الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن:
نشاط النثر
1 - تطور النثر
رأينا فى كتاب العصر العباسى الأول كيف أن النثر العربى تطوّر تطورا خطيرا، فقد حملت أوانيه الثقافات الأجنبية المختلفة من يونانية وفارسية وهندية وسريانية حملا لا يزال يروع الباحثين، وكأنما كان فى اللغة العربية طاقات مستكنّة لكى تحمل فى يسر هذه الثقافات ولا تتأبّى عليها، واشتهر كثيرون بالنهوض بهذا العمل وفى مقدمتهم ابن المقفع. ثم رعت الدولة الترجمة، وأنفقت عليها إنفاقات هائلة، بحيث كاد أن لا يبقى كتاب نفيس فى الثقافات المذكورة إلا نقل إلى العربية وبحيث يمكن أن يسمّى العصر العباسى الأول عصر النقل والترجمة. وظلت من ذلك بقايا إلى هذا العصر، وتحول المترجمون فيه يعيدون النظر فى كثير مما ترجم فى العصر الماضى، وكانت عامة الترجمة فيه حرفية، فالفقرة من الفقر فى كتاب تترجم حرفيّا، اللفظة مقابل اللفظة، مما قد يصيب الكلام بشئ من الالتواء أو التعثر أو الاضطراب فى التعبير. وكان ذلك دافعا للمترجمين أن يعيدوا النظر فى كثير مما ترجم وأن يترجموه ثانية على أساس جديد، هو ترجمة المعانى لا الترجمة الحرفية، بمعنى أن المترجم يقرأ الفقرة وينقل معناها كما ارتسم فى ذهنه دون التقيد الحرفى حتى يطرّد نسق الكلام ولا يظهر فيه شئ من الاختلال الذى كثيرا ما تدفع إليه الترجمة الحرفية. وحقّا من المترجمين الأوائل من استطاعوا أن ينفذوا إلى هذه الطريقة الثانية للترجمة مبكرين، على نحو ما هو معروف عن ابن المقفع وترجماته، ولكنه كان يعدّ شاذّا وعدّ فى الوقت نفسه من بلغاء العربية، لأننا قلما نحس عنده نشازا أو التواء أو انحرافا من شأنه إفساد التعبير،
إلا ما قد يكون أصاب بعض رسائله لطول المسافة بيننا وبينه، وما أدخلته أيدى النسّاخ على مر العصور فى كتاباته، من بعض الخلل. وهو على كل حال خلل قليل جدّا، وبين أيدينا ترجمته لكليلة ودمنة، وهى من أروع الترجمات القديمة، وتدلّ بحق على أنه كان أحد بلغاء العربية لعصره. ولكن ابن المقفع يعد شخصية نادرة بين مترجمى العصر العباسى الأول، إذ لم يكن لكثرتهم بلاغته ولا فصاحته، لذلك أحسّ المترجمون فى العصر العباسى الثانى عندهم غير قليل من الانحراف فى التعبير، وتنبّهوا إلى أن ذلك جاءهم من الترجمة الحرفية، فأخذوا يعيدون ترجمة كثير مما نقلوه. وكان هذا كسبا للنثر العربى فإن الضّيم الذى كان يداخل الترجمات أخذ يزايلها. واتبع حنين بن إسحاق-أكبر مترجمى العصر-منهجا فى ترجمته أن يجمع للكتاب المترجم كلّ ما يمكنه من مخطوطاته، وأن يعارضها بعضها على بعض مقابلا بين عباراتها، محاولا أن يستخلص منها المعانى بكل دقة. وهو أستاذ المترجمين والترجمة فى العصر العباسى الثانى الذى وضع بقوة فكرة ترجمة المعانى لا ترجمة الألفاظ أو الترجمة الحرفية. وكان يعمل بين يديه كثير من الشباب فى مقدمتهم ابنه إسحق وابن أخته حبيش، يترجمون حسب منهجه، وهو يراجعهم ويصلح لهم بعض ما ترجموه على هدى طريقته الجديدة.
وكان من الكتب التى أعادت ترجمتها هذه المدرسة كتاب الخطابة لأرسططاليس، ترجمه إسحق بن حنين وينصّ ابن النديم فى الفهرست على أنه كان قد نقل قبل ذلك نقلا آخر، ولا يعيّن صاحبه، غير أنه يسميه «النقل القديم» . وقد يقال إذا كانت الترجمة فى هذا العصر أصلحت الترجمات القديمة، وبدت فى أسلوب عربى مستقيم، فلماذا يبدو الخلل والاضطراب الشديد فى ترجمة متّى بن يونس لكتاب أرسططاليس عن الشعر؟ وأكبر الظن أن هذا الاضطراب والخلل مصدرهما أن موضوع الكتاب وهو المأساة وما اتصل بها من الشعر القصصى لم يرتسما فى ذهن متّى رسما بيّنا، إذ كان السريان-مثل العرب-لا يعرفون شيئا عن الشعر اليونانى وفنونه التى ظهرت عندهم القصصية والغنائية والتمثيلية، وهذا هو السبب فيما أصاب ترجمة كتاب الشعر لأرسطو عند متّى من تعثر وخلل. وقد يكون الخلل والعتثر موجودين فى الأصل السريانى الذى نقل عنه الكتاب.
على كل حال انتقلت الترجمة فى هذا العصر نقلة واسعة، فقد آخذ المترجمون يتمثلون المعانى التى ينقلونها ويسيغونها ثم يترجمونها إلى لغة عربية فصيحة لا تشوبها شوائب الترجمة الحرفية القديمة. والذى لا ريب فيه أن معرفتهم بخصائص العربية كانت أدق من معرفة أسلافهم، إذ ذلّلها لهم علماء اللغة والبيان، وكانت قد ألفّت كتب كثيرة فى بيان طوابعها ومقوماتها، مما عرضنا له فى غير هذا الموضع، فطبيعى أن يتقنها غير مترجم. وهذا نفسه يلاحظ فيما أخذ ينشأ منذ العصر العباسى الأول من الأساليب الفلسفية والعلمية، فإن هذه الأساليب لانت وأخذ يزايلها الالتواء، بل أخذ يجرى فيها الاستواء والتناسق، وكأن الفلاسفة والعلماء أخذوا أنفسهم بإرادة قوية فى التثقف بالعربية. وليس ذلك فحسب، بل أيضا بالسيطرة على أساليبها سيطرة تقيم تلاؤما وتوازنا دقيقين بين الألفاظ والمعانى التى تؤدّيها، بل إن منهم من شارك فى الشعر والنثر مثل الكندى أول فيلسوف بالمعنى الكامل ظهر عند العرب، فقد أثرت عنه بعض أشعار، كما أثرت عنه بعض رسائل جيدة، سنعرض لها فى موضع آخر، فهو قد أتقن العربية وفقه أسرارها وخصائصها فقها جيدا، ونضرب لذلك مثلا من أسلوبه الفلسفى، وفيه يتحدث عن صانع الكون ومدبره والشواهد العقلية على وجوده، يقول (1):
«إن فى الظاهرات للحواس، أظهر الله لك الخفيات، لأوضح الدلالة على تدبير مدبّر أول، أعنى مدبرا لكل مدبر، وفاعلا لكل فاعل، ومكوّنا لكل مكوّن، وأولا لكل أولا، وعلة لكل علة، لمن كانت حواسه الآلية موصولة بأضواء عقله، وكانت مطالبه وجدان الحق وخواصه (معرفة) الحق وغرضه الإسناد للحق واستنباطه والحكم عليه. والمزكّى عنده-فى كل أمر شجر بينه وبين نفسه-العقل. فإن من كان كذلك انهتكت عن أبصار نفسه سجوف (2) سدف الجهل، وعافت نفسه مشارب عكر العجب، وأنفت من ركاكة معالجة الزهو، واستوحشت من تولّج (3) ظلم الشبهات، وخرجت من الرّيب على غير تبين، واستحيت من الحرص على
(1) رسائل الكندى الفلسفية تحقيق الدكتور عبد الهادى أبى ريدة (طبع مطبعة الاعتماد بمصر) ص 214.
(2)
سجوف: أستار. سدف: ظلمات.
(3)
تولج: دخول.
اقتناء ما لا تجد، وتضييع ما تجد، فلم تضاد ذاتها ولم تتعصب لأضدادها.
فكن كذلك، كان الله لك ظهيرا، أيها الصورة المحمودة والجوهر النفيس يتضح لك أن الله، جلّ ثناؤه، وهو الإنيّة (الموجود) الحقّ التى لم تكن ليسا أبدا، لم يزل-ولا يزال-أيس أبدا، وأنه هو الحى الذى لا يتكثّر بتّة، وأنه هو العلة الأولى التى لا علة لها، الفاعلة التى لا فاعل لها، المتممة، التى لا متمم لها. . . وإن فى نظم (انتظام) هذا العالم وترتيبه وفعل بعضه فى بعض وانقياد بعضه لبعض وتسخير بعضه لبعض وإتقان هيئته على الأمر الأصلح فى كون كل كائن وفساد كل فاسد وثبات كل ثابت وزوال كل زائل لأعظم دلالة على أتقن تدبير».
والقطعة تدلّ بوضوح على مهارة الكندى البيانية، وأنها لا تقف عند فصاحة التعبير، بل تتعدى ذلك إلى إدخال تلاوين من التكرار ومن الصور البيانية، وما المعنى الذى يريد أن يوضحه الكندى؟ إنه يريد أن يقول إن ما يبصره الإنسان من ظواهر الكون ويحسه من مشاهده ويراه من نظامه واتساق أجزائه دليل على أن هناك مدبرا أعلى للكون، وضع له قوانينه، التى تحول بينه وبين أى اختلاط أو اضطراب، كما يشهد بذلك نظامه الذى يخلو من كل عوج وخلل وفساد، ولكنه أخرج هذه الفكرة فى صورة فلسفية مطنبة، وهو فى إطنابه لا ينسى خصائص الأسلوب الأدبى وجمال الترادف فيه على نحو ما نرى فى قوله:«أعنى مدبرا لكل مدبر، وفاعلا لكل فاعل، ومكوّنا لكل مكوّن، وأولا لكل أول، وعلة لكل علة» ، فقد عبّر عن معنى واحد بخمس كلمات متوالية، ليقوّى المعنى، وليضيف إليه شيئا من الجمال الذى يلاحظ فى التكرار الصوتى. وهو لا ينسى أيضا ما فى الأسلوب الأدبى من روعة التصوير التى تخلب ألباب السامعين، على نحو ما نقرأ فى قوله:«فإن من كان كذلك انهتكت عن أبصار نفسه سجوف سدف الجهل، وعافت نفسه مشارب عكر العجب، وأنفت من ركاكة معالجة الزهو، واستوحشت من تولّج ظلم الشبهات» ، والصور متلاحقة فى هذه العبارات، وكأننا بإزاء كاتب أدبى لا كاتب فلسفى. وفى ذلك ما يدل بوضوح على التقاء الفلسفة بالأدب بل على امتزاجهما، فهذا الكندى الفيلسوف يعرض فلسفته فى أسلوب أدبى يشتمل على غير قليل من الروعة البيانية. وتلقانا فى أسلوبه اصطلاحاته الفلسفية كاصطلاح (الإنيّة) بمعنى
(الموجود) واصطلاح (ليس) بمعنى المعدوم و (أيس) بمعنى الموجود. وهذه الاصطلاحات لا تجور على العبارات فى الأسلوب، بل يندمج فيها لقدرة الكندى كما قلنا آنفا على المزج بين العبارة الفلسفية والعبارة الأدبية.
وحقّا لم يكن من وراء الكندى من المتفلسفين يبلغون مبلغه فى العربية والوقوف على أسرارها وخصائصها الأدبية ولكن من الحق أنهم جميعا عنوا بفصاحة عباراتهم وسلامتها بقدر ما استطاعوا حتى عند من كان منهم ينادى باتخاذ مقاييس البلاغة اليونانية معيارا للفن البيانى فى النثر. ومرّ بنا فى غير هذا الموضع أنه كانت هناك ثلاثة أذواق: ذوق ينادى بالرجوع إلى اليونان ومعاييرهم البلاغية، وكان يمثله المترجمون السريان ومن التفّ حولهم من الكتّاب الذين كانوا يعكفون على النظر فى علم النجوم وفى المنطق والفلسفة والذين كانوا يتحدثون دائما عن الكون والفساد، وسمع الكيان، والكيفية والكمية، والجوهر والعرض، ورأس الخط النقطة، والنقطة لا تنقسم مما كانوا يقرءونه فى الكتب المترجمة، على نحو ما يصور ذلك ابن قتيبة فى مقدمة كتابه «أدب الكاتب» . وكان يقابل هذا الذوق المجدد إلى أبعد حدود التجديد حتى ليرفض المقاييس العربية ذوق كان يرتضى هذه المقاييس، بل كان يرى خطل الاحتكام إلى سواها، فالأدب أدب عربى له ملكاته الراسخة، وله أساليبه الموروثة المصفّاة. وينبغى ألا نعدل عن معاييره الذاتية إلى معايير أخرى ليست من طبيعته ولا من بيئته. وكان يمثل هذا الذوق علماء اللغة المحافظون ومن سار فى فلكهم. وبين الذوقين كان هناك ذوق ثالث معتدل، لا يغلو غلو الأولين فى رفض المقاييس العربية ولا غلو الأخيرين فى رفض المقاييس الأجنبية، بل يقف موقفا وسطا بين الطرفين المتعارضين، فهو يعتدّ بالمقاييس العربية ويأخذ منها ما يوافق العصر ويلائمه، وهو ينظر فى المقاييس الأجنبية ويأخذ منها ما يتفق وروح البيان العربى. وكان يمثل هذا الذوق المتكلمون على نحو ما يلاحظ فى كتاب «البيان والتبيين» للجاحظ، وهو فيه يعرض ملاحظات العرب منذ الجاهلية عن البيان ومقوماته ولا يكاد يترك ملاحظة هنا أو هناك لخطيب عربى إلا ويسجّلها، وينقل عن الهند واليونان والفرس آراءهم-التى استطاع الحصول عليها-فى البلاغة دون أن يعلى فريقا على فريق أو ينصر فريقا ضد فريق.
وكانت بيئة المتكلمين أسبق من البيئتين الأخريين فى وضع قواعد البلاغة النثرية، إذ أخذت تحاول منذ العصر العباسى الأول وضع هذه القواعد، وكان من أهم ما دفعها إلى ذلك تدريب الشباب على المهارة فى الخطابة والبيان وكيف يتغلب على الخصوم فى حجاجه وجدله. وكانت المناظرات مندلعة بينها وبين أصحاب الفرق الأخرى، وكانت تندلع أحيانا فيما بين أفرادها، فكثر كلامهم عن صفات الخطيب وجهارة صوته ووضوح عبارته وخلابتها وملاءمة كلامه للسامعين وما يحسن من حركاته وإشاراته ودقة أدلته وبراهينه، وكيف يقرع حجة الخصم بالحجة الناصعة وكيف ينقض كلامه نقضا. وأخذوا يحاولون مبكرين التعرف على مقومات البيان العربى، ودار بينهم كلام كثير عن البلاغة وقواعدها البيانية وما ينبغى فى ألفاظ العبارات أحيانا من رشاقة وعذوبة وأحيانا أخرى من جزالة ورصانة، وما ينبغى للمعانى من وضوح مهما دقّت مسالكها. وبحق لاحظ ابن تيمية أن هذه البيئة هى التى فرقت بين الحقيقة والمجاز وأعدّت لمباحث البيان العربى المعروفة (1). ويلقانا فى هذا العصر الجاحظ وكتابه البيان والتبيين الذى ذكرناه آنفا، وهو يشتمل على كل الملاحظات البيانية والبلاغية التى أوصى بها المتكلمون الأدباء، حتى يحوزوا لأنفسهم بيانا ناصعا رائعا. وتهمنا ملاحظات الجاحظ نفسه، لأنه هو الذى عايش العصر، وترك آثارا واضحة فيه، ومن أهم ما ردّده طويلا فكرة مطابقة الكلام للسامعين، فلا يصح لمتكلم أن يكلم العامة بمصطلحات علم الكلام أو يكلم علماء الكلام بكلام الأعراب الممتلئ بالغريب أو بكلام العوام المبتذل المسف يقول:«قبيح بالمتكلم أن يفتقر إلى ألفاظ المتكلمين فى خطبة أو رسالة أو فى مخاطبة العوامّ أو فى مخاطبة أهله. . . أو فى حديثه إذا حدث أو فى خبره إذا أخبر وكذلك من الخطأ أن يجلب ألفاظ الأعراب وألفاظ العوام فى صناعة الكلام، ولكل مقام مقال ولكل صناعة شكل (2)» . ولا يملّ الجاحظ من الدعوة إلى الوضوح، وألا يوجز كاتب ولا عالم فى كلامه حتى يصبح ألغازا، وقد حمل على كتب الأخفش لما فيها من صعوبة وغموض، كما حمل على كل تكلف، يقول: «متى شاكل-أبقاك الله-اللفظ معناه، وأعرب عن فحواه، وكان لتلك الحال وفقا، ولذلك القدر
(1) كتاب الإيمان لابن تيمية ص 34.
(2)
الحيوان 3/ 368 والبيان والتبيين 1/ 144.
لفقا، وخرج من سماجة الاستكراه وسلم من فساد التكلف كان قمينا بحسن الموقع وبانتفاع المستمع» (1). وتحدث كثيرا عن جزالة الألفاظ وعذوبتها وعن تلاحمها وتنافرها وعن حسن موقعها فى مكان وسوئه فى مكان آخر، كما تحدث عن دقة استخدام الكلمات، يقول:«قد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها، وغيرها أحق بذلك منها، ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر فى القرآن الجوع إلا فى موضع العقاب أو فى موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون السّغب ويذكرون الجوع فى حال القدرة والسلامة. وكذلك ذكر المطر، لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا فى مواضع الانتقام، والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وبين ذكر الغيث» (2). ويتوقف مرارا ليشيد بجمال اختيار الألفاظ وجودة الصياغة والسبك وحسن الرّصف والنظم، ونراه ينوّه بالسجع وأثره فى نفوس السامعين (3)، كما ينوه بالازدواج وما فيه من جمال (4) صوتى، وكأنه هو الذى أعدّ لهذين الأسلوبين كى يشيعا على ألسنة الأدباء منذ عصره، وكان هو نفسه يستخدم الازدواج كثيرا فى أسلوبه، واستخدم السجع قليلا، وتردّدت على لسانه فنون بديعية وبيانية كثيرة، مثل: الأسلوب الحكيم والاحتراس، وكان يسميه إصابة المقدار، والاعتراض، والكناية والحقيقة والمجاز والاستعارة والتشبيه والتمثيل. وبذلك هيّأ فيما بعد لابن المعتز أن يكتب كتابه البديع مصورا فيه المحسنات البيانية والبديعية وفيه ينص على أن الجاحظ اكتشف بين تلك المحسّنات محسنا عقليّا هو «المذهب الكلامى» ويريد به الجاحظ دقة حيل المتكلمين فى الغوص على الحجج والعلل والمعاذير. وظلت كتابات الجاحظ فى البيان والتبيين وكذلك فى الحيوان مخازن لا تنفد للبلاغيين المتأخرين، كل يأخذ منها حسب ذوقه وقدرته العقلية.
وقدّمت بيئة اللغويين كتبا مختلفة، منها ما يعتمد على رواية الأشعار الغريبة وبعض أخبار عن الأعراب مثل مجالس ثعلب، ومنها ما يعنى بضبط ألفاظ وتفسيرها مثل كتابه «الفصيح» ، وأهم كتاب قدمته هذه البيئة كتاب الكامل للمبرد، وهو معرض جيد لنماذج من الشعر والنثر، لا تبلغ فى الغرابة مبلغ نماذج ثعلب فى
(1) البيان والتبيين 2/ 7.
(2)
البيان والتبيين 1/ 20.
(3)
البيان والتبيين 1/ 284، 297، 408.
(4)
البيان والتبيين 2/ 116.
مجالسه، ولذلك شغف الأدباء فى عصر المبرد وبعد عصره بهذا الكتاب، وعدّوه أحد كتب الأدب الأربعة الأساسية. ونراه يتأثر بما كتبه الجاحظ عن فنون البيان، فيشير إلى الحقيقة والمجاز والاستعارة، ويتحدث عن الكناية ويوزّعها على ثلاثة أنواع، فهى إما للتعمية وإما لتحاشى اللفظ الخسيس وإما للتفخيم (1)، ويجعل التشبيه أربعة أضرب، فهو إما تشبيه مفرط، وإما تشبيه مصيب، وإما تشبيه مقارب، وإما تشبيه بعيد (2). والكتاب يمثل ذوقا محافظا، فليس فيه أى شئ يتصل بآراء الأجانب فى البيان والبلاغة، وليس فيه أىّ استضاءة بهذه الآراء.
ومن الغريب أن نجد ابن قتيبة، وسنعرف فى موضع آخر أنه كان مثقفا بالثقافات الأجنبية المعاصرة، يجنح فى ذوقه إلى هذه البيئة اللغوية المحافظة فى كتابه «أدب الكاتب» وقد مضى فيه يعرّف الكتّاب بالاستعمالات اللغوية الصحيحة للكلمات، فمن ذلك الطّرب يذهب الناس إلى أنه فى الفرح دون الجزع، وليس كذلك إنما الطرب خفّة تصيب الرجل لشدة السرور أو لشدة الجزع (3)، ومن ذلك المأتم يذهب الناس إلى أنه المصيبة، يقولون كنا فى مأتم، وليس كذلك إنما المأتم النساء يجتمعن فى الخير والشر، والجمع مآتم، والصواب أن يقولوا كنا فى مناحة، وإنما قيل لها مناحة من النوائح لتقابلهن عند البكاء (4). ويظل يفتح نحو خمسين بابا لتعليم الكتّاب ألفاظا يجب أن يعرفوا دقة استخدامها، منها ما يتصل بأسماء الحيوان ومنها ما يتصل بأسماء الأفلاك، ومنها ما يتصل بأسماء النبات، ومنها ما يعرف واحده ويشكل جمعه، ومنها ما يتصل بالطعام أو الشراب أو الثياب أو السلاح. ويخرج من ذلك إلى أبواب تتصل بكتابة الكلمات من ذوات الألف أو الواو أو الياء إلى غير ذلك. وينتقل إلى أبواب تقويم اللسان ناصّا فيها على ما يسبّبه السماع للعامة من الوقوع فى الخطأ كأفعال تهمز والعامة تدع حذفها وما هو بالسين ويقولونه بالصاد وما جاء مفتوحا وهم يكسرونه إلى جمّ من مثل هذه المسائل. ويمضى إلى أبنية الأفعال ومعانيها وأبنية الأسماء ومعانيها، وفى أثناء ذلك يعقد بابا طريفا (5) لما يتكلم به العامة من الكلام الأعجمى، سواء
(1) الكامل للمبرد (طبعة رايت) ص 412.
(2)
الكامل ص 506.
(3)
أدب الكاتب لابن قتيبة (طبعة ليدن) ص 22.
(4)
أدب الكاتب ص 24.
(5)
أدب الكاتب ص 526.
أكان أصله روميّا أم نبطيّا أم فارسيّا أم سريانيّا. والذوق العام فى الكتاب ذوق لغوى محافظ شديد المحافظة.
وعلى ضوء الذوقين اللذين وصفناهما للبيئتين السالفتين صنّف معاصر لابن قتيبة هو إبراهيم بن المدبر المتوفى سنة 278 رسالة (1) بديعة فى موازين البلاغة وأدوات الكتابة، سماها الرسالة العذراء، وهى أول رسالة تناولت بدقة صناعة النثر، وهو يستهلها بأن شخصا طلب إليه أن يعرّفه بجوامع أسباب البلاغة وآداب الكتابة، ويشيد بهذه الصناعة، ويطلب ممن يريد حذقها طول الاختلاف إلى العلماء ومدارسة كتب الحكماء ورسائل المتقدمين والمتأخرين والوقوف على الأشعار والأخبار والسير والأسمار والخطب ومحاورات العرب ومعانى العجم وحدود المنطق وأمثال الفرس ورسائلهم وعهودهم وسيرهم، مع التزود بالنحو والتصريف واللغة والفقه. وابن المدبر بذلك كله يلتقى بذوق علماء الكلام كما يمثلهم الجاحظ فيما حكاه من الثقافات الأجنبية، كما يلتقى بعلماء اللغة والتصريف، فهو يستضئ بهم جميعا. ويدعو من يريد التخصص بهذه الصناعة أن يمهر فى نزع آى القرآن الكريم ووضعها فى مواضعها، وكذلك الأمثال والأشعار وإن كانت الأخيرة لا تستحبّ فى مخاطبة الخلفاء، وهو فى هذه الملاحظة يستمد من الجاحظ مباشرة (2) وقد استمد منه كثيرا فى رسالته. والمهم أنه يشيد فى تكوين ثقافة الأديب بالثقافة العربية، ويضعها جنبا إلى جنب مع الثقافات الأجنبية، مما يدل بوضوح على أنه كان يتأثر ببيئة المتكلمين تأثرا عميقا. ويتحدث عن زىّ الكاتب وحسن هندامه، ويطالب-فى إلحاح-كما طالب الجاحظ من قبله بالملاءمة الدقيقة بين الكلام وطبقات الناس من الخلفاء والوزراء والكتّاب وولاة الثغور وقواد الجيوش والقضاة والعلماء وذوى النباهة والظّرف. ويقول إن لكل طبقة من هذه ما يناسبها من الألفاظ والمعانى، حتى لا يجرى الأديب شعاع بلاغته فى غير مساربه ولا ينظم جوهر كلامه فى غير سلكه. ولا بد-كما قال الجاحظ مرارا وتكرارا- من المشاكلة الدقيقة بين الألفاظ والمعانى، حتى توضع الألفاظ فى مواضعها وتنزل
(1) جمهرة رسائل العرب لأحمد زكى صفوت 3/ 199.
(2)
البيان والتبيين 1/ 118.
مواطنها، ثم يتوقف-مهتديا بابن قتيبة-إزاء أبنية ينبغى تركها واستعمال أبنية أخرى، فمثل الدعاء:«أبقاك الله طويلا» ليس مستحبّا، إنما المستحب «أطال الله بقاءك» مع أنه لا فرق فى المعنى بين العبارتين، ولكنهم جعلوا الثانية أرجح وزنا وأنبه قدرا. وكذلك الدعاء:«جعلت فداك» يرى أنه قد ابتذل حتى مجّته الأفواه، إلى غير ذلك من أدعية كانت تنبو عن ذوق الأدباء من أمثاله.
ويقول إن مديح الخلفاء والوزراء فى الرسائل ينبغى ألا يكون بالفروض الواجبة مثل:
يصدق فى وعده ويفى بعهده، لأن ذلك من الواجبات التى ينبغى أن تكون فى كل شخص. ولا بد أن يعرف الأديب لكل كلمة مكانها، ويضرب مثلا لذلك أن شخصا كتب إلى داود بن خلف الأصبهانى معاصره صاحب مذهب الظاهرية عن شخص آخر على هذا النمط:«وإن قال كذا فقد خرج عن الملّة، والحمد لله» وردّ عليه داود متعجبا عن وضع الحمد فى هذا المكان قائلا: «تحمد الله على أن تخرج امرءا مسلما من الإسلام، هذا موضع استرجاع، وللحمد مكان يليق به، وإنما يقال فى المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون» . ويطلب ابن المدبّر أن يوضع مع ذكر الشكوى مثل: «والله المستعان، وحسبنا الله ونعم الوكيل» ، ومع ذكر البلوى:
«نسأل الله دفع المحذور، ونسأل الله صرف السوء» ومع ذكر النعم مثل: «الحمد لله خالصا، والشكر لله واجبا» . ويمضى فى إثر الجاحظ، فيقول إنه لا يجوز فى الرسائل الإيجاز المفرط ولا استعمال الألفاظ المشتركة أو المبهمة ولا محاكاة الشعر فيما يجرى فيه من حذف أو ضرورات. ويحذّر من استعمال كلمة «إياك» ويحسّ ثقلها فى مثل «كلمت إياك» . ويبدئ ويعيد-على ضوء الجاحظ-فى أن الألفاظ ينبغى أن توضع فى مواقعها بدقة. ويدعو إلى الاستهلال فى مقدمات الرسائل بحيث تشير فى صدرها إلى المراد منها، ويوصى بعدم إطالة المقدمات فى الكتابة، ويقول إنها ينبغى ألا تزيد عن سطرين أو ثلاثة. ثم يقيض فى أوصاف القلم واختيار مادته وطريقة بريه وأنواعه وأجودها، ويوصى بعدم إغفال الصلاة على الرسول عليه السلام. ويلفت إلى كيفية كتابة التاريخ بالقياس إلى الشهر، فإن كان الماضى أقل من نصف الشهر قال الكاتب: لكذا ليلة مضت من شهر كذا. وإن كان الباقى أقل من النصف قال: لكذا ليلة بقيت. ويتحدث عن القراطيس والكتابة فيها وطيّها. ويشير-على هدى ابن قتيبة-إلى العناية
بميزان التصريف. ويعود إلى وضع الألفاظ فى أماكنها، وينهى-كما نهى المتكلمون من قبل-من ليست له موهبة أدبية عن محاولة الانتظام فى هذه الصناعة. وينقل عن أحد المتكلمين، وهو العتّابى، رأيه فى اختيار الألفاظ وصعوبته. وينصح الكاتب بعرض ما يكتبه فى باكورة حياته على المختصين ليروا مقدار صلاحيته للصناعة. وينهى-على هدى الجاحظ-عن الألفاظ الحوشية والمبتذلة. وينقل عنه إعجابه بالكتّاب إذ قال:«ما رأيت قوما أمثل طريقة فى البلاغة من الكتّاب، فإنهم التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعّرا وحشيّا ولا ساقطا سوقيّا» . ويعود إلى فكرة الوضوح الجاحظية. وينقل عنه بعض كلامه. ويذكر أرسطو وينقل عنه بعض ما قاله فى النّصبة التى تدل على اللفظ والإشارة والخط والعقد كأعلام الأفراح. وينقل أيضا عنه حدّه للإنسان وأنه الحى الناطق، وهو بذلك يقترب من ذوق المتكلمين وانتفاعهم ببعض ما ترجم دون الذوبان فيه. ويبيّن أهمية الكتب المحبّرة تحبيرا جيدا فى استنزال الجبابرة وأنها قد تصنع ما لا تصنعه الجيوش اللّجبة. ثم يسوق صفحات جلبها من البيان والتبيين عن تعريف اليونان والروم والفرس للبلاغة. ولا يكتفى بذلك بل ينقل أيضا الصحيفة التى دوّنها الجاحظ عن الهنود فى البلاغة. ويتلوها بما دوّنه عن بعض بلغاء العرب والمتكلمين مثل خالد بن صفوان وعمرو بن عبيد والخليل بن أحمد، وكل ذلك دليل واضح على أن ابن المدبر وضع نصب عينه فى كتابته لرسالته العذراء ابن قتيبة والجاحظ، ولكن أثر الجاحظ وكتابه البيان والتبيين أبعد مدى وأعمق أثرا.
وحتى الآن لم نتكلم عن كتاب يمثل بيئة المترجمين والمتفلسفة ومن كان ينهج نهجهم فى الدعوة لمعايير البلاغة اليونانية، ولعل خير كتاب قدمته هذه البيئة فى مجال النثر والكتابة هو الكتاب الذى نشر باسم نقد النثر منسوبا إلى قدامة بن جعفر، وقد تبيّن فيما بعد أنه جزء من كتاب البرهان فى وجوه البيان لإسحق بن إبراهيم بن سليمان ابن وهب، وهو من أسرة ظلت تعمل فى دواوين الخلفاء العباسيين منذ المأمون، وكان جده وزيرا للمهتدى والمعتمد، وتوفى سنة 272 فبينه وبين حفيده جيل واحد مما يدل على أنه ممن عاشوا بأخرة من هذا العصر. ونراه فى مستهل كتابه يزرى على كتاب الجاحظ:«البيان والتبيين» ، وهذا طبيعى لأنه يمثل بيئة المتفلسفة
والمترجمين التى كانت تعارض المتكلمين فى مقاييسهم البلاغية، لأنهم لم يستوعبوا فى رأيه كتابات أرسطو فى المنطق والجدل والخطابة. وهو يفتتح كتابه بمباحث فى العقل تدل على أنه شيعى إمامى، ويعقد فصلا للقياس يحلله فيه على طريقة أرسطو، ويقول إنه جعل عمادا وعيارا على العقل كما جعل البركار لتقويم الدائرة والمسطرة لتقويم الخط.
ويفيض فى مباحث تتصل بالأخبار وبالفقه. ويتكلم عن بعض خصائص التعبير كما يتكلم عن الرمز ويقول إنه أتى منه كثير فى كتب المتقدمين من الفلاسفة وكان أكثرهم استعمالا له أفلاطون. ويعود إلى الحديث عن بعض خصائص العبارات وعن الأمثال والالتفات وعن المبالغة ويرتضيها متأثرا بأرسطو. ويعرض لمبحث الفصل والوصل بين العبارات وكذلك لمبحث التقديم والتأخير. ويقسم الكلام المنثور إلى خطابة وترسل واحتجاج وحديث، وينوّه بالإيجاز الذى حذّر الجاحظ منه، ويقول إن أرسطو وأوقليدس كانا شديدى الإيجاز، بينما امتاز بالإطناب جالينوس ويوحنا النحوى. ويعقد فصلا فى نحو عشرين صحيفة، أجمل فيه كتاب الجدل لأرسطو. وواضح أنه توسّع فى تشريعه للنثر العربى ووضعه لمعاييره فى الأخذ عن كتابى أرسطو فى المنطق والجدل. وهو أخذ يبدو فيه الجفاف وأنه ينبو عن الذوق العربى، ولذلك لم يلق هذا الكتاب ترحيبا من المتأدبين. وكان لذلك أثره فى أن نقاد العرب لم ينقلوا عنه شيئا فى كتاباتهم عن الخطابة والنثر، إذ رأوه يحتكم إلى أشياء غير وثيقة الصلة بأدبهم، ومن أجل ذلك ظل الكتاب وصاحبه مجهولين من عامة النقاد. ولا نبعد إذا قلنا إن بيئة المتكلمين هى التى سيطرت بما وضعته من معايير على أذواق الكتاب والأدباء فى العصر، وظل ذلك حقبا متطاولة، وهى كما قلنا بيئة معتدلة كانت تزاوج بين المعايير العربية والمعايير الأجنبية بحيث ظلت أوضاع العربية قائمة، كما ظلت مقوّماتها حيّة، مقومات تعتمد على التراث القديم وتتطور بما يلاثم العصر والثقافات الحديثة، تطورا لا يجنى على العربية، بل تجنى منه ثمارا رائعة، غذاء للعقول وشفاء للقلوب والأرواح.
وعلى هذا النحو كان ذوق بيئة المتكلمين هو الذوق الأدبى العام، وكان لذلك أثره فى أن ازدهر النثر العربى وأخذت موضوعاته تتنوّع تنوعا واسعا، وقاد هذا الازدهار الجاحظ المتكلم المشهور. إذ نراه يعنى بتصوير الطبقات فى مجتمعه، فهو يكتب عن الأتراك والسودان والموالى والعرب والنصارى واليهود. ويفسح
للطبقات العامة، فيكتب عن اللصوص والمكدين وحيلهم والقيان والمرأة.
وكأنما أحدث موضوعات جديدة لكتب السّمر التى كانت تقرأ فى كل مكان.
وكانت قبله لا تعدو بعض كتب الآداب الفارسية وبعض قصص الحب العربية وقصص البطولة والإسرائيليات. وظل الاتجاه إلى ترجمة بعض القصص الفارسية قائما، وكان أهم ما ترجم فى هذا العصر حكايات ألف ليلة وليلة واسمه بالفارسية هزار أفسان أى ألف حكاية. ويفهم من كلام المسعودى عنه أن حكايات السندباد لم تكن جزءا منه فى عصره، بل كانت مستقلة. ويقول إن مؤلفها حكيم هندى يسمى السندباد، وهى تشتمل على كتاب الوزراء السبعة، والمعلم والغلام، وامرأة الملك. ويذكر المسعودى أنه كانت هناك حكايات مماثلة ترجمت عن الرومية (1). ومما ترجم حينئذ أو قل مما استمدّ من أصول فارسية كتاب التاج المنسوب إلى الجاحظ، وقد ألّفه أحد معاصريه وقدّمه إلى الفتح بن خاقان وزير المتوكل، وهو يصور نظم الساسانيين حكّام الفرس قبل الإسلام وتقاليدهم.
ومعنى ذلك أن النقل عن الفارسية ظل محتدما فى هذا العصر، ولكن أخذت الشخصية العربية تشبت وجودها فى قوة، فبمجرد أن ترجم كتاب ألف ليلة وليلة ألف محمد بن عبدوس الجهشيارى المتوفى سنة 331 للهجرة كتابا على نسقه به ألف حكاية من حكايات العرب وغيرهم. وظهرت فى العصر كتب أسمار كثيرة، كانت تتلهف عليها العامة، وخاصة ما دار منها حول الحب وأقاصيصه أو حول الجن أو حول بعض النساء. وكثرت كتب النوادر والكتب التى تصوّر أحوال الحمقى وأقوالهم وأفعالهم، وكتب الندماء والمنادمة، وكذلك الكتب التى تصور أخلاق العامة مثل كتابات مساوئ العوام وأخبار السفلة والأغتام للصّيمرى.
وكثرت كتب الأدب التهذيبى، وممن أكثر منها ابن أبى الدنيا المتوفى سنة 281 وقد نشر فى القاهرة مختصر صنعه السيوطى لكتابه الفرج بعد الشدة، وكانت له كتب مختلفة فى مكارم الأخلاق. ومثله محمد بن خلف بن المرزبان
(1) انظر فى ذلك كله مروج الذهب 1/ 97، 2/ 251.