الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مثل قول الخنساء جارية هشام المكفوف فى أبى الشبل الشاعر الماجن، تهوّن من رجولته طاعنة له فى الصميم (1):
ما ينقضى عجبى ولا فكرى
…
من نعجة تكنى أبا الشّبل
لما اكتنيت لنا أبا الشّبل
…
ووصفت ذا النقصان بالفضل
كادت تميد الأرض من جزع
…
وترى السماء تذوب كالمهل
وهى تصوره متمردا على حقيقته، فهو من النعاج ويزعم أنه من الآساد، وكأنما الدنيا انقلبت صورها وأوشكت على الزوال، فالأرض تميد جزعا، وكأن يوم القيامة حل موعده، فالسماء تذوب كالمهل أو الزيت المغلى. ولعل من الخير أن نعرض ثلاثة من كبار الهجائين فى العصرهم
الصّيمرى
والحمدونى وابن بسّام.
الصيمرىّ (2)
هو أبو العنبس محمد بن إسحق، أصله من الكوفة، وتولى القضاء بالصّيمرة فنسب إليها، وهى نهر بالبصرة عليه قرى وبلد وزروع، قدم سامرّاء فى عصر المتوكل فقرّبه منه واتخذه نديما له، لما كان يمتاز به من الفكاهة والتندير، وكأنما أتيح له مبكرا أن يفرغ للتأليف، إذ روى له ابن النديم فى الفهرست طائفة كبيرة من المصنفات، ونجد بينها ما يتصل بالمنادمة، ككتب الأطعمة وكتاب الجوابات المسكتة. وكان عالما بالنجوم، وله فيها كتابان. ولم يكن يجمع بين الهزل والعلم، فقط، فقد كان يضيف إليهما الشعر، ويقولون إنه كان خبيث اللسان، هاجى أكثر شعراء زمانه، ومع ذلك لم يصلنا من هجائه إلا أشعار قليلة من مثل قوله فى إبراهيم بن المدبر، وكان قد تولى الولايات الكثيرة وترأس بعض الداوين، فى سامرّاء وبغداد:
(1) طبقات الشعراء لابن المعتز ص 425.
(2)
انظر فى الصيمرى وأخباره وأشعاره كتاب الأغانى (طبعة الساسى) 18/ 173 والفهرست ص 222 وتاريخ بغداد 1/ 238 ومروج الذهب 4/ 9 ومعجم الأدباء 17/ 8 والنجوم الزاهرة 3/ 74 والوافى بالوفيات 2/ 191.
أسل الذى عطف الموا
…
كب بالأعنّة نحو بابك
وأذلّ موقفى العزي
…
ز على وقوفى فى رحابك
وأراك نفسك مالكا
…
ما لم يكن لك فى حسابك
ألاّ يطيل تجرّعى
…
غصص المنيّة من حجابك
وله خبر طويل مع البحترى هجاه فيه وسخر منه سخرية مرة، إذ حدّث الرواة أنه كان من عادة البحترى إذا أنشد المتوكل شعره أن يتشادق ويتزاور فى مشيه مرة متقدما ومرة متأخرا ويهز رأسه مرة ومنكبيه مرة أخرى ويشير بكمه ويقف عند كل بيت ويقول: أحسنت والله، ثم يقبل على المتوكل ومن فى مجلسه فيقول:
مالكم لا تقولون أحسنت؟ هذا والله ما لا يحسن أحد أن يقول مثله. وكان المتوكل يضجر من ذلك. فأقبل على الصيمرى والبحترى ينشده مدحته فيه:
عن أىّ ثغر تبتسم
…
وبأى طرف تحتكم
وقال له: أما تسمع ما يقول؟ فقال له الصيمرى: بلى. فمرنى فيه بما أحببت، فقال: اهجه على هذا الرّوىّ، فحضرته على البديهة قصيدة هجاء طويلة من نفس الوزن والقافية، وفيها يقول:
يا بحترىّ حذار وي
…
لك من قضاقضة ضغم (1)
فبأىّ عرض تعتصم
…
وبهتكه جفّ القلم
ولقد أسلت بوالدي
…
ك من الهجا سيل العرم
يا بن الثقيلة والثّقي
…
ل على قلوب ذوى النّعم
ومضى يفحش فى القصيدة ويقذع فيها إقذاعا قبيحا. ولا ريب فى أن نظمه قصيدة طويلة بهذا النمط على البديهة يدل على شاعرية قوية. وظلّ خفيفا على قلوب الخلفاء. يسلكونه فى ندمائهم حتى عصر المعتمد. أو بعبارة أخرى حتى توفى فى عصر هذا الخليفة لسنة 275. وله يهجو طبّاخه المسمى صالحا:
(1)? ? ? .
يا طيب أيامى بمعشوق
…
ونحن فى بعد من السّوق
إذا طلبت الخبز من فارس
…
ينفخ لى صالح بالبوق
وله بجانب أهاجيه مدائح لبعض الوزراء ورؤساء الدواوين، ومما احتفظت له المصادر به قطعة فى مديح الحسن بن مخلد وزير المعتمد حين كان يتولى ديوان الضياع للمتوكل، وهى تطرد على هذا النمط:
زارنى بدر على غصن
…
قابلا وصلى يقبّلنى
خلته لما أتى حلما
…
وهو روحى ردّ فى بدنى
إن لى عن مثله شغلا
…
بمقال الشعر فى الحسن
وأبيه مخلد فبه
…
قد لبسنا سابغ المنن
كاتب قلّ النّظير له
…
فاضل فى العلم واللّسن
وشعره يسيل غذوبة، وكأنما كان يقول أكثره ارتجالا، فلا تكلف فيه ولا تعمّل، ومع ذلك لا نجد فيه هلهلة فى النسيج، إنما نجد المتانة التى تجعله سائغا فى الآذان والأسماع. وله بعض نظرات وتأملات جيدة من مثل قوله:
كم مريض قد عاش من بعد يأس
…
بعد موت الطبيب والعوّاد
قد يصاد القطا فينجو سليما
…
ويحلّ القضاء بالصيّاد
وهى فكرة دقيقة، فقد يعيش المريض الميئوس من شفائه المبكىّ عليه من محبيه وأودّائه، ويموت الطبيب الصحيح المعافى. وبالمثل قد يصاد طائر، ويخطف الموت صائده، بينما تردّ له حريته ويعود إلى رفرفته فى الهواء طليقا.