت بينهما

(1) طبرى 10/ 75، 79، 85.

(2)

طبرى 10/ 148 والهمدانى ص 14 والنجوم الزاهرة 3/ 182.

(3)

الهمدانى ص 14.

(4)

النجوم الزاهرة 3/ 197.

(5)

الهمدانى ص 40 والنجوم الزاهرة 3/ 207.

(6)

الهمدانى ص 43 والنجوم الزاهرة 3/ 211.

(7)

الهمدانى ص 48 والنجوم الزاهرة 3/ 213.

ص: 41

مناوشات ليست بذات بال، مما أغرى أبا طاهر بمنازلة بلدان كثيرة فى جنوب العراق سالبا ناهبا سافكا للدماء (1). وفى السنة التالية دخل الرحبة جنوبى قرقيسياء شمالى العراق، ووضع فيها السيف، فبعث إليه أهل قرقيسياء يطلبون الأمان فأمّنها، ثم دخلها. وتوجه إلى الرقة، فأخذها، وتفاقم أمره وكثر أتباعه (2). حتى إذا كان موسم الحج لسنة 317 حدثت الطامة الكبرى إذ وافى أبو طاهر الحاجّ يوم التّروية، وهم يهلّون ويلبّون، وقتل الحجاج قتلا ذريعا فى فجاج مكة وداخل البيت الحرام وهم متعلقون بأستاره، ويقال إنه قتل منهم نحو عشرة آلاف، طرح كثير منهم فى بئر زمزم، وعرّى البيت من كسوته وقلع بابه واقتلع الحجر الأسود وأخذه معه إلى هجر، وظل هناك حتى ردّ إلى موضعه فى عهد الخليفة المطيع سنة 339. ونهب جميع التحف التى زيّن بها الخلفاء الكعبة على مر الأزمنة وما كانوا رصّعوها به من الجواهر النفيسة، ويقال إنه كان يجلس على باب الكعبة والحجيج يصرعون حوله فى المسجد الحرام، وهو ينشد مثل قوله:

أنا لله وبالله أنا

يخلق الخلق وأفنيهم أنا

ويقال إنه كان زنديقا لا يصلى ولا يصوم ولا يؤدى فرائض الإسلام، مع تظاهره بأنه مسلم وزعمه أنه داعية عبيد الله المهدى بإفريقيا (3). ولم يحج أحد منذ هذا التاريخ حتى سنة 326، خوفا من شره وشر أتباعه من القرامطة، غير أن شرّه لم ينحسر عن العراق، إذ هاجم الكوفة لسنة 319، وعاود الهجوم عليها فى سنة 325 ونازلته جنود الخلافة فى سنة 330، ومات فى شهر رمضان لسنة 332 بالجدرى بعد أن تقطعت بسببه أوصاله وأطرافه وهو ينظر إليها، وبعد أن طال عذابه ورأى فى جسده العبر. وخلفه أخوه سعيد (4) بن الحسن الجنّابىّ، وهو الذى رد الحجر الأسود إلى مكانه بالكعبة، وكان العراق قد دخل فى حكم البويهيين فضعف شأن قرامطة البحرين والأحساء، واضطروا بأخرة إلى الدخول فى طاعة الخلافة العباسية ونبذ عقيدتهم القرمطية.

(1) الهمدانى ص 52 والنجوم الزاهرة 3/ 217.

(2)

النجوم الزاهرة 3/ 220.

(3)

الهمدانى ص 62 عريب ص 95 والنجوم الزاهرة 3/ 224.

(4)

الهمدانى ص 102، 135 والنجوم الزاهرة 3/ 228، 275، 281

ص: 42