الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث:
الحياة العقلية
1 - الحركة العلمية
دعا الإسلام أمته فى قوة إلى العلم والتعلم، فبمجرد أن اكتسح العرب العراق وإيران والشام ومصر مضوا ينهلون من كل الثقافات والمعارف التى كانت منبثة فى هذه البلدان، وأسعفهم فى ذلك أنهم عرّبوا شعوبها وأخذت بنفسها تعرّب لهم كل مدّخراتها وكنوزها الثقافية، وتجرّد بعض العرب لمعرفة اللغات الأجنبية التى كانت تحمل تلك الكنوز والمدخرات، وما ينقضى القرن الثانى الهجرى حتى تكون قد دخلت العربية سيول ثقافية وعلمية لا حصر لها، مما مكّن العرب أن يتحوّلوا سريعا إلى أمة علمية تعنى بكل جوانب العلم الذى كان معروفا عند الأمم القديمة وخاصة الفرس والهنود والسريان واليونان، وتشارك فيه مشاركة جادّة خصبة، وتضيف إليه علوما جديدة تتصل بالقرآن والشريعة والشعر واللغة والنحو والعروض.
ونشط التعليم حينئذ نشاطا واسعا فمن تعليم للناشئة بالكتاتيب إلى تعليم للشباب بالمساجد، وكان الناشئة يبدءون بتعلم الخط والكتابة والقراءة ويحفظون بعض السور القرآنية، ويشدون بعض الأشعار والأمثال؟ ؟ ؟ ، ويدرسون شيئا من الحساب والسنن والفرائض والنحو والعروض، وعنى معلمو البنات بتحفيظهن القرآن وخاصة سورة النور، على نحو ما صورنا ذلك كله فى كتاب العصر العباسى الأول نقلا عن
الجاحظ، وذكر هو وابن قتيبة أسماء طائفة مشهورة من معلمى الكتاتيب، ونراه يخصّهم برسالة لا تزال منها بقايا بين رسائله المطبوعة على هامش كتاب الكامل للمبرد، وفيها يصوّر نوادرهم وحماقاتهم المضحكة، ومن حينئذ أصبحت شخصية معلم الكتّاب تدور بين الشخصيات الهزلية فى أدبنا العربى، ويقول محمد بن حبيب العالم اللغوى المتوفى سنة 245: إذا قلت للرجل ما صناعتك؟ فقال:
معلم صبيان فاصفع، يشير إلى حماقته، وكان ينشد:
من علّم الصّبيان صبّوا عقله
…
حتى بنى الخلفاء والخلفاء (1)
وصبّوا عقله: جعلوه مثل عقلهم: عقل الصبيان حمقا وبلاهة، وكأنما تصيب عقله عدوى من عقولهم لطول ملابسته لهم، وابن حبيب يعمم ذلك حتى فيمن يعلمون أبناء الخلفاء وآباءهم حين كانوا فى المهد صغارا. ويقول ابن قتيبة إنهم كانوا يعلمون الصبيان على حسب الهدايا التى كانت تأتيهم من آبائهم (2)، أو بعبارة أدق على حسب الأجور التى كانوا يأخذونها منهم.
وطبيعى ألا تكون حياة معلم الكتّاب على هذا النحو رافهة، بل كان كثيرا ما يحفّ بها الضيق والبؤس على نحو ما يحدثنا الرواة عن أبى زيد البلخى المتوفى عام 322 وكان فى بدء حياته معلم كتّاب، وقد شكا شكوى مرة حينذاك من حياته (3) البائسة. وكثير من اللغويين والنحاة قبل أن ينالوا شهرتهم العلمية بدءوا معلمى صبية مثل يعقوب بن السكيت المتوفى سنة 243، فقد كانت له فى مطالع حياته حلقة فى درب القنطرة ببغداد يؤدّب فيها مع أبيه صبيان العامة (4). ويخيّل إلى الإنسان كأنما أولاد العامة جميعا كانوا يختلفون إلى الكتاتيب لما استقر فى نفوس آبائهم من ضرورة التعلم وأنه مثل الطعام والشراب لا يمكن الاستغناء عنه، وأن من لم يتعلم فى صغره فاته العلم فى كبره، ومثّلوا العلم فى الكبر بالنقش على الماء، وفى الصغر بالنقش على الحجر يثبت ولا يزول أبدا.
وكان الأولاد يكتبون فى ألواح من الآبنوس أو الخشب، كل على حسب قدرة أبيه
(1) معجم الأدباء لياقوت (طبعة القاهرة) 18/ 112.
(2)
عيون الأخبار (طبعة دار الكتب المصرية) 4/ 39.
(3)
معجم الأدباء 3/ 65، 81.
(4)
تاريخ بغداد للخطيب البغدادى 14/ 273.
المادية، وكان المعلمون يأخذونهم بالتأديب، فيضربونهم أحيانا أو يحبسونهم، حتى يؤدوا واجباتهم على خير وجه.
وكان معلمو أبناء الخاصة أحسن حالا ومعاشا من معلمى أبناء العامة، ومع ذلك نرى الجاحظ يأسى لحالهم إذ يقول:«يكون الرجل نحويّا عروضيّا وقسّاما فرضيّا وحسن الكتاب جيد الحساب حافظا للقرآن راوية للشعر وهو يرضى أن يعلّم أولادنا بستين درهما، ولو أن رجلا كان حسن البيان حسن التخريج للمعانى ليس عنده غير ذلك لم يرض بألف درهم» (1) وهذا إنما ينصب على معلمى أبناء الطبقة الوسطى، أما من كانوا يعلمون أبناء الخلفاء والوزراء والأمراء والقواد وكبار رجال الدّولة والأعيان وكبار التجار فكانوا يحظون برواتب كبيرة، فمثلا يعقوب ابن السكيت الذى بدأ، كما أسلفنا، معلم كتاتيب حين عهد إليه بعض الحكام فى تعليم ابنه جعل له راتبا شهريّا خمسمائة درهم وسرعان ما جعلها ألفا، واتخذه المتوكل لتعليم ولده وأسنى له الراتب وأجزل فى العطاء (2)، ولما أسند محمد بن عبد الله ابن طاهر نائب المتوكل على بغداد وجماعة من الخلفاء بعده تعليم ابنه إلى ثعلب الإمام الكوفى النحوى المشهور ظل ثلاث عشرة سنة يتناول الغداء معه على مائدته، وفرض له أن يأخذ يوميّا خبزا فاخرا ولحما كثيرا حين انصرافه إلى منزله وجعل له ألف درهم شهريّا. وقالوا إنه حين مات خلّف واحدا وعشرين ألف درهم وألفى دينار وحوانيت أو دكاكين بباب الشام فى بغداد قيمتها ثلاثة آلاف دينار (3)، ويقال إن الخاقانى وزير المقتدر أو لم وليمة ضخمة بمناسبة دخول ابن له الكتّاب وأعطى المعلم ألف دينار.
ولم تكن هناك مراحل للتعليم مثلنا اليوم، بل كان الكتّاب يحلّ محل تعليمنا الابتدائى والإعدادى، ومن يريد أن يكمل تعلمه بعده يختلف إلى حلقات المساجد، وكانت أشبه بمعاهد عليا، فلم تكن فقط دورا للعبادة، بل كانت أيضا دورا، بل قل جامعات، للعلم والعلماء، إذ كان لكل عالم فى كل فرع من فروع
(1) البيان والتبيين 1/ 403.
(2)
تاريخ بغداد 14/ 273.
(3)
إنباه الرواة للقفطى (طبعة دار الكتب المصرية) 1/ 147 وما بعدها ومعجم الأدباء 5/ 125.
العلم حلقة كبرى، يتخلّق فيها ظلابه من حوله. وكان عادة يستند إلى أسطوانة فى المسجد، ثم يملى محاضراته والطلاب يكتبون، وإذا كانوا كثيرين بحيث لا يسمعه البعيد عنه ردّد مستمل كلامه حتى يستطيع البعيدون عنه سماع ما يقوله وكتابته، وكان العالم لا يغير مكان حلقته الذى اختاره منذ نهض بالتدريس، ويروى أن نفطويه المتوفى سنة 323 ظل يملى دروسه فى اللغة والنحو بجامع المنصور ببغداد خمسين سنة وهو جالس إلى أسطوانة بعينها لا يزايل مكانه منها (1). وكانت أكثر الحلقات طلابا حلقات المتكلمين والفقهاء، أما المتكلمون فلكثرة ما كان يجرى بينهم من مناظرات كان الطلاب يختلفون إليها للفرجة والتعلم، وأما الفقهاء فلأن الإلمام بالفقه كان الوسيلة إلى تولى مناصب الحسبة والشرطة والقضاء والولاية أحيانا.
وكان الطلاب يمسكون فى أيديهم بالأقلام والأوراق للكتابة وأمامهم محابرهم، وكانوا يعدّون بالمئات فى بعض الحلقات، ويروى أن الطبرى حين سأله الطلاب الحنابلة عن إمامهم ابن حنبل وخلافه مع بعض الفقهاء وأجابهم بأن خلافه لا يعدّ أو لا يؤبه له رموه بمحابرهم وكانت ألوفا (2).
وكانت المساجد حينئذ أشبه بجامعات حرة، فالطلاب يختلفون إلى من يشاءون الاستماع إليه بدون أى شرط، منهم من يأخذ الفقه أو الكلام أو الحديث النبوى أو التفسير أو اللغة أو النحو أو الشعر، وكثير منهم كان يأخذ ما عند شيخ، ثم يتحول عنه إلى شيخ آخر أو حلقة أخرى، ويبدو أن بعض علماء النحو واللغة كان يتقاضى من طلابه أجورا على حسب قدرتهم، ففى أخبار الزجّاج أنه رغب فى تعلم النحو فلزم حلقة المبرد بجامع بغداد لتعلمه، فسأله أى شئ صناعتك؟ فأجابه:
أخرط الزجاج وكسبى فى كل يوم درهم ونصف، وأريد أن تهتم بتعليمى وأنا أعطيك كل يوم درهما، وسأظل أعطيك إياه أبد الدهر، فلزمه وعنى بتخريجه، وطلبت منه أسرة معلما شابّا يعلم أولادهم النحو فسمّاه لهم؛ وعلم أولادهم وظل يعطى المبرد فى كل شهر ثلاثين درهما ويزيده بما يقدر عليه (3). ويبدو أن المبرد كان شحيحا بعلمه، إذ فى تاريخه أن المتوكل والفتح بن خاقان وزيره كانا يجزلان له فى العطاء حتى إذا توفيا أجرى عليه محمد بن عبد الله بن طاهر حاكم بغداد راتبا
(1) معجم الأدباء 1/ 256.
(2)
معجم الأدباء 18/ 58.
(3)
معجم الأدباء 1/ 131.
شهريّا، ويتوفّى فيتابع أخوه عبيد الله الذى خلفه على بغداد إجراء الرواتب عليه، وهو مع ذلك كله لا يتورع عن أن يأخذ من طالب فقير درهما كل يوم.
على كل حال كان المبرد مثله مثل المحاضرين الكبار بالمساجد ترعاهم الدولة وتفرض لهم رواتب شهرية، وكانوا أنواعا كثيرة، فمنهم فقهاء ومنهم لغويون ونحاة ومنهم محدّثون ومفسرون، ومنهم أدباء يأخذون من كل علم بطرف وعلى أيديهم كان يتخرج الندماء. وكان كل عالم وصاحب فن يأخذ راتبه مع جماعته، وكان منهم من يسلك فى جماعات كثيرة، فيأخذ مع كل جماعة الراتب الذى تأخذه، كالزجاج تلميذ المبرد، فقد جعل المعتضد له راتبا فى الفقهاء وراتبا فى العلماء وراتبا فى الندماء، فبلغ راتبه من الدولة ثلثمائة دينار شهريّا (1). وكان الموفق يجرى على ثعلب راتبا سنيّا (2). وكان المقتدر يجرى على ابن دريد العالم اللغوى المتوفى سنة 321 خمسين دينارا فى كل شهر (3). وكان أبو الحسن بن الفرات وزير المقتدر يطلق لطلاب الحديث سنويّا عشرين ألف درهم (4). وكان القضاة ورجال الحسبة من الفقهاء يتقاضون رواتب كثيرة، حتى ليثرى بعضهم من راته ثراء طائلا، على نحو ما مرّ بنا فى الفصل الماضى عن إبراهيم بن جابر القاضى بخلب.
ولم يكن الخلفاء العباسيون ووزراؤهم وحدهم الذين عملوا على تنشيط العلم وإعطاء الرواتب الجزيلة للقضاة والعلماء من كل صنف، فقد كان يشركهم فى ذلك حكام الولايات، وفى مقدمتهم أسرة الصفاريين حكام سجستان، إذ نرى أبا عبد الله البوشنجىّ شيخ أهل الحديث بنيسابور المتوفى سنة 291 يذكر أنه أخذ من تلك الأسرة سبعمائة ألف درهم، ولما دالت دولتهم تحوّل عنهم إلى السامانيين ببخارى، ففرضوا له راتبا مجزيا (5)، وقد بعثوا فى إمارتهم بتشجيعهم للعلماء نهضة علمية عظيمة، ويروى أن أميرهم إسماعيل بن أحمد السامانى كان يصل محمد بن نصر المروزى إمام المحدثين فى دياره المتوفى سنة 294 بأربعة آلاف درهم كل سنة، وكان أخوه إسحق يصله بمثلها، كما يصله بمثلها سكان موطنه سمرقند (6).
(1) الفهرست ص 96 وإنباه الرواة 1/ 161.
(2)
معجم الأدباء 5/ 141 وإنباه الرواة 1/ 142.
(3)
انظر ترجمته فى ابن خلكان.
(4)
كتاب الوزراء للصابى ص 201.
(5)
طبقات الشافعية للسبكى 2/ 192.
(6)
السبكى 2/ 248.
ولم يكن حكام الولايات ينفقون على علماء ولايتهم وحدهم، بل كانوا ينفقون أيضا على كل من ينزل بها من العلماء الوافدين الذين قد يقيمون بها شهرا أو أشهرا، ومن طريف ما يروى من ذلك أن الرحلة فى طلب الحديث إلى مصر جمعت بين محمد ابن نصر المروزى آنف الذكر ومحمد بن إسحق بن خزيمة النيسابورى المتوفى سنة 311، ومحمد بن جرير الطبرى المتوفى سنة 310 ومحمد بن هرون الرّويانى المتوفى سنة 307 ولم يبق عندهم ما يقوتهم، فاتفق رأيهم على أن يخرج أحدهم فيسأل لأصحابه الطعام، وإذا هم بالشموع ورسول من قبل والى مصر يدقّ عليهم الباب، وسألهم أين محمد بن نصر فقيل له هو هذا فأخرج صرّة فيها خمسون دينارا فدفعها إليه ثم قال لهم أيكم محمد بن جرير؟ فقالوا هو هذا، فأعطاه صرة فيها خمسون دينارا، وكذلك صنع مع محمد بن إسحق بن خزيمة ومحمد بن هرون الرويانى، ثم قال لهم إن الأمير يقسم عليكم إذا نفدت هذه الدنانير أن تبعثوا إليه أحدكم (1). على أنه يجب أن نعرف أنه كان هناك كثيرون وراء الولاة والوزراء والخلفاء من أعيان الأمة وأثريائها يمدّون العلماء بالمكافآت والأموال الجزيلة بل ربما أمدوا الطلاب تشجيعا وحثّا على طلب العلم، ويروى أن ابن زرعة قاضى دمشق المتوفى سنة 302 كان يهب لمن يحفظ مختصر المزنى فى الفقه الشافعى مائة دينار (2). وكان ابن ماسى ينفذ إلى أبى عمر اللغوى المعروف باسم غلام ثعلب من وقت إلى وقت كفايته (3)، وسنرى فى حديثنا عن علوم الأوائل القناطير المقنطرة من الأموال التى كانت تنفق على الأطباء والمترجمين. ولا بد أن نشير هنا إلى أن نفرا من الفقهاء والمحدّثين وحتى من القضاة كانوا يأبون أن يأخذوا على عملهم وتعليمهم. أجرا، كما مر بناء فى الحديث عن زهاد الأمة أمثال إبراهيم الحربى، وكان كثيرون منهم يعيشون من التجارة أو من الوراقة أو من بعض الحرف الصغيرة.
غير أن الكثرة الغامرة كانت تعيش من رواتب الدولة، وممن وضعوا أنفسهم موضع الحماة للعلوم والآداب من الوزراء والسّراة، وكان كثيرا ما يهديهم العلماء والأدباء آثارهم، فيهدونهم بدورهم كثيرا من أموالهم وخير مثل يصور ذلك الجاحظ، فقد أهدى كتابه «الحيوان» إلى محمد بن عبد الملك الزيات فأعطاه خمسة آلاف
(1) السبكى 2/ 251.
(2)
السبكى 3/ 197.
(3)
السبكى 3/ 190.
دينار، وأهدى كتابه «البيان والتبيين» إلى أحمد بن أبى دؤاد فأعطاه أيضا خمسة آلاف دينار، وأهدى كتابه:«الزرع والنخيل» إلى إبراهيم بن العباس الصولى فأعطاه مثلهما خمسة آلاف دينار. وكلهم كانوا من كبار رجال الدولة. وصنف للفتح ابن خاقان وزير المتوكل رسالته فى فضائل الترك فأجرى عليه راتبا شهريّا من خزانة الدولة (1). وأمثال الجاحظ كثيرون فى كن فن وفى كل علم كانوا ينالون هذه العطايا الجزيلة ويأخذون الرواتب السنية على جهودهم فى المحاضرات للطلاب وفى تأليف الكتب وتصنيفها، مما أشعل فى نفوس الشباب والناس محبة العلم والعكوف عليه، حتى يعدّوا من أهله، وفى شرفه وفضله يقول الجاحظ (2):
يطيب العيش إذ تلقى لبيا
…
غذاه العلم والرّأى المصيب
فيكشف عنك حيرة كل جهل
…
وفضل العلم يعرفه الأريب
سقام الحرص ليس له دواء
…
وداء الجهل ليس له طبيب
وكانت الطريقة الشائعة فى المحاضرات، وخاصة محاضرات المتكلمين والمحدّثين واللغويين هى الإملاء، ويعرض السيوطى لإملاء اللغويين حينئذ، فيقول: «أملى ثعلب مجالس عديدة فى مجلد ضخم، وأملى ابن دريد مجالس كثيرة، وأملى أبو محمد القاسم بن الأنبارى وولده أبو بكر ما لا يحصى، وطريقهم فى الإملاء كطريقة المحدّثين سواء، يكتب المستملى أول القائمة: «مجلس أملاه شيخنا فلان بجامع كذا فى يوم كذا، ويورد التاريخ، ثم يورد المملى بأسناده كلاما عن العرب والفصحاء فيه غريب يحتاج إلى التفسير ثم يفسّره، ويورد من أشعار العرب وغيرها بأسانيده ومن الفوائد اللغوية بإسناد وغير إسناد ما يختاره. . .
وآخر من علمته أملى على طريقة اللغويين أبو القاسم الزجاجى له أمال كثيرة فى مجلد ضخم، وكانت وفاته سنة 339 (3)». وبلغ من عناية العلماء المملين حينئذ أن كانوا-وخاصة أهل الحديث-يراجعون ما كتبه تلاميذهم، ويكتبون لمن يأنسون منهم القدرة على روايته عنهم شهادة بأنهم أجازوا لهم تلك الرواية، ويسمّى ذلك
(1) معجم الأدباء 16/ 79، 99 وأمالى المرتضى (طبعة الحلبى) 1/ 195.
(2)
جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (طبع إدارة الطباعة المنيرية بمصر) 1/ 58.
(3)
المزهر (طبعة الحلبى) 2/ 313.
عند المحدّثين باسم الإجازة، وهى شهادة قيمة على صحة الرواية (1). وقد يسجل التلميذ على نسخته أنها من سماع هذا الشيخ أو ذاك، وقد يسجل أنه قرأها عليه، وقد يسجل له ذلك الشيخ. وكان الشيخ أحيانا يملى عملا له فى بلد، ثم ينتقل إلى بلدة أخرى ويمليه مضيفا إليه أو مهذبا، وكانوا ينصّون على ذلك، مثل معجم الجمهرة لابن دريد، إذ نصوا على أنه مختلف النسخ كثير الزيادة والنقصان، لأنه أملاه مرارا بفارس وببغداد، فلما تعدد الإملاء زاد المعجم ونقص، ويقول ابن النديم أصح النسخ نسخة أبى الفتح عبد الله بن أحمد النحوى، لأنه كتبها من عدة نسخ وقرأها عليه (2). وتلك هى أعلى مرتبة فى تحقيقنا العلمى الحديث للكتب، إذ نراجع مخطوطات الكتاب ونعرضه عليها، ونستخلص منه أصلا صحيحا غاية الصحة، وقد اهتدوا مبكرين إلى ذلك يرشدهم نظر علمى سديد. وكان كثير من العلماء حين يملى كتابا ثم يزيد فيه ويضيف يهمل نسخته أو نسخه الأولى، ولا يقرّ سوى النسخة الأخيرة، على نحو ما يلقانا عند أبى عمرو المطرز، فإنه أملى فى سنة 326 كتابه الياقوت فى اللغة، ثم رأى الزيادة فيه فأملاه على تلاميذه ثانية سنة 329، ثم رأى أن يضيف إليه بعض إضافات، فجمع نسخه وعارضها بعضها على بعض سنة 332 وجعل هذه العرضة الصورة النهائية للكتاب وأهدر ما سواها من الصور السابقة (3).
وكان من أهم ما عمل على إشعال الجذوة العلمية وإمدادها بوقود جزل لا ينفد مناظرات العلماء فى المساجد وقصور الخلفاء والوزراء فى الكلام وفى الفقه وفى اللغة والنحو وغير ذلك من العلوم التى كان يشتد فيها الخلاف والجدل. وكان الشباب يختلف فى المساجد إلى هذه المناظرات، ليتعلم قرع الحجة بالحجة وغلبة الخصم بالحق وبالباطل أحيانا، وتفيض كتب المتكلمين بأخبار هذه المناظرات وكذلك كتب الفقهاء واللغويين والنحاة وكثيرا ما أثيرت فى أثناء هذه المحاورات بعض القضايا والمسائل كقضية العشق فى مجلس المنتصر (4) وأنواع اللهو والملاهى فى مجلس المعتمد (5).
(1) انظر فى أقدم هذه الإجازات كتابنا البحث الأدبى ص 157.
(2)
? ? ? .
(3)
الفهرست ص 119
(4)
مروج الذهب 4/ 55
(5)
مروج الذهب 4/ 131
وكان استخدام الورق فى الكتابة وتصنيف الكتب استخداما عاما منذ عصر الرشيد عاملا مهمّا فى ازدهار الحركة العلمية حينئذ، فقد كانوا يكتبون قبل عصره غالبا فى الجلود والقراطيس المصنوعة بمصر من ورق البردى وكانوا يكتبون فى ورق الكاغد المستورد من الصبن وكان مرتفع الثمن جدّا، فنقلوا صناعته إلى بغداد فى عصر الرشيد، إذ أنشأ الفضل بن يحيى البرمكى وزيره مصنعا للورق، فرخص ثمنه، وانتشرت الكتابة فيه لخفته، وسرعان ما كثرت الكتب والمصنفات، كما كثر الورّاقون الذين يعيشون من نسخها، وأنشأ كثيرون منهم دكاكين للتجارة فيها، واختلف إليها الشباب والعلماء لا لشراء الكتب والمؤلفات فحسب، بل ليقرءوا فيها وينهلوا من مصنفاتها، وكانوا يكترونها لذلك ويبيتون فيها يقرءون على المصابيح ويقيّدون أو ينسخون ما يشاءون من الأفكار والصحف والرسائل. وعمل ذلك على نهضة الحركة العلمية نهضة واسعة، إذ أصبحت الكتب والمصنفات تحت أعين الطلاب والشباب وبأيديهم، يتزودون منها كما يريدون أزوادا كانت أيسر وأسهل من التلقى عن الشيوخ والعلماء فى المساجد، إذ كانت تجمع لهم مسائل العلم الذى يريدونه وأصوله وفروعه، ويصور ذلك الجاحظ مقارنا بين من يطلب الفقه عن طريق الاختلاف إلى حلقات العلماء ومن يطلبه عن طريق الكتب ودكاكين الوراقين، يقول: «وقد تجد الرجل يطلب الآثار (الحديث) وتأويل القرآن ويجالس الفقهاء خمسين عامّا، وهو لا يعدّ فقيها ولا يجعل قاضيا.
فما هو إلا أن ينظر فى كتب أبى حنيفة وأشباه أبى حنيفة ويحفظ كتاب الشروط فى مقدار سنة أو سنتين حتى تمر ببابه فتظن أنه من بعض العمال، وبالحرى ألا يمر عليه من الأيام إلا اليسير حتى يصير حاكما (قاضيا) على مصر من الأمصار أو بلد من البلدان» (1). ولرواج هذه التجارة حينئذ اتخذ كثير من العلماء المحاضرين بالمساجد ورّاقين يقيّدون إملاءاتهم ويذيعونها فى الناس، ويذكر ابن النديم ورّاقى المبرد إسماعيل ابن أحمد الزجاجى وإبراهيم بن محمد الساسى (2)، ويذكر ياقوت من وراقى الجاحظ زكريا (3) بن يحيى، ومن حين إلى آخر تلقانا أسماء هؤلاء الوراقين فى تراجم العلماء وأخبارهم.
(1) الحيوان للجاحظ (طبعة الحلبى) 1/ 87.
(2)
الفهرست ص 95.
(3)
معجم الأدباء 16/ 106.
وبجانب الوراقين ودكاكينهم التى كانت تحلّ حينئذ محل دور النشر والطباعة كانت هناك مكتبات يختلف إليها الناس والشباب فى كل مكان، ويشيد أبو معشر البلخى المتوفى سنة 272 بعناية ملوك الفرس بالمكتبات وما كان بها من كتب مودعة أصناف علوم الأوائل (1)، وقد ذكرنا فى كتاب العصر العباسى الأول خزانة الحكمة التى شادها ببغداد هرون الرشيد، وأقام عليها يوحنا بن ماسويه لترجمة الكتب الطبية القديمة، وكيف تحوّل بها المأمون إلى ما يشبه معهدا علميّا كبيرا إذ ألحق بها مرصدا ضخما، ووظّف بها كثيرين للترجمة. وقد تأسست مكتبات كثيرة فى العصر، منها ما كان عامّا، ومنها ما كان خاصّا، أما العام فعلى رأسه مكتبات المساجد، إذ كان كثير من العلماء يقفون كتبهم عليها ليفيد منها الطلاب، وقلّدهم فى ذلك السّراة. وعنى بعض المثقفين والعلماء ببناء مكتبات عامة يتزود منها الناس أزوادا علمية مختلفة، ومن أشهرها حينئذ مكتبة على بن يحيى المنجم نديم الخلفاء من زمن المتوكل إلى زمن المعتمد وكان أديبا مثقفا ثقافة واسعة كما كان شاعرا، وكانت له ضيعة نفيسة بنى فيها قصرا جليلا جعله خزانة كتب عظيمة وسماه خزانة الحكمة متشاكلة لخزانة الرشيد والمأمون، وكان الناس يؤمونها من كل بلد، فيقيمون فيها ويعكفون على المصنفات العلمية دارسين، والكتب مبذولة لهم، والنفقة مشتملة عليهم من مال على بن يحيى، فقدم عليها أبو معشر من خراسان يريد الحج، وهو إذ ذاك لا يحسن شيئا ذا بال من النجوم، فلما رآها هاله أمرها، فأقام بها وأضرب عن الحج، وتعلم فيها علم النجوم وتعمق فيه حتى ألحد كما يقول ياقوت، وحتى كان ذلك آخر عهده بالحج وبالدين والإسلام أيضا (2)، ويذكر ياقوت أن جعفر بن محمد بن حمدان الموصلى الشافعى-من أدباء العصر وعلمائه- أسس مكتبة ملأها بكتب من جميع العلوم والفنون، وقفها على كل طالب للعلم، وكان لا يمنع أحدا من دخولها، فهى مفتوحة للجميع، وإذا ألمّ بها معسر أو بائس فقير صرف له ورق للكتابة فيه وفضة أو دراهم لمعاشه. وكانت تفتح فى كل يوم، وكان ابن حمدان يجلس فى بعض غرفها، ويحاضر قاصديها ممليا عليهم من أشعاره وأشعار غيره وحكايات مستطرفة وشذورا من الفقه وما يتعلق به (3). ولا يكاد يكون
(1) الفهرست ص 348
(2)
معجم الأدباء 15/ 157
(3)
معجم الأدباء 7/ 191
هناك عالم أو أريب نابه أو سرىّ إلا وله مكتبة خاصة تموج بالكتب، وكانوا يوظفون لها بعض الوراقين كما كانوا يجلدونها (1) ويتفننون فى العناية بكتابتها وتجليدها، وكان المانوية شديدى الاهتمام بزخرفة كتبهم (2) يريدون أن يجعلوها تحفا فنية استمالة للقراء. ويتوقف الجاحظ فى كتابه «الحيوان» ليعجب من مكتبة إسحق بن سليمان العباسى وما كانت تزخر به من الكتب والأسفاط والرقوق والقماطر والدفاتر والمساطر والمحابر (3)، وكانت لابن حنبل مكتبة قدّرت كتبها باثنى عشر حملا وعدلا (4)، أما الفتح بن خاقان وزير المتوكل المتوفى سنة 248 فكانت له خزانة كتب جمعها له على بن يحيى المنجم لم ير أعظم منها كثرة وحسنا، وكان يحضر مجلسه فصحاء الأعراب وعلماء البصرة والكوفة (5)، وكانت لثعلب مكتبة حافلة، قوّم خيران الورّاق ما يساوى عشرة دنانير منها بثلاثة، ومع ذلك بلغ ثمنها ثلثمائة دينار (6)، وكذلك كانت لأبى بكر محمد بن القاسم الأنبارى مكتبة كبيرة، وسأله بعض أصحابه كم يحفظ منها؟ قال: ثلاثة عشر صندوقا (7). ونسوق خبرا يدل على عظم المكتبات الخاصة عند بعض الأفراد، فقد روى الرواة أن أبا عمر غلام ثعلب كان يؤدّب ولد القاضى أبى عمر محمد بن يوسف فأملى عليه ثلاثين مسألة بشواهدها من كلام العرب واستشهد فى تضاعيفها ببيتين غريبين جدّا، فعرضهما القاضى أبو عمر على ابن دريد وابن الأنبارى وابن مقسم فلم يعرفوهما ولا عرفوا غالب ما استشهد به من أبيات: وقال ابن دريد: هذا مما وضعه أبو عمر من عنده. فلما جاء أبو عمر ذكر له القاضى ما قال ابن دريد. فطلب من القاضى أن يحضر له ما فى داره من دواوين العرب، فلم يزل يأتيه منها بشاهد لما ذكره بعد شاهد، حتى خرج من الثلاثين مسألة وشواهدها، ثم قال للقاضى: وأما البيتان فإن ثعلبا أنشدناهما وأنت حاضر فكتبتهما فى دفترك فطلب القاضى دفتره، فإذا هما فيه (8) وتلك مكتبة قاض كان بها جميع دواوين العرب، ولو لم تحدث هذه القصة لما عرفنا شيئا
(1) رسائل الجاحظ (طبع مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر) ص 74.
(2)
الحيوان 1/ 55.
(3)
الحيوان 1/ 60.
(4)
السبكى 2/ 27.
(5)
معجم الأدباء 16/ 174.
(6)
إنباه الرواة 1/ 148.
(7)
معجم الأدباء 18/ 307.
(8)
السبكى 3/ 191.
عنها، فما بالنا بمكتبات المؤلفين العظام فى العصر، وكثير منهم ألّف مكتبة ضخمة فلو لم يكن له سوى مؤلفاته لكانت لديه منها خزانة كتب حافلة، ويكفى أن نذكر مثلا الجاحظ وقد خلف من الكتب العظام وعشرات الرسائل ما يؤلف مكتبة كبيرة. ومما لا ريب فيه أن مكتبته كانت تحتوى المصنفات التى جمع منها المادة اللغوية والأدبية والكلامية لكتبه. ونذكر بجانبه الطبرى، وقد أحصى بعض تلاميذه الأوراق التى كتبها وألّف منها كتبه، فقال إنه مكث أربعين سنة يكتب فى كل يوم أربعين ورقة، وحسب آخرون أوراق كتبه من يوم ولد إلى أن مات فوجدوه كتب كل يوم أربع عشرة ورقة (1).
ويحسّ كل من يتعقب الحركة العلمية فى العصر كأن سباقا نشب بين العلماء والعلم، فهم يجدّون فى طلبه وتحصيله وهم يصارعونه صراعا متصلا يريدون أن يذللوه ويقهروه فى جميع الميادين. وهو صراع كان يداخله شغف شديد به، كما كان يداخله إيمان بأنه لن يخضع لهم إلا إذا تجرّدوا له وتوفّروا عليه وأمصوا فيه بياض النهار وسواد الليل فى غير كلل ولا ملل، بل فى حب لا يفوقه حب، ويحدثنا الرواة عن كثيرين عشقوا الكتب أو بعبارة أخرى العلم عشقا لا يشبهه عشق، ويقول أبو هفان: «لم أر قط ولا سمعت من أحبّ الكتب أكثر من ثلاثة:
الجاحظ فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنا ما كان حتى إنه كان يكترى دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر، والفتح بن خاقان فإنه كان يحضر لمجالسة المتوكل، فإذا أراد القيام لحاجة أخرج كتابا من كمه أو خفّه وقرأه فى مجلس المتوكل إلى حين عوده إليه، وإسماعيل بن إسحق القاضى فإنى ما دخلت إليه إلا رأيته ينظر فى كتاب أو يقلب كتبا أو ينفضها (2)».
وهذا الشغف العلمى الشديد هو الذى دفع العلماء إلى الرحلة من بلد بعيد إلى بلد بعيد طلبا للعلم، مهما تجشموا فى ذلك من مشاق، فكان اللغويون يرحلون إلى البوادى محتملين ما فيها من شظف العيش وخشونته فى سبيل جمع اللغة، وكان الفقهاء يرحلون بدورهم للتتلمذ على أئمتهم، ومثلهم العلماء المختلفون فى كل فرع من فروع العلم، ومن خير ما يصور ذلك ما رواه ياقوت عن أبى زيد البلخىّ أحمد
(1) السبكى 3/ 122 وما بعدها
(2)
معجم الأدباء 16/ 75
ابن سهل من أن نفسه دعته وهو فى عنفوان شبابه إلى أن يرحل عن بلخ ويدخل أرض العراق ويجثو بين أيدى العلماء ويقتبس منهم العلوم، فتوجّه إليها راحلا مع الحاج وأقام بها ثمانى سنوات، فطوّف البلاد المتاخمة لها، ولقى الكبار والأعيان وتتلمذ لأبى يوسف يعقوب بن إسحق الكندى، وحصّل من عنده علوما جمّة، وتعمّق فى علم الفلسفة، وهجم على أسرار علم التنجيم والهيئة، وبرّز فى علوم الطب والطبائع وبحث فى أصول الدين (1)». وأكبر من شغفوا بالرحلة فى العصر المحدّثون، لأن الصحابة كانوا قد نزلوا فى أمصار العالم الإسلامى من إيران إلى المغرب، وكانوا يروون أحاديث كثيرة عن الرسول حملها عنهم تلاميذهم من التابعين ومن جاءوا بعدهم، فكان فى كل مصر أحاديث لا تعرفها الأمصار الأخرى، فرحل مصنفو الحديث وحفّاظه فى طلبها من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ورحلة البخارى من خراسان إلى مدن إيران والعراق والحجاز والشام ومصر مشهورة، ومثله بقية المحدثين الذين جمعوا متفرقات الأحاديث فى العالم الإسلامى. وسنرى الرحلة تشيع بين المترجمين إلى بلاد الروم، كما سنراها تشيع بين الجغرافيين ليصفوا ما شاهدوه بأعينهم، وكذلك سنراها تشيع بين المؤرخين من أمثال المسعودى.
ويبدو أن الشغف المفرط بالعلم لم يكن مقصورا على الطبقات الخاصة من العلماء ومن يبتغون من الطلاب أن يكونوا على شاكلة أساتذتهم المتخصصين، بل كان حظّا مشتركا بين الطبقات العامة، إذ كان العلم مطروحا فى المساجد مباحا للجميع، وكذلك فى المكتبات العامة، ولم يكن هناك كتاب طريف إلا وتعرضه دكاكين الوراقين. ويدل على ذلك أكبر الدلالة أن من يرجع إلى تراجم العلماء سيجد كثرتهم الغامرة من الطبقة العامة، وتصور ذلك ألقابهم من مثل الحدّاد والخزّاز والقواريرى والتمّار والقوّاس والنبّال والقلاّل والعطار والمطرّز. وأبعد من ذلك وأعمق أن نجد الجاحظ فى رسالته «الرد على النصارى» يشكو من مناقشة العامة للملحدين والزنادقة فى آرائهم الضالة، لعدم معرفتهم الدقيقة بتلك الآراء وما يفندها من الأدلة الساطعة، حتى ليقول:«ومن البلاء أن كل إنسان من المسلمين يرى أنه متكلم وأنه ليس أحد أحق بمحاجة الملحدين من أحد» ، وكأن كل
(1) معجم الأدباء 3/ 72
فرد من أفراد العامة لعصره كان يظن نفسه نال حظا أو حظوظا من مناهج المتكلمين فى جدال أصحاب الملل والنحل الضالة. وظاهرة ثانية تدل على مدى تغلغل الثقافة بين جميع أفراد الأمة بلا استثناء، إذ نرى من النساء من يختلفن إلى حلقات المتكلمين (1) والفقهاء وغيرهم، ويبدو أنه برّزت حينئذ فى الثقافة الدينية غير امرأة حتى لنرى-كما مر بنا-قهرمانة لأم المقتدر، هى ثمل، تجلس فى سنة 306 لسماع المظالم والحكم بين المتظالمين ويجلس معها القضاة والعلماء، واختلف الفقهاء حينئذ فى جواز ولاية المرأة للقضاء، وأجاز ذلك الطبرى (2)، وهى فتوى تدل على ما بلغته المرأة من التعمق فى الفقه وعلوم الشريعة لهذا العصر، ولابن بسام المتوفى سنة 303 أبيات يقول فيها (3):
ما للنساء وللكتا
…
بة والعمالة والخطابه
وقد يدل البيت على أن من النساء حينئذ من كنّ يطالبن بمساواة المرأة بالرجل فى الوظائف المهمة مثل كتابة الدواوين وولاية الأقاليم والخطابة فى المحافل العظام.
ولم تكن هذه الجوانب وحدها ثمار اشتراك الطبقة الشعبية العامة فى العلم والثقافة، فقد كانت هناك ثمرة مهمة غاية الأهمية، هى محاولة أن يصبح العلم شعبيّا بحيث لا يعلو على أفهام العامة، وبحيث يصل إليهم من أسهل الطرق وأيسرها، ويتضح ذلك عند الجاحظ فى كتابه «البيان والتبيين» و «الحيوان» وعند ابن قتيبة فى كتابه «عيون الأخبار» . ومرّ بنا أن الجاحظ أراد بكتابه «البيان والتبيين» أن يردّ على الشعوبية ردا مفحما ببيان ما تحمل الثقافة العربية فى الخطابة والشعر والأمثال من قيم بلاغية رائعة، ونضيف هنا أنه أراد أن يذلل هذه الثقافة بعرضها فى أسلوب عصرى يقرّبها من أفهام العامة بحيث تسيغها بدون أى عسر أو مشقة. وبون بعيد بين عرض هذه الثقافة عند اللغويين من أمثال الأصمعى وأبى عبيدة وأبى زيد وعرضها عند الجاحظ فى البيان والتبيين، فهى عند الأولين جافة جفافا شديدا ولا يستطيع غير المتخصصين فهمها والفقه بمسائلها العويصة، أما فى البيان والتبيين فعذبة سائغة لا للطبقة الوسطى من المثقفين فقط، بل أيضا للطبقة الشعبية الدنيا. وبالمثل عرضه
(1) انظر ترجمة الأشعرى فى ابن خلكان.
(2)
الأحكام السلطانية للماوردى ص 107.
(3)
صح الأعشى (طبعة دار الكتب المصرية) 1/ 64.