الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الكتاب الثالث * في ذكر المسجد الأقصى وما يتعلق به
وفيه خمسة أبواب
الباب الأول في معنى اسمه وابتداء بنائه
* قيل: سُمِّيَ أقصى؛ لبعد المسافة بينه وبين الكعبة، وقيل: في الزمن، وقيل: لأنه لم يكن وراءه موضع عبادة، وقيل: لبعده عن الأقذار والخبائث، وقيل: هو أقصى بالنسبة إلى مسجد المدينة؛ لأنه بعيد من مكة وبيت المقدس أبعد منه (1).
والمسجد الأقصى: هو من إضافة الموصوف إلى الصفة.
وقد جوَّزه الكوفيون؛ واستشهدوا له بقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} (2).
والبصريون؛ يأوِّلونه بإضمار المكان، أي: بجانب المكان (3) الغربي ومسجد المكان الأقصى ونحو ذلك (4).
(1) انظر: "فتح الباري"(3/ 83).
(2)
"القصص"[آية: 44].
(3)
"أي بجانب المكان" مكررة في "ق".
(4)
انظر "الفتح"(3/ 83).
* أما بناؤه: فقد ثبت في "الصحيح": أن أبا ذَرٍّ قال: قلت يا رسول الله! أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال "المسجد الحرام"، قال: قلت ثم أيّ، قال:"المسجد الأقصى"، قلت: كم كان بينهما؟ قال: "أربعون سنة ثم أين ما أدركتك (1) الصلاة فصلٍّ"(2).
* قوله: "أول": هو بضم اللام، قال أبو البقاء: هي ضمة بناء لقطعه عن الإضافة، مثل: قبلُ وبعدُ، والتقدير: أول كل شيء، ويجوز الفتح مصروفًا وغير مصروف.
* قوله: "أربعون سنة": قال ابن الجوزي: فيه إشكال؛ لأن إبراهيم عليه السلام بنى الكعبة، وسليمان عليه السلام بنى بيت المقدس، وبينهما أكثر من ألف سنة. انتهى.
* قلت: مستنده في أن سليمان هو الذي بنى الأقصى؛ ما رواه النَّسائي (74/ ب) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا بإسناد صحيح: "إن سليمان عليه السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله تعالى خلالًا ثلاثًا فأعطاه اثنتين، وأرجو أن يكون أعطاه الثالثة: سأله مُلكًا لا ينبغي لأحد بعده، فأعطاه إياه. وسأله حكمًا يواطي حكمه فأعطاه إياه، وسأله من أتى هذا البيت - يريد بيت المقدس - لا يريد إلَّا الصلاة فيه أن يخرج من الذنوب كيوم ولدته أمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه الثالثة".
رواه: ابن خزيمة، وابن حبَّان في صحيحيهما، والحاكم في مُسْتَدرَكِهَ،
(1) في "ق": "أدركت".
(2)
"البخاري"(3366)، و"مسلم"(520).
وقال صحيح على شرط الشيخين ولا علَّة له (1).
* قال ابن الجوزي: وجوابه؛ أن الإشارة إلى أول البناء ووضع أساس المسجد، وليس إبراهيم أول من بنى الكعبة، ولا سليمان أول من بنى بيت المقدس.
فقد روينا: أن أول مَن بنى الكعبة: آدم عليه السلام، ثم انتشر ولده في الأرض.
فجائز؛ أن يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس، ثم بنى إبراهيم عليه السلام الكعبة بنصّ القرآن.
وكذا قال القرطبي: إن الحديث لا يدل على أن إبراهيم وسليمان عليهما السلام بنيا المسجدين ابتديا وضعهما لهما؛ بل ذلك تجديد لما كان أسسه غيرهما.
* قال ابن حَجَر: وقد مشى ابن حبان على ظاهر هذا الحديث؛ فقال: في هذا الخبر ردٌّ على من زَعَمَ أن بين إسماعيل وداود ألف سنة. وتعقّبه الحافظ الضياء بنحو ما أجاب به ابن الجوزي.
وقال الخطَّابي: يشبه أن يكون المسجد الأقصى أول ما وضع بناءه بعض أولياء الله تعالى قبل داود وسليمان، ثم بناه داود وسليمان عليهما السلام فزادا فيه ووسَّعاه، فأضيف إليهما بناؤه.
قال: وقد نُسب هذا المسجد إلى إيلياء؛ فيحتمل أن يكون هذا بانيه وغيره.
(1) النسائىِ (2/ 34)، رواه ابن خزيمة (1334)، وابن حبان (4/ 511)، والحاكم (1/ 30 - 31)، (2/ 424) وأحمد (2/ 176)، وابن ماجة (1408).
قال ابن حجر: الاحتمال الذي ذكره أولًا موجّه، وقد رأيت لغيره أن أول من أسَّس المسجد الأقصى: يعقوب عليه السلام؛ لكن الاحتمال الذي ذكره ابن الجوزي أوجه.
وقد وجدت ما يشهد له؛ فذكر ابن هشام في كتاب (75/ أ)"التيجان": أن آدم عليه السلام لما بنى الكعبة أمره الله تعالى بالمسير إلى بيت المقدس وأن يبنيه، فبناه ونسَك فيه. وبناء (1) آدم عليه السلام للبيت مشهور (2)، وقد تقدم في ذكر بناء البيت.
قال ابن حجر: وأما ظنُّ الخطَّابي أن إيلياء اسم رجل؛ ففيه نظر، بل هو اسم البلد (3)؛ فأضيف إليه المسجد كما يقال مسجد المدينة، ومسجد مكة.
* قال أبو عبيد البكري في "معجم البلدان": إيلياء (4) مدينة بيت المقدس، ولو كان ما قاله الخطَّابي منقولًا لأمكن أن يقال إنها سميت باسم بانيها كغيرها. انتهى (5).
* قلت: قد وجدت ما يشهد لصحة الأعمرة الذي ذكره الخطابي، وهو ما ذكره سعيد بن برزة بترك الإسكندرية في تاريخه المعروف عند الفقهاء الذي سماه:"نظم الجوهر" أن إيلياء اسم ملك، وأنها امرأة يسكن (المدن يهودي وأن يقتلوا ويستأصلوا وأنها تسكن المدن اليونان وبنوا بها الهياكل وأن يجعلوا فوقها ألواحًا ويكتبوا عليها اسم إيلياء الملك، والبرج اليوم على باب
(1) في "ق": "وبنى".
(2)
في "م""للبيت المشهور" وفي "ق": "البيت المشهود"، وفي "س، ع": "للبيت مشهور".
(3)
في "ق": "للبلد".
(4)
في "ق": "إن إيلياء".
(5)
انظر "الفتح"(6/ 504 - 505).
مدينة بيت المقدس ويسمى محراب داود، قال: فسمِّي بيت المقدس إلى هذا (1) الآن إيلياء).
* وروى البيهقي في "سننه" عن أبي هريرة قال: "لما أراد عمر رضي الله عنه أن يزيد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعت زيادة على دار العباس، فأراد عمر أن يدخلها في المسجد ويعوضه منها، فأبى، وقال: قطيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتملا، فجعلا بينهما أبىّ بن كعب، فأتياه في منزله. وكان يسمّى سيد المسلمين، فأمر لهما بوسادة فأُلقِيت لهما فجلسا عليها بين يديه، فذكر عمر ما أراد، وذكر العباس قطيعة رسول الله، فقال أُبَىّ: أرى الله عز وجل أمر عبده ونبيه داود عليه السلام أن يبني له بيتًا، فقال: أىْ رب، وأيْن هذا البيت؟ قال: حيث ترى الملك شاهرًا سيفه، فرآه على الصخرة. وإذا ما هناك يومئذ أنذر لغلام من بني إسرائيل فأتاه داود، فقال: إني قد أُمرت أن أبني هذا المكان بيتًا لله تعالى، فقال له الفتى: آلله أمرك أن تأخذ مني بغير رضائي؟ قال: لا. فأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: "إني قد جعلت في يدك خزائن الأرض فأرضِه"، فأتاه داود فقال: إني قد أمرت برضاك، فلك بها قنطار من ذهب، فقال:(75/ ب) قد قبلت؛ فياداود هي خير أم القنطار؟ قال: بل هي خير، قال: فأرضني! قال: فلك بها ثلاثة قناطير! قال: فلم يزل يشدد على داود حتى أخذها منه بتسع قناطير.
قال العباس: اللهم لا آخذ لها ثوابًا، وقد تصدقت بها على جماعة المسلمين، فقبلها عمر، فأدخلها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
* وروى أبو القاسم الطبراني في "المعجم الكبير" بسنده إلى رافع بن
(1)"هذا" سقطت من "ق".
(2)
"السنن الكبرى"(6/ 168).
عمير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله عز وجل لداود ابن لي بيتًا في الأرض، فبنى داود بيتًا لنفسه مثل البيت الذي أُمر، فأَوْحى الله عز وجل إليه: يا دواد نصبت بيتك مثل بيتي، قال: أي ربِّ هكذا قلتَ فيما قضيت مَنْ مَلَك اسْتأْثَرَ ثم أخذ في بناء المسجد. فلما تم السُّور سقط ثلثاه، فشكا ذلك إلى الله عز وجل، فأوحى الله تعالى إليه: إنه لا يصلح أن تبنىَ لي بيتًا. قال: أي ربّ، ولِمَ؟ قال لما خربت على يديك من الدنيا. قال: أي رب، ولم يكن ذلك في هواك ومحبتك؟ قال: بلى؛ ولكنهم عبادي وأنا أرحمهم، فشقَّ ذلك عليه. فأوحى الله تعالى إليه: إني سأقضي بناءه على يَدَىْ ابنك سليمان. فلما مات داود: أخذ سليمان في بنائه، فلما تم، قرَّبَ القرابين وذبح الذبائح، وجمع بني إسرائيل، فأوحى الله تعالى إليه: سلني أُعطِكَ! قال: أسألك ثلاث خصال:
حكمًا يصادف حكمَك.
وملكا لا ينبغي لأحد من بعدي.
ومن أتى هذا البيت لا يريد به إلَّا الصلاة فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما اثنتين (1) فقد أُعْطِيهما وأنا أرجو أن يكون قد أُعطي الثالثة"(2).
وعن كعب الأحبار: أن سليمان عليه السلام بنى بيت المقدس على أساس قديم كان أسسه سام بن نوح.
(1) في هامش "ق": كذا "اثنتين" بالنصب، فإن كان في النسخ كذا فهو منصوب على الحكاية.
(2)
الطبراني "المعجم الكبير"(5/ 24 - 25) 4477 من حديث رافع بن عمير.
وعن عطاء الخراساني، قال: بيت المقدس بنته الأنبياء. والله ما فيه موضع شبر إلا وقد سجد فيه نبي.
* * *