الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبو القاسم عمر (1) بن الحسين بن عبد الله الخرقى المتوفى سنة 334، وله فى الفقه الحنبلى كتاب المختصر فى الفقه، طبع فى القاهرة بشرح عبد الله بن أحمد ابن قدامة أكبر أئمة المذهب الحنبلى فى القرن السابع الهجرى.
وهيأ الاجتهاد الفقهى الواسع فى هذا العصر لظهور مذاهب فقهية وراء المذاهب الأربعة الكبرى، برز منها خاصة المذهب الظاهرى نسبة إلى أبى سليمان (2) داود بن على بن خلف الأصبهانى الظاهرى المتوفى سنة 270، وكان يتبع فى أول أمره مذهب الشافعى ويتعصب له، ثم أسس له مذهبا عرف بمذهب أهل الظاهر: وهو مذهب يقوم على إنكار القياس فى الدين ومسائل التشريع، لأن القياس عقلى والدين إلهى، ويكفى لبيان الأحكام ما فى القرآن والحديث من عموم. ومن أجل ذلك كان يرى الوقوف عند ظاهر الكتاب والسنة وعدم فتح الأبواب للقياس والآراء التى تنبثق عنه. وفى رأينا أن ظهور هذا المذهب يعدّ إشارة واضحة فى العصر إلى بروز نزعة محافظة قوية فى دراسات الفقه، وقد كتب له أن يذيع فى الأندلس والمغرب فيما بعد، وأن يتحمّس له فقهاء نابهون مثل ابن حزم، بل أحيانا دول مثل دولة الموحدين فى الأندلس والمغرب.
5 - الاعتزال وانبثاق المذهب الأشعرى
مرّ بنا فى كتاب العصر العباسى الأول كيف نشأ الاعتزال ونما وازدهر وكثر أعلامه وأتباعه، وكيف أحالوا البصرة وبغداد إلى ساحتين كبيرتين للجدال فى المسائل العقيدية والدفاع عن الدين الحنيف وكل ما اتصل به من توحيد الله وحقائق النبوة والثواب والعقاب فى الآخرة، ولم يكونوا يوجهون دفاعهم إلى أصحاب الملل والنّحل الأخرى فحسب، بل أيضا إلى المجبرة والمرجئة والشيعة الغالية، ونازلوا الدهريين
(1) طبقات الحنابلة لابن أبى يعلى 331 والأنساب للسمعانى 195 وتاريخ بغداد 11/ 234 والنجوم الزاهرة 3/ 289.
(2)
انظره فى تاريخ بغداد 8/ 369 والسبكى 2/ 284 واليافعى 2/ 184 والنجوم الزاهرة 3/ 47 وشذرات الذهب 2/ 158
والمانويين الثّنويين نزالا عنيفا. وكانت مناظراتهم لهذه الفرق لا تتوقف يوما، والناس يتجمعون حولهم فى المساجد يسمعون ويتفرجون، وقد جذبوا الشباب إليهم، بحيث كانت حلقاتهم أكبر الحلقات وأوفرها سامعين. وقد عكفوا على الثقافات والمعارف الأجنبية يتزودون بها، وخاصة الفلسفة اليونانية وما يتصل بها من منطق، وسرعان ما كوّنوا لأنفسهم مذهبا ضخما تميز بأصوله الخمسة المعروفة، وهى التوحيد والعدل والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والقول بأن مرتكب الكبيرة فى منزلة وسطى بين منزلتى المؤمن والكافر. وأخذوا على هدى ثقافتهم يتعمقون فى مسائل الطبيعة وما وراء الطبيعة، وإذا أئمتهم ينفذون إلى آراء جديدة كل الجدة فى البحوث الطبيعية والفلسفية والإلهية، بل إن منهم من استطاع أن يكوّن له فلسفة مستقلة، فتلك فلسفة واصلية نسبة إلى واصل بن عطاء المتوفى لآخر العصر الأموى، وهذه فلسفة بشرية نسبة إلى بشر بن المعتمر أو ثمامية نسبة إلى ثمامة بن أشرس أو هذيلية نسبة إلى أبى الهذيل أو نظّامية نسبة إلى النّظام. وعلى هذا النحو لم يتكوّن للاعتزال أئمة أو باحثون ممتازون فقط بل تكوّن له هؤلاء الفلاسفة فى العصر العباسى الأول، وهو العصر الذى بلغ فيه الاعتزال الذروة المأمولة، حتى لتصبح له السيطرة التامة على الحكم فى عهود المأمون والمعتصم والواثق، فإذا أئمته يحملون علماء الدين كرها على القول بخلق القرآن، وتنشب المحنة المعروفة، ويمتحن كثير من الفقهاء ويسامون العذاب. وكان ذلك نذير شؤم، إذ أسخطوا الفقهاء والمحدّثين والناس عليهم، وسرعان ما دالت دولتهم مع افتتاح العصر العباسى الثانى، إذ ولى المتوكل الخلافة ولم يلبث أن أعلن إبطال القول بخلق القرآن، واستقدم المحدّثين إلى سامرّاء عاصمته وأجزل عطاياهم وأمرهم بالجلوس إلى الناس وإظهار السنة والأخذ بالتسليم. وكان من أثر ذلك أن اندحر المعتزلة على حين انتصر الفقهاء والمحدّثون، وأخذ كثير منهم يجرّحون المعتزلة، وقوى نفوذهم وسلطانهم على العامة، ولم يستطع المعتزلة بعد ذلك أن يستردوا سلطانهم.
على أن الاعتزال استمر فى نشاطه، وخاصة أن كثيرين من تلاميذ فلاسفته الذين سميناهم عاشوا فى العصر العباسى الثانى، ومنهم من طالت حياتهم فيه،
فكان طبيعيّا أن يظل له جهابذته وأن تظل له حلقاته فى البصرة وبغداد، بل إن كثيرين من المعتزلة الجدد فى العصر استطاعوا أن يكوّنوا لهم فلسفة أو كما اصطلح القدماء فرقة نسبت إليهم، وفى مقدمتهم الجاحظ المتوفى سنة 255 وهو تلميذ النظام، وكان واسع الثقافة إذ لم يترك ثقافة أجنبية إلا اطلع عليها وخاصة الثقافة اليونانية وما يتصل بها من الفلسفة الطبيعية والمنطق، وقد ظل يدافع عن المعتزلة ويجادل خصومهم جدالا عنيفا، وله فى ذلك كتاب مستقل سماه «فضيلة المعتزلة». ويقول ابن المرتضى فى كتابه طبقات المعتزلة: «إنه أغرى بشيئين:
كون المعارف ضرورية والكلام على الرافضة (1)» والمراد الرد على الرافضة من الشيعة وبيان ما فى اعتقاداتهم من فساد. ويفسر الأشعرى. قوله بأن المعارف ضرورية بأنه كان يذهب إلى أن «ما بعد الإرادة فهو للإنسان بطبعه وليس باختيار، وليس يقع منه فعل باختيار سوى الإرادة (2)» ويزيد الشهرستانى ذلك بيانا بقوله:
ويقول البغدادى فى الفرق بين الفرق. «مما نسب إلى الجاحظ قوله: «إن المعارف كلها طباع، وهى مع ذلك فعل للعباد وليست باختيار لهم، ووافق ثمامة ابن الأشرس فى أن لا فعل للعباد إلا الإرادة، وأن سائر الأفعال تنسب إلى العباد على معنى أنها وقعت منهم طباعا وأنها وجبت بإرادتهم (4)» . ولعل فى ذلك كله ما يوضح رأيه فى أن المعارف ضرورية طباع، يريد أنها تحصل بلا اكتساب، إنما كل ما هناك أن الإنسان يوجه إليها إرادته، فتحدث اضطرارا وطبيعة ومثلها أفعال الإنسان تحدث طبيعة واضطرارا ما دامت قد اتجهت إليها إرادته، فالمدار على الإرادة، وما يحدث بعدها فناشئ عنها، ويقول الشهرستانى إنه:«كان يقول بإثبات الطبائع للأجسام كما قال الطبيعيون من الفلاسفة، وقال باستحالة عدم الجواهر فالأعراض تتبدل والجوهر لا يجوز أن يفنى» ، ويقول أحمد أمين: «وهى عبارة
(1) انظر كتاب طبقات المعتزلة لابن المرتضى (طبع بيروت) ص 67.
(2)
مقالات الإسلاميين 2/ 407.
(3)
الملل والنحل للشهرستانى (طبع مؤسسة الحلبى) 1/ 75.
(4)
الفرق بين الفرق للبغدادى ص 175.
على إيجازها تدل على معان عديدة فهو يقرر فيها القوانين الطبيعية للأشياء، فللماء وللنار ولأشياء هذا العالم كلها قوانين طبيعية لا تتخلف؛ وهو يقرر المبدأ الهام الحديث وهو أن المادة لا تنعدم، فالجوهر عنده لا يفنى وإنما تتغير الأعراض فجوهر المادة ثابت لا ينعدم، وإنما يتحول ويتغير فيكون مرة ماء ومرة زرعا ومرة معدنا ومرة خشبا، وهذه كلها أعراض طارئة على المادة، وإن شئت فقل: إنها طارئة على العناصر الأولية التى تتكون منها المواد (1)». وذكر الشهرستانى تكملة لنظرية الجاحظ فى الطباع أنه كان يقول فى أهل النار «إنهم لا يخلدون فيها عذابا بل يصيرون إلى طبيعتها» ، وأنه كان يقول: النار فى الآخرة تجذب أهلها إلى نفسها بدون أن يدخل أحد فيها، فهى التى تدخلهم نفسها وتخلّدهم فيها.
وقد رد أبو الحسين الخياط على نسبة هذا القول إلى الجاحظ، وقال إنه مما نسبه إليه ابن الراوندى الكذاب، وقال إنه كذب عليه أيضا فى نسبته إليه إحالة فناء الأجساد وعدمها (2). ولعل فى ذلك ما ينبهنا إلى أنه يجب الاحتياط فى التعرف على آراء المعتزلة وأنه يحسن استقاؤها من كتبهم الخاصة.
وعاصر الجاحظ وتلاه كثير من المعتزلة فى البصرة وبغداد، وهم يكوّنون فى هذا العصر الطبقات السابعة والثامنة والتاسعة من كتاب طبقات المعتزلة لابن المرتضى، ومن أهمهم أبو يعقوب يوسف بن عبد الله بن إسحق الشحّام من أصحاب أبى الهذيل، وإليه انتهت رياسة المعتزلة فى البصرة فى وقته (3)، وكان يعاصره فى بغداد جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب، وكانا ورعين زاهدين، ويسوق أبو الحسين الخياط فى كتابه الانتصار بعض آرائهما، ويذكر أن أولهما صنّف كتبا كثيرة فى الفقه، وأن له كتابا فى الردّ على أصحاب الرأى والقياس فى الشريعة (4).
ومن تلامذة جعفر بن مبشر أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخياط الذى عاش حتى نهاية القرن الثالث الهجرى. وكان من أكثر المعتزلة علما بأقوالهم
(1) ضحى الإسلام (طبع ونشر مكتبة النهضة-الطبعة السابعة) 3/ 135.
(2)
الانتصار للخياط ص 21 - 22.
(3)
طبقات المعتزلة ص 71.
(4)
الانتصار ص 81.
واختلافاتهم، وكان فقيها مثل أستاذه ومحدّثا مرموقا. وله كتب كثيرة فى الرد على ابن الراوندى، نشر منها-كما مر بنا فى غير هذا الموضع-كتاب الانتصار والرد على ابن الراوندى الملحد، وهو يدل بوضوح على سعة معرفته بآراء المعتزلة، وكان ابن الراوندى نسب إليهم آراء كثيرة غير صحيحة، فزيّفها وبيّن بطلانها، ومن عجب أن نرى البغدادى فى الفرق بين الفرق والشهرستانى فى الملل والنحل ينسبان إليهم بعض هذه الآراء، كما يتضح من المقارنة بين ما جاء فيهما عن الجاحظ مثلا وما جاء فى كتاب الانتصار. ويمكن من هذا الكتاب استخلاص كثير من آراء الخياط مؤلفه، ومن آرائه المهمة ذهابه إلى أن المعدوم يعدّ شيئا، محتجا بأن الشئ ما يعلم ويخبر عنه، وبذلك عدّ الجوهر جوهرا فى العدم والعرض عرضا فى العدم، وأطلق على المعدوم لفظ الثبوت (1).
وأنبه من هؤلاء المعتزلة جميعا وأشهر أبو على (2) محمد بن عبد الوهاب الجبّائى المتوفى سنة 303 وهو تلميذ أبى يعقوب الشحام البصرى، وهو وابنه أبو هاشم من معتزلة البصرة. ولعل خير ما يصور آراءه كتاب مقالات الإسلاميين للأشعرى تلميذه وفيه أنه كان يرى أن الله سبحانه لم يزل عالما بالأشياء والجواهر والأعراض وأن الأشياء تعلم أشياء قبل كونها وتسمّى أشياء قبل كونها وكذلك الجواهر والحركات والسكون والألوان والطعوم والأراييح والإرادات (3). وكأنه فى موقفه إزاء الأشياء يلتقى بالخياط فى رأيه الذى مرّ بنا آنفا، وقد حاول بعض خصومهما أن يلزمهما بأنهما يقولان بأزلية الأشياء وقدم الأجسام والجواهر والأعراض، ومن المحقق أنهما لم يقولا بذلك إنما يريدان أزلية العلم الإلهى. ومن تتمة رأى أبى على أنه كان يرى أن ما علم الله أنه يكون لا بد أن يكون. وكان يرى أن من الذنوب صغائر وكبائر، وأن الصغائر تستحق غفرانها باجتناب الكبائر، وأن الكبائر تحبط الثواب على الإيمان، وكان يذهب إلى أن العزم على الكبيرة كبيرة والعزم على الكفر كفر (4). وكان يقول إن الله خير بما
(1) الشهرستانى 1/ 77.
(2)
انظر فى ترجمة أبى على الجبائى وآرائه طبقات المعتزلة لابن المرتضى ص 80 ومقالات الإسلاميين للأشعرى فى مواضع مختلفة والشهرستانى 1/ 78 ومذاهب الإسلاميين لعبد الرحمن بدوى، الجزء الخاص بالمعتزلة والأشاعرة ص 280 وما بعدها.
(3)
مقالات الإسلاميين 1/ 222.
(4)
مقالات الإسلاميين 1/ 305.
فعل من الخير، وقال إن الأمراض والأسقام ليست بشرّ فى الحقيقة وإنما هى شر فى المجاز، وكذلك كان قوله فى جهنم إذ كان يقول إن عذابها ليس بخير ولا بشرّ فى الحقيقة، لأن الخير هو النعمة وما للإنسان فيه منفعة، والشر هو العبث والفساد وعذاب جهنم ليس بصلاح ولا بفساد وليس برحمة ولا منفعة، ولكنه عدل وحكمة (1).
وكان يرى أن معنى قوله تعالى: {(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)} إنما هو على سبيل التوسع، ومعناه أنه هادى أهل السموات والأرض، وأنهم يهتدون به كما يهتدون بالنور والضياء وقال إنه لا يجوز أن نسميه نورا على الحقيقة إذ هو ليس من جنس الأنوار (2). وكان يجلّ العقل إجلالا شديدا، وهو إجلال كان يتابع فيه المعتزلة، حتى ليمكن أن نسميهم جميعا باسم العقليين، غير أنه مضى فى الشوط إلى نهايته «فأثبت-وتابعه ابنه أبو هاشم-شريعة عقلية، وردّ الشريعة النبوية إلى مقدّرات الأحكام ومؤقتات الطاعات التى لا يتطرق إليها عقل ولا يهتدى إليها فكر (3)» .
ويقال إن تلاميذه حرّروا ما أملاه فوجدوه مائة وخمسين ألف ورقة، ولم يبق من مصنفاته الكثيرة سوى تفسيره.
وأبو هاشم (4) الجبّائى عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة 321 لا يقل عن أبيه أبى على الجبّائى شهرة، بل إنه يتقدمه فى الشهرة وذيوع لاسم، بل لقد تحول المعتزلة فى القرن الرابع الهجرى إلى مذهبه وآرائه، مؤمنين بأنه لم يبلغ غيره فى الكلام مبلغه. وأبوه هو أستاذه الذى خرّجه فى المباحث الاعتزالية، وهو يتفق معه فى كثير من آرائه، وينفرد عنه فى آراء كثيرة أيضا، يقول ابن المرتضى: «وقد استنكر بعض الناس خلافه على أبيه، وليست مخالفة التابع للمتبوع فى دقيق الفروع بمستنكر، وفى ذلك يقول أبو الحسن الكرخى:
يقولون بين أبى هاشم
…
وبين أبيه خلاف كثير
فقلت وهل ذاك من ضائر
…
وهل كان ذلك مما يضير
(1) مقالات الإسلاميين 2/ 195.
(2)
مقالات الإسلاميين 2/ 192.
(3)
الشهرستانى 1/ 81.
(4)
انظر فى ترجمة أبى هاشم تاريخ بغداد 11/ 55 وطبقات المعتزلة ص 94 والفهرست ص 261 والملل والنحل للشهرستانى 1/ 78 وما بعدها والفرق بين الفرق للبغدادى (طبعة محيى الدين عبد الحميد) ص 184 ومذاهب الإسلاميين لبدوى 1/ 330.
فخلّوا عن الشيخ لا تعرضوا
…
لبحر تضايق عنه البحور
وإن أبا هاشم تلوه
…
إلى حيث دار أبوه يدور
ولكن جرى من لطيف الكلام
…
كلام خفىّ وعلم غزير
فهو قد دار مع أبيه فى آراء كثيرة، واستقل عنه فى أخرى استقلالا، لا يضيره، فحبّه أباه وتقديره شئ، وحبه الحقيقة الاعتزالية وتقديره إياها شئ آخر. وأدرك الشهرستانى ما بين الأب والابن من الاتفاق، فجمع بينهما فى فصل واحد، عارضا فيه أولا وجوه اتفاقهما، ثم ذكر ما خالف فيه أبو هاشم أباه.
ولعل أهم نظرية عرف بها هى نظرية الأحوال، وهى نظرية تتصل بصفات الله الأزلية، ومعروف أن المعتزلة نفوها من قديم ذاهبين إلى أنها هى عين الذات الإلهية، فالله عالم بذاته، أى علمه هو ذاته، وهكذا بقية الصفات، وقال أبو على الجبائى إن الله عالم لذاته وقادر لذاته، وهلم جرّا، وتنبّه أبو هاشم إلى فساد قول أبيه لما يترتب عليه من جعل الله علة لصفاته (1). فحاول النفوذ إلى رأى دقيق وهداه عقله إلى أن الصفات أحوال تدرك بها الذات على نحو إدراكها للمعانى الكلية، ويوضح ذلك الشهرستانى قائلا:«عند أبى هاشم هو عالم لذاته، أى ذو حالة هى صفة معلومة وراء كونه ذاتا موجودا إنما تعلم الصفة على الذات لا بانفرادها، فأثبت أحوالا هى صفات لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة، أى هى على حيالها لا تعرف كذلك بل مع الذات، قال: والعقل يدرك فرقا ضروريا بين معرفة الشئ مطلقا وبين معرفته على صفة، فليس من عرف الذات عرف كونه عالما ولا من عرف الجوهر عرف كونه متحيزا قابلا للعرض (2)» . وهى نظرية دقيقة، إذ حاول بها أبو هاشم أن يلغى ما قد يظنّ من نفى المعتزلة: أبى الهذيل العلاّف وأضرابه للصفات الأزلية عن الله أنه ليس لها وجود مع أنها مكررة مرددة فى الذكر الحكيم، فقد ذهب إلى أنها فى حال وسطى لا موجودة ولا معدومة، وأنها تدرك كما تدرك الكليات بدون أن تكون هى نفسها عين الذات، وكأنه خشى أن يؤول ذلك عند بعض الناس إلى أن تكون جواهر أو أقانيم، فأثبت أنها أحوال، وفى الوقت
(1) أصول الدين للبغدادى (طبعة استانبول) ص 92.
(2)
الشهرستانى 1/ 82.
نفسه كان يرد على زميله الأشعرى كما سيلى عما قليل فى فكرته القائلة بأن الصفات الإلهية زائدة على الذات. ومن آراء أبى هاشم الطريفة تعليله للعقاب الأخروى إذ يقول: «إن القديم تعالى خلق فينا شهوة القبيح ونفرة الحسن، فلابد أن يكون فى مقابلته من العقوبة ما يزجرنا عن الإقدام على المقبّحات، ويرغبنا فى الإتيان بالواجبات، وإلا كان يكون المكلّف مغرى بالقبح، والإغراء بالقبح لا يجوز على الله تعالى (1)» ، وكأنّه تنبّه بوضوح إلى أن الغرض من العقاب التربية وأن يحذر الإنسان عواقب عمله الوخيم حتى ينتهى عنه. وكان أبوه يرى أن التوبة عن الصغائر تجب سمعا وعقلا، أما أبو هاشم فكان يرى أنها لا تجب إلا سمعا، لأن التوبة-فى رأيه-إنما تجب لدفع الضرر عن النفس ولا ضرر فى الصغيرة فلا التوبة تجب عنها (2). وكان أبوه يرى أن التوبة عن بعض الكبائر مع الإصرار على بعض آخر تصحّ، أما أبو هاشم فكان يرى أنه لا تصح التوبة عن بعض الكبائر دون بعض، فلابد أن يتوب المذنب من جميع الكبائر توبة نصوحا (3).
وتلميذ ثان لأبى على الجبّائى انفصل عنه بأكثر مما انفصل ابنه أبو هاشم، بل لقد استطاع أن يقيم مذهبا جديدا لا يعارض به أستاذه فحسب، بل يعارض به المعتزلة جميعا، إذ أقامه على التوسط بين آرائهم وآراء أهل السنة، حتى لقد عدّ هو نفسه مذهب أهل السنة، ونقصد أبا الحسن (4) على بن إسماعيل، سليل أبى موسى الأشعرى الصحابى الجليل، المتوفى سنة 324، وقد ظل على مذهب المعتزلة أربعين عاما كان يختلف فيها إلى حلقات أستاذه أبى على الجبائى، ثم تاب من القول بالعدل وخلق القرآن وعدم رؤية الله بالأبصار وأن الإنسان يفعل أعماله بقدرته وإرادته الخالصة، وظل يلقى محاضراته بالبصرة والناس يقبلون عليه إلى أن بدا له أن يتركها إلى بغداد وظل بها إلى وفاته.
وقد نشرت له كتب مختلفة، منها مقالات الإسلاميين التى رجعنا إليها مرارا،
(1) شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص 620
(2)
المصدر نفسه ص 792
(3)
المصدر نفسه ص 794
(4)
انظر فى ترجمة الأشعرى تاريخ بغداد 11/ 346 والفهرست ص 271 والجواهر المضية فى طبقات الحنفية 1/ 353 وابن خلكان وطبقات الشافعية للسبكى 3/ 347 والنجوم الزاهرة 3/ 259 ومذاهب الإسلاميين لبدوى 1/ 487.
ومنها رسالته: الإبانة عن أصول الديانة واللمع، وهما يصوران مذهبه تصويرا دقيقا، وهو مذهب كما قدمنا يوازن بين آراء أهل السنة، وكل مسألة تذكر فيها الأدلة العقلية والأدلة السمعية من الكتاب والسنة، ونضرب مثلا لذلك البراهين على وجود الله. وقد اشتقها من القرآن اشتقاقا على هذا النمط الذى ساقه الشهرستانى إذ يقول: قال الأشعرى: الإنسان إذا فكر فى خلقته من أى شئ ابتدأ، وكيف دار فى أطوار الخلقة طورا بعد طور حتى وصل إلى كمال الخلقة، وعرف يقينا أنه بذاته لم يكن ليدبر خلقه، ويبلغه من درجة إلى درجة ويرقاه من نقص إلى كمال- عرف بالضرورة أن له صانعا قادرا عالما مريدا، إذ لا يتصوّر صدور هذه الأفعال المحكمة من طبع لظهور آثار الاختيار فى الفطرة وتبين آثار الإحكام والإتقان فى الخلقة (1)»، وواضح أنه يستلهم فى هذا البرهان ما جاء فيه من أطوار خلق الإنسان وتحوله من نطفة إلى علقة فمضغة فعظام فكسوة من لحم، ثم أطواره فى حياته. وإذا عرض مثلا لبيان أن الله لا يشبهه شئ أدلى بالبرهان العقلى ثم أتبعه بالبرهان السمعى من مثل قوله تعالى:{(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)} . وعلى هذه الشاكلة دائما يسوق الأشعرى مع الأدلة العقلية الأدلة السمعية. وقلنا آنفا إن مذهبه وسط بين مذهبى المعتزلة والمحدّثين، وقد تابع الأولين فى تنزيه الذات العلية عن التشبيه وكل ما يتعلق بالتجسيد، وأخذ بقول المحدّثين فى أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة، مستدلا على ذلك بأدلة سمعية أوضحها فى رسالته «الإبانة» إيضاحا تاما وبأدلة أخرى عقلية أوضحها فى «اللمع» . وتوسط بين المعتزلة والجبرية فى أفعال الإنسان وخالقها، فقد كان الجبرية يذهبون إلى أن الله خالق أفعال الإنسان، وقال المعتزلة، بل الإنسان هو الذى يخلق أفعاله، وتوسط الأشعرى فقال إن أفعال الإنسان لله خلقا وصنعا وهى للإنسان كسبا وإرادة فهو يريدها والله يخلقها فيه (2).
وكان يرى أن صفات الله أزلية قائمة بذاته؛ فهى ليست عين الذات الإلهية كما يقول أكثر المعتزلة ولا هى أحوال كما قال أبو هاشم الجبائى بل هى زائدة على الذات قائمة بها (3). وحاول التوفيق فى مسألة خلق القرآن بين المعتزلة والمحدّثين من أمثال ابن حنبل أى بين القولين القائلين بأن القرآن حادث أو هو قديم، فقال إن «العبارات
(1) الشهرستانى 1/ 94.
(2)
اللمع ص 45 وما بعدها.
(3)
الشهرستانى 1/ 95.
والألفاظ المنزلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء عليهم السلام دلالات على الكلام الأزلى، والدلالة مخلوقة محدثة، والمدلول قديم أزلى (1)»، وبعبارة أخرى كان يرى أن القرآن وكلام الله القائم بذاته قديم، أما الكتاب الذى بين أيدينا والذى نزل به الوحى فى زمن من الأزمان فحادث. وأنزل العقل من مكانته القدسية عند المعتزلة وخاصة فى الإلهيات، إذ قال إن معرفة الله وشئونه الإلهية ليس سبيلها ولا أداتها العقل، بل الوحى والشرع ونصوص القرآن والسنة، فالعقل عنده لا يوجب شيئا ولا يقتضى تحسينا ولا تقبيحا، ولا يوجب على الله رعاية لمصالح العباد، والواجبات كلها واجبات بالسمع، وقد تحصّل معرفة بالعقل، ولكنها لا تجب إلا عن طريق السمع (2).
(1) الشهرستانى 1/ 96.
(2)
الشهرستانى 1/ 101.