الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العباسية حسنة، فكان أمراؤها يتولونها بعهود من الخلفاء حتى تكون ولايتهم شرعية، وأذن لهم الخلفاء فى أن تذكر أسماؤهم معهم فى خطبة الجمعة وأن يضربوا أسماءهم على الدنانير، وكانوا سنّييّن، ودعم ذلك الصلة بينهم وبين الخلافة.
ولا نصل إلى أواخر العصر، حتى يتغلب كثير من الحكام على ولاياتهم، فتصبح فارس والرّىّ وأصبهان والجبل فى أيدى بنى بويه، وخراسان فى يد نصر بن أحمد السامانى، وطبرستان وجرجان فى يد الديلم، وكرمان فى يد محمد بن إلياس، والموصل وديار ربيعة وبكر ومضر فى أيدى بنى حمدان، والأهواز وواسط والبصرة فى يد البريدى، واليمامة والبحرين فى يد أبى طاهر الجنّابى القرمطى، ومصر والشام فى يد محمد بن طغج الإخشيد، والمغرب وإفريقية فى يد القائم بأمر الله ابن المهدى الفاطمى المتلقب بأمير المؤمنين، والأندلس فى يد عبد الرحمن الناصر الأموى. ولم يبق فى يد الخليفة سوى بغداد، واستولى عليها منه-كما أسلفنا- البويهيون وخلعوه، وولّوا المطيع لله، وأصبحوا هم الذين يولّون الوزراء والقضاة والولاة وأصحاب الشرطة والحسبة، ولم يعد للخليفة سوى سلطان اسمى وأن يدعى له على المنابر، وخفّضت نفقاته، وقرّرت له نفقة طفيفة.
وليست هذه الكوارث كل ما حاق بالخلافة العباسية فى العصر العباسى الثانى، فقد نشبت ثورات كثيرة استنزفت موارد الدولة، وخاصة ثورتى الزنج والقرامطة، أما الزنج فقد استطاع الموفق لعهد أخيه المعتمد أن يقصى بعد جهاد عنيف عليهم وعلى ثورتهم قضاء مبرما، وأما القرامطة فقد ظلوا حتى نهاية العصر ينازلون الدولة وينزلون بها خسائر فادحة فى الرجال والأموال، ولعل من الخير أن نخص كلا من الثورتين بكلمة موجزة.
3 - ثورة الزنج
شغلت هذه الثورة الدولة أربع عشرة سنة ونحو أربعة أشهر لم تضع فيها الحرب أوزارها منذ رمضان سنة 255 الهجرة حتى صفر سنة 270 وكان الذى
أعدّ لها وأشعلها رجل فارسى من ورزنين: قرية من قرى الرّىّ بإيران، زعم فى أول الأمر أنه من بنى عبد القيس سكان البحرين، وفيهم أخذ ينشر آراءه الثورية ضد الدولة لأوائل العقد السادس من القرن الثالث الهجرى، فتبعه نفر قليل. وأحسّ كأن البحرين لن تتبعه، فتركها إلى البصرة لسنة 254 وأخذ ينشر فيها آراءه، وارتفع أمره إلى الوالى فطلبه، غير أنه أسرع بالخروج منها إلى بغداد، حتى إذا استدار العام عاد بفكرة جديدة هى أن يثير الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ هناك، وكان يسخّرهم كبار الملاك الإقطاعيين فى هذا الكسح وفى زرع أرضهم لقاء أجر زهيد لا يسدّ ما يحتاجون إليه من الغذاء البسيط والكساء الخشن.
ومضى يثيرهم ويتجمعون إليه، ورأى إحكاما لدعوته أن يسبغ عليها صبغة دينية، فزعم أنه يوحى إليه وأن العناية الإلهية بعثته اختارته لإنقاذ الزنج من جور الملاك الظالمين، وأشاع أن اسمه على بن محمد ووصل نسبه بإمام الزيدية: زيد بن على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب، حتى يثبت حقه الشرعى فى الثورة ضد الخلافة العبّاسية (1)، وهو نسب مكذوب إذ هو فارسى كما قدمنا، وحقّا نجد ابن المعتز ينعته فى الأرجوزة التى تمثلنا ببعض أبياتها فيما أسلفنا بأنه علوى إذ يقول عنه:
والعلوىّ قائد الفسّاق
…
وبائع الأحرار فى الأسواق
ونؤمن بأن ابن المعتز تعمد ذلك حتى يلطّخ العلويين خصوم أسرته بعار هذا الرجل الذى لم يكن يرعى فى الأمة إلاّ ولا ذمة على نحو ما سيتضح عما قليل.
وكان لا يزال يردّد بأن العباسيين انغمسوا فى إثم الخمر والمجون والمعاصى، وأنه تجب حربهم حتى يتخلص الناس من شرورهم، وحتّى يردّ الأمر إلى نصابه وإلى مستحقيه العلويين من أمثاله المنتسبين إليهم زورا وبهتانا.
وكان الزنج يبلغون ألوفا، وكلهم يعملون فى كسح السباخ والزراعة، وكانوا يجلبون من شرقى إفريقيا، وسرعان ما التفوا حول هذا الثائر والتفّ معهم كثير من عبيد الفرات بحيث غدت الثورة كأنها ثورة العبيد على السادة الجائرين، وثبّت
(1) طبرى 9/ 410 ومروج الذهب 4/ 108 والفخرى ص 186 والنجوم الزاهرة 3/ 21 ودراسات فى العصور العباسية المتأخرة لعبد العزيز الدورى (طبع بغداد) ص 79.
ذلك فى نفوسهم أن صاحبهم كان يدعو إلى تحريرهم، وهى دعوة كريمة، غير أنه لم يمض فيها إلى النهاية، إذا استباح فى حروبه استرقاق الأحرار، مما يؤكد أنه لم يكن يفكر جدّيّا فى الغاء الرق. ويدل أكبر الدلالة على أنه لم يكن محررا للعبيد حقّا ولا كان علويّا ما رواه المسعودى عنه من أنه «كان ينادى فى عسكره على المرأة من ولد الحسن والحسين والعباس بن عبد المطلب وغيرهم من ولد هاشم وقريش ومن سائر العرب وأبناء الناس، فتباع الجارية بالدرهمين والثلاثة، وينادى عليها بنسبها: هذه ابنة فلان، ولكل زنجى منهن العشرة والعشرون والثلاثون. . .
واستغاثت به امرأة هاشمية من ولد الحسن بن على بن أبى طالب كانت عند بعض الزنج، وسألته أن ينقلها إلى غيره من الزنج أو يعتقها مما هى فيه، فقال لها: هو مولاك وأولى بك من غيره» (1). ولو كان علويّا ما استباح استرقاق العلويات، ولو كان ثائرا على الرق داعيا إلى تحرير العبيد بإخلاص ما أسقط العبودية عن الزنوج وردّها على الأحرار، بل كان يبقى لهم حريتهم. ويبدو أنه لم تدر بذهنه خطة واضحة لنمط من أنماط الاشتراكية يصحح به معيشة الناس عبيدا وأحرارا ويصلح به أوضاعهم المالية والاقتصادية. ولذلك حوّل ثورته سريعا من ثورة ضد الملاّك الإقطاعيين إلى ثورة ضد الدولة، فالدولة يجب أن تقاوم ويقاوم معها الخلفاء وولاتهم. ويذهب بعض المؤرخين إلى أنه كان يعتنق آراء الأزارقة من الخوارج إذ كان يستحلّ مثلهم قتل نساء المسلمين وأطفالهم، وكان يرى رأيهم فى أن المسلمين جميعا كافرون وينبغى قتالهم واستئصالهم حتى لا تبقى منهم باقية، ويحاول المسعودى أن يبرهن على أنه كان يؤمن بمبادئ الخوارج بشواهد مختلفة، منها أنه كان يبدأ خطبه بعبارة الخوارج المشهورة التى رددوها حين ثاروا فى وجه على بن أبى طالب:
«ألا لا حكم إلا لله» ، وأنه كان يردد أن الذنوب تفضى إلى الشرك على نحو ما كان يقول الخوارج من قديم بأن مرتكب الكبيرة كافر، وأنه هو وأصحابه كانوا إذا خطبوا على المنابر ترحموا-مثل الخوارج الأولين-على أبى بكر وعمر ولم يذكروا عثمان وعليّا غضبا عليهما ولعنوا جبابرة الأمويين والعباسيين (2). وعلى نحو ما اعتزل الخوارج الأولون على بن أبى طالب إلى حروراء بقرب الكوفة مهاجرين عن الجماعة
(1) مروج الذهب 4/ 120.
(2)
انظر مروج الذهب 4/ 108، 119. وراجع النجوم الزاهرة 3/ 48.
الضالة، كما هاجر الرسول عليه السلام عن أهل مكة إلى المدينة، كذلك هاجر صاحب الزنج بأتباعه إلى سبخة بمآخير أنهار البصرة تسمى سبخة أبى قرّة، فأقام فيها، وأمر أصحابه باتخاذ الأكواخ بها، وبثّ الزنج والسود يغير بهم على القرى وينهب الأموال والدوابّ (1)، ثم تحوّل إلى الجانب الغربى من نهر أبى الخصيب واتخذ عليه مدينة (2) سماها «المختارة» بنى له فيها دورا حصينة؛ وأمر أصحابه بالبناء فيها.
وكثرت إغاراته على البصرة وقراها، فاستغاث أهلها بالخليفة المهتدى، فأرسل إليهم فى سنة 256 جيشا أكثره من الفرسان فلم يستطع الوصول إلى مدينة صاحب الزنج لكثرة ما كان يقوم دونها من القنوات والنخيل والأدغال. ويشعر صاحب الزنج بقوته، فيقتحم مدينة الأبلّة مما يلى نهر دجلة. ويقتل بها خلقا كثيرا، ويشعل بها نارا تأتى على كثير من منازلها، إذ كانت مبنية من خشب الساج، ويعمل فيها النهب والسلب. ويهاجم بعدها مدينة عبّادان، وكان أهلها قد سمعوا ما صنعه بمدينة الأبلّة، فألقوا له عن يد، وانضمّ إليه من كان بها من العبيد، ونهب كل ما كان بها من السلاح والمئونة. وولّى وجهه نحو مدينة الأهواز فدخلها بعد مناوشات قليلة، واستولى على كل ما كان بها من الأسلاب والأمتعة (3).
وتولى المعتمد الخلافة، فأرسل إليه فى سنة 257 هـ جيشا كثيفا انتصر على بعض كتائبه، غير أن الزنج استتروا منه بالقنوات والأدغال، فاضطر إلى الانسحاب، ونازلهم منصور بن جعفر الخياط بجيش ثان لم يصنع شيئا (4). وما يلبث صاحبهم أن يهاجم البصرة. وكان يردّد على مسامع أصحابه أنه اجتهد فى الدعاء عليها أن يصيبها الخراب من جميع جهاتها، وأنه خوطب فى أمرها، فقيل له: إنما البصرة خبزة لك تأكلها من جوانبها. وانضمّ إليه حينئذ كثير من الأعراب، هاجمها بهم وبأتباعه من الزنج والعبيد فى أثناء صلاة أهلها إحدى الجمعات، وقد انقضّ عليها من ثلاث جهات، معملا فيها النهب والسلب والقتل وإشعال
(1) طبرى 9/ 437.
(2)
طبرى 9/ 470.
(3)
انظر الطبرى 9/ 470 وما بعدها.
(4)
طبرى 9/ 478.
النار (1)، وتقول أقل الروايات مبالغة إن عدد القتلى بلغ ثلثمائة ألف بين ذكر وأنثى وشيخ وطفل وإنه أحرق المسجد الجامع وأحال البلدة أنقاضا، يقول المسعودى:
«واختفى الناس ذعرا فى الدور والآبار، وكانوا يظهرون بالليل فيأخذون الكلاب فيذبحونها ويأكلونها، وكذلك الفئران والسنانير، وأفنوها حتى لم يقدروا منها على شئ، وكانوا إذا مات منهم الواحد أكلوه، وعدموا مع ذلك الماء العذب» (2) وتسامع الناس والشعراء فى بغداد وسامراء بهذه النكبة المروّعة التى حلّت بالبصرة.
فبكوها بدموع غزار، وفى مقدمتهم ابن الرومى، وقصيدته:
ذاد عن مقلتى لذيذ المنام
…
شغلها عنه بالدموع السّجام
ندب حارّ لها وتفجع وتوجع لما نزل بها من تلك الكارثة التى لا تكاد تتخيلها الأوهام، وقد مضى يصور قتلى الزنج وصرعاهم وانتهاكهم الحرمات وسبيهم الحرائر المصونات ممزقات الثياب داميات الوجوه، وكيف أشعلوا النيران فيها وحوّلوا قصورها تلالا ورمادا، وكيف ملئوا شوارعها بالرءوس والجثث والأيدى والأرجل المبتورة، وهو فى تضاعيف ذلك يستصرخ الأمة لنجدة البصرة والذّياد عن الحرمات والفتك بالزنج الذين ارتكبوا آثاما يشيب لها الولدان فتكا لا يبقى ولا يذر.
وكأنما استجابت الدولة لصرخة ابن الرومى، فجهّزت جيشا ضخما بقيادة الموفق أخى الخليفة المعتمد، وكان بطلا لا يبارى وصاحب رأى وحزم لا يدانيه حزم وتدبير لا يشبهه تدبير، غير أن الزنج وصاحبهم استتروا منه بالقنوات وبالأدغال الملتفّة والنخيل الكثيف. فندب إليهم منصور بن جعفر بن دينار فاستباحوا عسكره وقتلوه. فتقدم الموفق إلى نهير يسمى نهير معقل، ونازل الزنج وهزمهم مرارا وأسر قائدا من قوادهم هو يحيى البحرانى وأرسل به إلى سامراء حيث ذبح وأحرق (3). وعاد الموفق إلى سامراء، وخلّف على قتال الزنج موسى بن بغا، ونشبت حروب متتابعة قتل فيها كثير من الجانبين (4). ويولّى المعتمد فى سنة 261 على الأهواز قائدا من قواده يسمى أبا الساج، وينازل الزنج وترجح كفتهم، ويدخلون الأهواز وينهبونها ويحرقون دورها (5).
(1) طبرى 9/ 481.
(2)
مروج الذهب 4/ 119.
(3)
طبرى 9/ 491.
(4)
طبرى 9/ 504.
(5)
طبرى 9/ 513.
وتشغل الدولة وقائدها الموفق بيعقوب بن الليث الصفار، وكان قد استولى على سجستان وكرمان وفارس وقضى على الطاهريين واستولى منهم على خراسان، وأقبل بجموعه فى سنة 262 يريد الاستيلاء على بغداد، ولم يكد يلمّ بدير العاقول على بعد اثنى عشر ميلا منها حتى تصدّى له الموفق وهزمه هزيمة ساحقة، فرّ على أثرها إلى الأهواز، وإلى ذلك يشير ابن المعتز فى أرجوزته آنفة الذكر إذ يقول عن الموفق:
وحارب الصّفّار بعد الزّنج
…
فطار إلا أنه فى سرج
وفرّ من قدّامه فرارا
…
وكان قدما بطلا كرّارا
وظل الموفق مشغولا به بعد هزيمته إلى أن توفى سنة 265. وفى هذه الأثناء وجد صاحب الزنج الفرصة سانحة له، فكان يغير على بعض المدن، يفتك بأهلها وينهبها من مثل الأهواز وواسط ودست ميسان. وكانت أنباؤه لا تزال تصل إلى الموفق، فصمم على منازلته ثانيا، وجهّز لحربه جيشا جرارا تسنده سفن حربية، وأسند قيادته إلى ابنه أبى العباس. (الذى ولى الخلافة بعد عمه المعتمد وتلقّب بالمعتضد) وكان شجاعا حازما من أهل الرأى الصائب مثل أبيه، فخفّ إليه فى ربيع الآخر لسنة 267 فواقع قائدا يسمى سليمان بن جامع ومزّق جنوده واستولى على ما كان بيده من قرى دجلة (1)، ودخل مدينة واسط وردّها على أهلها، وعسكر بجيشه فى جوارها، وأخذ يقف بنفسه على القرى والمسالك المؤدية إلى صاحب الزنج ومدينته. وجمع له الزنج وحشدوا واتخذوا سفنا تسمّى بالسّميريّات، لكل منها أربعون مجدافا والملاّحون من فوقها يحملون السيوف والرماح والتروس، ولكن أبا العباس عرف كيف ينزل بهم هزيمة نكراء، استولى فى أثنائها على أكثر سميّريّاتهم (2)، وأخذت هزائمهم تتلاحق. وبلغ الموفق نبأ بأن صاحب الزنج يعدّ جيشا كثيفا لمساعدة قائديه: سليمان بن جامع وعلى بن أبان، فأعدّ جيشا ضخما بدوره لنصرة ابنه، ومضى معه إلى حصن الزنج الشمالى فى البطيحة الذى سموه باسم «المدينة المنيعة» وأوقعأ بقائد لهم يسمى الشعرانى وبجنده وقعة ماحقة. واتخذ
(1) طبرى 9/ 557 وما بعدها.
(2)
طبرى 9/ 561.
الموفق حينئذ خطة سديدة أن يعفو عمن يستسلم له من جند العدو ويضمه إلى جيشه واستسلم له كثيرون (1). واتجه إلى حصن الزنج الأوسط الذى سموه مدينة «المنصورة» وكان بجوار «طهيثا» والتقى هناك بسليمان بن جامع وأصحابه، فقتل منهم مقتلة عظيمة، واستولى على المدينة وكل ما بها من الأموال والذخائر والميرة، وفرّ سليمان على وجهه لا يلوى، وفرّ كثيرون من الزنج إلى الآجام المحيطة بالمدينة، وأعلن الموفق مرة ثانية أنه يعفو عفوا تامّا عن كل من يستسلم راضيا، واستسلم له كثيرون، فكان يخلع عليهم ويضمهم إلى جيشه. وكانت سياسة قويمة إذ أخذ كثيرون من أتباع صاحب الزنج يغادرون معسكره إلى معسكر الموفق (2). ومضى إلى الأهواز والقرى التى بينها وبين فارس، وفرّ عنها سريعا قائدان من قواد الزنج هما المهلبى وبهبوذ بن عبد الوهاب تاركين وراءهما عتادا ضخما من الميرة احتواه الموفق. وكاتبه كثيرون من فرسان هذين القائدين وجنودهما يطلبون الأمان فأمّنهم وسلكهم فى جيشه، واستأمن قائد اسمه «منتاب» وكثير من المقاتلين فى سميريات الزنج وسفنهم (3). وتقدم الموفق بجموعه إلى المدينة «المختارة» حاضرة صاحب الزنج آخر معاقله. ورأى من مناعتها ما جعله يؤمن بأن حصارها سيطول، فبنى لجيشه أمامها على الضفة الثانية لدجلة مدينة سماها «الموفقية» شيّد فيها جميع المرافق، وساق إليها أصناف المنافع، وشدّد فى حصار المختارة، حتى غدت كأنها سجن كبير لصاحبها وأتباعه، ونادى بأن الأمان مبسوط للناس أحمرهم وأسودهم، واستسلمت له من الزنج جموع كثيرة، إذ رأوا صاحبهم كالأسير وقد عزّته الميرة والمؤن، وفى ذلك يقول ابن الرومى للموفق من قصيدة طويلة (4):
حصرت عميد الزّنج حتى تخاذلت
…
قواه وأودى زاده المتزوّد
فظلّ ولم تقتله يلفظ نفسه
…
وظلّ ولم تأسره وهو مقيّد
تفرّق عنه بالمكايد جنده
…
وتزدادهم جندا، وجندك محصد (5)
وما زال الموفق يحاصر المدينة وصاحبها حتى رأى أن يشنّ عليها حملة حاسمة سنة 269 إذ هاجمت سفنه الحربية قصر صاحب الزنج وصمم على الفرار منه، والتقى
(1) طبرى 9/ 566 وما بعدها.
(2)
طبرى 9/ 571 وما بعدها.
(3)
طبرى 9/ 575 وما بعدها.
(4)
زهر الآداب للحصرى 3/ 194.
(5)
محصد: مجتمع محكم.