المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - استيلاء الترك على مقاليد الحكم - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٤

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الثانى

- ‌الفصل الأوّل:الحياة السياسية

- ‌1 - استيلاء الترك على مقاليد الحكم

- ‌2 - تدهور الخلافة

- ‌3 - ثورة الزنج

- ‌4 - ثورة القرامطة

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثّانى:الحياة الاجتماعية

- ‌1 - طبقات المجتمع

- ‌2 - الحضارة والترف والملاهى

- ‌3 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌4 - المجون والشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالث:الحياة العقلية

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة وتفلسف

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد والتاريخ

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه

- ‌5 - الاعتزال وانبثاق المذهب الأشعرى

- ‌الفصل الرّابع:نشاط الشعر

- ‌1 - علم الشعراء بأسرار العربية

- ‌2 - ذخائر عقلية خصبة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - نمو الموضوعات الجديدة

- ‌5 - نمو الشعر التعليمى

- ‌الفصل الخامس:أعلام للشعراء

- ‌1 - على بن الجهم

- ‌2 - البحترى

- ‌3 - ابن الرومى

- ‌4 - ابن المعتز

- ‌5 - الصنوبرى

- ‌الفصل السّادس:شعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الخلفاء العباسيين

- ‌مروان بن أبى الجنوب أبو السمط

- ‌أبو بكر الصولى

- ‌2 - شعراء الشيعة

- ‌ محمد بن صالح العلوى

- ‌الحمّانى العلوىّ

- ‌المقجّع البصرىّ

- ‌3 - شعراء الثورات السياسية

- ‌ محمد بن البعيث

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌ أبو على البصير

- ‌ أحمد بن أبى طاهر

- ‌ ابن دريد

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ الصّيمرى

- ‌الحمدونى

- ‌ابن بسام

- ‌الفصل السّابع:طوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل وشاعراته

- ‌فضل

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ الحسين بن الضحاك

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف

- ‌ الحلاّج

- ‌الشبلىّ

- ‌4 - شعراء الطرد والصيد

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌جحظة

- ‌الخبز أرزىّ

- ‌الفصل الثامن:نشاط النثر

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطابة والمواعظ والنثر الصوفى

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التّاسع:أعلام الكتاب

- ‌2 - الجاحظ

- ‌3 - ابن قتيبة

- ‌4 - سعيد بن حميد

- ‌5 - أبو العباس بن ثوابة

- ‌خاتمة

الفصل: ‌1 - استيلاء الترك على مقاليد الحكم

‌الفصل الأوّل:

الحياة السياسية

‌1 - استيلاء الترك على مقاليد الحكم

مرّ بنا فى العصر العباسى الأول كيف هيّأ العباسيون لقيام دولتهم عن طريق الدعوة السريّة لإمام هاشمى يخلّص الموالى فرسا وغير فرس من حكم بنى أمية الجائر، محقّقا لهم المساواة المشروعة-بحكم الإسلام-بينهم وبين العرب فى جميع الحقوق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وسرعان ما أقبلت الجيوش الخراسانية مكتسحة كل ما لقيها من مقاومة للدولة الأموية حتى قضت عليها قضاء مبرما.

وأعلن العباسيون أنهم أصحاب الحق الشرعى فى الحكم والخلافة، وبذلك استأثروا بها من دون أبناء عمهم العلويين، مما جعل كثيرين منهم يثورون عليهم منوال العصر، كما جعل أنصارهم يدعون لبيتهم العلوى سرّا كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا، فى حين مضى العباسيون يعلنون أنهم أصحاب حق إلهى فى الحكم والسلطان وتمادوا فى حكم استبدادى أشد ما يكون الاستبداد محيطين أنفسهم بكثيرين من الحجّاب، أما الشعب فلم يزد فى رأيهم عن أن يكون أدوات مسخرة لجمع الخراج والضرائب الفادحة، مما دفع لقيام ثورات إيرانية مختلفة، على نحو ما صورنا ذلك فى كتاب العصر العباسى الأول. وحقّا كانت أعلى المناصب وأكثرها فى أيدى الفرس، وكان منهم أكثر الوزراء والقواد، غير أن العباسيين نكبوهم نكبات متوالية، على نحو ما هو معروف عن نكبة البرامكة ونكبة بنى سهل. ونشب من جرّاء ذلك عداء شديد بين الفرس والعرب. فالعرب يريدون استرداد مجدهم فى العصر الأموى والفرس لا يكتفون بما لهم من مجد حادث فى الدولة، وكأنهم يريدون أن يستعيدوا مجد دولتهم الساسانية القديمة ويمحقوا العرب محقّا، مما أعدّ

ص: 9

لظهور تيار شعوبى بغيض رافقه تيار إلحاد وزندقة لا يقلّ عنه عنفا ولا محاولة لهدم الإسلام والعروبة جميعا. وفى أثناء ذلك كانت الثورات مضطرمة في شرقى الدولة، وكلما خمدت ثورة اندلعت أخرى، وكان آخرها اندلاعا ثورة بابك الخرّمى فى آذربيجان التى ظلت نحو عشرين عاما والتى كلفت الدولة كثيرا من الجيوش إلى أن سحقها المعتصم وقواده سحقا.

وقد أخذ المعتصم حينئذ يفكر فى عنصر جديد يعتمد عليه فى حروبه سوى الفرس، فثوراتهم لا تنقطع، وأمانيهم فى إحياء مجدهم القومى لا تخمد، واستظهارهم للشعوبية والزندقة لا تهدأ فورته، وهداه تفكيره إلى الاعتماد على عنصر من الرقيق اشتهر لعصره بالصبر تحت ضلال الرماح، مع حذقه بالرمى يمنة ويسرة ومقبلا ومدبرا، وهو الرقيق التركى الذى كثر توافده على بغداد والعراق، فأخذ يستكثر من شرائه وطلبه من سمرقند وفرغانة وأشروسنة إلى أن بلغت عدّته ثمانية عشر ألفا (1)، وكل يوم يزيد، حتى ضاقت به بغداد وشوارعها. وكان جمهور هذا الرقيق بدوا جفاة فكانوا يركبون الخيل ويركضونها فى الشوارع فتطأ بعض الشيوخ والأطفال والنساء، مما اضطر المعتصم أن يبنى لهم مدينة سامراء (2) شمالى بغداد، وانتقل معهم إليها، وظلت حاضرة للخلفاء حتى أواخر عهد المعتمد سنة 276 للهجرة.

وكان ذلك تحولا خطيرا فى تاريخ الدولة العباسية، فقد كانت تعتمد كل الاعتماد على الفرس وكانوا أصحاب مدنية وحضارة فبثّوهما فى الحياة العربية، وأعدّوا لنهضة حضارية واسعة تستقى منهم ومن موارد الإسلام والعروبة ومن الثقافات الأجنبية المختلفة، وخاصة الثقافتين اليونانية والفارسية. أما الترك فلم يكونوا أصحاب ثقافة ولا مدنية ولا حضارة، إذ كانوا بدوا لا يعرفون الصناعة ولا الزراعة ولا التجارة ولا الفنون ولا الآداب ولا قواعد الملك والسياسة، إنما هم سكان صحار وقفار وحرب وجلاد وبأس ومراس، وقد صورهم الجاحظ تصويرا دقيقا فى رسالته التى

(1) النجوم الزاهرة 2/ 233.

(2)

انظر فى تخطيط سامراء والسبب فى بنائها كتاب البلدان اليعقوبى ومعجم البلدان لياقوت وسامراء فى دائرة المعارف الإسلامية وبلدان الخلافة الشرقية تاليف لسترانج وترجمة بشير فرنسيس وكوركيس عواد.

ص: 10

تحدث فيها عن مناقبهم قائلا: «الترك أصحاب عمد (خيام) وسكان فياف وأرباب مواش، وهم أعراب العجم. . . فحين لم تشغلهم الصناعات والتجارات والطب والفلاحة والهندسة، ولا غرس ولا بنيان ولا شقّ أنهار ولا جباية غلاّت، ولم يكن همهم غير الغزو والغارة والصّيد وركوب الخيل ومقارعة الأبطال وطلب الغنائم وتدويخ البلدان، وكانت هممهم إلى ذلك مصروفة، وكانت لهذه المعانى والأسباب مسخّرة ومقصورة عليها وموصولة بها، أحكموا ذلك الأمر بأسره وأتوا على آخره، وصار ذلك هو صناعتهم وتجارتهم ولذّتهم وفخرهم وحديثهم وسمرهم، فلما كانوا كذلك صاروا فى الحرب كاليونانيين فى الحكمة وأهل الصين فى الصناعات. . .

وكآل ساسان فى الملك والرياسة».

وهؤلاء البدو الموغلون فى البداوة الذين لم يعرفوا بحضارة ولا ثقافة ولا عرفوا بزراعة ولا صناعة ولا تجارة ولا بسلطان ولا بسياسة سرعان ما قبضوا على زمام الحكم، والمعتصم هو الذى هيّأ لهم ذلك لا بجعلهم جند الخلافة العباسية فحسب، بل أيضا باتخاذه لهم مدينة خاصة وجعلها عاصمة الدولة، فأتاح لهم الفرصة كى يخلّى بينهم فى المستقبل وبين الخلفاء، فيصبحوا مسخّرين بأيديهم يصرّفونهم كما يشاءون. وليس ذلك كل ما صنع فقد ولّى كبيرهم «إشناس» مصر وجعل له الحق فى أن يولّى عليها ولاة من قبله، فكان يدعى له فيها على المنابر (1). وبذلك فتح المعتصم الباب لقواد الترك كى يمسكوا بزمام الشئون الإدارية بجانب ما أمسكوا به من زمام الشئون العسكرية. وخلفه ابنه الواثق فزاد الطين بلّة إذ ولّى إشناس من بابه فى بغداد إلى آخر أعمال المغرب، جاعلا له أمر كل هذه البلدان يولّى عليها من شاء بدون مراجعته، واستخلفه على السلطنة وألبسه وشاحين بجوهر (2). وليس ذلك فحسب ما أسبغه على الترك، فقد ولّى على الجانب الشرقى الدولة من كور دجلة حتى خراسان والسند «إيتاخ» (3) حتى إذا تولّى إشناس سنة 230 منعه مرتبته وأكثر أعماله (4). ولم يقف تجنّى الواثق على الخلفاء من بعده عند؟ ؟ ؟ هذا الحد، فقد ارتكب خطأ خطيرا فى حقهم بانصرافه عن اتخاذ ولى عهد بعده للخلافة، وسرعان

(1) النجوم الزاهرة 2/ 229.

(2)

اليعقوبى (طبعة النجف) 3/ 205 والنجوم الزاهرة 2/ 252.

(3)

اليعقوبى 3/ 205.

(4)

اليعقوبى 3/ 206.

ص: 11

ما استغلّ قراد الترك: إيتاخ وصاحباه وصيف وبغا الكبير هذه الفرصة حين توفى سنة 232 للهجرة، إذ حملوا رجال الدولة على البيعة للمتوكل، وكان ذلك نذير شؤم إذ أصبحت تولية الخلفاء فيما بعد بيد الترك، وعما قليل سيصبح عزلهم-كما سنرى-بأيديهم، وبذلك يتحول إليهم السلطان جميعه، ونصبح منذ خلافة المتوكل بإزاء عصر جديد هو العصر العباسى الثانى.

ويبدو أن المتوكل تنبّه-منذ استيلائه على الحكم-إلى خطورة ازدياد النفوذ التركى، مما دفعه إلى التخلص سريعا من إيتاخ، وكان قد صار إليه أمر الجيش والأتراك والمغاربة والموالى وديوان الخبر أو البريد والحجابة والقيام على دار الخلافة، وكأنه نائب للخليفة. بل لكأنما أصبح الخليفة ولا سلطان له، مما جعل المتوكل يوحى إلى بعض أوليائه أن يشيروا على إيتاخ بالاستئذان للحج، وما إن خرج من سامراء وأبعد فى الطريق إلى مكة حتى عزله المتوكل عن الحجابة وولاها وصيفا التركى (1). وهى سياسة سيتّبعها الخلفاء بعد المتوكل أن يضربوا قواد الأتراك بعضهم ببعض. وعاد إيتاخ من الحج ودخل بغداد فقبض عليه حاكمها بأمر من المتوكل وأودعه غياهب السجون مقيدا بالحديد إلى أن توفى لسنة 235. ولكن المتوكل لم يسدّد للترك ضربة قاضية، بل أخذ يراوغهم، مما جعله يضيف بغا الكبير إلى وصيف فى الحجابة. وتتوالى السنوات وهو ضيّق بقادة الترك ويفكر فى التخلص منهم جميعا ويهديه تفكيره فى سنة 243 أن يترك سامرّاء ويتخذ دمشق حاضرة له، حتى يصبح بمنأى عن الترك وشرورهم، ويشخص إليها فى ذى القعدة، ويبدو أن فكرته ذاعت فى الناس مما جعل يزيد بن محمد المهلبى ينشد من قصيدة طويلة (2):

أظنّ الشام تشمت بالعراق

إذا عزم الإمام على انطلاق

فإن تدع العراق وساكنيها

فقد تبلى المليحة بالطلاق

ودخل المتوكل دمشق فى صفر لسنة 244 عازما على المقام بها ونقل دواوين الخلافة إليها، وأمر أن يبنى له بها بعض القصور. غير أن الترك فطنوا لمأربه، وأنه يريد الإطاحة بهم فطالبوا برواتبهم، وهو سيف سيظلون يشهرونه على الخلفاء

(1) تاريخ الطبرى (طبع دار المعارف) 9/ 167 وما بعدها.

(2)

الطبرى 9/ 209.

ص: 12

كلما أرادوا منهم أمرا أو أرادوا لهم عزلا، واضطر المتوكل أن ينزل على إرادتهم وأن يبرح دمشق بعد نحو شهرين (1). وعاودته الفكرة، ولكن لا بعيدا، بل قريبا، شمالى سامراء، إذ فكر فى انتقاله إلى الماحوزة على بعد ثلاثة فراسخ منها وأقطع القواد وحواشيه فيها، وسماها «الجعفرية» ، وبنى لنفسه فيها قصره «الجعفرى» وقصرا سماه «لؤلؤة» وقصورا أخرى. وفى أثناء ذلك أخذ يجفو الترك ويجيل الآراء فى استئصالهم والاستبدال بهم، وكان أول ما صنعه من ذلك أن ضمّ إلى وزيره عبيد الله بن يحيى بن خاقان اثنى عشر ألفا من العرب (2)، وكأنه يريد أن يعيد العرب إلى الجيش وقيادته. وترامت شائعات بأنه يريد أن يفتك بحاجبيه وصيف وبغا الكبير وغيرهما من قواد الترك، فعمّموا على مبادرته، وكانت الأمور قد ساءت بينه وبين ابنه المنتصر ولى عهده، فوضع يده فى أيديهم، وعزموا على قتله والتخلص منه، وأعدّوا لذلك نفرا من أصاغر الترك. منهم بغا الشرابى وباغر وموسى بن بغا الكبير فدخلوا عليه هو ووزيره الفتح بن خاقان فى ليلة من ليالى شوال سنة 247 للهجرة، وقتلوهما غير مراعين فيهما عهدا ولا ذمّة (3). ومن حينئذ أصبح للترك كل شئ فى الدولة ولم يعد للخلفاء شئ، وفى ذلك يقول ابن الطقطقى:

«استولى الأتراك منذ قتل المتوكل على المملكة، واستضعفوا الخلفاء، فكان الخليفة فى يدهم كالأسير، إن شاءوا أبقوه، وإن شاءوا خلعوه، وإن شاءوا قتلوه» (4).

واعتلى المنتصر عرش الخلافة بأيدى قتلة أبيه من الترك، بايعوه ثم أخذوا له البيعة من الناس، ولم يلبثوا أن حضّوه على خلع أخويه المعتز والمؤيد من ولاية العهد بعده، وكان المتوكل أبرمها لهما مع المنتصر، فخشى الترك أن يخلفه أحدهما فيبطش بهم ثأرا لأبيه، وتمّ خلعهما. وتوفّى المنتصر بعد ستة أشهر من خلافته لسنة 248 فاجتمع بغا الكبير وبغا الصغير وأوتامش ابن أخت بغا الكبير، وكانوا قد أخذوا المواثيق على من سواهم من قواد الترك والمغاربة والأشروسنيّة على

(1) مروج الذهب للمسعودى (طبعة دار الأندلس) 4/ 32 والطبرى 9/ 210.

(2)

التنبيه والإشراف للمسعودى (طبعة أوربا) ص 361.

(3)

طبرى 9/ 225.

(4)

الفخرى فى الآداب السلطانية (طبع المطبعة الرحمانية بمصر) ص 181.

ص: 13

أن يرتضوا من يرضونه للخلافة، واختاروا أحمد بن محمد بن المعتصم ولقبوه بالمستعين، وبايعوه وبايعه الناس. وتوفّى بغا الكبير وأصبح أوتامش المتصرف الأول فى شئون الدولة، وأخذ يختزن أموالها هو وشاهك وأم المستعين، فكل ما يرد من الآفاق يصير إلى الثلاثة، ووصيف وبغا الشرابى الصغير بمعزل من ذلك مما أثار حفيظتهما على أوتامش وجعلهما يغريان به القواد الآخرين حتى ثاروا عليه وسفكوا دمه وانتهبوا داره (1). واستدارا إلى باغر قاتل المتوكل، وكان شرّه قد تعاظم فى قصر الخلافة فقتلوه بدوره. وسئم المستعين حركات الترك ودسائسهم، فرأى النزول إلى بغداد والاستقرار بها، وجزعوا لصنيعه، فأرسلوا إليه وفدا يسترضيه سنة 251، ولكنه رفض العودة إلى سامراء، فخلعوه، وبايعوا المعتز بالله ولى العهد القديم للمتوكل بعد المنتصر، فكان هناك خليفة مولّى بسامراء وخليفة معزول ببغداد، هو المستعين، ونشبت الحرب بينهم وبينه، وحاصروا بغداد، وما زالوا به حتى خلع نفسه من الخلافة وانحدروا به إلى «واسط» وهناك تم تدبير قتله (2). وبذلك أصبحت الخلافة خالصة للمعتز سنة 252 وسمع بأن نفرا من الترك يراودون أخاه المؤيد على تولى الخلافة وعزله، فسجنه ثم فتك به. وأخذ يحاول الفتك بقواد الترك مستثيرا ضدهم المغاربة والفراغنة، وفتك بوصيف وبغا الشرابى الصغير قاتل أبيه، يقول المسعودى: «ولما رأى الأتراك إقدام المعتز على قتل رؤسائهم وإعماله الحيلة فى إفنائهم وأنه قد اصطنع المغاربة والفراغنة صاروا إليه بأجمعهم لأربع بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين وجعلوا يقرّعونه بذنوبه ويوبّخونه على أفعاله وطالبوه بالأموال (رواتبهم) وكان المدبر لذلك صالح بن وصيف مع قواد الأتراك (3). وأرسلوا توّا إلى بغداد فى طلب محمد بن الواثق، وأمروا المعتز بأن يخلع نفسه من الخلافة وصدع بأمرهم، وبايعوا محمدا ولقبوه بالمهتدى، وسجنوا المعتز ثم قتلوه سريعا. وحاول المهتدى أن يسير سيرة عمر بن عبد العزيز فى العدل ورفع المظالم والاقتصاد فى النفقات، ويقال إنه أمر بإخراج آنية للذهب والفضة من الخزائن فكسرت وضربت دنانير ودراهم، وقرّب العلماء ورفع منازل الفقهاء وحرّم الشراب ونهى عن القيان فثقلت وطأته على الخاصة والعامة. وكان قد مضى مثل ابن عمه المعتز يفتك برؤساء الأتراك وقادتهم

(1) طبرى 9/ 263

(2)

طبرى 9/ 348 ومروج الذهب 4/ 77.

(3)

مروج الذهب 4/ 93.

ص: 14

وفى مقدمتهم صالح بن وصيف وبايكباك أحد زعمائهم، فقتلوه فى رجب (1) سنة 256

ويتولى الخلافة المعتمد أحمد بن المتوكل، يبايعه الترك ثم تبايعه العامة، وكانت ثورة الزنج قد نشبت فى عصر المهتدى، وعبشا استطاع قواد الترك أن يجهزوا عليها، إذ استفحل شرها وتفاقم، فضعف شأنهم من جهة، وشغلوا من جهة ثانية عن لعبهم المعتاد بالخلفاء، وخلعهم وسفك دمائهم. ويتاح للمعتمد ودولته قائد عظيم من أهل بيته هو أخوه أبو أحمد طلحة الملقب بالموفق فيقود بنفسه المعارك مع الزنج ومع من ثاروا بإيران ويكتسب له الظفر والقضاء على الزنج قضاء مبرما، وبذلك يردّ إلى الخلافة العباسية هيبتها، ويحنى الترك رءوسهم لها ولا نعود نسمع بفتنة حجّاب الخليفة عليه وتدبيرهم لخلعه، وكانوا حينئذ يارجوخ وكيغلغ وبكتمر بن طاشتمر، وقد ظلوا جميعا يصدعون لأوامره وأوامر أخيه الموفق حتى توفيا جميعا، وبويع من بعده لسنة 279 ابن أخيه الموفق أبو العباس أحمد ولقّب بالمعتضد، وكان قد أبلى مع أبيه فى حرب الزنج وغيرها من الحروب بلاء حسنا فهابه الترك وقوادهم، ونراه فى سنة 282 يقبض على كبيرهم بكتمر بن طاشتمر ويسجنه ويصادر أمواله وضياعه ولا يحركون ساكنا رهبة منه وهيبة له (2)، وظلوا من بعده خانعين لابنه المكتفى الذى ولى الخلافة سنة 289 غير أنه اقترف خطأ فاحشا إذ ارتضى أخاه المقتدر وهو صبى وليّا للعهد من بعده، وكان حريّا به أن يجعل ولاية العهد فى شخص حصيف من أهل بيته يستطيع أن يقف الترك وقادتهم عند حدّ من السلطان لا يتجاوزونه. وتوفى سنة 295 فخلفه المقتدر وهو فى الثالثة عشرة من عمره، وعظم كلام الناس فيه، وقالوا كيف يلى الخلافة من لم يبلغ الحلم، وأجمع أمرهم على أن يتولاها عبد الله بن المعتز، وأخذ له البيعة على الناس محمد بن داود ابن الجراح الفقيه والأديب المشهور، وبايعه القضاة والعدول، وتلقب بالمنتصف وقيل بالراضى وقيل بالقائم بالحق وتقلد ابن الجراح الوزارة ولكن الأمر لم يدم له أكثر من يوم وليلة، إذ ثار الترك عليه يتقدمهم كبيرهم مؤنس، وأخذ عنوة وقتل، وتفجّع عليه كثير من الشعراء. أما ابن الجراح فاستتر مدة ثم انكشف أمره،

(1) طبرى 9/ 456 ومروج الذهب 4/ 96.

(2)

طبرى 10/ 40.

ص: 15

وقتل بدوره، وعادت الخلافة إلى المقتدر (1)، وعاد الترك إلى نفوذهم القديم قبل المعتمد وأخيه الموفق. وزاد الأمور سوءا أن أم المقتدر «شغب» وهى أم ولد رومية شركت مؤنسا فى تصريف شئون الحكم والسياسة، فكانت الوزارة لا تسند إلى شخص فى عام حتى ينحّى عنها فى عام قابل، ودارت الأيام، فإذا مؤنس يسخط على المقدر وتعود مع السخط قصة رواتب الجند، ويتفاقم الأمر بينهما فى سنة 317 ويعزل الخليفة ويولّى أخوه محمد ويلقب بلقب القاهر بالله، ويرتق الفتق بين مؤنس والمقتدر فيعيده إلى الخلافة ويجدّد له البيعة (2). وما تلبث السماء أن تكفهرّ، فيعود الصدام بين مؤنس والمقتدر، ويقتل الخليفة سنة 320 ويولّى مؤنس الخلافة بعده القاهر بالله، وكان شجاعا غير أنه كان أحمق أهوج شديد الإقدام على سفك الدماء، وكان لا يكاد يصحو من سكر، ومع ذلك حرّم على الناس الخمر والسماع، واستطاع القضاء على مؤنس ونفر من القواد (3) ففسد ما بينه وبين الترك وسرعان ما خلعوه سنة 322 وسملوا عينيه (4)، وبايعوا بعده الراضى بالله أبا العباس أحمد بن المقتدر، وظل يلى الخلافة حتى توفى سنة 329. وفى عهده تغلّب أصحاب السيوف ولم يعد للخليفة سوى الاسم. وكان شاعرا بليغا سمحا واسع العطاء مات وهو فى الثانية والثلاثين من عمره، وخلفه أخوه المتقى بالله، وكان تقيّا صالحا، إلا أنه لم يكن على بصر بالحكم والسياسة، فحدثت فى زمنه فتن وحروب كثيرة بين الجند ونهبت دار الخلافة، وقبض عليه لسنة 333 وخلع وسملت عيناه (5). وتولاها بعده المستكفى بالله ابن المكتفى، ولم يكد يدور به عام فى خلافته حتى نزل معز الدولة البويهى بغداد، فلقّبه المستكفى بأمير الأمراء وأعطاه الطوق والسوار وآلة السلطنة وعقد له لواء. غير أن معز الدولة لم يلبث أن أمر بالقبض عليه، فخلع من الخلافة ونهبت داره وسملت عيناه (6)، وبذلك ينتهى العصر العباسى الثانى بدخول البويهيين الفرس بغداد وزوال تسلط الترك وقوادهم على مقاليد الحكم دون مآب.

(1) طبرى 10/ 140 - 141.

(2)

تكملة تاريخ الطبرى للهمدانى (طبع المطبعة. الكاثوليكية ببيروت) ص 58.

(3)

مروج الذهب 4/ 221 والهمدانى ص 78.

(4)

مروج الذهب 4/ 221 والأخرى ص 205. والهمدانى ص 80.

(5)

الفخرى ص 210 ومروج الذهب 4/ 247 والهمدانى ص 143.

(6)

مروج الذهب 4/ 276 والفخرى ص 212 والهمدانى ص 149

ص: 16