الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قِصَّةُ النَّجَاشِيُّ
«مِنَ السِّيرَةِ» ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا قَالُوا: إِنَّ ثَأْرَنَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ. فَانْتُدِبَ إِلَيْهَا عمرو بن العاص، و [عبد الله][1] بن أبي ربيعة.
[24 أ] قَالَ الزُّهْرِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ مَخْرَجَهُمَا كَانَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ.
فَلَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَخْرَجُهُمَا، بَعَثَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ بِكِتَابِهِ إِلَى النَّجَاشِيِّ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمسَيِّبِ وَغَيْرُهُ: فَبَعَثَ الْكُفَّارُ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ لِلنَّجَاشِيِّ، وَلِعُظَمَاءِ الْحَبَشَةِ هَدَايَا. فَلَمَّا قَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ قَبِلَ الْهَدَايَا، وَأَجْلَسَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى سَرِيرِهِ. فَكَلَّمَ النَّجَاشِيَّ فَقَالَ: إِنَّ بِأَرْضِكَ رِجَالًا مِنَّا لَيْسُوا عَلَى دِينِكَ وَلَا عَلَى دِينِنَا، فَادْفَعْهُمْ إِلَيْنَا.
فَقَالَ عُظَمَاءُ الْحَبَشَةِ: صَدَقَ، فَادْفَعْهُمْ إليه. فقال: حتى أكلّمهم.
فقال الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، رضي الله عنهما قَالَتْ:
[1] زيادة من ع، ح، ومن سيرة ابن هشام 2/ 86.
نَزَلْنَا الْحَبَشَةَ، فَجَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ، النَّجَاشِيَّ. أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا وَعَبَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى، لَا نُؤْذَى وَلَا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ مَعَ رَجُلَيْنِ بِمَا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَكَّةَ. وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا: الْأُدْمُ، فَجَمَعُوا لَهُ أُدْمًا كَثِيرًا. وَلَمْ يَتْرُكُوا بِطْرِيقًا [1] عِنْدَهُ إِلَّا أَهْدَوْا لَهُ. وَبَعَثُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَقَالُوا:
ادْفَعَا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَديَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ. فَقَدِمَا، وَقَالَا لِكُلِّ بِطْرِيقٍ: إِنَّهُ قَدْ ضَوَى [2] إِلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، خَالَفُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ. وَقَدْ بَعَثَنَا أَشْرَافَنَا إِلَى الْمَلِكِ لِيَرُدَّهُمْ، فَإِذَا كَلَّمْنَاهُ فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَهُمْ إِلَيْنَا. فَقَالُوا: نَعَمْ.
ثُمَّ قَرَّبَا هَدَايَاهُمَا إِلَى النَّجَاشِيِّ فَقَبِلَهَا، فَكَلَّمَاهُ. فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ:
صَدَقَا أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَوْمُهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عليهم. فغضب النّجاشيّ، ثم قال: لا ها اللَّهِ أَبَدًا، لَا أُرْسِلُهُمْ إِلَيْهِمْ. قَوْمٌ جَاوَرُونِي وَنَزَلُوا بِلَادِي، وَاخْتَارُونِي عَلَى سِوَاي. حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلُهُمْ عَمَّا تَقُولُونَ.
ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فلما جَاءَ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا تَقُولُونَ [لِلرَّجُلِ][3] إِذَا جِئْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاللَّهِ مَا علَّمَنَا اللَّهُ، وَأَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا، كَائِنٌ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ. فَلَمَّا جَاءُوهُ وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ، وَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ، سَأَلَهُمْ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ، وَلَمْ تَدْخُلُوا بِهِ فِي دِينِي وَلَا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنَ الْمِلَلِ [4] .
قَالَتْ: فَكَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ: كُنَّا قوما أهل
[1] البطريق: القائد من قواد الروم.
[2]
ضوى: لجأ وأوى.
[3]
إضافة عن سيرة ابن هشام 2/ 87.
[4]
في الأصل، ح:(الملك) تصحيف، تصويبه من ع.
جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيءُ إِلَى الْجَارِ وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ. كُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَا إِلَى اللَّهِ لِنَعْبُدَهُ وَنُوحِّدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا، مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ. وَعَدَّ أُمُورَ الْإِسْلَامِ. قَالَ: فَصَدَّقْنَاهُ وَاتَّبَعْنَاهُ. فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ ديننا، [24 ب] خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ، وَآثَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ فَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ: وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ.
قَالَ: فَهَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِمَّا جَاءَ به عَنِ اللَّهِ؟ قَالَ جَعْفَرٌ: نَعَمْ. فَقَرَأَ:
كهيعص 19: 1 [1] قَالَتْ: فَبَكَى النَّجَاشِيُّ وَأَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، حِينَ سَمِعُوا الْقُرْآنَ.
فَقَالَ النَّجَاشِيُّ [2] : إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ واحدة. انطلقا، فو الله لَا أُسَلِّمُهُمْ إِلَيْكُمَا أَبَدًا.
قَالَتْ: فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: وَاللَّهِ لَآتِيَنَّهُ غَدًا بِمَا أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ. فَقَالَ ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا:
لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ لَهُمْ أَرْحَامًا، وَإِنْ كَانُوا قد خالفونا. قال: فو الله لأخبرنّه أنّهم يزعمون أنّ عيسى عبد.
[1] سورة مريم: الآية الأولى.
[2]
في طبعة القدسي 111 (للنجاشي) وهو خطأ.
قَالَتْ: ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى قَوْلًا عَظِيمًا. فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا لِيَسْأَلَنَا. قَالَتْ: وَلَمْ يَنْزِلْ [بِنَا][1] مِثْلَهَا.
فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى؟
فَقَالَ جَعْفَرٌ: نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ.
فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا، وَقَالَ: مَا عَدَا عِيسَى بن مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْمِقْدَارَ.
قَالَ: فَتَنَاخَرَتْ [2] بَطَارِقَتُهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ، فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللَّهِ.
ثُمَّ قَالَ لِجَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ: اذْهَبُوا آمِنِينَ. مَا أَحَبُّ أَنَّ لِي دُبُرِ [3] ذَهَبٍ، وَأَنِّي آذَيْتُ وَاحِدًا مِنْكُمْ- وَالدُّبُرُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: الْجَبَلُ- فَرُدُّوا عَلَيْهِمَا هَدِيَّتَهُمَا، فَلَا حَاجَةَ لَنَا فيها. فو الله مَا أَخَذَ اللَّهُ فِيَّ الرِّشْوَةَ فَآخُذُ الرِّشْوَةَ فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه.
فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به.
قالت: فو الله إِنَّا لَعَلَى ذَلِكَ، إِذْ نَزَلَ بِهِ رَجُلٌ من الحبشة ينازعه في
[1] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ح، ع.
[2]
النخر: مدّ الصوت والنفس في الخياشيم، وقد يكون بمعنى الكلام، قالا في اللسان والتاج:
جاء في حديث النّجاشيّ لما دخل عليه عمرو والوفد معه، قال لهم: نخروا أي تكلّموا. قال ابن الأثير كذا فسّر في الحديث، ولعلّه إن كان عربيا مأخوذ من النّخر أي الصوت. وزاد في اللسان: وفي الحديث أيضا تناخرت بطارقته أي تكلمت: وكأنه كلام مع غضب ونفور (انظر تاج العروس 14/ 191) .
[3]
في الأصل، ع:(دير- الدير) بالياء في الموضعين والتصحيح من ح. ولم ترد الكلمة في «المعرب» للجواليقي و «شفاء الغليل» للخفاجي، وأوردها الزبيدي في التاج (دبر) . وفي سيرة ابن هشام 2/ 88 «دبرا من ذهب» ، وحديث النجاشي في تاج العروس 11/ 254 كما في السيرة.
ملكه، فو الله مَا عَلِمْنَا حُزنًا قَطُّ، أَشَدَّ مِنْ حُزْنٍ حَزِنَّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ، تَخَوُّفًا أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقَّنَا.
فَسَارَ إِلَيْهِ النَّجَاشِيُّ، وَبَيْنَهُمَا عَرْضُ النِّيلِ.
فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ يَخْرُجُ حَتَّى يَحْضُرَ الْوَقْعَةَ وَيُخْبِرَنَا؟
فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ: أَنَا أَخْرُجُ. وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ الْقَوْمِ سِنًّا. فَنَفَخُوا لَهُ قُرْبَةً فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ، وَسَبَحَ عَلَيْهَا إِلَى النَّاحِيَةِ الَّتِي فِيهَا الْوَقْعَةُ. وَدَعَوْنَا الله للنّجاشيّ. فو الله إِنَّا لَعَلَى ذَلِكَ، مُتَوِقِّعُونَ لِمَا هُوَ كَائِنٌ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا الزُّبَيْرُ يَسْعَى وَيُلَوِّحُ بِثَوْبِهِ. أَلَا أَبْشِرُوا، فَقَدْ ظَهَرَ النَّجَاشِيُّ، وَأَهْلَكَ اللَّهُ عدوّه. فو الله مَا عَلِمُنا فَرْحَةً مِثْلَهَا قَطُّ.
وَرَجَعَ النَّجَاشِيُّ سَالِمًا، وَأَهْلَكَ اللَّهُ عَدُوَّهُ. وَاسْتَوْثَقَ لَهُ أَمْرُ الْحَبَشَةِ.
فَكُنَّا عِنْدَهُ فِي خَيْرِ مَنْزِلٍ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ.
خَرَّجَهُ د [1] مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
وَهَؤُلاءِ قَدِمُوا مَكَّةَ، ثُمَّ هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ. وَبَقِيَ جَعْفَرٌ وَطَائِفَةٌ بِالْحَبَشَةِ إِلَى عَامِ خَيْبَرَ.
وَقَدْ قِيلَ إِنَّ إِرْسَالَ قُرَيْشٍ إِلَى النَّجَاشِيِّ كَانَ مَرَّتَيْنِ. وَأَنَّ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ كَانَ مَعَ عَمْرٍو، عِمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيُّ أَخُو خَالِدٍ.
ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَيْضًا. وَذَكَر مَا دَارَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مع عمارة ابن الوليد من رميه إيّاه [25 أ] فِي الْبَحْرِ، وَسَعَى عَمْرٌو بِهِ إِلَى النَّجَاشِيِّ فِي وُصُولِهِ إِلَى بَعْضِ حَرَمِهِ أَوْ خَدَمِهِ. وَأَنَّهُ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي ظُهُورِ طِيبِ الْمَلِكِ
[1] كذا في النسخ الثلاث، ولم نجده في سنن أبي داود، وأخرجه أحمد في مسندة (5/ 290) . والخبر بطوله في سيرة ابن هشام 2/ 86- 89.
عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْمَلِكَ دَعَا سَحَرَةً فَسَحَرُوهُ وَنَفَخُوا فِي إِحْلِيلِهِ. فَتَبَرَّرَ [1] وَلَزِمَ الْبَرِّيَّةَ، وَهَامَ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَوْضِعٍ رَامٍ أَهْلُهُ أَخَذَهُ فِيهِ، فَلَمَّا قَرُبُوا مِنْهُ فَاضَتْ [2] نَفْسُهُ وَمَاتَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [3]، قَالَ الزُّهْرِيُّ: حدّثْتُ عُرْوةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدِيثَ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا قَوْلُهُ: مَا أَخَذَ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فَأُطِيعُهُمْ فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا.
قَالَ: فَإِنَّ عَائِشَةَ حدّثتني أنّ أباه كان ملك قومه، [و] لم يكن له ولد إلا النجاشي. وكان للنجاشي عَمٌّ، لَهُ مِنْ صُلْبِهِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ مَمْلَكَةِ الْحَبَشَةِ. فَقَالَتِ [الْحَبَشَةُ [4]] : لَوْ أَنَّا قَتَلْنَا أَبَا النَّجَاشِيِّ وَمَلَّكْنَا أَخَاهُ لَتَوَارَثَ بَنُوهُ مُلْكَهُ بَعْدَهُ، وَلَبَقِيَتِ الْحَبَشَةُ دَهْرًا. قَالَتْ: فَقَتَلُوهُ وَمَلَّكُوا أَخَاهُ. فَنَشَأَ النَّجَاشِيُّ مَعَ عَمِّهِ. وَكَانَ لَبِيبًا حَازِمًا، فَغَلَبَ عَلَى أَمْرِ عَمِّهِ.
فَلَمَّا رَأَتِ الْحَبَشَةُ ذَلِكَ قَالَتْ: إِنَّا نَتَخَوَّفُ أَنْ يُمَلِّكَهُ بَعْدَهُ، وَلَئِنْ مُلِّكَ لَيَقْتُلَنَّا بِأَبِيهِ. فَمَشَوْا إِلَى عَمِّهِ فَقَالُوا: إِمَّا أَنْ تَقْتُلَ هَذَا الْفَتَى، وَإِمَّا أَنْ تُخْرِجَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا. فَقَالَ: وَيْلَكُمْ! قَتَلْتُ أَبَاهُ بِالْأَمْسِ، وَأَقْتُلُهُ الْيَوْمَ؟ بَلْ أُخْرِجُهُ.
قَالَ: فَخَرَجُوا بِهِ فَبَاعُوهُ مِنْ تَاجِرٍ بِسِتِّمِائَةِ [5] دِرْهَمٍ. فَانْطَلَقَ بِهِ فِي سَفِينَةٍ.
فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ، هَاجَتْ سَحَابَةٌ مِنْ سَحَائِبِ الْخَرِيفِ، فَخَرَجَ عَمُّهُ يَسْتَمْطِرُ تَحْتَهَا فَأَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ فَقَتَلَتْهُ. فَفَزِعَتِ الْحَبَشَةُ إِلَى وَلَدِهِ، فإذا هو محمق [6]
[1] التبرّر: الطاعة. يقال: فلان يبر خالقه ويتبرّره، أي يطيعه، وهو مجاز، (تاج العروس 10/ 152) .
[2]
وفي نسخة شعيرة «قاصب» من قصبه يقصبه بمعنى قطع (160) .
[3]
سيرة ابن هشام 2/ 89.
[4]
سقطت من الأصل، وزدناها من ع، ح. وفي السيرة (فقالت الحبشة بينهما) .
[5]
في السيرة 2/ 89 «بمائة درهم» .
[6]
المحمق: من الرجال، كالمحمقة من النّساء، من خرج نسله حمقى.
لَيْسَ فِي وَلَدِهِ خَيْرٌ. فَمَرَجَ عَلَى الْحَبَشَةِ أَمْرَهُمْ [1] وَضَاقَ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعَلَّمُوا، وَاللَّهِ، إِنَّ مَلِكَكُمُ الَّذِي لَا يُقِيمُ أَمْرَكُمْ غَيْرُهُ لَلَّذِي بِعْتُمْ. قَالَ: فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ وَطَلَبِ الَّذِي بَاعُوهُ مِنْهُ، حَتَّى أَدْرَكُوهُ فَأَخَذُوهُ مِنْهُ. ثُمَّ جَاءُوا بِهِ فَعَقَدُوا عَلَيْهِ التَّاجَ وَأَجْلَسُوهُ عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ.
فَجَاءَ التَّاجِرُ فَقَالَ: إِمَّا أَنْ تُعْطُونِي مَالِي وَإِمَّا أَنْ أُكَلِّمَهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالُوا: لَا نُعْطِيكَ شَيْئًا. قَالَ: إِذَنْ وَاللَّهِ أُكَلِّمُهُ. قَالُوا: فَدُونَكَ. فَجَاءَهُ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، ابْتَعْتُ غُلَامًا مِنْ قَوْمٍ بِالسُّوقِ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ، حَتَّى إِذَا سِرْتُ بِهِ أَدْرَكُونِي، فَأَخَذُوهُ وَمَنَعُونِي دَرَاهِمِي. فَقَالَ النَّجَاشِيُّ:
لَتُعْطِنَّهُ غُلَامَهُ أَوْ دَرَاهِمَهُ. قَالُوا [2] : بَلْ نُعْطِيهِ دَرَاهِمَهُ.
قَالَتْ: فَلِذَلِكَ يَقُولُ: مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّي رِشْوَةً حِينَ رَدَّ عَلِيَّ مُلْكِي، فَآخُذُ الرِّشْوَةَ فِيهِ.
وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا خُبِرَ مِنْ صَلَابَتِهِ فِي دِينِهِ وَعَدْلِهِ [3] .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يَزَالُ عَلَى قَبْرِهِ نُورٌ.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: اجْتَمَعَتِ الْحَبَشَةُ فَقَالُوا لِلنَّجَاشِيِّ: إِنَّكَ فَارَقْتَ دِينَنَا. وَخَرَجُوا عَلَيْهِ. فَأَرْسَلَ إِلَى جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ.
فَهَيَّأَ لَهُمْ سُفُنًا، وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا، وَكُونُوا كَمَا أَنْتُمْ، فَإِنْ هُزِمْتُ فَامْضُوا حَتَّى تَلْحَقُوا بِحَيْثُ شِئْتُمْ، وَإِنْ ظَفِرْتُ فَاثْبُتُوا. ثُمَّ عَمِدَ إِلَى كِتَابٍ فَكَتَبَ: هُوَ يَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله [25 ب] ، وأنّ [4] عيسى
[1] مرج عليهم الأمر: اضطرب واختلط.
[2]
في الأصل: (قال) وصحّحناها من ع، ح. ومن السيرة لابن هشام.
[3]
السيرة 2/ 90.
[4]
في ع، ح وفي السيرة: ويشهد أنّ.