الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فى وصف الورد وتهاديه ووصف شذاه العطر الذى يشفى القلوب الكليمة. وله أشعار مختلفة فى وصف اللهو والملاهى، ومن قوله فى وصف مجلس أنس (1):
الورد يضحك والأوتار تصطخب
…
والنّاى يندب أشجانا وينتحب
والرّاح تعرض فى نور الربيع كما
…
تجلى العروس عليها الدرّ والذهب
وقد مضى يصور نشوته بالراح وبالورد وبالغناء. وأنشدنا فى الفصل الماضى قطعة من وصفه لقصر من قصور المتوكل ونافورته العجيبة، وكذلك وصفه للعبة الشطرنج وله قصيدة جيدة فى وصف سفينة (2).
وجعلته نكبته يكثر من التأمل فى الحياة وفى سلوك الناس وأخلاقهم وأصنافهم، مما جعل تجاربه تتسع وجعله ينثر منها كثيرا فى أشعاره من مثل قوله (3):
ومن طلب المعروف من غير أهله
…
أطال عناء أو أطال تندّما
ومن سامح الأيام يرض حياته
…
ومن منّ بالمعروف عاد مذمّما
وواضح مما أسلفنا من أشعار ابن الجهم أنه لم يكن ممن يتكلفون فى أشعارهم ولا ممن يكثرون من ترصيعها بأصناف البديع وأصدافه، ومما لا ريب فيه أن ملكاته كانت خصبة، وكان كثيرا ما يلم بمعان دقيقة وصور طريفة مع سهولة الألفاظ ومع شفافيتها وصفائها ومع نصاعتها ورصانتها ومع جمال الجرس والأداء.
2 - البحترى
(4)
هو أبو عبادة الوليد بن عبيد؛ طائىّ الأب شيبانىّ الأم غلب عليه لقب البحترى نسبة إلى عشيرته الطائية بحتر، ولد سنة 204 للهجرة بمنبج إلى
(1) الديوان ص 105.
(2)
الديوان ص 114.
(3)
الديوان ص 20.
(4)
انظر فى البحترى وشعره الأغانى (طبعة الساسى) 18/ 167، والموشح للمرزبانى والموازنة بين الطائيين للآمدى، وطبقات الشعراء لابن المعتز ص 394، 458 والشريشى على مقامات الحريرى 1/ 40 وعبث الوليد لأبى العلاء، وأخبار البحترى للصولى (طبع المجمع العلمى العربى بدمشق) -
الشمال الشرقى من حلب على الطريق المؤدية منها إلى الفرات، وقيل: بل ولد بقرية تجاورها تسمّى «زردفنة» والرأى الأول أصح، لأن البحترى نفسه يكرّر كثيرا فى شعره «منبج» مسقط رأسه، وكانت تنزلها عشائر من طيئ. وهى كما يقول ياقوت فى معجم البلدان: مدينة كثيرة البساتين عذبة الماء باردة الهواء، أقطعها الرشيد عبد الملك بن صالح الهاشمى، وفى ديوان البحترى مدائح كثيرة لابنه محمد ولطائفة من أسرته عاشت فى منبج وحلب.
وليس لدينا أخبار عن هيئته وصورته إلا ما روى عنه فيما بعد من أنه كان أسمر طويل اللحية. وقد نشأ فى أحضان عشيرته يتغذى من فصاحتها ويبدو أنه اختلف مبكرا إلى الكتّاب، فحفظ القرآن أو شطرا كبيرا منه. كما حفظ كثرا من الأشعار والخطب، واختلف حين شبّ إلى حلقات العلماء فى المساجد يأخذ عنهم اللغة والنحو وشيئا من الفقه والتفسير والحديث وعلم الكلام. واستيقظت فيه موهبة الشعر مبكرة، وسرعان ما أخذ يكثر من نظمه فى بعض من عرفهم من عامة أهل بلدته أو كما يقول ابن خلكان من أصحاب البصل والباذنجان، وامتد به طموحه فتجاوز به بلدته إلى بلاد أكبر من حولها، إذ نراه ينزل حلب، وهناك تعرّف على علوة بنت زريقة التى شغفته حبّا، ويبدو أن زريقة كانت مغنية، وتعرّف أيضا على صديق يسمى الذفافى مدحه ببعض شعره، وهجاه فيما بعد لاقترانه بعلوة، على شاكلة قوله (1):
نبّئتها زوّجت أخا خنت
…
أغنّ رطب الأطراف ليّنها
وظلت دار علوة قائمة بحلب، حتى عصر ياقوت إذ يقول:«وفى وسط البلد «حلب» دار علوة صاحبة البحترى». وقد يدل ذلك على يسار الذفافى وأنه شيد لها دارا فخمة. وظلت ذكراها لا تبرح ذاكرة البحترى حتى الأنفاس الأخيرة من
= وتاريخ بغداد 13/ 446، ومعجم الأدباء لياقوت 19/ 248، وابن خلكان، ومرآة الجنان لليافعى 2/ 202، وشذرات الذهب لابن العماد 3/ 186 والنجوم الزاهرة /993/، وحياة البحترى وفنه لأحمد أحمد بدوى، والفن ومذاهبه فى الشعر العربى (الطبعة السابعة-طبع دار المعارف) وديوانه بتحقيق حسن الصيرفى ومقدمته (طبع دار المعارف).
(1)
الديوان 4/ 2325.
حياته. واتسع برحلاته إلى حمص، وكأنما كان السّعد معه على ميعاد، فإذا هو يسمع بأن أبا تمام بها والشعراء يعرضون عليه أشعارهم، فعرض عليه شعره، فأقبل عليه، وقال له: أنت أشعر من أنشدنى فكيف حالك، فشكا إليه خلّة، فكتب إلى أهل معرّة النعمان:«يصل كتابى مع الوليد أبى عبادة الطائى وهو على بذاذته"سوء حاله"شاعر فأكرموه» واستقبلوه استقبالا حسنا ووظّفوا له أربعة آلاف درهم (1). وفى رأينا أنه لم يصله بأهل معرة النعمان فقط، فقد وصله أيضا ببعض ممدوحيه إذ نراه يقبل على بعض من خصّهم بمديحه فيمدحهم، مثل آل حميد الطوسى فى الموصل، وخالد بن يزيد الشيبانى والى أرمينية والثغور، وأبى سعيد محمد بن يوسف الثغرى الطائى الذى ولاه المعتصم حلب وثغور الشام والجزيرة، وقد لزمه ولزم ابنه يوسف، ويبدو أنه أول من اتصل بهم من ممدوحى أبى تمام.
وتخرج بعض الروايات ذلك مخرج القصص، فتذكر أنه دخل عليه وأبو تمام عنده، فأنشده قصيدته:
أأفاق صبّ من هوى فأفيقا
…
أم خان عهدا أم أطاع شفيقا
فردّها أبو تمام عليه من حفظه كأنها من نظمه، وعرّفه أبو تمام نفسه، ولزمه البحترى (2). ونظن أن الرواة زادوا فيها أنه لم يكن يعرف أبا تمام، فمعرفته به أسبق من ذلك كما أسلفنا، بل هو الذى حثه على مديح أبى سعيد الثغرى ولقائه له وهو عنده. ولم يكتف أبو تمام بتقديم الشاعر الشاب إلى بعض ممدوحيه، فقد مضى يتعهد شاعريته، ويلقنه كيف يجيد الشعر ويحسنه، حتى خرّجه فيه شاعرا ممتازا راع معاصريه، ويصرّح بذلك البحترى معترفا بجميل أستاذه إذ يقول (3):
«كنت فى حداثتى أروم الشعر وكنت أرجع إلى طبع، ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه. . . حتى قصدت أبا تمام، فانقطعت فيه إليه، واتكلت فى تعريفه عليه، فكان أول ما قال لى: يا أبا عبادة تخيّر الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم. واعلم أن العادة فى الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شئ أو حفظه فى وقت السحر، وذلك أن النفس قد أخذت حظها من الراحة، وقسطها من
(1) أخبار البحترى ص 56، والأغانى 18/ 169.
(2)
أخبار البحترى ص 63، والأغانى 18/ 169.
(3)
زهر الآداب للحصرى 1/ 101.
النوم، فإذا أردت لنسيب فاجعل اللفظ رقيقا والمعنى رشيقا، وأكثر فيه من بيان الصبابة، وتوجع الكآبة، وقلق الأشواق، ولوعة الفراق. وإذا أخذت فى مدح سيد ذى اياد، فأشهر مناقبه، واظهر مناسبه، وأبن معاطه، وشرّف مقامه وتقاص المعانى واحذر المجهول منها، وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الزريّة.
وكن كأنك خيّاط يقطع الثياب على مقادير الأجسام وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك، ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب. واجعل شهوتك إلى قول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه، فإن الشهوة نعم المعين. وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين، فما اسحسنه العلماء فاقصده، وما تركوه فاجتنبه ترشد إن شاء الله تعالى».
وكأنما وضع أبو تمام نصب عينى البحترى دستورا قويما لإحسانه صناعة الشعر، بل إن هذا بعض الدستور الذى وضعه؛ إذ لا بد أنه أوصى البحترى وصايا كثيرة حتى يتقن صناعته. وهو فى هذا الجزء من وصاياه ينصحه أن يتخير أوقات إلهامه، ثم يصف له الجودة التى يقوم عليها النسيب والمديح جميعا، مع العناية بدقائق المعانى وجمال الألفاظ والأساليب، ونظن ظنّا أنه حين وجد فى تلميذه حسن الاستجابة، واطمأن إلى أنه شاعر سيكون له شأن، أخذ يعرّفه لا على أهل معرة النعمان فحسب، بل أيضا على ممدوحيه فى حلب والشام والجزيرة والموصل وأرمينية. وكاد محمد بن يوسف الثغرى بطل حروب بابك قديما وحروب الروم حديثا أن يستخلصه لنفسه، وقد ظل يمدحه ويصف بلاءه فى الثغور حتى توفى سنة 236 للهجرة، وتغنىّ طويلا بمدح كاتبه محمد بن عيسى القمى، ويتحول إلى ابنه يوسف الذى خلفه على إمارته الأخيرة فى أرمينية وأذربيجان ويكثر من مدائحه. ونظن ظنّا أن من أوائل مدائحه لأبى سعيد محمد بن يوسف الثغرى رائيته (1) التى يعزيه فيها عن المعتصم حين توفى سنة 227 للهجرة. ويبدو أن أبا تمام دفعه بعد هذا التاريخ لزيارة سامرّاء بعد أن وثق من براعته الشعرية، إذ نراه ينزل بها، ونرى أبواب الخليفة الواثق ووزيره ابن الزيات وكاتبه الحسن بن وهب مفتوحة أمامه، وكأن صداقة أبى تمام للأخيرين
(1) الديوان 2/ 882.
هى التى فتحت له سريعا تلك الأبواب، وإذا هو يمثل بين أيديهم جميعا مادحا ممجدا.
ويتولى الخلافة المتوكل سنة 232 للهجرة ويعصف بابن الزيات ويظل البحترى بعيدا خوفا على نفسه، وخاصة أنه كانت قد جرت على لسانه بعض أبيات يتعصب فيها للمعتزلة وقولهم بأن القرآن مخلوق ضد أهل السنة من مثل قوله فى بعض الخارجين على أبى سعيد الثغرى:
يرمون خالقهم بأقبح فعلهم
…
ويحرّفون كلامه المخلوقا
وسأله سائل: أكنت معتزليّا، فأجابه:«كان هذا دينى فى أيام الواثق ثم نزعت عنه فى أيام المتوكل، فقال له: يا أبا عبادة! هذا دين سوء يدور مع الدول! » (1). فقد نزع عن نفسه لعهد المتوكل ثوب الاعتزال الذى كان يدين به الواثق ووزيره ابن الزيات، ولبس ثوب أهل السنة الذى فرضه المتوكل. وهو جانب سيئ فى البحترى إذ كان متقلبا مسرفا فى التقلب، يلتمس المنفعة لنفسه ما وجد إلى ذلك سبيلا. على كل حال أحسّ بادئ الأمر أن أبواب المتوكل موصدة من دونه، ولكن ذلك لم يدفعه عن طريقه، فقد أخذ يمدح بعض خاصّته وخاصّة وزيره الفتح بن خاقان وهو يحيى بن على المنجم، الذى اشتهر بوصله الشعراء بهما وأخذه لهم الصلات السنية منهما، ووعده علىّ أن يصله بالفتح، ونراه يستنجز وعده فى بعض شعره (2)، وينجح على فى وصله بالفتح لسنة 233 ويمدحه (3) وينال جوائزه، ولكن عينه لا تزال طامحة إلى مديح المتوكل، ويلوّح للفتح بطموحه ويعده الفتح ويتعجله أن يفى بوعده فى غير قصيدة من مثل قوله (4):
وعدت فأوشك نجح وعدك إنه
…
من المجد إعجال المواعيد بالنّجح
وأنت ترى نصح الإمام فريضة
…
وإخباره عنى سبيل من النّصح
(1) أخبار البحترى للصولى ص 123.
(2)
الديوان 2/ 1132.
(3)
فى أخبار البحترى للصولى ص 83 لن أول قصيدة مدح بها البحترى الفتح بن خاقان لسنة 233 هى: هب الدار ردت رجع ما أنت قائله وأبدى الجواب الربع عما تسائله انظر الديوان 3/ 1610.
(4)
الديوان 1/ 446.
ويفتح له المتوكل بيد الفتح أبوابه، ويستمع إليه وتتواتر صلاته وإقطاعاته عليه، وكذلك إقطاعات الفتح وصلاته، فقد كان ديوان الخراج إليه. ونراه يمدح الوزير الثانى للمتوكل عبيد الله بن يحيى بن خاقان، ولم يكد يترك أحدا من معاونى الفتح ومساعديه إلا مدحه، فهو يمدح أبا نوح عيسى بن إبراهيم أحد كتّابه فى دواوين الخراج وكان نصرانيّا، وكأن نصرانيته لم تمنعه من مديحه، وسنراه فيما بعد يكثر من مديح عبدون بن مخلد الراهب أخى صاعد وزير المعتمد. ويمدح أيضا من كتاب الخراج والدواوين أعوان الفتح من أمثال أحمد بن المدبر وأخيه إبراهيم، ويظل يمدحهما طويلا، حتى بعد خروج أحمد للعمل فى دواوين مصر والشام.
وكان قد ترك زوجته فى منبج وأنجب منها ابنه أبا الغوث فكان كثير الرحلة إلى مسقط رأسه، ويبدو أنه كان يقضى فى وطنه الصيف كله فرارا من حر العراق ولفحه، يقول (1):
نصبّ إلى طيب العراق وحسنها
…
ويمنع منها قيظها وحرورها
هى الأرض نهواها إذا طاب فصلها
…
ونهرب منها حين يحمى هجيرها
وكان لا يترك وجيها ولا وليّا ولا صاحب خراج فى طريقه من سامرّاء إلى منبج إلا ويقدّم إليه مدائحه ويأخذ جوائزه، من مثل بنى حميد الطوس الطائى وأبى سعيد الثغرى وابنه يوسف صاحبى أرمينية وأذربيجان وآل عبد الملك بن صالح الهاشمى، بل يبدو أنه كان يمد رحلاته فى الشام فيمدح بعض العمال والولاة مثل مالك بن طوق صاحب دمشق والأردن وأبى مسلم الكجّى، كما كان يمد رحلاته إلى بغداد وما وراءها من مدن العراق، ونراه يكثر من مديح القائمين عليها من آل طاهر. فهو يمدح منهم إسحق المصعبى ومحمد بن عبد الله بن طاهر الذى حكم بغداد منذ سنة 237، وكذلك أخواه سليمان وعبيد الله، وله فى الأسرة شعر كثير.
وممن أكثر من مديحهم لعهد المتوكل قائداه عبد الله بن دينار وابنه أحمد، وإبراهيم ابن الحسن بن سهل وله فيه نحو عشر قصائد، وله فى الفتح بن خاقان تسع
(1) الديوان 2/ 943.
وعشرون قصيدة، ومن عمال المتوكل الذين مدحهم دليل بن يعقوب النصرانى (1).
وتحوّل إزاء أعمال المتوكل وكل ما حدث فى عصره إلى ما يشبه آلة راصدة، فهو يسجل لسنة 235 عقده ولاية العهد لأبنائه الثلاثة: المنتصر والمعتز والمؤيد قائلا (2):
قدّامهم نور النبىّ وخلفهم
…
هدى الإمام القائم المحمود
ولا يترك نصرا على ثائر إلا ويدوّنه. وكان بطارقة أرمينية خلعوا الطاعة وفتكوا لسنة 237 بيوسف بن محمد بن يوسف الثغرى والى إقليمهم، فوجه إليهم المتوكل جيشا سحقهم سحقا وألقوا عن يدوهم صاغرون، ونوّه البحترى بهذا الانتصار طويلا. وكانت قد حدثت فى أواخر العقد الرابع من القرن أو أوائل الخامس حروب دامية بين قبائل ربيعة: تغلب وشيبان وغيرهما، واستطاع الفتح بن خاقان أن يحقن الدماء بينها وأن يردّها إلى الطاعة، ومن الغريب أن لا تعنى كتب التاريخ بهذا الحدث العناية المنتظرة، بينما نرى البحترى يسجلها، وقد بلغ به الأسى أقصاه إذ يرى هذه القبائل المنحدرة من أب وأصل واحد تفقد ما ينبغى أن يكون بينها من البرّ والعطف، فإذا هى تفزع إلى السيف وإلى القوة والقهر وسفك الدماء، يقول (3):
وفرسان هيجاء تجيش صدورها
…
بأحقادها حتى تضيق دروعها
تقتّل من وتر أعزّ نفوسها
…
عليها بأيد ما تكاد تطيعها
إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها
…
تذكّرت القربى ففاضت دموعها
شواجر أرماح تقطّع بينهم
…
شواجر أرحام ملوم قطوعها (4)
فبعضهم يسفك دم بعض ويده لا تطاوعه، والدماء تفيض والدموع تسيل والرماح تقطع علائق الأرحام. وأعاد المتوكل ووزيره الفتح الأمر إلى نصابه من الأمن والسلم، فأغمدت السيوف وقرّت القلوب الخافقة ونامت العيون المسهّدة. ويثب أهل حمص بعاملهم (5) لسنة 240 ويعودون إلى الوثوب والثورة فى سنة 241 وينكل
(1) الديوان 3/ 1689.
(2)
الديوان 2/ 701.
(3)
الديوان 2/ 1299.
(4)
الشواجر: المتشابكة المتداخلة
(5)
تاريخ الطبرى 9/ 197 وما بعدها.
بهم المتوكل وسرعان ما يعفو عنهم، ويسجل البحترى الحادث منوّها بعفوه قائلا (1):
تداركت بالإحسان حمص وأهلها
…
وقد قارفوا فعل الإساءة والخرق (2)
وترسل تذورة إمبراطورة القسطنطينية إلى المتوكل لسنة 241 وفدا يطلب الفداء بين أسرى الروم والعرب، ويستقبل الخليفة الوفد فى حفل كبير يصفه البحترى، ويطيل فى وصف السماط الذى مدّ فيه وما علا وجوههم وسيماهم من ذهول وحيرة (3).
وكان المتوكل قد فكّر لسنة 243 فى أن يجعل دمشق حاضرة الخلافة حتى يبتعد عن سامراء ومن بها من قواد الأتراك الطغاة، ورحل إليها فى سنة 243 وتنبّهوا لمقصده فعملوا على العودة به إلى سامراء واضطرّ أن ينزل على إرادتهم، ويذكر البحترى خروجه إلى دمشق وقدومه منها فى غير قصيدة (4). ويأخذ منذ سنة 245 فى وصف قصوره التى سميت باسم المتوكلية والتى بلغت-كما مر بنا فى الفصل الثانى- نحو العشرين، وكان من أهمها البرج الذى عرضنا له هناك، ويتوقف البحترى مرارا فى مدائحه ليصف تلك القصور من مثل القصر المعروف بالجعفرى والصبيح والمليح وشبداز (5)، وما يزال ينوه بها مباهيا الأمم والشعوب. وفى قصر الجعفرى لقى المتوكل ووزيره الفتح مصرعهما لسنة 247 تحت بصر البحترى وسمعه، وهاله ما رأى، مما جعله يرثى المتوكل برائيته زاعما أنه دافع عنه بيديه، ويسجل على ابنه المنتصر-كما مرّ بنا فى الفصل الماضى-اشتراكه فى المؤامرة الباغية والفتك به، قائلا (6):
أكان ولىّ العهد أضمر غدرة
…
فمن عجب أن ولّى العهد غادره
وحرىّ بنا أن نذكر أن البحترى لم يتورط مثل ابن الجهم فى هجاء المعتزلة إرضاء للمتوكل ولا فى هجاء العلويين ولا فى هجاء النصارى. وأظلمت الدنيا فى عينيه بعد مقتل المتوكل وصاحبه الفتح، فخرج إلى المدائن يتعزى، وهناك نظم
(1) الديوان 3/ 1546.
(2)
قارفوا: ارتكبوا. الخرق: الحمق.
(3)
الديوان 3/ 1602.
(4)
الديوان 2/ 707، 709، 991، 3/ 1514.
(5)
انظر الديوان 2/ 1041، 3/ 2004.
(6)
الديوان 2/ 1048.
سينيته مودعا فيها حزنه وأساه، وعاد إلى سامراء وتركها إلى منبج وأهله. ودفعه الطمع إلى أن يعود إلى المنتصر سريعا وأن يقف بباب وزيره أحمد بن الخصيب متوسلا إليه بكاتبه الحسن بن مخلد حتى يقرّبه منه ويسترضيه له، ويجيبه إلى أمنيته، فيعفو عنه المنتصر، ويستمع إلى قصيدته فيه، وكان قد رفع المحنة التى أنزلها أبوه بالعلويين ودفع الأذى عنهم والتعرض لشبعتهم، فأشار إلى ذلك البحترى منشدا (1):
وآل أبى طالب بعد ما
…
أذيع بسربهم فابذعر
ونالت أدانيهم جفوة
…
تكاد السماء لها تنفطر
وصلت شوابك أرحامهم
…
وقد أوشك الحبل أن ينبتر
ويتوفّى المنتصر بعد ستة أشهر من خلافته ويخلفه المستعين فيستبقى ابن الخصيب فى الوزارة، وسرعان ما يغضب عليه قواد الترك فتستصفى أمواله وينفى إلى جزيرة إقريطش (كريت) وحينئذ نجد البحترى يتنكّر له، ويبالغ فى تنكره إرضاء للمستعين وقواده، فيؤلبهم عليه، ويحثهم-كما مرّ بنا فى الفصل الماضى- على قتله قائلا (2):
لابن الخصيب الويل كيف انبرى
…
بإفكه المردى وإبطاله
وهو جانب فى البحترى لاحظه بعض معاصريه-كما مرّ فى غير هذا الموضع-إذ تحدثوا عن كفره للإحسان وعدم وفائه، حين يقلب الدهر مجنّه لبعض ممدوحيه أو حين يسبق إليهم الموت، فإنه بدلا من أن يثير ذلك فى نفسه ضروبا من الشفقة والرحمة، يسارع إلى الوقوف مع خصومهم الجدد أصحاب الحكم والسلطان ابتغاء ما فى أيديهم من المال والنفع، ويضرب القدماء لذلك مثلا موقفه من الخليفة المستعين إذ كان يمدحه، وينال جوائزه حتى إذا خلعه قواد الترك وتولى المعتز الذى يرتجى نفعه أسرع إليه بقصيدة يمدحه فيها ويهجو المستعين هجاء مقذعا بمثل قوله (3):
(1) الديوان 2/ 850. ابذعر: تفرق.
(2)
الديوان 3/ 1637.
(3)
الديوان 1/ 215.
بكى المنبر الشرقىّ إذ خار فوقه
…
على الناس ثور قد تدلّت غباغبه (1)
فكيف رأيت الحقّ قرّ قراره
…
وكيف رأيت الظلم آلت عواقبه
وكان المعتز من أقرب الخلفاء إلى نفسه، فأكثر من مديحه ووصف قصوره وتسجيل الأحداث لزمنه، ومدح معه ابنه عبد الله وتوثقت بينهما الصداقة، ومما سجله من الأحداث لعهده وعهد المستعين قتل القائد التركى أتامش وكاتبه شجاع (2) لسنة 249 وقتل بغا الشرابى (3) قاتل المتوكل لسنة 254 ونراه يمدح القائد التركى وصيفا (4) الكبير وابنه صالحا (5) ويكرر حينئذ تشوقه إلى وطنه، ويستأذن مرارا فى الإلمام به. ويكثر من مديح الشاه ابن ميكال قائد المستعين ووزيره أبى صالح محمد بن يزداد وابنه عبيد الله وأخيه القاسم. ويضطر قواد الترك المعتزّ إلى خلع نفسه فى سنة 255 ويتولى المهتدى بعده الخلافة لنحو عام واحد، ويغدو إليه ويروح بقصائده مصورا تقاه وزهده وانصرافه عن الملاهى ومتاع الحياة الزائل ونشره للعدل فى ربوع دولته وإذلال جيوشه للروم ونزولهم على إرادته صاغرين. وسرعان ما ثار عليه الأتراك وخلعوه وولوا بعده المعتمد، وهو آخر الخلفاء الذين مدحهم البحترى، وكان الخليفة الحقيقى لعهده أخاه الموفق، وكان حازما شجاعا واسع التدبير، وهو الذى قضى على ثورة الزنج وهزم يعقوب الصفار الثائر بإيران هزيمة ساحقة. ويصور البحترى فى مديحه للمعتمد بأس جيوشه وانتصاراتها الحربية، ويصف القصر الذى احتفل ببنائه وسماه المعشوق ونوّه به، وله قصيدة رائعة يهنئ فيها الموفق بقمعه لثورة الزنج، وفيها يخاطبه بقوله (6):
أخذت بوتر الدين مثنى وظفّرت
…
يداك فلم يفلت عدوّ تطالبه
ولم يترك حينئذ وزيرا ولا كاتبا كبيرا إلا ويمدحه ويأخذ جوائزه، وكان المعتمد استوزر عبيد الله بن يحيى بن خاقان الذى وزر قديما لأبيه المتوكل، فلزمه البحترى، وفكّر فى أن يرتجع منه الضياع الكثيرة التى كان المتوكل أقطعها إياه؛ فأكثر الشاعر من التوسل إليه، حتى يتركها له. وقصيدته (7):
(1) خار: صاح. الغباغب: ما تغضن من الجلد فى منبت العثنون أو اللحية حول الذقن.
(2)
الديوان؟ ؟ ؟ /524.
(3)
الديوان 3/ 2019.
(4)
الديوان 3/ 1403.
(5)
الديوان 3/ 2174.
(6)
الديوان 1/ 224.
(7)
الديوان 1/ 493.
أمرتجع منى حباء خلائف
…
توليت تسيير المديح لهم وحدى
تصور جزعه المفرط، ويتوفّى عبيد الله سنة 263 ويخلفه الحسن بن مخلد، فيمدحه بقصائد مختلفة شاكيا ضارعا، فيجعل أمره إلى كاتبه السّيبى، ولا يسارع إلى استرضائه، فيشكوه إلى ابن مخلد بحائيته (1):
لك الخلائق فينا السهلة السّمح
…
والنّيل يسلس للرّاجى وينسرح
ولا يكاد يسمعها الحسن حتى يبلغ بالبحترى ما يريد، ويزيل المطالبة عنه.
ويترك الحسن الوزارة سريعا ويتولاها سليمان بن وهب الذى استوزره المهتدى من قبل، ويقدم إليه البحترى مدائحه، ويعصف به الموفق فى سنة 265 فيحبسه ويصادر أمواله. ويخلفه على الوزارة أحمد بن صالح بن شيرزاد لمدة شهر واحد، وللبحترى فيه مدائح مختلفة، ويلى الوزارة بعده أبو الصقر إسماعيل بن بلبل بينما يلى الكتابة للموفق صاعد بن مخلد، ويكثر البحترى من مديح ابن بلبل، ويهجو له فى بعض مديحه ابن شيرزاد الذى طالما مدحه، ويمدح كاتبه جرادة على حين يذم كاتبا آخر كان نصرانيّا يسمى إسرائيل، ويلحّ على ابن بلبل فى قصائد كثيرة أن يأذن له بالرحيل إلى موطنه بمثل قوله (2):
وأعتقت الرّقاب فمر بعتقى
…
إلى بلدى وأنت به جدير
وأكثر حينئذ من مديح صاعد بن مخلد كاتب الموفق، وكان من وجوه النصارى، وحين استكتبه الموفق أعلن إسلامه وله فيه وفى أخيه عبدون الراهب وابنه أبى عيسى العلاء مدائح كثيرة. وكان أبو عيسى مثقفا ثقافة واسعة بعلم الفلك، مما جعل البحترى يكثر له فى إحدى مدائحه من ذكر النجوم (3). ومن كبار الكتّاب الذين مدحهم حينئذ أبو العباس أحمد بن ثوابة صاحب ديوان الرسائل. وفى أثناء ذلك كان يمدح كثيرين من العمال والولاة وأصحاب الخراج والكتّاب والقواد مثل وصيف الصغير وأذكوتكين والهيثم بن عبد الله التغلبى والى الموصل وأحمد بن محمد بن بسطام والى الشام وسيما الطويل والى حلب والعواصم ورافع بن هرثمة والى الرى
(1) الديوان 1/ 438 وأخبار البحترى ص 110.
(2)
الديوان 2/ 916.
(3)
الديوان 2/ 1268.
وكتّاب الجبل وأنفذ إليهم ذات مرة غلامه نصرا ليطالبهم برسومه (1). وممن كان يمدحهم كثيرا أبو جعفر أحمد بن محمد الطائى والى الكوفة وآل نوبخت. وكان كثير الإلمام ببغداد، وعنى بمديح كثيرين من آل طاهر حكّامها كما مرّ بنا، كما مدح بعض أعيانها وعلمائها مثل عبد الله بن الحسين بن سعد القطرّبلى والمبرّد النحوى، ومدح عبيد الله بن خرداذبة الجغرافى صاحب البريد بناحية الجبل. ويبدو أن أصحاب الخراج عادوا يتعقبون البحترى ويطالبونه بخراج إقطاعاته الكثيرة، مما جعله يسأل ابن بلبل المعونة فى خراجه، كما يسأل المعتمد نفسه قائلا (2):
أخشى الخراج وقد دعوت لعظمه
…
ملك الملوك ورافد الرّفّاد
ومضى عمال الخراج يشقلون عليه، وهو كل يوم يمثل بين أيديهم شاكيا ملحّا فى أن يحطّوا عن كاهله ما يطلبونه منه، ولا يكاد يظفر بما يبتغى منهم، فيفكر فى مبارحة العراق، ويمدح ابن طولون صاحب مصر والشام حينئذ ويصرّح فى مديحه له بما فى نفسه قائلا (3):
فأصبحت فى بغداد لا الظلّ واسع
…
ولا العيش غضّ فى غضارته رطب
أأمدح عمّال الطّساسيج راغبا
…
إليهم ولى بالشام مستمتع رغب (4)
وكل شئ يؤكد أن البحترى كان قد أثرى ثراء فاحشا منذ عصر المتوكل، فإنه نثر عليه أموالا جمة وإقطاعات عديدة، بالإضافة إلى ما أغدق عليه الفتح بن خاقان وغيره من رجال الدواوين، وخاصة آل المدبر وفى مقدمتهم إبراهيم، وكان هو وأخوه أحمد من كبار الموظفين فى دواوين الخراج والضياع، ويقول الصولى إنه كان يوجب على إبراهيم فى كل سنة أن يسقط أكثر خراجه أو يؤديه عنه، وإنه استماحه مرة لشراء ضيعة فلامه لكثرة ضياعه، وقال له: تكفيك ضياعك فقد
(1) الديوان 3/ 1856.
(2)
الديوان 2/ 734.
(3)
الديوان 1/ 123.
(4)
الطساسيج: الإقطاعات والضياع، ويقال إن سواد العراق كان مقسما إلى ستين طسوجا. رغب: متسع.
كثرت وعظمت، غير أن البحترى تمادى فى إلحاحه عليه، وأنشده قصيدته التى يقول فيها (1):
وما زالت العيس المراسيل تنبرى
…
فيقضى لدى آل المدبّر حاجها (2)
ولم لا أغالى بالضّياع وقد دنا
…
علىّ مداها واستقام اعوجاجها
إذا كان لى ترييعها واغتلالها
…
وكان عليك عشرها وخراجها (3)
فأمر له بالمال الذى يشترى تلك الضيعة به (4). وكلما تقدمنا مع البحترى فى الزمن بعد المتوكل زادت ضياعه، وقد وصلته من المعتز ضياع وأموال كثيرة، وهو مع ذلك لا يزال يلحّ عليه بالطلب حتى ليستهديه خاتم ياقوت ويهديه إليه (5). وكان المعتز قد أهدى إلى ابنه عبد الله إقطاعا جاوره البحترى فى بعضه، وكأنه لم يكتف بما صار فى يده، فقد مضى يسأل عبد الله أن يهب له من إقطاعه الضيعة التى تجاوره، وتشفّع إليه بأبيه وصنع فى ذلك أشعارا، منها قوله للمعتز:
يا واحد الخلفاء غير مدافع
…
كرما وأحسنهم ندى وصنيعا
فاتجه إلى ابنه عبد الله قائلا له: اقض حاجة البحترى، فوهبها له (6).
وتظل عنده شهوة تملك الضياع والإقطاعات؛ إذ نراه يطلب من صاعد بن مخلد إقطاعا (7) ومن ابنه أبى صالح ضيعة (8) ومن سليمان بن عبد الله بن طاهر حين أصبح حاكما لبغداد إقطاعا (9). ويكثر عنده أن يسأل ممدوحيه أفراسا (10) وسيوفا (11)
(1) الديوان 1/ 427.
(2)
العيس: الإبل. المراسيل: النوق السبلة السير.
(3)
التربيع: الإيماء. والعشر: عشر الثمار وهو الحراج المفروض.
(4)
أخبار البحترى للصولى ص 119.
(5)
انظر التجف والهدايا للخالديين نشر سامى الدهان ص 73، وزهر الآداب 3/ 97، وأخبار البحترى ص 108 وقد عدد فى القصيدة عطايا المعتز له من الدنانير والخلع وكيف أنه أمر بأن يزور بلده على خيل البريد الرسمى. انظر الديوان 3/ 1536.
(6)
أخبار البحترى ص 105 والديوان 2/ 1309.
(7)
الديوان 3/ 1524.
(8)
الديوان 2/ 1008.
(9)
الديوان 3/ 2041.
(10)
انظر الديوان 1/ 399، 3/ 1485، 1744، 1989، 2030.
(11)
الديوان 3/ 1741.
وشرابا (1) وثيابا (2) وغلمانا (3). وبذلك نستطيع أن نوفق بين شحّه وما يقال من أنه كان يمشى فى موكب من غلمانه (4)، فقد كانوا جميعا هبات من ممدوحيه، وخصّ نسيما من بينهم بغزل كثير، وكان قد أهداه إليه محمد (5) بن عيسى القمى كاتب أبى سعيد الثغرى، وفى الأغانى «أن البحترى جعله بابا من أبواب الحيل على الناس فكان يبيعه ويتعمد أن يصيّره إلى ملك بعض أهل المروءات ومن ينفق عنده الأدب، فإذا حصل فى ملكه شبّب به وتشوّقه ومدح مولاه حتى يهبه له، ولم يزل ذلك دأبه حتى مات نسيم فكفى الناس أمره» (6). وقد يكون أبو الفرج مبالغا فى ذلك، فإنه لم يثبت أن أحدا اشتراه سوى إبراهيم بن الحسن بن سهل، وقد مدحه بأشعار كثيرة يصور فيها ندمه، فرده عليه (7)، ولعل فى ذلك كله ما يصور مدى ثراء البحترى من جانب وشدة طمعه من جانب آخر، وقد ظلّ يلحف فى سؤال العطاء والضياع فكان طبيعيّا أن يلفت إليه أنظار معاصريه، وحتى الخراج أو عشر الثمار كان ما ينى يحتال فى التخلص منه بالتضرع إلى وزير أن يدفعه عنه أو إلى كاتب كبير مثل إبراهيم بن المدبر. ويفكر فى الإفادة من أحمد بن طولون -كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع-فيمدحه لسنة 269 ويمدح بعض كتابه وقواده مثل عفاص ويونس بن بغا وجعفر بن عبد الغفار ومحمد بن العباس الكلابى.
ويتوفّى ويخلقه ابنه أبو الجيش خمارويه لسنة 270 وترى البحترى فى بعض قصيده (8) يجمع بين مديحه ومديح أبى الصقر إسماعيل بن بلبل وزير المعتمد.
وفى سنة 272 يغضب الموفق على صاعد كاتبه ويقبض عليه وعلى ابنيه أبى عيسى العلاء وأبى صالح وعلى أخيه عبدون ويصادر جميع أموالهم وأسبابهم (9)، ويتوفّى أبو عيسى العلاء فى الحبس بعد ثلاثة عشر يوما ويكتئب البحترى، ويرثيه بقصيدة يقول فيها (10):
(1) الديوان 1/ 407، 427، 491، 559، والأغانى 18/ 171.
(2)
الديوان 2/ 837، 892 وأخبار البحترى ص 115.
(3)
انظر مثلا 2/ 986، 1067، 3/ 1485.
(4)
راجع الأغانى 18/ 170 وقابل بالعمدة لابن رشيق 2/ 150.
(5)
الديوان 1/ 527.
(6)
الأغانى 18/ 171.
(7)
أخبار البحترى ص 127 وما بعدها.
(8)
الديوان 2/ 909.
(9)
تاريخ الطبرى 10/ 10.
(10)
الديوان 3/ 1553.
ولم أر كالدنيا حليلة وامق
…
محبّ متى تحسن بعينيه تطلق
تراها عيانا وهى صنعة واحد
…
فتحسبها صنعى لطيف وأخرق
وحين سمع بعض خصومه البيتين شنّعوا عليه بأنه ثنوى يؤمن بإلهى النور والظلمة، وشاع ذلك فى عامة بغداد وكانت غالبة عليها حينئذ، فخافهم البحترى على نفسه وخرج إلى منبج. ويبدو أن إقامته بها لم تطل وأنه عاد منها إلى سامراء وبغداد بعد حين إذ يحكى الصولى أن أول ما رأى البحترى سنة 276 بمجلس المبرد فى مسجده ببغداد. ونظن ظنّا أن رحلاته إلى العراق لم تنقطع إلا بعد قبض الموفق على صديقه إسماعيل بن بلبل سنة 277 وكأنما كانت هذه الحادثة سببا فى أن يصمم على مبارحة العراق إلى الأبد. وربما ولّى وجهه حينئذ نحو مصر وصاحبها خمارويه (1). ويبدو أنه كان يلقاه فى رحلاته بالشام، ثم مدّها إلى مصر للقائه.
ويؤكد نزوله بها كثرة مدائحه لكاتب خمارويه إسحق بن نصير. غير أنه كانت علته كبرة فلم يقم بمصر طويلا وعاد إلى منبج، وظل بها سنواته الأخيرة حتى لبّى نداء ربه لعام 284.
وكان البحترى يأخذ بحظوظ مختلفة من الثقافة الإسلامية والعربية فى عصره، وليس معنى ذلك أنه تخصص فى أحد فروعها، ولكنه كان يلم بها، إذ كانت حلقاتها مفتوحة للصادر والوارد فى جميع أنحاء العالم العربى حينئذ، ويرمز إلى ذلك فى شعره أننا نراه فيه يعرض لبعض اصطلاحات علم الحديث، إذ يقول فى مديحه لإبراهيم بن الحسن بن سهل (2):
خلق أتيت بفضله وسنائه
…
طبعا فجاء كأنه مصنوع
وحديث مجد عنك أفرط حسنه
…
حتى ظننّا أنه موضوع
وفى ذلك ما يؤكد صلته بالدراسات الإسلامية لعصره من حديث نبوى وتفسير وفقه، وبالمثل كان على صلة بالدراسات العربية من تاريخية ولغوية ونحوية، وهذا طبيعى لأنه أعد نفسه ليكون شاعرا مرموقا، فكان لا بد له أن يتزوّد من اللغة ومن
(1) النجوم الزاهرة 3/ 97.
(2)
الديوان 2/ 1316.
النحو ومن التاريخ العربى الإسلامى، ونراه فى بعض شعره يعرض لعالم لغوى فى عصره هو الفضل بن محمد اليزيدى، رآه يزرى على جميل وكثيّر، فيقول إنه لا علم له بالشعر، وكل علمه إنما هو التعمق فى الفاعل والمفعول (1).
وكان لا يبارى فى ثقافته بالشعر، مما جعله يضع فيه ديوان حماسة مشاكلة ومشابهة لأستاذه أبى تمام فى حماسته المشهورة، ويقول ابن النديم إن له كتابا ثانيا فى معانى الشعر، غير أن هذا الكتاب سقط من يد الزمن. والكتاب الأول كاف فى تصور إكبابه على الشعر القديم إكبابا منقطع النظير. وبالمثل كان يكبّ على دواوين الشعراء المحدثين، مما أتاح له ثقافة شعرية واسعة. ولكن هل نستطيع بذلك كله أن نقول إن البحترى كان مثقفا بالثقافة الحديثة لعصره وما يتصل بها من علوم الأوائل؟ حقّا له قصيدة، كما أسلفنا، أكثر فيها من ذكر النجوم، ولكن هذا لا يعنى أنه كان ملمّا بعلم الفلك والنجوم لعصره، فقد كان منصرفا عن هذا العلم وغيره من علوم الأوائل. وكان إذا ألم بها يلمّ من الظاهر إن صح هذا التعبير، فهو لا يتعمقها أو هو بعبارة أدق لا يستطيع أن بتعمقها إذ كانت نشأته نشأة بدوية كما لا حظ القدماء، وإن كان قد تحضّر فيما بعد، ولكنه ظل بعيدا عن الفقه بالثقافة الحديثة، وخاصة الثقافة الفلسفية والمنطقية.
وكانت قد أخذت تتكوّن فى النقد والبلاغة-كما أشرنا إلى ذلك فى غير هذا الموضع-ثلاث بيئات: بيئة محافظة مسرفة فى المحافظة ترى أن الشعر ينبغى ألا يقاس إلا بالمقاييس العربية الخالصة، وهى بيئة اللغويين، وبيئة مجددة مسرفة فى التجديد ترى أن يقاس الشعر بمقاييس البلاغة اليونانية، وهى بيئة المتفلسفة، ممن كانوا يترجمون عن اليونان أو يقرءون ما ترجم عنهم، وبيئة معتدلة، فهى لا تحافظ محافظة اللغويين ولا تجدد تجديد المتفلسفة، بل تقف موقفا وسطا، فهى تقرأ ما يترجم وهى تنظر فيما أثر عن العرب من ملاحظات بلاغية، ثم تحاول أن تنفذ من ذلك إلى مقاييس للبلاغة العربية تزنها موازين دقيقة، وهى بيئة المتكلمين، على نحو ما نعرف عن الجاحظ فى كتابه البيان والتبيين، وانحاز الشعراء غالبا إلى البيئتين المحافظة والمعتدلة، وقلما انحاز أحد منهم إلى البيئة الثالثة
(1) الديوان 3/ 1817 وما بعدها.
لأنها كانت تجافى الذوق العربى. غير أن هذه البيئة أخذت تشنّ حسلات شعواء على بيئة المحافظين وخاصة على ممثلها البحترى الذى لم يكن يتقن الثقافة الفلسفية، ونرى بعض من يمثلون البيئة المعتدلة ينضمون إلى هذه الحملة بعامل المنافسة بينهم وبين البحترى وفى مقدمتهم ابن الرومى. وكانت قد ساءت العلاقة بين البحترى وعبيد الله بن عبد الله بن طاهر صاحب شرطة بغداد، ونظن ذلك حدث فى بعض فترات عزله عن وظيفته، وسارع البحترى فلمّح إليه فى بعض شعره بما يشبه الذم، وردّ عليه عبيد الله يمدّه صديقه ابن الرومى بأشعار ملتهبة، ويبدو أنهما ندّدا بضعف ثقافة البحترى وأنه لا يعرف فلسفة ولا منطقا، مما جعله يهجو عبيد الله ببائية يقول فيها (1):
كلّفتمونا حدود منطقكم
…
والشعر يغنى عن صدقه كذبه
ولم يكن ذو القروح يلهج بال
…
منطق ما نوعه وما سببه
والشّعز لمح تكفى إشارته
…
وليس بالهذر طوّلت خطبه
وحقا لم يكن امرؤ القيس الملقّب بذى القروح يعرف فلسفة ولا منطقا لا لأنه صدّ عن ذلك، ولكن لأن عصره كله لم يكن يعرفهما، ولو أنه تأخر به الزمن إلى عصر البحترى لعكف على الفلسفة والمنطق كما عكف ابن الرومى وأضرابه وغذّى بهما شاعريته غذاء رفيعا. وهو يلمّح فى الشطر الأخير إلى ابن الرومى وما اشهر به من مطولات شعره.
وقد ساعد الذوق المحافظ الذى ساد فى العصر كما أشرنا الى ذلك؟ ؟ ؟ مرارا-إلى أن ترجح كفّة البحترى المحافظ كفّة ابن الرومى المجدد، وأن يقف فى صفّه لا علماء اللغة وحدهم من أمثال المبرد بل كثرة كثيرة من الشعراء، على حين كان ابن الرومى يعيش لعصره فيما يشبه عزلة من معاصريه مع تفوقه على زميله تفوقا واضحا بملكاته الشعرية الخصبة، ولكنه لم يكن يحتفظ للشعر بصياغته الموروثة وتقاليدها على نحو ما يحتفظ البحترى، فوقع بعيدا عن ذوق الكثرة الغالبة من الشعراء والنقاد.
(1) الديوان 1/ 209.
وليس معنى ذلك أن البحترى انفصل تماما عن روح العصر، فقد كان يلائم بين شعره وبين تلك الروح عن طريق ثقافة واسعة بشعر أستاذه أبى تمام وشعر من سبقوه. . . أمثال مسلم وأبى نواس وبشار، المرة تلو المرة، والمرات تلو المرات، حتى أصبح ذلك جزءا لا يتجزأ من جوهر شعره، ولذلك نعته معاصروه طويلا بأنه يغير على أشعار من سبقوه فيسلبها لنفسه، وفى ذلك يقول ابن الرومى لأبى عيسى العلاء بن صاعد حين نشر الأمن فى ربوع بغداد (1):
أيسرق البحترىّ الناس شعرهم
…
جهرا وأنت نكال الّلصّ ذى الرّيب
وأهم ديوان ألحّ على تمثله ديوان أستاذه أبى تمام، ولا حظ ذلك كله القدماء فأفردوا سرقاته بالبحث، وكان أول من عنى بذلك عنده معاصره أحمد بن أبى طاهر؛ إذ استخرج له ستمائة بيت ردها إلى أصولها عند الشعراء وخاصة عند أبى تمام، وقد بلغ ما سلبه منه فى رأى ابن أبى طاهر مائة بيت. وتلاه بشر بن تميم بمصنف ذكر فيه سرقاته من أبى تمام، وعليه اعتمد الآمدى فى الفصل الذى عقده لهذا الجانب من سرقات البحترى. وفى رأينا أنه استطاع بذلك أن يتلافى نقص ثقافته الحديثة، فقد خالط الشعراء المحدثين وخاصة أبا تمام مخالطة نادرة، بحيث تمثل المعانى والأخيلة الحديثة، بل قل بحيث استخلصها لنفسه، وأخذ يصدر عنها كما يصدر الضوء عن الشمس والشذى عن الزهرة. وحقّا أنه يوجد بون بعيد بين عرض هذه الأخيلة والمعانى عنده وعند أبى تمام، فقد كان أبو تمام يغمس أفكاره وأشعاره فى ليقة المنطق، فإذا القصيدة عنده توشك أن تتحقق فيها الوحدة العضوية، فالمعانى والصور يتولد بعضها من بعض ولا خنادق ولا ممرات بين الأبيات، على حين تكثر هذه الممرات والخنادق عند البحترى، ولا حظ ذلك القدماء فقالوا إنه لا يحسن الخروج من موضوع إلى موضوع فى الشعر (2)، لسبب بسيط وهو أنه لم يكن يخضع فى شعره للمنطق على نحو ما صرّح بذلك آنفا. وظاهرة ثانية هى أنه جارى أستاذه فى
(1) ديوان ابن الرومى (نشر كامل كيلانى) ص 35.
(2)
العمدة لابن رشيق 1/ 159.
الاحتفال بألوان البديع واستظهارها فى أشعاره، ولكن حين نقرن أى لون عنده إلى أصله عند أبى تمام سنجد مفارق واسعة، فأبو تمام مثلا يجنح إلى استخدام نوافر الأضداد فى أسعاره كما مر بنا فى كتاب العصر العباسى الأول، ولم يكن البحترى يستطيع أن يتعمق هذا التعمق ولذلك نراه يكتفى بالطباق بحيث إذا ذكر الوصل مثلا ذكر معه الهجر، وإذا ذكر الذل ذكر معه الكبر، وإذا ذكرت السهولة ذكرت معها الوعورة، وإذا ذكرت الحرية ذكرت معها العبودية. ولون آخر يتعمقه أبو تمام هو الاستعارة على نحو ما مر بنا أيضا فى حديثنا عن العصر العباسى الأول، ولم يكن البحترى يتعمق هذا اللون تعمقا من شأنه أن يبعده عن الذوق القديم، ولذلك كله قال النقاد إنه يحافظ على عمود الشعر العربى (1)، يريدون محافظته على أصوله الموروثة، ومن تتمة ذلك عنده أنه لم يكن يكثر من ألوان البديع إكثار أبى تمام، ولا كان يستطيع أن يتغلغل فى دقائق الفكر والأخيلة على نحو ما كان يتغلغل أبو تمام بحكم ثقافته الفلسفية ومواردها التى لا تنضب فى أشعاره، ولذلك كان يشيع فى أشعاره الغموض، مما جعل القدماء يختلفون فى فهم كثير من أبياته وتفسيرها وتأويلها، لكثرة ما توحى به من معان، وهو اختلاف لا يضيع منك هباء، بل إنك تجد فى أثنائه ما يشبه أقواس قزح ممتدة فى أشعاره، وهى أقواس بهيجة، تزهى بالفكر العميق والخيال الواهم البعيد.
ولكن إذا كان البحترى لم يستطع أن يحقق لنفسه هذا المدى الرائع من الشعر والفن، بسبب ضعف ثقافته الفلسفية، فإنه استطاع أن يحقق لنفسه مدى مقابلا لا يقل روعة، وهو مدى الجمال الصوتى البديع، بحيث استطاع أن يرتفع باصطفاء الكلمات والملاءمة بينها فى الجرس! بل بين حروفها وحركاتها ملاءمة رفعته إلى مرتبة موسيقية لم يلحقه فيها سابق ولا لا حق، وكأنما كانت له أذن داخلية مرهفة، تقيس كل حرف وكل حركة وكل ذبذبة صوتية، فإذا به ينظم شعرا مصفى مروّقا، شعرا يلذ الألسنة والآذان والأذهان لذة لا تعادلها لذة. وقد وقفنا طويلا عند هذا الجانب فى الفصل الثانى من كتابنا «الفن ومذاهبه فى الشعر العربى» وأوضحنا مدى مشاكلته بين أصوات الألفاظ والقوافى فى بعض القصائد وموضوعاتها كما أوضحنا
(1) الموازنة للآمدى (طبعة الجوائب) ص 2.
مدى التوافق الصوتى عنده بين الحروف والكلمات والحركات والسكنات، وكأنما أعطت الموسيقى الشعرية كل مفاتيحها وكل أسرارها للبحترى، فإذا هو يوقع على قيثارته أروع ألحان عرفتها العربية (1). وبذلك استطاع أن يتلافى بقوة قصوره الثقافى.
فإذا هو يوضع على قدم المساواة مع أبى تمام، وإذا النقاد يتقابلون فى صفّين:
صفّ يرفع أبا تمام إلى الذروة، وهم المتفلسفة ومن يعنون بالتعمق فى المعانى والأخيلة.
وصف يرفع البحترى إلى نفس المرتبة، وهم أصحاب الآذان المرهفة الذين يكبرون اللذة الصوتية، وكان ينضم إليهم طوائف من المحافظين واللغويين، وكان البحترى نفسه إذا سئل عنه وعن أبى تمام قال: جيده خير من جيدى ورديئى خير من رديئه، وهو يريد بجيد أبى تمام معانيه وأخيلته الدقيقة التى لم يكن أحد من أهل زمانه يستطيع أن يحلق فى آفاقها، أما رديئه فيريد به بعض أبياته التى يضطرب فيها اللفظ لأنه لم يكن يعنى بألفاظه وأصواته عناية البحترى:
والمديح أهم موضوع استنفد شعر البحترى، فقد عاش، كما مرّ بنا، يمدح الخلفاء العباسيين من المتوكل إلى المعتضد ووزراءهم وولاتهم وقوادهم وكتّابهم، وكأنما وقف نفسه على الإشادة بالدولة ورجالاتها، بحيث يعدّ الشاعر الرسمى لها، وكان طبيعيا لذلك أن ينتصر للعباسيين ضد خصومهم العلويين، وأن يتغنى بذلك فى أشعاره، حتى يثبت ولاءه لهم وأنه يقف فى صفوفهم مدافعا عنهم مناضلا بمثل قوله للمتوكل (2):
شرفا بنى العباس إن أباكم
…
عمّ النبىّ وعيصه المتفرّع
إن الفضيلة للذى استسقى به
…
عمر وشفّع إذ غدا يستشفع
وأرى الخلافة وهى أعظم رتبة
…
حقّا لكم ووراثة ما تنزع
أعطاكموها الله عن علم بكم
…
والله يعطى من يشاء ويمنع
فالعباس جد العباسيين وعم الرسول صلى الله عليه وسلم من العيص ومنبت الشجر الضخم، يريد أنه من الأصول بينما على بن أبى طالب من الفروع، ويستدل على
(1) الفن ومذاهبه فى الشعر العربى (الطبعة السابعة-نشر دار المعارف) ص 77 وما بعدها.
(2)
الديوان 2/ 1311.
فضله بأن عمر استسقى به فى عام الرمادة حين أصاب الجزيرة القحط مستشفعا به لربه، ولم يستسق بابن أبى طالب، ويشير إلى حكم الميراث فى الإسلام وما فرضه من حجب العم لابن أخيه، فالخلافة حق من حقوق العباسيين، كما تقرر ذلك الشريعة الإسلامية، وليس لأبناء على وحفدته أى حق فى منازعتهم.
ويكرر البحترى فى مديحه للمتوكل وغيره من الخلفاء العباسيين تقواهم، وعدلهم الذى ينشرونه فى ربوع الدولة، ومدى رعايتهم للأمة ورفقهم بها ورقتهم لها وكيف يقومون على حمايتها بجنودهم وجموعهم الجرّارة. وكان ينتهز كل فرصة ليدبج قصائده فيهم، فمن ذلك قصيدته فى وصف موكب المتوكل فى أثناء خروجه لأداء الصلاة فى عيد الفطر، وقد صوّر فى فاتحتها قوة الإسلام حينئذ مجسمة فى جيش ضخم كان يحفّ بالمتوكل وكأنه جبال تتحرك، فترجف الأرض وتهتز لضخامته وعدده الكثيفة، ويتحدث عن جلال الموكب وما استدار حول المتوكل من هالات قدسية ومن محبة للشعب وإعظام، يقول (1):
افتنّ فيك الناظرون فإصبع
…
يومى إليك بها وعين تنظر
يجدون رويتك التى فازوا بها
…
من أنعم الله التى لا تكفر
ذكروا بطلعتك النبىّ فهلّلوا
…
لما طلعت من الصفوف وكبّروا
حتى انتهيت إلى المصلّى لابسا
…
نور الهدى يبدو عليك ويظهر
فلو انّ مشتاقا تكلف فوق ما
…
فى وسعه لسعى إليك المنبر
ولعل أهم وزير استصفاه لنفسه الفتح بن خاقان، فله ألف ديوانه الحماسة، وقد عاش نحو خمسة عشر عاما يمدحه منوها بسياسته وحزمه وشجاعته وأناته فى تسديد الأمور، وعونه للضعيف ورده للمظالم ونشره للعدل الذى لا تصلح حياة الناس بدونه وبعد غوره ويقظته وكفايته لحمل أمانة الحكم على خير وجه ممكن، مع تقواه وتواضعه ومع صيانته للثغور وحطمه بجيوشه للثوار والأعداء حطما لا يبقى ولا يذر، ومع أخلاقه الرفيعة التى تتحلّى بها نفسه الأبية، وكان ربما بدر منه ما يجعل الفتح ينصرف عنه. فكان يعتذر له بأشعار رائعة، سبق أن صورناها فى الفصل الماضى. ومديحه
(1) الديوان 2/ 1072.
فيه يكتظ بعاطفة حقيقية، فقد كان يكنّ له ودّا وحبّا وإخلاصا، وكان ما بنى يتغنّى بمديحه، ومن طريف قوله فيه مصورا هيبته (1):
إذا ما مشى بين الصفوف تقاصرت
…
رءوس الرّجال عن طوال سميدع (2)
وإن سار كف اللحظ عن كل منظر
…
سواه وغضّ الصوت عن كل مسمع
فلست ترى إلا إفاضة شاخص
…
إليه بعين أو مشير بإصبع (3)
ومرّ بنا أن أول نابه اتصل به وخصه بمديحه محمد بن يوسف الثغرى ممدوح أبى تمام الذى كان فى مقدمة من قعوا ثورة بابك الخرمى، كما كان فى مقدمة جيوش المعتصم فى غزوه لعمورية. وقد ظل ينازل الروم ويمحق جموعهم حتى وفاته سنة 236. وقد سجل البحترى حروبه وانتصاراته القديمة والحديثة جميعا، مجسما بأس جيوشه. وكيف كانوا يتهافتون على الوغى كما يتهافت الفراش على النار، إنهم أبناء موت يطرحون أنفسهم تحت رحاه، فلا تطحنهم وإنما تطحن أعداءهم طحنا، وله فى تمجيد شجاعة محمد بن يوسف الثغرى أشعار وقصائد كثيرة، ومن طريف ماله فى تصوير رباطة قلبه وسكون نفسه فى الحرب قوله (4):
لقد كان ذاك الجأش جأش مسالم
…
على أن ذاك الزّىّ زىّ محارب
تسرّع حتى قال من شهد الوغى
…
لقاء أعاد أم لقاء حبائب
وصاعقة فى كفّه ينكفى بها
…
على أرؤس الأقران خمس سحائب
فجأشه مطمئنّ ونفسه هادئة، حتى ليظن من يراه أنه فى سلم وأمن ودعة مع أن الزى زى محارب باسل. وإنه ليقبل على ميادين الحرب إقبال المحب على الحصى؟ ؟ ؟ معشوقته هانئا مغتبطا، وإن السيف فى يده ليشبه أدق الشبه صاعقة تسقط على الأعداء بشواظها من أصابعه الحمس، وكأنها خمس سحائب مائتى ترسل عليهم الصواعق المدمرة. والبطل الثانى فى ديوان البحترى هو أحمد بن دينار، وقد سجّل بطولته فى معركة بحرية دمّر فيها بأسطوله الأسطول البيزنطى تدميرا ذريعا، ومن عجب أن الطبرى وغيره من مؤرخى العرب لم يدونوا هذه المعركة الخطيرة،
(1) الديوان 2/ 1239.
(2)
السميدع: السيد الكريم الشجاع.
(3)
الإفاضة: الاتجاه بالبصر.
(4)
الديوان 1/ 178.
ولا أشاروا إليها، والمظنون أنها كانت لعهد المتوكل، ولعل فى تسجيل البحترى لها ما يؤكد ما قلناه مرارا من أن شعر المديح عند العرب يعدّ فى بعض جوانبه وثائق تاريخية مهمة، وفيها يقول البحترى مصورا زحف ابن دينار بمركبه «الميمون» ومن حوله المراكب تغص بجنوده البحريين الذين محقوا الأسطول البيزنطى وجنوده محقّا (1):
غدوت على الميمون صبحا وإنما
…
غدا المركب الميمون تحت المظفّر
وحولك ركّابون للهول عاقروا
…
كئوس الردى من دارعين وحسّر (2)
صدمت بهم صهب العثانين دونهم
…
ضراب كإيقاد اللّظى المتسعّر (3)
يسوقون أسطولا كأن سفينه
…
سحائب صيف من جهام وممطر (4)
فما رمت حتى أجلت الحرب عن طلّى
…
مقطّعة فيهم وهام مطيّر (5)
وكل شئ يشهد بأن الشعر كان لا يستصعب على البحترى، فقد كان يتدفق على لسانه تدفقا، ومع ذلك يقال إنه نقل كثيرا من مدائحه، حتى ليبلغ ذلك عشرين قصيدة، إلى مدح أناس جدد (6). وقد يكون فى ذلك مبالغة، على أننا نجد فى الديوان رائية مرددة بين أبى الصقر إسماعيل بن بلبل، والخضر بن أحمد والى الموصل، واختلفت لذلك رواية بعض أبياتها (7). ويدخل فى هذه الظاهرة عند البحترى ما قيل من أنه هجا كثيرين ممن مدحهم، حتى ليبلغ بهم بعض الرواة أربعين شخصا (8)، وقد عرضنا لذلك فى غير هذا الموضع، ولا شك فى أن فى العدد مبالغة.
وفى ديوانه أهاج مختلفة ترجع إما إلى حرمانه من جائزة، وإما إلى كفران صنيعة عند بعض معاصريه، وإما إلى منافسة بينه وبين الشعراء وخاصة من كان منهم
(1) الديوان 2/ 982.
(2)
الردى: الموت. الدارع: لابس الدرع. الحاسر: عكس الدارع.
(3)
صهب العثانين: شقر الحى، ويريد بهم الروم.
(4)
السحاب الجهّام: الذى لا ماء فيه.
(5)
رام يريم عن المكان: زال عنه وفارقه. الطلى: الأعناق. الهام: الرءوس.
(6)
الموشح ص 336.
(7)
الديوان 2/ 870 وما بعدها.
(8)
الموشح ص 336.
يتعرض لشعره بالذم والنقد اللاذع. ويلاحظ أبو الفرج الأصبهانى فى ترجمته أن بضاعته من هذا الفن قليلة، ويروى عن ابنه أبى الغوث أن السبب فى ذلك أن أباه أحرق هجاءه فى الناس خوفا من مغبة عداوتهم له ولأبنائه، وكأن هذه الرواية لم تعجب أبا الفرج، فقد عاد يؤكد أن أكثر هجائه ساقط غث الألفاظ ركيك لا يشاكل طبعه ولا يليق بمذهبه (1).
وبالمثل الفخر عند البحترى ضعيف، هو حقّا يفخر فى بعض قصائده بآله وعشيرته بحتر وقبيلته طيئ ناعتا لهم بالكرم والشجاعة والكثرة والحصافة، ولكنه لا يصدر فى ذلك عن إيمان قوى بالمجد، وكأنما كانت عصبيته القبلية ضعيفة، بل لقد كان إحساسه بعروبته أيضا ضعيفا، ومرت بنا فى الفصل السالف قصيدته فى إيوان كسرى وبكاؤه لأمجاد الفرس، وكأنما لم يكن يستشعر شيئا من الإحساس العميق بالأمجاد العربية فى مقابل الأمجاد الفارسية، ولعله من أجل ذلك كان كثيرا ما يسترسل فى إشادته بالأصول الفارسية لبعض ممدوحيه، على نحو ما يلقانا فى مديحه للحسن بن سهل بمناسبة عيد المهرجان، وله يتوجه بالخطاب قائلا (2):
إن للمهرجان حقّا على ك
…
ل كبير من فارس وصغير
عيد آبائك الملوك ذوى التّي
…
جان أهل النّهى وأهل الخير (3)
ويعدّد طائفة من هؤلاء الملوك فى مقدمتهم يزدجرد، وكسرى، وأردشير، ويصور ما كان لهم من أبهة الملك وما كانوا يغدون ويروحون فيه من السندس والحرير.
وحتى العاطفة الإسلامية بدورها نجدها ضعيفة عند البحترى، إذ امتدح كثيرين من النصارى على نحو ما مر بنا فى غير هذا الموضع.
وذكرنا فى الفصل السالف مرثيته للمتوكل، وأوضحنا كيف أعلنها ثورة مدوية على قاتليه وولى العهد الذى ناصرهم، وقد استهلها بوصف قصر الجعفرى الذى قتل به الخليفة وما حلّ عليه من سواد وكآبة، حتى غدا كأنه مأتم كبير،
(1) الأغانى (طبعة الساسى) 18/ 167.
(2)
الديوان 2/ 886.
(3)
الخير: الكرم والشرف.
ويصور فزع سيداته الجميلات حين علمن بالخبر الفاجع وكيف انتهكت حرماته ثم يصف القتل والقتلة وصفا مؤثرا. وله مرثية رائعة يرثى بها طائفة من بنى حميد الطوسى خرّوا صرعى فى ميادين الثغور دفاعا عن العرين العربى، وفيهم يقول (1):
قبور بأطراف الثّغور كأنما
…
مواقعهم منها مواقع أنجم
مضوا يستلذّون المنايا حفيظة
…
وحفظا لذاك السؤدد المتقدّم
وكلّهم أفضى إليه حمامه
…
أميرا على تدبير جيش عرمرم (2)
مساع عظام ليس يبلى جديدها
…
وإن بليت منهم رمائم أعظم
والمرثية بكاء حار لهؤلاء الأبطال الذين استشهدوا تحت ظلال السيوف فداء لوطنهم بأرواحهم واستبسالا بعد أن أذاقوا الأعداء كئوس الموت دهاقا.
واشتهر البحترى بإجادته للغزل، ومرّ بنا أنه أحبّ فى شبابه علوة الحلبية وظلت ذكراها لا تبارحه، وظلت تستولى على قلبه، وكانت قد صبت إليه كما صبا إليها وبادلته ودا بود، ثم تزوجها الذفافى كما أسلفنا، فسلت عنه، ولكنه لم يسل عنها، وفى ديوانه مقطوعة يهجوها بها قد يكون نظمها فيها ساعة غضب انتابته، وإن كنا نظن ظنّا أنها منحولة عليه، فقد ظل قلبه لها فى سامرّاء وبغداد كما ارتحل عنها، فهو لا ينى يذكرها بمثل قوله فى مقدمة مدحه للمعتز (3):
كم ليلة فيك بتّ أسهرها
…
ولوعة فى هواك أضمرها
وحرقة والدموع تطفئها
…
ثم يعود الجوى فيسعرها
يا علو علّ الزمان يعقبنا
…
أيام وصل نظلّ نشكرها
وكأن السنوات الطويلة التى مضت بين حبه لها فى شبابه ومديحه للمعتز وهو فى نحو الخمسين من عمره لم تطفئ لوعته وحرقته، فقد ظلت نار شوقه وحبه
(1) الديوان 3/ 1945.
(2)
عرمرم: كثيف.
(3)
الديوان 2/ 1074.
لها مشتعلة بين جوانحه، وظل يصدر عنها فى قطع مفردة وفى مقدمات مدائحه من مثل قوله (1):
وخلاف الجميل قولك للذّا
…
كر عهد الأحباب صبرا جميلا
لا تلمه على مواصلة الدّم
…
ع فلؤم لؤم الخليل الخليلا
على ماء الدموع يخمد نارا
…
من جوى الحبّ أو يبلّ غليلا
وكانت لدى البحترى قدرة بارعة فى وصف مظاهر العمران، بما أتيح له من دقة فى التصوير والتعبير، ولم يكد يترك قصرا بناه المتوكل دون أن يصفه موجزا أو مسهبا، وبالمثل وصف ما بناه الخلفاء بعده من قصور. ومرّ بنا وصفه الرائع لإيوان كسرى، ومن القصور التى أجاد فى وصفها قصر الكامل الذى بناه المعتز وفيه يقول (2):
ذعر الحمام وقد ترنّم فوقه
…
من منظر خطر المزلّة هائل (3)
رفعت لمنخرق الرّياح سموكه
…
وزهت عجائب حسنه المتخايل (4)
وكأن حيطان الزجاج بجوّه
…
لجج يمجن على جنوب سواحل
لبست من الذهب الصقيل سقوفه
…
نورا يضئ على الظلام الحافل (5)
وقد مضى يصف رخامه وخطوطه المتقابلة وما امتد أمامه من بستان أنيق وما يجرى فيه من مياه دجلة المفضضة ومن نسيم الصّبا الحانى. وكان القدماء يعجبون أشد الإعجاب بوصفه لبركة أقامها المتوكل بأحد قصوره فكانت فتنة للناظرين، وفيها يقول البحترى (6):
يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها
…
والآنسات إذا لاحت مغانيها (7)
تنصب فيها وفود الماء معجلة
…
كالخيل خارجة من حبل مجريها
(1) الديوان 3/ 1767.
(2)
الديوان 3/ 1648.
(3)
المزلة: المزلق.
(4)
منخرق الرياح: مهبها. سموكه: أعاليه.
(5)
الحافل: الكثير.
(6)
الديوان 4/ 2416.
(7)
الآنسات هنا جوارى المتوكل وكانت منازلهن تحفّ بالبركة.