المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2 - ذخائر عقلية خصبة - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٤

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر العباسى الثانى

- ‌الفصل الأوّل:الحياة السياسية

- ‌1 - استيلاء الترك على مقاليد الحكم

- ‌2 - تدهور الخلافة

- ‌3 - ثورة الزنج

- ‌4 - ثورة القرامطة

- ‌5 - أحداث مختلفة

- ‌الفصل الثّانى:الحياة الاجتماعية

- ‌1 - طبقات المجتمع

- ‌2 - الحضارة والترف والملاهى

- ‌3 - الرقيق والجوارى والغناء

- ‌4 - المجون والشعوبية والزندقة

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالث:الحياة العقلية

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: نقل ومشاركة وتفلسف

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد والتاريخ

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه

- ‌5 - الاعتزال وانبثاق المذهب الأشعرى

- ‌الفصل الرّابع:نشاط الشعر

- ‌1 - علم الشعراء بأسرار العربية

- ‌2 - ذخائر عقلية خصبة

- ‌3 - التجديد فى الموضوعات القديمة

- ‌4 - نمو الموضوعات الجديدة

- ‌5 - نمو الشعر التعليمى

- ‌الفصل الخامس:أعلام للشعراء

- ‌1 - على بن الجهم

- ‌2 - البحترى

- ‌3 - ابن الرومى

- ‌4 - ابن المعتز

- ‌5 - الصنوبرى

- ‌الفصل السّادس:شعراء السياسة والمديح والهجاء

- ‌1 - شعراء الخلفاء العباسيين

- ‌مروان بن أبى الجنوب أبو السمط

- ‌أبو بكر الصولى

- ‌2 - شعراء الشيعة

- ‌ محمد بن صالح العلوى

- ‌الحمّانى العلوىّ

- ‌المقجّع البصرىّ

- ‌3 - شعراء الثورات السياسية

- ‌ محمد بن البعيث

- ‌4 - شعراء الوزراء والولاة والقواد

- ‌ أبو على البصير

- ‌ أحمد بن أبى طاهر

- ‌ ابن دريد

- ‌5 - شعراء الهجاء

- ‌ الصّيمرى

- ‌الحمدونى

- ‌ابن بسام

- ‌الفصل السّابع:طوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل وشاعراته

- ‌فضل

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ الحسين بن الضحاك

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف

- ‌ الحلاّج

- ‌الشبلىّ

- ‌4 - شعراء الطرد والصيد

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌جحظة

- ‌الخبز أرزىّ

- ‌الفصل الثامن:نشاط النثر

- ‌1 - تطور النثر

- ‌2 - الخطابة والمواعظ والنثر الصوفى

- ‌3 - المناظرات

- ‌4 - الرسائل الديوانية

- ‌5 - الرسائل الإخوانية والأدبية

- ‌الفصل التّاسع:أعلام الكتاب

- ‌2 - الجاحظ

- ‌3 - ابن قتيبة

- ‌4 - سعيد بن حميد

- ‌5 - أبو العباس بن ثوابة

- ‌خاتمة

الفصل: ‌2 - ذخائر عقلية خصبة

ورونقا، بفضل تمثل الشعراء الفريد فى العصر للصياغة العربية السليمة وبصرهم بأسرارها وحذقهم لخصائصها حذقا جعلهم يسوّون منها جواهر ولآلئ كثيرة.

وإذن فمن واجبنا أن نحترس أشد الاحتراس من حديث يوهان فك فى كتابه «العربية» عن اتساع الضيم الذى دخل فى العصر على لغة الشعر وصياغته، فإن هذا الضيم الذى ساقه حين يبحث لا يعدو ما لاحظناه آنفا عند البحترى ومعاصريه من أشياء تعدّ على الأصابع، وهى تدخل جملة فى الضرورات الشعرية، وكأن كل الضيم الذى خاله إنما هو سراب ظنه ماء، ولا ماء هناك ولا ضيم حدث فى الفصحى على ألسنة شعراء العصر، بل لقد كانوا يتقنون المعرفة بأسرارها ورسومها وصياغاتها الباهرة كأشد ما تكون المعرفة دقة وعمقا.

‌2 - ذخائر عقلية خصبة

مرّ بنا نشاط الترجمة فى العصر كما مر بنا النشاط العام للحياة العقلية، حتى ليكاد يظن الإنسان أنه لم يكن هناك أحد لا تتسع قراءاته، فتشمل جميع مواد الثقافات المعروفة حينئذ من عربية وإسلامية وأجنبية من موارد شتى: موارد هندية وفارسية ويونانية، مع ما كان يداخل المعارف الهيلينية من موارد شرقية فارسية وغير فارسية. فكل ذلك كان تحت أبصار الناس من شباب وغير شباب ينهلون منه كما يشاءون دون حجاب ودون أية صعوبات، فدار الحكمة مكتبة الدولة مفتوحة على مصاريعها ودور أخرى كثيرة عرضنا لها فى غير هذا الموضع، ودكاكين الوراقين بالمثل تعرض كل ما يطلبه القارئ، وحلقات المساجد تموج بالمحاضرين فى مختلف فروع المعرفة، ولكل شخص الحق فى أن يستمع إلى ما يرغب فيه من هذه المحاضرات.

وأخذ العرب حينئذ يشاركون مشاركة قوية فعالة فى تاريخ الفكر الإنسانى؛ فإذا علماء وفلاسفة عظام يأخذون فى الظهور بينهم، ويكفى أن نذكر الخوارزمى العالم

ص: 189

للرياضى النابه واضع علم الجبر، والكندى الفيلسوف أو أول فلاسفة العرب بالمعنى الدقيق لكلمة فلاسفة، وهما معلمان كبيران فى العصر يدلان أقوى دلالة على نهضة العقل العربى وازدهاره حينئذ، مما عرضنا لبعض مظاهره فى الفصل الماضى.

وحدث فى أثناء ذلك أن أخذ بعض الأدباء يتجرد للمزج بين ثقافات العصر واستخلاص ثقافة عربية لها طوابعها ومشخصاتها المستقلة، على نحو معروف عن الجاحظ المعتزلى، وكان المعتزلة قد أكبوا منذ أوائل العصر العباسى فى القرن الثانى الهجرى على الثقافات الأجنبية يتزودون منها، واستطاع كثيرون منهم أن يكوّنوا لأنفسهم نظريات تتصل بالطبيعة وما وراء الطبيعة مما صورناه فى كتابنا العصر العباسى الأول، ونفذ الجاحظ فى العصر كما قلنا آنفا إلى الوصل فى كتاباته بين الثقافتين العربية والإسلامية والثقافات الأجنبية، بحيث غدت كتبه تغذّى العقول والقلوب، فالأدب فيها يلتقى بالفكر والعلم التقاء خصبا مثمرا، على نحو ما نجد فى كتابه «الحيوان» . وخطا ابن قتيبة فى هذا الاتجاه من المزج بين الثقافات خطوة أخرى كما أسلفنا، فمزج فى كتابه «عيون الأخبار» بين الثقافة العربية والثقافة الفارسية مزجا قويا، مزاوجا بين طائفة كبيرة من الآداب فى الثقافة الأولى والآداب السياسية فى الثقافة الثانية، مع ما أضافه من الحكم الطريفة التى جلبها من كتاب كليلة ودمنة المترجم عن الهندية، وكذلك ما أضافه عن الثقافة اليونانية.

كان طبيعيّا لذلك كله أن تنمحى الأبعاد والفوارن؟ ؟ ؟ بين الفكر العربى الخالص والفكر الأجنبى، فإذا هما يمتزجان فى بيئة الشعراء وغيرها من البيئات، وإذا كثير من الشعراء يتعمقون الفلسفة والثقافات الأجنبية، وحقّا ظلت طائفة لا تعنى بهذا التعمق على نحو ما مر بنا فى الفصل الماضى عند البحترى وأضرابه، ولكن حتى هؤلاء وحتى البحترى نفسه لم يستطيعوا التخلص من معرفة بعض جوانب الفكر الأجنبى، على حين نجد كثيرين غيره من أمثال ابن الرومى تعمقوا فى هذا الفكر، بل لقد أقبلوا عليه يلتهمونه التهاما، بل لقد انقضوا عليه انقضاضا، وكأنما لا يريدون أن يبقوا منه بقية. على أنهم لم يفنوا فى هذا الفكر، فقد ظلوا يحتفظون للشعر العربى بشخصيته ومقوماته الأساسية. فهم لا يذيبونه فى الفكر الأجنبى، بل هم يخضعون هذا الفكر له، أو بعبارة أدق هم يتخذون من هذا الفكر وسائل كى يتعمقوا فى تصوير المشاعر

ص: 190

والأفكار التى طالما عرض لها الشعر العربى، مضيفين إليها معانى وخواطر حافلة يما يملأ النفس إعجابا.

ولا ريب فى أن ذلك كان على درجات، فمن الشعراء من كان يغرق فى التثقف بالثقافات الأجنبية، ومنهم من كان لا يشق على نفسه، فهو إنما يلم بأطراف منها تقل وتكثر حسب ملكاته العقلية، ومهما أسرف الشاعر فى هذا الإلمام فإنه يحتفظ لأساليبه بالنصاعة والنقاء، حتى من كان يرجع إلى أصول غير عربية، فقد استقر فى نفوس جميع الشعراء الاحتفاظ بتقاليد الشعر الموروثة وأن يطل شعرهم موصولا بماضيه، وحقّا حاول الشعوبيون أن يشككوهم فى هذا الماضى وأن يقطعوا صلتهم به، ولكنهم لم يصيخوا إليهم ولا استمعوا إلى ضجيجهم، فقد كانت شخصية الشعر العربى فى نفوسهم أقوى من أن تزعزعها أو تهزها صيحات هؤلاء الشعوبيين المارقين، فلم يزايلوها ولا انحرفوا عنها ولا عن أصولها التقليدية. بل لقد استطاعوا أن يثبتوا مرونة هذه الأصول، وأنها تتسع لفنون البديع الجديد التى سجلها ابن المعتز اتساعا كانت تحمل مقدماته فى صدورها من قديم، بل لقد وجدوا فى مرونة هذه الأصول ما يمكنها من أن تحمل كل صنوف الغذاء الفكرى الجديد على اختلاف ألوانها، غذاء الفلسفة والمنطق والعلوم المختلفة وغذاء الآداب الفارسية واليونانية والحكمة الهندية، فكل سيول هذا التراث الثقافى الأجنبى من كل جنس يستوعبها الشاعر العباسى ويتمثلها ويتقنها علما وفقها وتحليلا دون أن ينحرف بشعره عن أصوله الموروثة، بل إن هذه الأصول تونق وتزدهر ويصبح كل ما ينقل إليها من الفكر الأجنبى عربى اللسان والصياغة المصفاة، بل أهم من ذلك أن ذهن الشاعر العباسى يصبح ذهنا عميقا يتغلغل فى حقائق المعانى نافذ إلى دخائلها وأغوارها البعيدة، نفوذا يتيح له ما لا ينفد من الخواطر الشعرية المبتكرة.

وحقا أن هذا العمق فى ذهن الشاعر العباسى يلاحظ منذ بشار ومن تلاه فى القرن الثانى، غير أننا كلما تقدمنا مع الزمن ازداد هذا العمق بعدا فى بواطن المعانى المستمرة، وهو عمق رافقته صور كثيرة من دقة التحليلات والاستنباطات والتقسيمات، فمن ذلك ما يرويه ابن قتيبة من أن بعض الشعراء أنشد الكندى الفيلسوف:

وفى أربع منى حلت منك أربع

فما أنا أدرى أيها هاج لى كربى

ص: 191

أوجهك فى عينى أم الطعم فى فمى

أم النطق فى سمعى أم الحب فى قلبى

فقال له الكندى: والله لقد قسّمتها تقسيما فلسفيّا (1)، وتكثر مثل هذه التقسيمات بين الشعراء إذ كانت تعدّ من بدع العصر ومستحدثاته الطريفة، ومنها قول ابن المعتز فى جمال الذوائب (2):

سقتنى فى ليل شبيه بشعرها

شبيهة خدّيها بغير رقيب

فأمسيت فى ليلين بالشعر والدّجى

وخمرين من راح وخدّ حبيب

وهو تقسيم طريف لليل والخمر جميعا. وعلى نحو ما كانوا يغربون فى التقسيم كانوا يغربون فى الأخيلة، وقد نقلوا منها ما أعجبهم فى آداب العجم، من مثل قول على بن الجهم فى وصف الورد:

أما ترى شجرات الورد مظهرة

لنا بدائع قد ركّبن فى قضب

كأنهنّ يواقيت يطيف بها

زبرجد وسطها شذر من الذّهب

والصورة من قول أرديشير: «الورد ياقوت أحمر وأصفر ودر أبيض على كراسى زبرجد يتوسطه شذور ذهب» (3). ولا تكاد تحصى صور الشعراء الطريفة، بل إن صور شاعر واحد أكثر من أن تحصى، غير أنه مما يلاحظ أنهم عنوا كثيرا بأن يغرقوا فى الوهم والتجريد على شاكلة قول العطوى أحد متكلمى المعتزلة الحذاق (4):

فو حقّ البيان يعضده البر

هان فى مأقط ألدّ الخصام

هى تجرى مجرى الأصالة فى الرّأ

ى ومجرى الأرواح فى الأجسام

وواضح مدى إغرابه فى الصورة إذ مثل صاحبته بجمال الأصالة فى الرأى، وهى صورة فريدة، وتوضح إحساس العطوى بما كان ينفذ إليه المعتزلة لعصره من تفكير أصيل منتهى الأصالة، وهو تفكير كثيرا ما كان يدفعهم إلى صور غير

(1) ابن أبى أصيبعة ص 287.

(2)

زهر الآداب للحصرى 3/ 16.

(3)

ديوان المعانى للعسكرى /232/ وانظر الديوان (طبعة المجمع العلمى بدمشق) ص 111.

(4)

معجم الشعراء للمرزبانى (طبعة الحلبى بالقاهرة) ص 377.

ص: 192

مألوفة من التجريد والوهم البعيد، وكأن الحسين بن الضحاك استعار منهم قبسا حين قال فى بعض غزله (1):

إن من لا أرى وليس يرانى

نصب عينى ممثّل بالأمانى

بأبى من ضميره وضميرى

أبدا بالمغيب ينتجيان

نحن شخصان إن نظرت وروحا

ن إذا ما اختبرت يمتزجان

فإذا ما هممت بالأمر أوه

مّ بشئ بدأته وبدانى

كان وفقا ما كان منه ومنى

فكأنى حكيته وحكانى

خطرات الجفون منا سواء

وسواء تحرّك الأبدان

وهو يعبر عن اتحاد بالمحبوب وفناء فيه حتى كأنما هما شخص واحد وروح واحدة وإن بديا شخصين وروحين فخواطرهما واحدة، بل حتى حركات الأجسام واحدة. وكل ذلك بعد فى الخيال إلى درجة الوهم، وعلى شاكلته قول ابن المعتز:

وشكوى لو أنّ الدمع لم يطف حرّها

تولّد منها بينهن حريق

فلولا الدموع لاحترق العاشقان، حرقتهما الشكوى الممضة التى لا يخمد أوارها، وقد تكون الصورة حسية، ولكن نشعر إزاءها بالبعد فى الخيال والإغراق فى الوهم كقول أبى العباس الناشئ المعتزلى فى وصف سحاب يهطل ولا يكفّ عن سقوطه (2):

خليلىّ هل للمزن مقلة عاشق

أم النار فى أحشائه وهى لا تدرى

سحاب حكت ثكلى أصيبت بواحد

فعاجت له نحو الرياض على قبر

فالمزن أو السحاب مقلة عاشق ما تزال تتساقط منها حبات الدموع، وما بريقه إلا نار العشق الملتهبة فى الأحشاء، بل لكأنه ثكلى فقدت وحيدها، فهى تبكى عليه بكاء مرّا لا ينقطع. وللشاعر أشعار كثيرة فى الإشاذة بأصحابه من المتكلمين

(1) أغانى (طبعة دار الكتب) 7/ 187.

(2)

زهر الآداب 1/ 177.

ص: 193

وكيف أنهم ينيرون دياجى المشاكل المظلمة بأفكارهم الثاقبة، وكانت مناظراتهم لا تزال دائرة فى العصر على الرغم من استعلاء أهل السنة عليهم، ولكنهم ظلوا يشعلون العراق بحجاجهم وحوارهم وجدالهم وظلوا يثيرون دفائن المعانى بردودهم ومناقضاتهم لخصومهم، مما نرى آثاره عند الشعراء، ومعروف أن الشاعر العربى من قديم كان يشكو طول الليل حتى ليبدو عند بعض الشعراء مظلما لا آخر لظلامه، ويلم ابن بسام بهذا المعنى، فينفى هذا الظلم عن الليل قائلا (1):

لا أظلم الليل ولا أدّعى

أن نجوم الليل ليست تغور

ليلى كما شاءت فإن لم تزر

طال إن زارت فليلى قصير

فالطول والقصر نسبيان، وهما معلقان بصاحبته إن هى زارت قصر الليل وإن لم تزر طال، وبذلك نقض المعنى على من سبقه نقضا، منصفا لليل من الشعراء السابقين الذين طالما ظلموه. وقد يقال: وأين شعر المعتزلة الذى استظهروا فيه عقيدتهم الاعتزالية ومصطلحاتهم الكلامية، ويبدو أنه كان لهم شعر كثير فى هذا الباب سقط من يد الزمن، فالمرزبانى فى معجم الشعراء يترجم لشخص منهم يسمى محمد بن دكين المتكلم ويذكر أن له أشعارا يحض فيها على القول بالعدل والتوحيد، غير أنه لا ينشد منها شيئا (2).

وليست الأشعار الاعتزالية فى نفسها شيئا إلا ما قد تدل عليه من صلة أصحابها المعروفة بالفلسفة والفكر الأجنبى اليونانى وغير اليونانى، وأهم منها ما استودعه هذا الفكر فى العقل العربى من خصب، ليس هو وحده مورده الوحيد، بل لعل تفاعل هذا العقل مع عناصر الفكر الأجنبى كانت أكثر خصبا، إذ استطاع أن يستوعبها ويتمثلها، ويصطنع لنفسه من خلالها مواد لا تقل عنها روعة ولا جمالا، وهى مواد يمكن رؤيتها رؤية واضحة فى كثرة التوليدات العقلية.

ولا نبالغ إذا قلنا إنه لا يوجد شاعر فى هذا العصر إلا وقد نفذ إلى كثير من هذه التوليدات حتى الشعراء الشعبيون من أمثال الحمدونى إسماعيل بن إبراهيم، ويروى أن أحد ممدوحيه وهو أحمد بن حرب المهلبى وهب له طيلسانا (ثوبا فارسيّا)

(1) المختار من شعر بشار للخالديين (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) ص 20.

(2)

معجم الشعراء ص 407.

ص: 194

أخضر فلم يرضه، فأخذ ينشد فيه مقطعات تجاوز بها الخمسين من مثل قوله (1):

طيلسان لابن حرب جاءنى

قد قضى التمزيق منه وطره

فهو قد أدرك نوحا فعسى

عنده من علم نوح خبره

أبدا يقرأ من أبصره:

(أئذا كنّا عظاما نخره)

ولا شك فى أن هذه قدرة بارعة، والحمدونى لم يملكها عفوا، وإنما ملكها واستحوذ عليها بفضل خصب ملكته وما أتاحت الثقافة المعاصرة له من محصول غذاها به، فإذا هو حين يتناول موضوعا مثل طيلسان ابن حرب وأنه خلق بال يستطيع أن يعرضه فى صور متعددة لا تبلغ فى العدد أصابع يد ولا أصابع يدين، بل تتجاوز ذلك إلى عشرات من المقطوعات، ولكل مقطوعة صورتها الطريفة الخاصة.

ويكاد الإنسان يقطع بأنه لا يوجد شاعر فى العصر إلا وقد أذعن للثقافات المعاصرة المتنوعة واتخذ منها غذاء لعقاء وقلبه، وكأن شاعرا لا يستطيع منها فكاكا ولا خلاصا، ونضرب مثلا بالبحترى الذى رأيناه فى الفصل السابق يحمل حملة شعواء على من يكلّفون الشعراء دراسة المنطق والفلسفة، فإننا حين نتصفح أشعاره نجد فيها آثار الثقافات التى عاصرته، حتى لنراه يشيد بالعلم والمعرفة فى بعض ممدوحيه، إذ يقول له (2):

عرف العالمون فضلك بالعل

م وقال الجهّال بالتقليد

وهو لا يشيد بالعلم فحسب، بل ينكر أيضا التقليد وكأنه يدعو للاجتهاد واستخدام العقول، بل إنه ليزعم أن التقليد جهل ما وراءه جهل، وحرىّ بمن يدعو هذه الدعوة أن يطبقها على نفسه، وأن يأخذها بالعلم والتثقيف، وكل ما فى الأمر أنه لم يكن يسرف فى ذلك إسراف بعض معاصريه من الشعراء ولا كان يفرغ له، فقد كان يعيش فى شعره مع نفسه أكثر مما كان يعيش مع الثقافة التى

(1) زهر الآداب 2/ 235.

(2)

ديوان البحترى (طبع دار المعارف) 1/ 638.

ص: 195

عاصرته، بل إننا نحتاج إلى تقييد هذا الكلام، فقد جمع من أشعار القدماء والمحدثين ديوان حماسة ضخما. مما يؤكد أنه عكف على دراسة هذه الأشعار حتى استطاع أن يستخلص منها هذا الديوان، وكأننا نعدم فى العصر الشاعر الذى لا يطلب الثقافة الفنية، بل الثقافة العامة، وكل من يتابع البحترى فى شعره يلاحظ أنه حوى لنفسه أطرافا من تلك الثقافة أتاحت له أن يصبح من ذوى الملكات الخصبة، وتثقفه بأشعار أستاذه أبى تمام ذائع مشهور، وهى نفسها تحبب إلى من يديم النظر فيها أن يأخذ بحظ أو حظوظ من الثقافات المعاصرة، وصوّر بنفسه مدى تنوع هذه الثقافات وتنوع الكلام الذى يحملها فى قوله لبعض ممدوحيه (1):

ولقد جمعت فضائلا ما استجمعت

يفنى الزمان وذكرها لم يهرم

مثل الكلام تفرّقت أنواعه

فرقا وتجمعها حروف المعجم

وحقّا لم يكن البحترى صاحب تعمق فى معانى الشعر مثل أبى تمام أو مثل معاصره ابن الرومى، ولكن كانت ملكته خصبة، وكانت ما تزال تمده بخواطر لا تنفد، ونستطيع أن نلاحظ ذلك فى سينيته التى وصف فيها إيوان كسرى وصفا لم يسبق إليه، كما نستطيع أن نلاحظه فى تنوع اعتذاراته للفتح بن خاقان تنوعا خلب معاصريه، كما خلبهم عنده إبداعه فى وصفه لخيال المحبوبة أو طيفها حين يلم به فى رؤاه واحلاءه، وتغنى الشعراء بالخيال قديم منذ أوائل العصر الجاهلى، ولكن الجديد عند البحترى أنه استطاع بملكته العباسية الخصبة التى تقتدر على التوليد والإتيان بالصور المبتكرة والإكثار منها أن يستولى على إعجاب الأسلاف بمثل قوله (2):

سقى الغيث أجراعا عهدت بجوّها

غزالا تراعيه الجآذر أغيدا (3)

إذا ما الكرى أهدى إلىّ خياله

شفى قربه التّبريح أو نقع الصّدا (4)

ولم أر مثلينا ولا مثل شأننا

نعذّب أيقاظا وننعم هجّدا (5)

(1) الديوان 4/ 2666.

(2)

الديوان /6702/.

(3)

الأجراع: الرمال الطيبة. الجو: منخفض الأرض. الجآذر: بقر الوحش.

(4)

نقع الصدا: سكن الظمأ.

(5)

هجدا: نائمين.

ص: 196

وقوله (1):

ألمّت بنا بعد الهدوّ فسامحت

بوصل متى نطلبه فى الجدّ تمنع (2)

وما برحت حتى مضى الليل وانقضى

وأعجلها داعى الصباح الملمّع (3)

فولّت كأن البين يخلج شخصها

أوان تولّت من حشاى وأضلعى (4)

وواضح ما فى الشطر الأخير بالأبيات الأولى من لفتة ذهنية واضحة، ومثله آخر الأبيات الثانية فقد ولّت وكأنها تنتزع من حشاه وأضلعه وروحه، وكان يعرف البحترى كيف يمس قلب سامعه، كما كان يعرف كيف يستأثر لنفسه ببعض الصور والمعانى، فقد سمع أو حفظ قول القائل فى وصف أحاديث بعض النسوة وما يذعن فيه من جمال وسحر:

إذا هن ساقطن الأحاديث بالضّحى

سقاط حصى المرجان من كفّ ناظم

فما زال يدير البيت فى نفسه وما زال يحاول أن يضيف إليه إضافة بارعة، وإذا ملكته تسعفه بقوله فى وصف لقائه بمن خلبت لبّه (5):

ولما التقينا والنّقا موعد لنا

تبيّن رامى الدّرّ منا ولا قطه (6)

فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها

ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه

ولعل أكبر شاعر فى العصر، وذخائر الفكر حينئذ فى الشعر ومدى ما أثرت الحياة العقلية فيه ابن الرومى، ويبدو عنده بوضوح أنه عكف على جميع الثقافات التى عاصرته، وأنه أخذ ينهل منها حتى تحولت إلى ذهنه وقلبه، فإذا هو يستوعبها، وإذا هو يتقنها، بل إذا هو يتمثلها تمثلا نادرا، وكان مما دفعه إلى ذلك دفعا اعتناقه مبكرا مذهب الاعتزال، وفى

(1) الديوان /12372/.

(2)

الهدو: شطر من الليل.

(3)

الملمع: الممزوج سواده ببياضه إشارة إلى أوائل الصباح

(4)

يخلج: ينتزع.

(5)

ديوان المعانى 1/ 238 وانظر الديوان 2/ 1238.

(6)

النقا: قطعة من الرمل.

ص: 197

شعره ما يدل على حرصه الشديد عليه كقوله (1):

أأرفض الإعتزال رأيا

كلاّ لأنى به ضنين

فهو يؤمن به ويعتنقه منحازا إليه، ولا يرضى به بديلا، وإنه ليمنحه كل حبه، حتى ليصبح ضنينا به، وكأنه غدا جزءا من جوهر نفسه، ولعله لذلك كان يحسّ بواشجة رحم بينه وبين نظرائه ممن يعتنقون هذا المذهب الذى كان معروفا حينئذ بمبدئين يجادل فيهما أصحابه طويلا، وهما العدل على الله بحيث لا يعطل حرية الإرادة عند الإنسان حتى يكون مسئولا عن أعماله وينال ما يستحقه من الثواب والعقاب، فلا جبر ولا حتم ولا إلزام، ثم التوحيد وما يطوى فيه من تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين، فهو ليس بجسم ولا عرض ولا يحده زمان ولا مكان، وإلى ذلك يشير فى بيان علاقته الوثيقة ببعض معاصريه قائلا له (2):

إن لا يكن بيننا قربى فآصرة

للدين يقطع فيها الوالد الولدا

مقالة «العدل والتوحيد» تجمعنا

دون المضاهين: من ثنّى ومن جحدا

وواضح أنه يجعل لحمة الاعتزال فوق لحمة القربى، وكأنه يؤمن بأن القربى دم أما الاعتزال فعقل وروح، وهو لذلك فوق القربى وشائج وأواصر. ولا يهمنا أنه كان يؤمن بالاعتزال من حيث هو، وإنما يهمنا أن الاعتنال وصله بالثقافات الأجنبية على اختلاف صنوفها وألوانها، فقد كان المعتزلة يتصلون مباشرة بهذه الثقافات لدعم عقولهم من جهة ولتبين ما فيها من آراء فاسدة كانوا ينقضونها نقضا، وكانت أهم ثقافة أكبوا عليها الثقافة اليونانية بما فيها من فلسفة ومنطق، وأكبّ معهم كثير من الشعراء-وخاصة من كانوا يعتنقون الاعتزال-على هذه الثقافة ينهلون منها ويعبون، وفى مقدمتهم ابن الرومى الذى يبدو أنه كان يفرغ لها وخاصة فى مطالع حياته وينفق فى ذلك أوقاتا طويلة، مما أتاح لأشعاره أن تصطبغ بأصباغ عقلية واضحة.

وأول ما يطالعنا من هذه الأصباغ صبغ يعم جميع أشعاره كما تعم الخضرة أشجار

(1) ديوان ابن الرومى (نشر كامل كيلانى) ص 92.

(2)

ابن الرومى: حياته من شعره (طبع المكتبة التجارية) ص 223.

ص: 198

الطبيعة فى الربيع، ونقصد استقصاءه للمعانى، فهو إذا ألمّ بمعنى لم يكد يترك فيه بقية لأحد من بعده، وكان لذلك تأثير مهم فى قصائده إذ تبدو الأبيات فيها مترابطة ترابطا لا يعرف لأحد غيره من شعراء العربية، ترابطا يجعل البيت لا يفهم تمام الفهم إلا إذا نظر القارئ فيما يسبقه وما يتلوه، حتى لتصبح القصيدة بناء متكاملا متناسقا، مما يوثق الوحدة بينها لا الوحدة الموضوعية فحسب، بل أيضا الوحدة العضوية، إذ تصبح كلا واحدا مؤلفا من أجزاء ولكل جزء أو بيت مكانه، بحيث لو نزع منه إلى مكان آخر لنبا به المكان الجديد. ومنشأ ذلك أن الأبيات يتولد بعضها من بعض، أو قل هى الأفكار والمعانى ما تزال تتوالد وتتشعب، وكل شعبة تنشأ عن سابقتها وتلتحم بها لحمة القرابة، بل لحمة الأعضاء فى الجسد الواحد.

وتتصل بهذا الجانب عند ابن الرومى خصائص عقلية كثيرة، لعل أولها هذا الخصب الذى لا حد له، فقد أصبح العقل العربى يتعمق المعانى حتى يصل إلى قاعها وقرارها، ويستخرج كل ما كان مستورا بها من لآلئ كانت خافية عن الأنظار، بل إن الشاعر يغوص فى مسارب المعانى فيطّلع على شعب لا تكاد تحصى وهما جانبان: جانب التشعيب والتفريع وجانب الكشف والاستقصاء، حتى يتضح المعنى من جميع جوانبه، وحتى نصبح كأننا نستمع إلى صور من الحوار المعروف عند المعتزلة، فهم ما يزالون بحوارهم يثيرون دقائق المعنى حتى ينكشف من جميع أطرافه، وإذا هو واضح أشد ما يكون الوضوح بفضل علم المنطق الذى يستهدون به فى مباحثهم وبفضل ملكاتهم العقلية التى صقلها الفكر الفلسفى.

وكأنما تحولت المعانى الشعرية عند ابن الرومى إلى صورة من صور حوارهم، فهى تتفرع إلى أقصى حد، وهى تتضح أيضا إلى أقصى حد، ولذلك كانت القصيدة عنده تطول طولا مسرفا لا يعرف لشاعر عربى من قبله ولا من بعده، لأن المعانى تذكر بجميع شعبها، وما يزال يستقصيها حتى تبدو واضحة أشد ما يكون الوضوح وهو الوضوح نفسه الذى يشغف به أهل المنطق أو قل من يعكفون على دراسة المنطق. حتى يستأثر بكل ما يفكرون فيه، وحتى يمنحوه عنايتهم الكاملة.

ليس من شك إذن فى أن شعر ابن الرومى يصور تعمقه فى دراسة المنطق وليس

ص: 199

ذلك فحسب، فإن المنطق بأقيسته وعلله يستحيل عنده شعرا وفنّا، فإذا بنا نتنقل فى طرائف لا تحصى من المعانى، وكأنما أصبحت هذه الطرائف حدودا للشعر، فهو لا يتصوّر بدونها، وإلا يكون شيئا غثّا لا قيمة له، وصوّر ذلك ابن الرومى نفسه فى بعض حواره مع شاعر أنشده شعرا سليما من العيوب مطبوعا عاريا من دقائق المعانى، فقال له:«نحن-أعزّك الله-نطلب مع السلامة الغنيمة» (1). فلا شعر بدون غنيمة أو بدون معنى مبتكر أو بدون قياس سديد أو تعليل لافت دقيق، من مثل قوله (2):

عدوّك من صديقك مستفاد

فلا تستكثرنّ من الصّحاب

فإن الداء أكثر ما تراه

يكون من الطعام أو الشراب

وهذا التحذير من الصديق يدور فى كثير من الأقوال والأمثال، ولكن الطريف عند ابن الرومى هو التعليل البارع، إذ قاس الصديق على الطعام والشراب الممتعين وكيف يستحيلان أحيانا داء لا شفاء منه، وكأنما يؤتى الحذر من مأمنه، ومن تعليلاته الطريفة تعليله لمحبة الأوطان، إذ يقول (3):

وحبّب أوطان الرجال إليهم

مآرب قضّاها الشباب هنالكا

إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهم

عهود الصبا فيها فحنّوا لذلكا

فقد ألفته النفس حتى كأنه

لها جسد إن بان غودر هالكا

وكان الشعراء قبله يتشوقون إلى أوطانهم ولا يعرفون العلة فى ذلك حتى كشفها لهم ابن الرومى، فكل يتعلق بوطنه ويشغف به، لأنه ملاعب صباه وشبابه التى لا يبرح خيالها ذاكرته، والتى طالما ألفتها النفس وأنست لها، بل لقد التصقت بها التصاق الروح بالجسد، بحيث لو انفصم أحدهما عن صاحبه أصبح فى الهالكين. وتكثر فى شعر ابن الرومى كثرة مفرطة التعليلات والأدلة والأقيسة كقوله فى بعض غزله (4):

(1) ذيل زهر الآداب (طبع المطبعة الرحمانية بمصر) ص 190.

(2)

الديوان ص 139.

(3)

الديوان ص 13 وزهر الآداب 3/ 99.

(4)

زهر الآداب 1/ 12.

ص: 200

لا تكثرنّ ملامة العشّاق

فكفاهم بالوجد والأشواق

إن البلاء يطاق غير مضاعف

فإذا تضاعف كان غير مطاق

لا تطفئنّ جوى بلوم إنّه

كالريح تغرى النار بالإحراق

فهو يقيس تكرار اللوم للعشاق على تضاعف البلاء الذى لا يطاق، ولا يكفيه هذا القياس، وإذا هو ينفذ إلى قياس بديع، فالهوى نار مشتعلة فى الصدور، واللوم ريح عاصفة تفرقها يمينا وشمالا، حتى تأتى على كل ما تجاوره، وكأنما لا يزال يغريها بأن تزداد تلظيا وإحراقا واشتعالا. وبجانب هذه القدرة لدى ابن الرومى على الأقيسة والعلل، نحس قدرة فائقة على الجدل وكسب القضية بالحق وغير الحق، وكأنه معتزلى كبير يناقش بعض مسائل الاعتزال ويحاول أن ينقض على خصمه حججه وأدلته، أو قل إنه يدلى بحجج وبراهين تمحو كل براهينه وحججه، وهى براهين وحجج شعرية، فيها فن وفيها جمال وفيها حس الشاعر وفطنته، من ذلك أن يجد الناس من حوله مجمعين على إيثار الورد على النرجس، فيرد عليهم إجماعهم بالدليل القاطع والبرهان الساطع يقول (1):

خجلت خدود الورد من تفضيله

خجلا تورّدها عليه شاهد

أين العيون من الخدود نفاسة

ورياسة لولا القياس الفاسد

فاحمرار الورد الذى طالما شبّهه الشعراء بالخدود إنما هو احمرار خجل من تفضيل من لا يقدرون الجمال له على النرجس الذى يشبهه الشعراء بالعيون، وأين الخدود من العيون روعة وجمالا، وهو بون بعيد لا يخطئ فيه إلا أصحاب القياس الفاسد الكليل. ومما يتضح عنده فيه أثر الاعتزال واختلاطه بالمعتزلة أن نراه يعمد إلى ذم شئ ذمّا طبيعيّا، لأنه يستحق الذم، ثم يعمد بعد ذلك إلى مدحه، بيانا لقدرته فى الحجاج والجدل. وينسب إلى الجاحظ كتاب فى المحاسن والأضداد بعامة، وهو منحول عليه، ولكنا نجد معاصرا لابن الرومى هو إبراهيم بن محمد البيهقى يؤلف كتاب المحاسن والمساوى وهو منشور، ويدل بوضوح على أن الناس شغفوا فى العصر-يقودهم المعتزلة من أمثال الجاحظ-بمدح الشئ وذمه، وعلى

(1) الديوان ص 389.

ص: 201

قبس من هذا الصنيع عمد ابن الرومى إلى ذم الحقد البغيض، فقال (1):

الحقد داء دفين لا دواء له

يرى الصدور إذا ما جمره حرثا (2)

فاستشف منه بصفح أو معاتبة

فإنما يبرئ المصدور ما نفثا (3)

فالحقد داء لا يمكن الشفاء منه، وما يزال جمره متقدا فى الصدور ولا يمكن إطفاؤه، ويحاول ابن الرومى أن يكتشف دواء لصاحبه، فيوصيه بالصفح والعتاب فقد ينفسان عنه بعض الشئ، ولكن أى تنفيس؟ إنه تنفيس المصدور الذى قد ينفس عنه لحظة ما ينفثه، وسرعان ما ينطوى صدره ثانية على مرضه أو قل على هذا الجمر جمر الحقد الذى يشوى صدر صاحبه شيّا. وابن الرومى فى ذلك كله متفق مع الناس جميّعا فى ذم الحقد الكريه، ولكن أليس من حقه أن يغرب عليهم كما يغرب أحيانا المعتزلة أصحاب الحجاج واللسن واللدد فى الخصومة، فيمدح لهم الحقد البشع ويحيله شيئا مستحبا لا بشاعة فيه ولا قبح، يقول (4):

وما الحقد إلا توأم الشكر فى الفتى

وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض

فحيث ترى خقدا على ذى إساءة

فثمّ ترى شكرا على حسن القرض

ولولا الحقود المستكنّات لم يكن

لينقض وترا آخر الدهر ذو نقض

فالحقد توأم للشكر وقرين له، وحرى بنا إذا تأملنا فى حقيقته أن نعيد النظر فيه، فإنه يستحبّ إزاء بعص الأشخاص ممن يسيئون إلى الناس، بينما يستحب الشكر إزاء من يحسنون القرض والتفضل على من حولهم ببعض ما أنعم الله عليهم.

ويلفت ابن الرومى إلى دليل قاطع يدل على أن الحقد محمود، فلولاه لضاع الوتر أو الثأر ولم يأخذ موتور حقه من واتر. وبذلك استطاع أن يخرج الحقد الذميم فى صورة حسنة محمودة، بفضل مهارته فى الحوار والجدل، وكأنه معتزلى كبير يدافع عن قضية من قضايا المعتزلة الشائكة. وكثيرون من الشعراء وراءه أفادوا على شاكلته من حوار المعتزلة ومناظراتهم، كما أفادوا من ثقافات العصر ما استحالت به ملكاتهم

(1) الديوان ص 137.

(2)

يرى: يشعل.

(3)

المصدور: المريض بذات الصدر أو الرئة.

(4)

الديوان ص 163.

ص: 202