المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌4 - سعيد بن حميد - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٤

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الثانى

- ‌الفصل الأوّل:الحياة السياسية

- ‌1 - استيلاء الترك على مقاليد الحكم

- ‌2 - تدهور الخلافة

- ‌3 - ثورة الزنج

- ‌4 - ثورة القرامطة

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثّانى:الحياة الاجتماعية

- ‌1 - طبقات المجتمع

- ‌2 - الحضارة والترف والملاهى

- ‌3 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌4 - المجون والشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالث:الحياة العقلية

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة وتفلسف

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد والتاريخ

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه

- ‌5 - الاعتزال وانبثاق المذهب الأشعرى

- ‌الفصل الرّابع:نشاط الشعر

- ‌1 - علم الشعراء بأسرار العربية

- ‌2 - ذخائر عقلية خصبة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - نمو الموضوعات الجديدة

- ‌5 - نمو الشعر التعليمى

- ‌الفصل الخامس:أعلام للشعراء

- ‌1 - على بن الجهم

- ‌2 - البحترى

- ‌3 - ابن الرومى

- ‌4 - ابن المعتز

- ‌5 - الصنوبرى

- ‌الفصل السّادس:شعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الخلفاء العباسيين

- ‌مروان بن أبى الجنوب أبو السمط

- ‌أبو بكر الصولى

- ‌2 - شعراء الشيعة

- ‌ محمد بن صالح العلوى

- ‌الحمّانى العلوىّ

- ‌المقجّع البصرىّ

- ‌3 - شعراء الثورات السياسية

- ‌ محمد بن البعيث

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌ أبو على البصير

- ‌ أحمد بن أبى طاهر

- ‌ ابن دريد

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ الصّيمرى

- ‌الحمدونى

- ‌ابن بسام

- ‌الفصل السّابع:طوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل وشاعراته

- ‌فضل

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ الحسين بن الضحاك

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف

- ‌ الحلاّج

- ‌الشبلىّ

- ‌4 - شعراء الطرد والصيد

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌جحظة

- ‌الخبز أرزىّ

- ‌الفصل الثامن:نشاط النثر

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطابة والمواعظ والنثر الصوفى

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التّاسع:أعلام الكتاب

- ‌2 - الجاحظ

- ‌3 - ابن قتيبة

- ‌4 - سعيد بن حميد

- ‌5 - أبو العباس بن ثوابة

- ‌خاتمة

الفصل: ‌4 - سعيد بن حميد

أصحاب الشعوبية بما سوّى للعربية فى عيون الأخبار من هذا الأدب العربى الرفيع الذى وسع مختلف الثقافات ومزج بينها بحيث أصبح له طوابع جديدة مميزة.

‌4 - سعيد بن حميد

(1)

أبوه حميد بن سعيد فارسى الأصل، كان من أهل النباهة فى بغداد ووجها من وجوه المعتزلة وكان يحسن نظم الشعر، ولا نعرف متى ولد له سعيد، ويبدو أنه عنى به عناية شديدة منذ نعومة أظفاره، فألحقه بكتّاب حفظ فيه شيئا من القرآن والفقه والحديث والنحو واللغة والأشعار والحساب، حتى إذا خطا خطوات فى العقد الثانى من عمره دفعه إلى حلقات الدرس فى المساجد، ويروى أنه عنى خاصة بأن يلحقه بحلقة ابن الأعرابى المتوفّى سنة 231 وأنه سمع منه أرجوزة فى نحو عشرين بيتا وحفظها بمجرد سماعها، مما يدل على ذكائه وقوة ذاكرته. ولم يكتف سعيد بحلقة هذا العالم اللغوى الكبير، فقد مضى يختلف إلى حلقات العلماء من كل صنف، مكبّا عليها ناهلا منها متمثلا لما يقدّم فيها من غذاء أدبى وفكرى، مما جعل المسعودى يقول عنه:«كان سعيد حافظا لما يستحسن من الأخبار ويستجاد من الأشعار متصرفا فى فنون العلم، ممتعا إذا حدّث، مفيدا إذا جولس» . ولعل ذلك ما جعل فضلا الشاعرة تعجب به، وتعقد بينها وبينه مودة ظلت فترة طويلة، وظلا يتبادلان فيها الرسائل الشعرية، على نحو ما مرّ بنا فى حديثنا عن فضل. وكان قد ملأه الطموح بالنجاح فى سامراء عاصمة الخلافة فتحول من بغداد إليها. ولا ريب فى أن حلاوة محضره وعذوبة أحاديثه جعلتا كثيرين من أدباء عصره تشرئب أعناقهم إلى صحبته، وكانت فيه دعابة تجعل مجلسه خفيف الروح، مما جعل أبا على البصير وأبا العيناء نديمى المتوكل يألفانه ويختلفان إلى مجالسه، وتدور بينهما وبينه مداعبات ومعاتبات ومكاتبات، كما قال الرواة. ويبدو

(1) انظر فى ترجمة سعيد ورسائله الفهرست ص 185 والأغانى (طبعة الساسى) 17/ 2 ومروج الذهب 4/ 61 وابن خلكان وكتاب رسائل سعيد بن حميد وأشعاره ليونس أحمد السامرائى (طبع بغداد) وجمهرة رسائل العرب لأحمد زكى صفوت.

ص: 623

أنه كان ينتظم بين كتّاب الدواوين لعهد المتوكل، إن لم يكن قد انتظم فيها قبل ذلك، وإنما يدفعنا إلى هذا الرأى ما اشتهر به من تعصبه على آل على بن أبى طالب تعصبا شديدا حتى ليقول ابن المعتز. «كان سعيد من أشد الناس نصبا (عداء) لعلى وانحرافا عن آل الرسول عليه السلام» (1) ويقول المسعودى:

«كان يتنصّب ويظهر التسنن والانحراف عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى الله عنه وعن الطاهرين من ولده» . ومرّ بنا فى غير هذا الموضع موقف المتوكل من العلويين وأمره بهدم قبر الحسين فى كربلاء وانحرافه عن على وآله، وكأن سعيدا اعتنق أفكاره إما حقيقة وإما رياء للخليفة الموظف بدواوينه. على كل حال نظن فى هذا الانحراف عند المتوكل وسعيد معا أنه كان يعمل فى ظله، وأنه استحال بوقا من أبواقه. ويقول صاحب الفهرست إن له كتاب انتصاف العجم من العرب ويعرف بالتّسوية، والكتاب لم يصلنا، ولا ندرى هل كان ينحرف عن العرب بدورهم انحرافا شديدا أو انحرافا خفيفا، على أن فى كلمة ابن النديم أن الكتاب يعرف بالتسوية ما قد يشير إلى أنه لم يكن شديد العصبية فيه على العرب وأنه إنما كان يطالب بالتسوية بينهم وبين الأعاجم، والتسوية كما مرّ بنا فى هذا الكتاب وكتاب العصر العباسى الأول لا تدخل فى العصبية المنحرفة لدى بعض الأعاجم والمعروفة باسم الشعوبية.

وفى أشعاره ما يدل على أنه كان معتزليّا مثل أبيه على نحو ما نرى فى قوله (2):

قد قلت بالعدل ولكننى

عدلت فى الحبّ عن العدل

فقلت بالإجبار مستغفرا

لله من قولى ومن فعلى

فهو يؤمن بنظرية العدل على الله المعروفة عند المعتزلة، والتى تتيح للإنسان حرية الإرادة والاستطاعة، حتى يكون ثوابه وعقابه جزاء لما قدمت يداه، بينما يذهب أصحاب الجبر إلى أن كل شئ بقضاء وقدر وأنه لا مفر من الاستسلام للمقادير.

ولعل فى ذلك كله ما يصور شخصية سعيد وأنه كان مثقفا ثقافة واسعة، ثقافة بالعربية وبمواد المعرفة الأجنبية، وهيّأ له ذلك أن يصبح من كتّاب الدواوين

(1) طبقات الشعراء لابن المعتز ص 426.

(2)

كتاب رسائل سعيد بن حميد وأشعاره ص 141.

ص: 624

مبكرا. وما يزال يرقى فيها وأعين رؤسائها ترمقه وتلاحظه، إذ كان شاعرا بارعا وكاتبا نابغا.

وكانت أول حادثة لمع فيها اسمه البيعة للمنتصر بعد مقتل أبيه المتوكل سنة 247، فقد ذكر أن أحمد بن الخصيب وزير المنتصر قال له: ويلك يا سعيد! أمعك كلمتان أو ثلاث تأخذ بها البيعة؟ قلت: نعم وكلمات، وعملت كتاب البيعة.

وهو كتاب طويل استهلّه بقوله (1):

«بسم الله الرحمن الرحيم. تبايعون عبد الله المنتصر بالله أمير المؤمنين بيعة طوع واعتقاد ورضا، ورغبة بإخلاص من سرائركم، وانشراح من صدوركم، وصدق من نيّاتكم لا مكرهين ولا مجبرين، بل مقرّين عالمين بما فى هذه البيعة وتأكيدها من طاعة الله وتقواه، وإعزاز دين الله وحقه، ومن عموم صلاح عباد الله واجتماع الكلمة، ولمّ الشّعث، وسكون الدّهماء، وأمن العواقب، وعزّ الأولياء، وقمع الملحدين. . . لا تشكّون ولا تدهنون (تمالئون) ولا تميلون، ولا ترتابون، وعلى السمع له، والطاعة والمسالمة، والنصرة والوفاء والاستقامة والنصيحة فى السر والعلانية، والخفوف والوقوف عند كل ما يأمر به» .

وأكبر الظن ان صوت سعيد اتضح فى هذه السطور القليلة، فهو يعنى أشد العناية باختيار لفظه، وهو لا يطيل عباراته، بل يجعلها قصيرة، حتى لتصبح كلمة مثل:«طوع واعتقاد ورضا» ، ومثل «اجتماع الكلمة، ولمّ الشعث، وسكون الدهماء، وأمن العواقب، وعز الأولياء، ولمع الملحدين» فالكلمات تتعاقب، جزلة حقا، ولكنها خفيفة على الأفواه والشفاه، إذ لا تلبث أن تحملها حتى ترسلها. ويظل كاتبا لأحمد بن الخصيب طوال خلافة المنتصر، حتى إذا ولى الخلافة بعده المستعين لسنة 248 عزل ابن الخصيب من الوزارة، واستوزر مكانه أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد وسرغان ما عزله واستوزر محمد بن الفضل الجرجرائى، فجعل رياسة ديوان الرسائل لسعيد بن حميد (2)، وبذلك أصبح الكاتب الأول فى الدولة الذى تصدر عنه جميع رسائلها الديوانية، ومما كتبه حينئذ رسالة خطيرة عن محمد بن عبد الله بن طاهر إلى أهل بغداد، وكان المستعين قد

(1) انظر الطبرى 9/ 235 وما بعدها.

(2)

طبرى 9/ 264.

ص: 625

نزلها سنة 251 بعدا عن سامرّاء مدينة الترك وبغيهم، فبايعوا المعتز، ونازلوا ابن طاهر ببغداد فهزمهم، حينئذ نراه يأمر سعيد بن حميد بكتابة رسالة تذكر الوقعة حتى تقرأ على أهل بغداد فى مسجد جامعها، وهى رسالة طويلة طولا شديدا نقتطف منها بعض الفقر التالية:

«ساروا نحو مدينة السلام (بغداد) معلنين للبغى والاقتدار، مظهرين للغىّ والإصرار، فتأنّاهم أمير المؤمنين (المستعين) وفسح لهم فى النّظرة، وأمر بالكتاب إليهم بما فيه تبصيرهم الرشد. . . وأن يبيّن لهم ما سلف من بلائه عندهم من أسنى المواهب، وأرفع الرّغائب، والاختصاص بسنىّ المراتب، والتقدم فى المحافل، فأبوا إلا تماديا ونفارا، وتمسكا بالغىّ وإصرارا. . . وقابلوا الموعظة بالإصرار على الذنب، وعارضوا التبصير بالاستبصار فى الباطل. . .

وصدقهم أولياء الله (جنود المستعين وابن طاهر) فى لقائهم بقلوب مستجمعة لهم، وعلم بأن الله لا يخلف وعده فيهم، فجالت الخيل بهم جولة، وعاودت كرّة بعد كرّة، طعنا بالرماح، وضربا بالسيوف، ورشقا بالسهام، فلما مسّهم ألم جراحها وكلمتهم (جرحتهم) الحرب بأنيابها، ودارت عليهم رحاها، وصمد لهم أبناؤها ظمأ إلى دمائهم، ولّوا أدبارهم، ومنح الله أكتافهم، وأوقع بأسه بهم، فقتلت منهم جماعة لم يحترسوا من عذاب الله بتوبة، ولم يتحصّنوا من عقابه بإنابة. . . فمن قتيل غودرت جثته بمصرعه، ونقلت هامته إلى مصير فيه معتبر لغيره، ومن لاجئ من السيف إلى الغرق لم يجره الله من حذاره، ومن أسير مصفود (موثق بالأغلال) يقاد إلى دار أولياء الله وحزبه، ومن هارب بحشاشة نفسه. . . فرقا أربعا تجمعها النار، ويشملها عاجل النكال عظة ومعتبرا لأولى الأبصار».

وواضح تقطيع العبارات وتقابل الكلم فى الرسالة، وكأننا بإزاء حائك، يقيس ثيابا متماثلة مقدّرة على معانيها. وقد يتكامل التقطيع، فيظهر السجع، ولكنه ليس سجعا متكلّفا، فليس مردّه إلى محاولة صنعة، وإنما مرده إلى دقة التقطيع، حتى لتأخذ العبارات شكل سجعات متوالية. وما نزال نتنقل بين تقاطيع طريفة، حتى نصل مع سعيد إلى تقسيم الجيش الذى دارت عليه الدوائر أقساما أربعة:

ص: 626

فهم بين قتيل وغريق وأسير وفار على وجهه لا يلوى.

ولسعيد تحميدات طريفة كان يضعها بين يدى رسائله الديوانية، فمن ذلك تحميد كتب به فى فتح نهض به القائد التركى وصيف، يستهله بقوله (1):

«أما بعد فالحمد لله الحميد المجيد، الفعّال لما يريد، الذى خلق الخلق بقدرته وأمضاه على مشيئته، ودبّره بعلمه وأظهر فيه آثار حكمته، التى تدعو العقول إلى معرفته، وتشهد لذوى الألباب بربوبيته، وتدلّ على وحدانيته، لم يكن له شريك فى ملكه فينازعه، ولا معين على ما خلق فتلزمه الحاجة إليه، فليس يتصرّف عباده فى حال إلا كانت دليلا عليه، ولا تقع الأبصار على شئ إلا كان شاهدا له بما رسم فيه من آثار صنعه، وأبان فيه من دلائل تدبيره، إعذارا بحجّته، وتطولا بنعمته، وهداية إلى حقّه، وإرشادا إلى سبيل طاعته. . . والحمد لله العزيز القهّار، الملك الجبّار، الذى اصطفى الإسلام واختاره، وارتضاه وطهّره، وأعلاه وأظهره، فجعله حجّة أهله على من شاقّهم (خالفهم) ووسيلتهم إلى النصر على من عند (مال) فى حقهم، وابتغى غير سبيلهم» .

والسجع كثير فى هذا التحميد، وهو دليل على أنه ظهر ثمرة لكثرة التقاطيع فى العبارات، وإحساس الكتاب بأنه لا بأس من استكمال هذه التقاطيع، ولكن لا على أساس الجور على المعانى، وإنما على أساس الوفاء بها. وسعيد يستوفى فى أول تحميده صفات الله جلّ شأنه من خلق وتقدير وعلم وحكمة فى تدبير الكون، مما يشهد بوحدانيته. ونحس أثر قراءته لمباحث المتكلمين حين يلمّ بالوحدانية إذ يقول:

لو كان هناك إلهان أو آلهة لتنازعت فيما بينها على السلطان، وأيضا فإن هذا يؤول إلى أن يكون هناك آلهة تعينه فى الخلق وتساعده، ولو صحّ ذلك لأصبح الله محتاجا إليها وانتفت عنه ألوهيته، إذ يمسه الضعف والعجز من بعض الوجوه، ويعرض حجة على ربوبيته التأمل فى خلق الإنسان وفى نظام الكون مما يهدى إلى طريق الرّشاد.

ولسعيد بجانب الرسائل الديوانية التى كان يكتبها فى أثناء عمله بالدواوين رسائل إخوانية كثيرة، منها تهنئات بعيد النّيروز وشوق وعزاء واعتذار ودعوة إلى

(1) جمهرة رسائل العرب 4/ 295.

ص: 627

مجالس الأنس وشكر وهجاء واستمناح لبعض الأشخاص وتوصيات، ونعم طائفة منها بادئين بتهنئاته فى عيد النيروز، فمن ذلك رسالة إلى أبى صالح يزداد وزير المستعين (1):

«النفس لك، والمال منك، والرجاء موقوف عليك، والأمر مصروف إليك، فما عسانا أن نهدى لك فى هذا اليوم، وهو يوم سهّلت فيه العادة، سبيل الهدايا للسادة، وكرهت أن نخليه من سنّته فنكون من المقصّرين، أو ندّعى أن فى وسعنا ما يفى بحقك علينا فنكون من الكاذبين، فاقتصرنا على هدية تقضى بعض الحق، وتقوم عندك مقام أجمل البرّ، وهى الثناء الجميل، والدعاء الحسن، لا زلت أيها الأمير دائم السرور والغبطة فى أتم أحوال العافية، وأعلى منازل الكرامة، تمر بك الأعياد الصالحة، والأيام المفرحة، فتخلقها وأنت جديد، وتستقبل أمثالها، فتلقاك ببهائها وجمالها. وقد بعثت الرسول بالسكّر لطيبه وحلاوته، والسّفرجل لفأله وبركته، والدرهم لبقائه عند كل من ملكه، ولا زلت حلو المذاق على أوليائك، مرّا على أعدائك، متقدّما عند خلفاء الله الذين تليق بهم خدمتك وتحسن أفنيتهم (ساحاتهم) بمثلك» .

والرسالة تحمل أسلوب سعيد وما يميزه من التقطيعات المتوالية والمعانى المتقابلة، فالنفس يقابلها المال، والرجاء يقابله الأمر. ويسقط السجع سقوطا طبيعيّا، كأنه ثمر يسقط من شجرة مورقة. ويمسح على ذلك لطف الحضارة، وما يمتاز به أهلها من دقة الحسّ ورهافة الذوق، على نحو ما يتضح فى المعانى التى تحملها الهدية، فالسكر رمز للحلاوة والسفرجل رمز للبركة والدرهم رمز لبقاء الوزير فى عزّه.

ويكتب برسالة مماثلة إلى الحسن بن مخلد وزير المعتمد على هذا المنوال (2):

«أيها السيد الشريف! عشت أطول الأعمار بزيادة من العمر، موصولة بقرائنها من الشكر، لا ينقضى حق نعمة، حتى تجدّد لك أخرى، ولا يمر بك يوم إلا كان مقصّرا عما بعده، موفيا على ما قبله. إنى تصفحت أحوال الأتباع الذين تجب عليهم الهدايا إلى السادة، فالتمست التأسى بهم فى الإهداء، وإنى إن

(1) العقد الفريد 6/ 282 وديوان المعانى 1/ 95.

(2)

عيون الأخبار 3/ 39، والعقد الفريد 6/ 281 وديوان المعانى 1/ 94.

ص: 628

اهديت نفسى فهى ملك لك، لا حظّ فيها لغيرك، وإن رميت بطرفى إلى كرائم مالى وجدتها منك. . . وفزعت إلى مودتى فوجدتها خالصة لك قديمة غير مستحدثة فرأيت إن أنا جعلتها هديتى لم أجدّد لهذا اليوم الجديد برّا ولا لطفا (هدية) ولم أقس منزلة من شكرى بمنزلة من نعمتك إلا كان الشكر مقصرا عن الحق، والنعمة زائدة على ما تبلغه الطاقه، فجعلت الاعتراف بالتقصير عن حقك هدية إليك، والإقرار بما يجب لك برّا أتوصّل به».

والرسالة تحمل فى جوهرها معانى الرسالة السابقة، وفيها نفس التلطف، وإن كان قد ازداد رقة فى الدعاء وفى التعبير عن الاعتذار بالتقصير، فليس هناك ما يستطيع تقديمه حتى نفسه ومودته قدّمهما من قبل، ولم يبق فى طاقته سوى الحمد والثناء والشكر الذى لا يماثله شكر، وتتوافر التقطيعات فى الرسالة ويظهر السجع أحيانا فى خفة وبدون أى تكلف لجهد أو عناء. ويكتب لصديق عزل عن عمله، مسليّا له (1):

«حفظك الله بحفظه، وأسبغ عليك كرامته، وأدام إليك إحسانه، إن سرورى بصرفك أكثر من سرور أهل عملك بما خصّوا به من ولايتك. وقد كنت-أعزّك الله-فيما يربأ بك عنه بما أنت عليه فى قدرك واستئهالك، ولكنا رجونا أن يكون سببا لك إلى ما تستحق، فطبنا نفسا بالذى رجونا. فالحمد لله الذى سلّمك منه، ونسأله تمام نعمه عليك وعلينا فيك، بتبليغك أملك وآمالنا فيك وشفع (قرن) ما كان من ولايتك بأعظم الدرجات، وأشرف المراتب، ثم خصّك الله بجميل الصّنع، وبلّغك غاية المؤملين. إن من سعادة الوالى-حفظك الله-وأعظم ما يخصّ به فى عمله وولايته السلامة من بوائق (دواهى) الإثم، ونوائب الدنيا وشرها، والعاقبة مما يخاف منها، وقد خصّك الله منها-بمنّه وطوله (إنعامه) ما نرجو أن يكون سببا لك إلى نيل ما تستحق من المراتب، والله نسأل إيزاعك (إلهامك) شكر ما منّ به عليك، وتبليغك غاية أملك فى جميع أمورك، برحمته وفضله» .

والرسالة طريفة غاية الطرافة إذا عكس سعيد العزاء عن العمل، وجعله تهنئة

(1) جمهرة رسائل العرب 4/ 287.

ص: 629

خليقة بأن تنصب لها أعلام السرور. ومضى يصوّر سروره وأنه يزيد على سرور أهل عمله حين جاءهم نبأ تولية هذا العامل عليهم. ويؤكد سروره بقوله إنه طاب نفسا، وقد أحسن اختيار هذه الكلمة. ثم أخذ يحمد له السلامة من هذا العمل ويعدّ ذلك نعمة ليس فوقها نعمة، ويدعو له بأن يبلغ أعظم الدرجات وأشرف المراتب، كما يدعو له بأن يعرف حق هذه النعمة ويشكر الله عليها أصدق الشكر، ويتمنى له أن يبلغ غاية آماله. وكأنما الرسالة ضرب من الحيل العقلية التى كانت تدور فى المجالس، والتى كانت تعرض محاسن الشئ ومساوئه. فقد يكون حسنا وينقلب سيئا، وقد يكون سيئا وينقلب حسنا، ولا يرى فيه إلا الحسن، بفضل الذخائر العقلية التى حازها لنفسه العصر العباسى. وله من رسالة تعزية (1):

«إذا استوى المعزّى والمعزّى فى النائبة استغنى عن الإكثار فى الوصف لموقع الرزيّة. . .

وأنا أقول إنا لله وإنا إليه راجعون، إقرارا له بالهلكة، واغترافا بالمرجع إليه، وتسليما لقضائه، ورضا بمواضع أقداره، وأسأل الله أن يصلّى على محمد صلاة متصلة بركاتها، وأن يوفقك لما يرضيه عنك قولا وفعلا، حتى يكمل لك ثواب الصابر المحتسب وجزاء المطيع المتنجّز للوعد، ويرحم فلانا ويحله أعلى منازل أوليائه الذين رضى سعيهم، وتطول بفضله عليهم، إنه ولىّ قدير».

والحيلة أيضا فى هذه الرسالة واضحة، فقد جعل وفاة الشخص شركة بينه وبين المعزّى، فهو أيضا حرى بأن يعزّى فيه، وكأن المصيبة فيه مصيبة عامة، والحزن عليه لا يقف عند من أرسل له هذه الرسالة، بل يشمل كثيرين هو أحدهم.

وقد أخذ يحتال على أن يسلو عنه صاحبه، تسليما للقضاء، واعترافا بأن كل من عليها فان، ورضا بالمقادير، وإنه ليدعو الله أن يوفق صاحبه للصبر على المصيبة، حتى يحوز ثواب المحتسب الصابر، ويدعو للمتوفى أن يرحمه الله وينزله مع أوليائه وأصفيائه فى الدرجات العلية. وله يهنئ بعض إخوانه بولاية (2):

«أنا أهنئ بك العمل الذى وليته، ولا أهنئك به، لأن الله أصاره إلى من يورده موارد الصواب، ويصدره مصادر الحجّة ويصونه من كل خلل وتقصير، ويمضيه بالرأى الأصيل، والمعرفة الكاملة. قرن الله لك كل نعمة بشكرها،

(1) جمهرة رسائل العرب 4/ 292.

(2)

جمهرة رسائل العرب 4/ 289.

ص: 630

وأوجب لك بطوله المزيد منها، وأوزعك (ألهمك) من المعرفة بها ما يصونها من الفتن ويحوطها من النقص».

والرسالة مع إيجازها تبدأ بحيلة من حيل الفكر العباسى الخصب الحافل بما يلفت السامع ويروعه، وهى أن العمل هو الذى يهنّأ بهذا الوالى، لا أن الوالى هو الذى يهنّأ به، إمعانا فى المدح والإطراء، فقد كان من حسن حظ هذا العمل أن صار بيد من يدبره على خير وجه ممكن فى الإيراد والإصدار، ومن يصونه ويحفظه من أى خلل أو تقصير، مع الفكر الحصيف والمعرفة التامة. ويدعو له بالأمن فى عمله والسلامة من الفتن والثورات، وهو خطاب مقتضب، ولكنه جامع شامل، مع اللفظ المنتقى والأسلوب المصفّى. وله من رسالة فى ذم بعض الأشخاص وهجائه (1):

«رجل يعنف بالنعم عنف من قد ساءته بمجاورتها، ويستخفّ بحقها استخفاف من لا يخفّ عليه محملها، ويقصّر فى الشكر تقصير من لا يعلم أن الشكر يرتبطها. . فكيف يتسع الصدر للصبر عليه؟ إن الله لا يخاف الفوت فهو يمهله، وإنه إن مات لم يخرج من سلطان الله جلّ وعزّ إلى سلطان غيره فيعاجله» .

وهذه الكلمات على قصرها من ألذع الهجاء، وهل هناك شخص تسوؤه النعم سوى هذا الشخص الذى لا يعرف قدرها، بل إنه يعنف بها عنف عدوّ غاشم، وإنه ليستخفّ بحقوقها استخفاف من ثقل عليه النهوض بها وحملها، وهو لذلك كله يطّرح الشكر عليها اطراح الجاهل بأن الشكر هو الذى يكفل لها البقاء، وهو لا يدرى أنه مع طغيانه وبغيه على نعمة ربه سيلقى جزاءه، إنه يمهله، لأنه لا يعرف أنه لن يخرج حين يموت عن دائرة سلطانه. والكلمات والعبارات مختارة بدقة. وله فى الدعوة إلى يوم أنس من رسالة (2):

«لا عذر فى التخلف عنك، وإن حال الاشتغال بيننا وبينك، فإن كنت سامحت على العذر قبل الاعتذار، وسبقت إلى فضيلة الاغتفار، فلا زلت على كل خير دليلا، وإليه داعيا، وبه آمرا، وقد التقنا قبل وصول كتابك لقاء أحدث قطرا (دموعا منهمرة) وهاج شوقا، وأرجو أن تتسع لنا الجمعة بما بخلت به الأيام، فننال حظّا من محادثتك والأنس بك» .

(1) صبح الأعشى للقلقشندى 9/ 219.

(2)

زهر الآداب 3/ 361.

ص: 631

وهو يعترف بأنه مقصر وخليق بالاعتذار لتخلفه عن زيارة صديقه، ويعتذر بكثرة أعماله، ويتلطف معه، فيجعله قبل عذره قبل تقديمه وغفر له تقصيره.

وانظر كيف عبّر عن مدى تأثرهما عند اللقاء بقوله إنه لقاء أحدث قطرا. ودائما لا تفوته الكلمة الموجزة المعبّرة أدق تعبير وأقواه. ومن رسالاته عن فضل محبوبته وقد ظن بها الظنون وأنها تعثّرت فى حبال غيره (1):

«أصبحت-والله-من أمر فضل فى غرور، أخادع نفسى بتكذيب العيان، وأمنّيها ما قد حيل دونه. والله إن إرسالى إليها-بعد ما قد لاح من تغيّرها-لذلّ، وإن عدولى عنها-وفى أمرها شبهة-لعجز، وإن تصرّى عنها لمن دواعى التلف» .

والقطعة محبوكة العبارات، وقد عمد فيها إلى بيان حالته النفسية إزاء تغيّر فضل عليه، متصورا ثلاثة مواقف، فهو إن راسلها كان ذلك ذلاّ له وهوانا ما بعده هوان، وهو إن انصرف عنها ولا يزال مشتبها فى أمرها لم يتبين بالضبط قطيعتها له كان ذلك عجزا منه وتقصيرا، وهو إن أخذ نفسه بالصبر عنها كان ذلك فوق طاقته وأدّى به إلى التلف والهلاك. ودائما نحسّ عنده دقة التعبير، وكأن الكلمات سهام تصيب مرماها. وله فصول بديعة تدور فى كتب الأدب من مثل قوله فى رسالة لصديق مصوّرا مودته (2):

«إنى أهديت مودتى إليك رغبة، ورضيت بالقبول منك مثوبة، فصرت بقبولها قاضيا لحق، ومالكا لرقّ، وصرت-بالتسرع إلى الهدية والتخير للمثوبة-مرتهن اللسان بالرضا، واليدين بالوفا» .

وانظر تصويره لمودته بأنها هدية أهداها لصاحبه، ودائما تردّ الهدايا، وهو لا يريد لها ردّا ولا جزاء سوى قبول الصديق لها، ويقول إنك إن قبلتها أصبحت ناهضا بحق ومالكا لعبد، جعل رقّه فى يديك وحريته طوع مشيئتك، وكل ذلك كناية عن مدى إخلاصه فى أخوته وصداقته. وهو يصوّر نفسه، وقد قدّم الهدية وتخيّر جزاءها مودة صديقه بل قبوله لها، قد أصبح لسانه مرتهنا بحرمتها ويداه مقيدتين بالوفاء لها ونفسه مستعبدة له. ولا تعرف بالضبط السنة التى توفى فيها سعيد، وأكبر

(1) الأغانى (طبعة الساسى) 21/ 119.

(2)

جمهرة رسائل العرب 4/ 297.

ص: 632