المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2 - الخطابة والمواعظ والنثر الصوفى - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٤

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الثانى

- ‌الفصل الأوّل:الحياة السياسية

- ‌1 - استيلاء الترك على مقاليد الحكم

- ‌2 - تدهور الخلافة

- ‌3 - ثورة الزنج

- ‌4 - ثورة القرامطة

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثّانى:الحياة الاجتماعية

- ‌1 - طبقات المجتمع

- ‌2 - الحضارة والترف والملاهى

- ‌3 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌4 - المجون والشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالث:الحياة العقلية

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة وتفلسف

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد والتاريخ

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه

- ‌5 - الاعتزال وانبثاق المذهب الأشعرى

- ‌الفصل الرّابع:نشاط الشعر

- ‌1 - علم الشعراء بأسرار العربية

- ‌2 - ذخائر عقلية خصبة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - نمو الموضوعات الجديدة

- ‌5 - نمو الشعر التعليمى

- ‌الفصل الخامس:أعلام للشعراء

- ‌1 - على بن الجهم

- ‌2 - البحترى

- ‌3 - ابن الرومى

- ‌4 - ابن المعتز

- ‌5 - الصنوبرى

- ‌الفصل السّادس:شعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الخلفاء العباسيين

- ‌مروان بن أبى الجنوب أبو السمط

- ‌أبو بكر الصولى

- ‌2 - شعراء الشيعة

- ‌ محمد بن صالح العلوى

- ‌الحمّانى العلوىّ

- ‌المقجّع البصرىّ

- ‌3 - شعراء الثورات السياسية

- ‌ محمد بن البعيث

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌ أبو على البصير

- ‌ أحمد بن أبى طاهر

- ‌ ابن دريد

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ الصّيمرى

- ‌الحمدونى

- ‌ابن بسام

- ‌الفصل السّابع:طوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل وشاعراته

- ‌فضل

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ الحسين بن الضحاك

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف

- ‌ الحلاّج

- ‌الشبلىّ

- ‌4 - شعراء الطرد والصيد

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌جحظة

- ‌الخبز أرزىّ

- ‌الفصل الثامن:نشاط النثر

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطابة والمواعظ والنثر الصوفى

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التّاسع:أعلام الكتاب

- ‌2 - الجاحظ

- ‌3 - ابن قتيبة

- ‌4 - سعيد بن حميد

- ‌5 - أبو العباس بن ثوابة

- ‌خاتمة

الفصل: ‌2 - الخطابة والمواعظ والنثر الصوفى

المتوفى سنة 309 وقد ترجم كتبا كثيرة عن الفارسية وله تصانيف حسان فى الأخلاق وأحوال الناس، منها كتابه:«تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب» ، ومثلهما أبو بكر الخرائطى السامرى المتوفى سنة 325، وله مكارم الأخلاق ومعاليها ومحمود طرائقها ومراضيها، نشر بالقاهرة.

وبجانب كتب الأدب والسمر فتح الجاحظ موضوعا جديدا، هو وصف البلدان، إذ ألّف كتابا فيه سماه كتاب الأمصار وعجائب البلدان تحدث فيه عن مكة وقريش والمدينة ومصر والبصرة، وذكر خصائص كل بلدة وطباع أهلها وأثر البيئة فيها (1). ويبدو أنه اعتمد فى وصف بعض البلدان على بعض الإخباريين مما جعله يخطئ فى جوانب من كلامه على نحو ما لا حظ المسعودى إذ يقول:«وقد زعم عمرو بن بحر الجاحظ أن نهر مهران الذى هو نهر السند من نيل مصر، ويستدل على أنه من النيل بوجود التماسيح فيه، ولست أدرى كيف وقع له هذا الدليل، ذكر ذلك فى كتابه المترجم بكتاب الأمصار وعجائب البلدان. . . لأن الرجل لم يسلك البحار ولا أكثر الأسفار. . إنما كان ينقل من كتب الورّاقين (2)» . وملاحظة المسعودى صحيحة، ولكنها لا تغضّ من أهمية هذا الكتاب الذى فتح به الجاحظ لمعاصريه موضوعا جديدا للكتابة، وكان ممن تابعه فيه معاصره اليعقوبى أحمد بن أبى يعقوب بن واضح، وكتابه البلدان منشور، وتعاقبت بعد ذلك الكتب فى هذا الموضوع. والمهم أن الجاحظ أثار فى كتابه بقوة فكرة البيئة وطوابعها فى السكان، وقد كتبه بأسلوبه الأدبى البارع.

‌2 - الخطابة والمواعظ والنثر الصوفى

ضعفت الخطابة السياسية فى هذا العصر، كما ضعفت الخطابة الحفلية، فكلاهما أصبح شيئا نادرا، وحتى ما بقى منهما إنما هو شظايا قليلة كتلك الشظايا

(1) راجع كتاب الجاحظ للدكتور طه الحاجرى (طبع دار المعارف) ص 389 وما بعدها.

(2)

انظر مروج الذهب 1/ 114.

ص: 526

التى حكاها الطبرى عن صاحب الزنج، بل لقد أجمل ما رواه من خطبه (1) بحيث لا نكاد نتبينها فى وضوح. وضعفت الخطابة الدينية على ألسنة الخلفاء وإن ظلت مزدهرة فى المساجد وفى خطب الجمع والعيدين، فقد أصبح من المعتاد ألا يخطب الخليفة يوم الجمعة إلا ما كان من الخليفة المهتدى الورع الذى ظل فى الحكم نحو عام، فإنه كان يذهب إلى المسجد الجامع بسامرّاء فى كل جمعة ويخطب الناس ويؤمّهم (2)، ويروى أن الخليفة المعتضد حاول أن يخطب فى بعض الأعياد، فأرتج عليه ولم تسمع خطبته (3)، ولم يخطب خليفة بعده فى العصر سوى الراضى، ولم تؤثر خطبه.

ولكن الخطابة الدينية إن كانت قد ضعفت على ألسنة الخلفاء فإنها نشطت نشاطا عظيما فى المساجد فقد كانت تعقد حلقات للوعاظ والقصّاص وكان الناس يتحلّقون من حولهم فيما يشبه احتفالات الأعياد، وكان منهم الرسميون الذين تعيّنهم الدولة للخطابة فى أيام الجمع ومنهم غير الرسميين، وهم الجمهور الأكبر. وكانوا يستمدّون فى وعظهم وقصصهم من القرآن الكريم والحديث النبوى وقصص الأنبياء والمرسلين، ومنهم من كان يقرأ القرآن الكريم ويفسره، وكانوا يعنون بعون الضعفاء والمساكين واليتامى وبالجهاد وحرب الأعداء مستعينين فى ذلك بأعمال البرّ. وكثير منهم كان يذهب مع الجيوش المجاهدة للوعظ فى الحرب وبثّ روح الحماسة الدينية فى نفوس المجاهدين من مثل أبى العباس الطبرى الذى مرّ ذكره والذى كان يعظ ويقصّ على المجاهدين فى طرسوس. ولم يكن يخلو يوم من أيام رمضان من واعظ أو قاصّ بعد الصلاة. وكانت العامة تشغف بهم شغفا شديدا، حتى ليحكى عن الطبرى أنه تعرّض لقاصّ ببغداد ينكر عليه بعض ما يقوله، فصاحت به العامة ورموا باب داره بالحجارة. ولا بد أن نفرق بين هؤلاء القصاص الوعاظ وبين قصّاص آخرين كانوا يجلسون للشباب والغلمان فى الطرقات ببغداد ويقصّون عليهم نوادر الأخبار والحكايات الهزلية، وكانوا يسلكون فى المشعوذين، ويضطرب بعض المستشرقين فيخلط بينهم وبين القصّاص الوعّاظ،

(1) الطبرى 9/ 414 وما بعدها.

(2)

مروج الذهب 4/ 96.

(3)

طبرى 10/ 31.

ص: 527

ولا صلة بين الطرفين إلا فى الاسم، وهؤلاء هم الذين كانت الدولة تطاردهم أحيانا كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع، أما قصّاص المساجد الوعّاظ فكانوا موضع رعاية الدولة منذ عصر بنى أمية، وظل ذلك بعدهم، حتى لنجد بعض من يسند إليهم القصص فى المساجد يسند إليهم القضاء (1). أما الوعّاظ فكان منهم دائما خطباء المساجد فى الجمع والأعياد وائمتها فى الصلاة، وكان منهم كثيرون فصحاء بلغاء، فكان الناس يحتشدون حولهم، مكبرين لهم إكبارا عظيما.

وكانت المساجد دائما مفتوحة ليلا ونهارا، ودائما يوجد فيها الناس للصلاة وتوجد فيها حلقات التدريس، فكان الواعظ يختار أى وقت يشاء لموعظته، وإن كان عادة يجعلها تالية لبعض الصلوات. ومن كبار الوعاظ الذين شهدتهم بغداد فى العصر أبو الحسن على بن محمد الواعظ المصرى المتوفى ستة 338 وكان يحضر مجلس وعظه الرجال والنساء.

وأخذت تنشأ منذ أوائل العصر طبقة جديدة من الوعّاظ، كانوا يسمّون بالمذكّرين، ويسمّى مجلسهم باسم مجلس الذكر أى ذكر الله وتسبيحه، وكانوا من الصوفية، بل كانوا خطباءهم ووعّاظهم الممتلئين صلاحا وتقوى وورعا، وكانوا يعظون الناس فى المساجد وفى الزوايا، خالطين الخوف بالرجاء، مستشهدين ببعض آى القرآن وبعض الحديث، وقد يفسرونهما ويعلقون عليهما، مضيفين من حين إلى حين عباراتهم الصوفية التى تأسر العقول والقلوب. ومن وعّاظهم فى العصر يحيى بن معاذ الرازى المتوفّى عام 258 ويروى أنه جاء إلى شيراز، فصعد المنبر، واجتمع إليه الناس فأول ما بدأ به قوله:

مواعظ الواعظ لن تقبلا

حتى يعيها قلبه أوّلا

وانهال الناس عليه بعد ذلك انهيالا. ومن أكبر وعّاظهم فى العصر أبو حمزة الصوفى المتوفى سنة 269 وهو-كما مرّ بنا فى الفصل الثانى -أول من تكلم على رءوس المنابر ببغداد خالطا مواعظه باصطلاحات

(1) الولاة والقضاة للكندى (طبعة جيست) ص 427

ص: 528

الصوفية وأفكارهم من صفاء الذكر وجمع الهمّ والمحبة والعشق والأنس. وكان هؤلاء الوعّاظ يجذبون إليهم الناس بأكثر مما يجذبهم الوعّاظ العاديون لقيام حياتهم على الزهد والتقشف ورفض كل متاع.

وتكوّنت حول هؤلاء الوعّاظ من المتصوفة سريعا حكايات كثيرة تصوّر جهادهم العنيف فى قمع شهوات النفس ولذاتها وكيف كان الصوفىّ يفرض على نفسه عناء شاقّا مضنيا لا يطيقه إلا أولو العزم. وعادة تحتوى القصة أو الحكاية ما يلفت الصوفى إلى تقصيره وأن عليه أن يتحمل أهوالا ثقالا، فمن ذلك ما يروى عن بشر الحافى المتصوف المتوفى قبيل هذا العصر سنة 227 من أنه مرّ ببعض الناس فسمعهم يقولون: هذا الرجل لا ينام الليل كله ولا يفطر إلا فى كل ثلاثة أيام مرة، فبكى حين سمعهم يردّدون هذا الكلام. وسأله سائل:

ما يبكيك؟ فقال: إنى لا أذكر أنى سهرت ليلة كاملة، ولا أنى صمت يوما ولم أفطر من ليلته، ولكن الله سبحانه وتعالى يلقى فى القلوب أكثر مما يفعله العبد لطفا منه سبحانه (1) وكرما. ويحكى عن السّرىّ السّقطى المتوفى سنة 251 أنه كان إذا أفطر كل ليلة ترك لقمة، فإذا أصبح جاءت عصفورة، وأكلت تلك اللقمة من يده، وذات يوم اشتهى أن يأكل الخبز بالقديد (لحم مقدّد) فامتنعت العصفورة من أكل اللقمة التى تعودت أكلها، فعاهد نفسه ألا يتناول أبدا شيئا من الإدام (2)! .

ويروى ابن أخته الجنيد أنه دخل عليه يوما، فوجده يبكى، فقال له:

ما يبكيك؟ فقال: جاءتنى البارحة الصبية، فقالت: يا أبت هذه ليلة حارة، وهذا الكوز أعلّقه ههنا، ثم إنى نمت فرأيت جارية من أحسن الخلق نزلت من السماء فقلت لها: لمن أنت؟ فقالت: لمن لا يشرب الماء المبرّد فى الكيزان، فتناولت الكوز، فضربت به الأرض فحطمته (3). وهما خبران رمزيان يصوران ما كان يأخذ به السّرىّ نفسه من الشظف فى العيش والحرمان الشديد. ويحكى عن رويم بن أحمد المتوفى سنة 303، وكان مجردا من الدنيا زاهدا ورعا، أنه اجتاز فى بغداد وقت الهاجرة ببعض الطرقات وهو عطشان، فاستسقى من دار، ففتحت

(1) رسالة القشيرى (طبعة سنة 1346 هـ بمصر) ص 20.

(2)

القشيرى ص 10.

(3)

القشيرى ص 11.

ص: 529

الباب صبيّة ومعها كوز ماء، فأخذه منها وشرب، فاستدارت له قائلة: صوفىّ يشرب بالنهار! فما أفطر بعد ذلك اليوم قط (1).

وهذه الحكايات الصوفية أخذت تكوّن ضربا من ضروب الآداب الشعبية العربية، إذ كان الناس يتداولونها رجالا ونساء وشيبا وشبّانا، وكأن التصوف كان عاملا قويّا فى ظهور تلك الآداب وطبعها بطوابع الشعب ولغته وألفاظه. وتتصل بها الحكايات التى أخذت تؤثر عن كرامات المتصوفة، ومرّ بنا فى الفصل الثالث أن الحكيم الترمذى المتوفى سنة 320 صنّف فى تلك الكرامات كتابا سمّاه «ختم الولاية» يريد ولاية الصوفية وأنهم أولياء الله فى أرضه، ولذلك تظهر على أيديهم كرامات كثيرة. وممن تكثر إضافة الكرامات إليه فى هذا العصر بنان الحمّال المصرى المتوفى سنة 316، فقد قيل إن خمارويه أمر بأن يطرح بين يدى سبع، فطرح وبقى ليلته. وجعل السبع يشمه ولا يضره. فلما أصبحوا وجدوه قاعدا مستقبل القبلة والسّبع بين يديه. وعجب خمارويه، فأطلقه واعتذر إليه (2). وحكى أنه كان لرجل على آخر دين: مائة دينار، بوثيقة. فطلب الرجل الوثيقة فلم يجدها، فجاء إلى بنان ليدعو له، لعله يجد الوثيقة الضائعة، فقال له بنان: أنا رجل قد كبرت وأحب الحلواء، اذهب إلى قريح (حلوانى) فاشتر رطل حلواء واثتنى به، أدعو لك، ففعل الرجل، وجاءه. فقال له بنان: افتح ورقة الحلواء، ففتحها، فإذا هى الوثيقة. فقال: هذه وثيقتى. فقال بنان: خذها، وأطعم الحلواء صبيانك. ولم يكن يؤمن بمثل هاتين الكرامتين إلا عوامّ المتصوفة، وهو ما يعنينا، إذ دارت حكايات هذه الكرامات على ألسنة العامة، وبذلك كان التصوف عاملا قويّا فى العصر على ذيوع لون شعبى جديد من الأدب، وهو لون قصصى، وقد أخذت تؤلف فيه المصنّفات مثل كتاب «ختم الولاية» الآنف ذكره، وكانت بدورها مصنفات شعبية تتداولها كثرة من الأيدى. ولعله من المهم أن نعرف أن خاصة المتصوفة وكبارهم فى العصر كانوا ينكرون هذه الكرامات إنكارا باتّا، فيحكى عن أبى يزيد البسطامى المتوفى سنة 261 أنه قيل له إن فلانا يمشى فى ليلة إلى مكة، فقال:

(1) القشيرى ص 21.

(2)

انظر فى هذه الحكاية وتاليتها النجوم الزاهرة 3/ 221.

ص: 530

الشيطان يمشى فى ساعة من المشرق إلى المغرب فى لعنة الله. وقيل له: فلان يمشى على الماء ويطير فى الهواء، فقال: الطير يطير فى الهواء والسمك يمر على الماء (1).

وجاء رجل إلى سهل التسترى المتوفى سنة 273. فقال له: إن الناس يقولون إنك تمشى على الماء، فقال له: سل مؤذّن المحلّة، فإنه رجل صالح لا يكذب، قال: فسألته، فقال المؤذن: لا أدرى هذا. ولكنه نزل حوض الماء فى بعض الأيام ليتطهر، فوقع فى الماء، فلو لم أكن أنا لبقى فيه (2). ويروى عن بعض الصوفية أنه قال: كان فى نفسى شئ من هذه الكرامات، فأخذت قصبة من الصبيان وقمت بين زورقين، ثم قلت: وعزّتك لئن لم تخرج لى سمكة قدرها ثلاثة أرطال لأغرقنّ نفسى. قال: فخرجت لى سمكة قدرها ثلاثة أرطال، فبلغ كلامه الجنيد. فقال: كان حقه أن تخرج له أفعى تلدغه.

والمهم أن التصوف نشر بهذه الحكايات المتصلة باحتمال المتصوفة لأثقال الشظف وما اعتقدته العامة فيما جرى على أيديهم من الكرامات أدبا شعبيّا قصصيّا كان يدور بين الناس. ولون ثالث من هذه الحكايات كان يقص أخبار المتصوفة لعل خير ما يصوره كتاب أخبار الحلاج. وهو أخبار وحكايات عنه بألسنة تلاميذه. تحمل أحواله وآراءه ومعتقده، فمن ذلك ما رواه تلميذه إبراهيم الحلوانى.

قال (3):

«دخلت على الحلاج بين المغرب والعشاء. فوجدته يصلى، فجلست فى زاوية الميت. كأنه لم يحسّ بى لاشتغاله بالصلاة. فقرأ سورة البقرة فى الركعة الأولى، وفى الركعة الثانية آل عمران، فلما سلّم سجد وتكلّم بأشياء لم أسمع بمثلها.

فلما خاض فى الدعاء رفع صوته كأنه مأخوذ عن نفسه، ثم قال: يا إله الآلهة ويا ربّ الأرباب ويا من {(لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)} ردّ إلىّ نفسى لئلا يفتتن بى عبادك، يا هو أنا، وأنا هو، لا فرق بين إنّيّتى (وجودى) وهويّتك إلا الحدوث والقدم. ثم رفع رأسه ونظر إلىّ وضحك فى وجهى ضحكات. ثم قال: يا أبا إسحق أما ترى أن ربى ضرب قدمه فى حدوثى حتى استهلك حدوثى فى قدمه، فلم

(1) القشيرى ص 163.

(2)

القشيرى ص 164.

(3)

أخبار الحلاج ص 20.

ص: 531

يبق لى صفة إلا صفة القديم، ونطقى فى تلك الصفة. والخلق كلهم أحداث ينطقون عن حدوث. ثم إذا نطقت عن القدم ينكرون علىّ ويشهدون بكفرى ويسعون إلى قتلى، وهم بذلك معذورون، وبكل ما يفعلون بى مأجورون».

والحكاية تصور عقيدة الحلاج فى أنه بتحمله للآلام الثقال أصبح-كما يزعم- فى مرتبة عليا، بحيث ارتسمت الصورة الإلهية فيه، إذ ظهر فيه اللاهوت، وأصبح لا يفرّق بين نفسه وربه، فقد امتزج الحدث أو الحداثة فيه بالقدم، بل إنه لم تبق فيه صفة إلا صفة القدم، بخلاف من حوله من الناس، فهم جميعا يستشعرون الحدوث، أو قل كلهم حادثون، وهو وحده الذى أصبح يستشعر القدم، فلماذا ينكرون عليه التكلم عن القدم. مع أنه هو-كما يزعم-والقديم شئ واحد! .

وله عبارات تدل على أنه كان فى بعض أحواله يؤمن بتنزيه الذات العلية عن التشبيه بالمخلوقات وفى أخباره عن أحمد بن سعيد الإسبينجانى قال (1):

سمعت الحلاج يقول: ألزم (الله) الكلّ الحدوث لأن القدم له. والذى بالجسم ظهوره العرض يلزمه. والذى بالإرادة اجتماعه قواها تمسكه. والذى يؤلفه وقت يفرّقه وقت. والذى يقيمه غيره الضرورة تمسّه. والذى الوهم يظفر به التصوير يرتقى إليه. ومن آواه محل أدركه أين. ومن كان له جنس طالبه كيف. إنه تعالى لا يظلّه فوق ولا يقلّه (يحمله) تحت. ولا يقابله حدّ ولا يزاحمه عند، ولا يأخذه خلف ولا يحدّه أمام. ولا يظهره قبل ولا يفيته بعد. ولا يوجده كان، ولا يفقده ليس (عدم). وصفه لا صفة له. وفعله لا علّة له. وكونه لا أمد له. تنزّه عن أحوال خلقه. ليس له من خلقه مزاج، ولا فى فعله علاج، باينهم بقدمه كما باينوه بحدوثهم».

ويستمر الحلاج فى مثل هذا التنزيه لله، فهو لا يشبه الكائنات فى شئ ولا يشبهونه فى شئ، تفرّد بذاته وصفاته عن ذواتهم وصفاتهم فهم حادثون وهو قديم، لا يلزمه شئ ولا يمسكه شئ، كلّ واحد لا أجزاء له، لا تمسه ضرورة ولا يلحقه وهم، ولا يؤويه مكان ولا تحتويه صفة، لا شئ فوقه ولا آخر تحته، لا يحدّه حدّ ولا جهة من الجهات، موجود قبل كل وجود، ولا يلحقه عدم

(1) أخبار الحلاج ص 31.

ص: 532

ولا فناء، ولا يصفه وصف لا يسأل عما يفعل، أزلىّ أبدىّ، ليس كمثله شئ، قديم والخلق جميعا حادثون. ومرّ بنا أنه ربما كان أول صوفى دعا للانفصام بين الحقيقة (التصوف) والشريعة، وفى أخباره أنه قال فى رسالة له أرسل بها إلى بعض تلامذته (1):

«اعلم أن المرء قائم على بساط الشريعة ما لم يصل إلى مواقف التوحيد، فإذا وصل إليها سقطت من عينه الشريعة واشتغل باللوائح الطالعة من معدن الصدق، فإذا ترادفت عليه اللوائح وتتابعت عليه الطوالع صار التوحيد عنده زندقة والشريعة عنده هوسا، فبقى بلاعين ولا أثر. إن استعمل الشريعة استعملها رسما. وإن نطق بالتوحيد نطق به غلبة وقهرا» .

وواضح أنه يجعل الشريعة للناس العاديين، أما أهل الحقيقة من أمثاله فإنهم يسقطون الشريعة ويسقطون معها الفروض الدينية! فلا صلاة ولا صوم ولا حج ولا زكاة، بل إن المتصوف إذا ظل راقيا فى مراقى الحقيقة العليا، سقطت عنده لا الشريعة وحدها، بل كل شئ حتى التوحيد! . ولعل فى الفقرة الأخيرة من كلامه ما يشير إلى لون رابع من ألوان النثر الصوفى، هو تصوير الصوفية لمعتقداتهم فى مصنفات خاصة، على نحو ما يلقانا فى كتاب الطواسين له، ويحسن أن نعرض منه قطعة أو فقرة تصوّر كتابته الصوفية، ولتكن القطعة التى كتبها عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم فى مستهل الفصل الأول من كتابه، وهى تجرى على هذا النمط (2):

«طس سراج من نور الغيب بدا وعاد، وجاوز السراج وساد، قمر تجلّى من بين الأقمار، برجه فى فلك الأسرار، سمّاه الحق أميّا لجمع همته، وحرميّا لعظم نعمته، ومكيّا لتمكينه عند قربه، شرح صدره، ورفع قدره، وأوجب أمره، فأظهر بدره. طلع بدره من غمامة اليمامة، وأشرقت شمسه من ناحية تهامة. . {(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)} . أنوار النبوة من نوره برزت، وأنوارهم من نوره ظهرت، همّته سبقت الهمم، ووجوده سبق العدم، واسمه سبق القلم، لأنه كان قبل الأمم. . . وهو سيد البرية الذى اسمه أحمد، ونعته أوحد، كان مشهورا

(1) أخبار الحلاج ص 73.

(2)

الطواسين ص 9 - 14

ص: 533

قبل الحوادث والكوائن والأكوان ولم يزل، كان مذكورا قبل القبل وبعد البعد، هو الذى جلا الصّدأ عن الصدر المغلول، وهو الذى أتى بكلام قديم لا محدث ولا مقول ولا مفعول. . . فوقه غمامة برقت، وتحته برقة لمعت وأشرقت وأمطرت وأثمرت. العلوم كلها قطرة من بحره، والحكم كلّها غرفة من نهره، الأزمان كلها ساعة من دهره، هو الأول فى الوصلة، والآخر فى النبوة، والباطن بالحقيقة، والظاهر بالمعرفة».

و«طس» تبتدئ بها سور معروفة فى القرآن الكريم، وقد اختار جمعها اسما لكتابه! وهو يشيد بالرسول عليه السلام متمثلا فيه فكرة اللاهوت، بل إنه ليجعل نوره المحمدى أول شئ خلقه الله. وقد ظل يظهر فى نبوات الأنبياء منذ آدم، وليس ذلك فحسب. فهو مبدأ الوجود وروحه، وهو منبع العلم والعرفان والحكمة، أو هو الأول السابق فى الوجود لكل وجود، وهو الآخر فى النبوات وبين الأنبياء.

وكأنه الحقيقة الإلهية السارية فى الوجود كله. فمنها يستمد الكون وجوده وكل نبى نوره. بل إنه هو المشاهد فى كل نور. وذكر أن الرسول عليه السلام أتى بكلام قديم، وبذلك خالف المعتزلة مخالفة صريحة فى قولهم بأن القرآن كلام الله ليس قديما بل هو مخلوق وحادث.

وواضح أن الحلاج كان يستخدم فى كتابه الطواسين السجع. وبذلك لاءم بين أسلوبه وأسلوب الكتابة فى أواخر القرن الثالث وأوائل الرابع فإن السجع أخذ يعم فى الكتابات الأدبية. وربما كان فى اختياره لهذا الأسلوب ما يدل على أنه أراد أن يرتفع بكتابه الطواسين عن الطبقة العامة إلى الطبقة الخاصة محاولا أن يؤثر فيها بما حشده فيه من السجع تارة ومن الشعر تارة ثانية، وكأنه كان يعرف قبل غيره أن العامة لن تفهم أفكاره الصوفية المعقدة، فقدّمها إلى الطبقة الخاصة مودعا فيها من السجع والشعر ما يفسح للرمز والتأويل.

ص: 534