الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفاتن فى العظام الهامدات، فتعود مرة ثانية إلى الحياة الدنيا، يقول:
رأيت بسامرّا صبيحة جمعة
…
عيونا يروق الناظرين فتورها
تزور العظام الباليات لدى الثّرى
…
تجاوز عن تلك العظام غفورها
فلولا قضاء الله أن تعمر الثّرى
…
إلى أن ينادى يوم ينفخ صورها
لقلت عساها أن تعيش وأنها
…
ستنشر من جرّا عيون تزورها
ولعل فى كل ما قدمنا ما يصوّر شاعرية محمد بن صالح العلوى الفذّة، ويظلّه عصر المنتصر فيصيبه فيه جدرىّ ويلبى نداء ربه، ويرثيه غير صديق باكيا خصاله الحميدة.
الحمّانى العلوىّ
(1)
سمى الحمّانى نسبة إلى حى بالكوفة نشأ وعاش فيه؛ وهو على بن محمد بن جعفر العلوىّ، خرج أبوه محمد الملقب بالديباجة فى المدينة لأوائل عصر المأمون قبل تحوله من خراسان إلى بغداد، غير أن ثورته ضد العباسيين لم تنجح، وحمل إلى بغداد، ونفى منها إلى خراسان، فنزل بساحة المأمون هناك، وسرعان ما وافاه الموت ويقال إنه لما حمل الرجال نعشه دخل المأمون بين عموديه، فاشترك فى حمله حتى نزوله فى لحده، وكان مما قال: هذه رحم مجفوّة منذ مائتى سنة.
وانتقلت أسرة الديباجة بعده إلى الكوفة، وبها نشأ ابنه على، وعنيت الأم والأسرة بتثقيفه، فلم يحسن صنع الشعر فحسب، بل أحسن صنوفا من الآداب وعلوم الشريعة، مما جعل العلويين فى تلك البلدة يختارونه نقيبهم ومدرّسهم ولسانهم، كما يقول المسعودى. ونمى إلى المتوكل أن فى داره سلاحا وأن الشيعة يجتمعون عنده، وقيعة فيه من بعض حساده، فوجّه إليه جندا اقتحموا عليه داره فجأة، فوجدوه يتعبّد ربه فى غرفة مغلقة مرتديا ثوبا بسيطا من الصوف،
(1) انظر فى الحمانى وأشعاره مروج الذهب 4/ 29، 65 ومقاتل الطالبيين ص 662 وكتاب الزهرة نشر نيكل طبع بيروت سنة 1932 (انظر الفهرس) وكتاب الديارات ص 237 والمختار من شعر بشار للخالديين ص 16، 251 وديوان المعانى 1/ 109، 2/ 658
ولا بساط فى البيت إلا الرمل والحصى، وهو يتلو القرآن مترنما بآيه. فحملوه إلى المتوكل ووصفوا له ما يعيش فيه من شظف، فرقّ له، وسأله: ما يقول آل بيتك فى العباس بن عبد المطلب (جد العباسيين)، فأجابه بقوله: وما يقول آل بيتى يا أمير المؤمنين فى رجل افترض الله طاعة نبيه على خلقه وافترض طاعته على نبيه؟ ولان قلب التوكل له فأمر بإعطائه أربعة آلاف دينار، وقيل بل مائة ألف درهم. ولم يرد الحمّانى فى إجابته ظاهرها من طاعة العباس على نبيه كما يتضح فى الشطر الثانى من الجواب، وإنما أراد طاعة الله على نبيه.
ومرّ بنا أن الشعراء أكثروا فى عصر المتوكل من ذمّ العلويين إرضاء له، وكان من أكثرهم قدحا فى على وآله على بن الجهم وكان ينتسب إلى بنى سامة بن لؤىّ القرشيين، وافتخر مرارا بهذا النسب فى أشعاره، وكان طبيعيّا أن لا يسكت الحمّانى على هذا القدح، وخاصة أنه تتداوله الألسنة وتعمل بغداد على نشره، فطعن على بن الجهم طعنة بطعنات، ولكن لا بالقدح فى خلقه وعرضه على عادة الشعراء فى عصره، وإنما بالقدح فى نسبه إلى سامة، فهو ليس من أحفاده، وبالتالى ليس قرشيّا ولا فيه من القرشية شئ يقول:
وسامة منّا فأما بنوه
…
فأمرهم عندنا مظلم
أناس أتونا بأنسابهم
…
خرافة مضطجع يحلم
وعرف على بن الجهم له فضله وحقه وحق أسرته العلوية، فلم ينبس ببنت شفة واجدا عليه ولا هاجيا، وإنما اكتفى بأبيات ينوّه فيها بفضله، ويعترف له فيها بحقه وحقوق بيته.
وقد حزن الحمّانى حزنا شديدا على ابن عمه يحيى بن عمر حين خرج لعهد المستعين داعيا لنفسه بالخلافة، وقتل دون أمنيته، وحدث أن الحسن بن إسماعيل قائد الجيش الذى نكّل به دخل الكوفة عقب انتصاره مهدّدا متوعدا، ولم يمض الحمانى للسلام عليه، وكان الوحيد الذى تخلّف من العلويين عن لقائه، ولا حظ ذلك الحسن بن إسماعيل، فبعث إليه بجماعة أحضروه حتى إذا دخل مجلسه أظهر شجاعة
وجلدا وأنه لا يخشى سطوة القائد، ولم يلبث أن أنشده:
قتلت أعزّ من ركب المطايا
…
وجئتك أستلينك فى الكلام
وعزّ علىّ أن ألقاك إلا
…
وفيما بيننا حدّ الحسام
وهو موقف كريم إذ لم يتملق القائد كما كان يظن ولا داراه، بل جاهره بما فى نفسه دون خوف أو وجل. وله مراث كثيرة فى يحيى، يبكيه فيها ويندبه، ويصور أنه مات موتا كريما، موت البطل الشجاع الذى لا يرهب الموت بل يلقاه فى قوة وصلابة مهما ادلهمت الخطوب من حوله، ومهما أظلمت الدنيا فى عينيه، حتى لتهول بطولته خصومه، وحتى ليطلبون لقبره السّقيا وله الرحمة، يقول:
فإن يك يحيى أدرك الحتف يومه
…
فما مات حتى مات وهو كريم
وما مات حتى قال طلاّب روحه
…
سقى الله يحيى إنه لصميم
ويصوّر فى مراثيه له مأساة البيت العلوى وأن أفراده دائما بين قتيل وجريح.
وللحمّانى مراث كثيرة-بجانب مراثيه لابن عمه يحيى-فى أهله، وفى أخيه لأمه إسماعيل وهو لا يرثى فيه الأخ والرحم القريبة فقط، بل أيضا يرثى الصديق شقيق النفس والروح، ويتفجّع عليه تفجّعا شديدا بمثل قوله:
هذا ابن أمى عديل الروح فى جسدى
…
شقّ الزمان به قلبى إلى كبدى
من لى بمثلك يا روح الحياة ويا
…
يمنى يدىّ التى شلّت من العضد
قد ذقت أنواع ثكل أنت أبلغها
…
على القلوب وأخناها على الجلد
فاليوم لم يبق شئ أستريح له
…
إلا تفتّت أحشائى من الكمد
قل للرّدى لا يغادر بعده أحدا
…
وللمنيّة من أحببت فاعتمدى
إن السرور تقضّى بعد فرقته
…
وآذن العيش بالتكدير والنّكد
والمرثية مؤثرة وهى سيل من الدموع والزفرات والأنين الموجع. وللحمّانى
غزليات كثيرة تتداولها بعض كتب الأدب وهى تنمّ على شعور رقيق وخيال خصب من مثل قوله:
متى أرتجى يوما شفاء من الضّنا
…
إذا كان جانيه علىّ طبيبى
وله فخر يتحدث فيه عن آبائه. ويصوّر سمو نفسه وارتفاعها عن النقائص، كما يصور كبر همته وأنها ملء قلبه بل أكبر من قلبه، يقول:
قلبى نظير الجبل الصعب
…
وهمتى أكبر من قلبى
فاستخر الله وخذ مرهفا
…
وافتك بأهل الشرق والغرب
ولا تمت إن حضرت ميتة
…
حتى تميت السيف بالضرب
وهو ممن أكثروا من ذم الشيب وكراهته، وصوّر ذلك فى أشعار كثيرة كأن نراه يكره الشيب ويكره مفارقته لأنها تعنى فقده للحياة، وكأنه-على بغضه له-يود أن لا يفارقه، يقول:
بكى للشيب ثم بكى عليه
…
فكان أعزّ فقدا من شباب
فقل للشيب لا تبرح حميدا
…
إذا نادى شبابك بالذهاب
وبجانب ذمه للشيب يأسى كثيرا على الشباب وأيام لهوه ومتاعه بالنظر إلى الغانيات فقد ضل ذلك منه، أضله الشيب، وهل من غانية تنظر إلى شيخ فان، يقول:
لقد كنت تملك ألحاظهنّ
…
فصرن يعرنك لحظا معارا
وأصبحن أعقبن بعد الوداد
…
بعادا وبعد السكون النّفارا
وله وصف كثير فى سرى الليل وفى اعتساف الفلوات بالإبل والخيل نجد منه مقتطفات فى كتب الشعر، ومن طريف نعته لطول الليل وسكونه وجثومه على الكون دون أى حركة قوله:
كأن نجوم الليل سارت نهارها
…
ووافت عشاء وهى أنضاء أسفار
فخّمن حتى تستريح ركابها
…
فلا فلك جار ولا كوكب سار