الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث والأربعون في ذكر عرَفة وحدودها:
* اختلفوا لِمَ سمِّىَ عرفة؛ على عشرة أقوال:
أحدها: وهو قول الضَّحاك، أن آدم عليه السلام أُهبط بالهند وحواء بجُدَّة، فتعارفا عند أرض عرفة؛ فسميت لذلك.
الثاني: وهو قول عطاء؛ لأن جبريل (42/ ب) كان يُري إبراهيم عليه السلام المناسك، فيقول: عرفْتُ؛ فسميت لذلك. رواه الإمام أحمد عنه في "منسكه"، إلا أنه قال: فسميت (1) عرفات.
الثالث: أن الناس يعترفون فيها بذنوبهم.
الرابع: وهو قول السدي: لما أذَّن إبراهيم عليه السلام في الناس بالحج، فأجابوه بالتلبية وأتاه من أتاه، أمَره اللَّه تعالى إلى عرفات، ونعتها، فخرج، فلما بلغ الشجرة، استقبل الشيطان يردُّه، فرماه بسبع حصيَّات يكبِّر مع كل حصاة، فطار، فوقع على الجمرة الثانية، فرماه وكبَّر، فطار، فوقع على الجمرة الثالثة، فرماه وكبّر، فلما رأى الشيطان أنه لا يطيعه، انطلق، فانطلق إبراهيم عليه السلام حتى أتى ذا المجاز، فلما نظر إليه لم يعرفه فجاز فسمِّي ذا المجاز، ثم انطلق حتى وقف بعرفات، فعرفها بالنعت، فسمي الوقت عرَفة. والموضع عرفات.
(1) في "ق": "سميت".
الخامس: إنه سُمِّي بذلك من العَرْف، وهو: الطِّيب.
السادس: وهو قول ابن عباس: أن إبراهيم عليه السلام رأى ليلة الترْوِيَة في منامه أنه يؤمر بذبح ابنه فلما أصبح روي يومه، أجمع، أي: فكَّر؛ أمِن اللَّه تعالى هذه الرؤيا أم من الشيطان، فسمي اليوم يوم التروية. ثم رأى ليلة عرفة ثانيها، فلما أصبح عرف أن ذلك من اللَّه تعالى، فسُمي اليوم يوم عَرَفة.
السابع: لأن الناس يتعارفون حين يلقَى بعضهم بعضًا من كل طرف وبلد بعيد.
الثامن: إنما سميت بذلك لعلوها، والعَرْف: العالي، ومنه: عَرْف الديك، ومنه: قوله تعالى: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} (1).
التاسع: أن إبراهيم عليه السلام غدا من بيت سارة، فحلفت أنه لا ينزل عن ظهر دابته حتى يرجع إليها من الغيرة. فأتى إسماعيل عليه السلام ثم رجع، فحبسته سارة ستة أشهر ثم استأذنها فأذنت له، فخرج، حتى إذا بلغ مكة وجبالها، فبات ليلة يسير حتى أذن اللَّه تعالى له في ثلث الليل فكان عند جبل عرفة. فلما أصبح عرف البلاد (43/ أ) والطريق، فجعل اللَّه عرفة حيث عرف، ذكره الثعلبي مرفوعًا من حديث يَعلَى بن الأشرف (2) عن عبد اللَّه بن جراد (3) عن النبي صلى الله عليه وسلم.
العاشر: أن الأصل في هذين الاسمين قديمًا: عرفة للزمان، وعرفات للمكان؛ من الصبر، يقال: رجل عارف؛ إذا كان صابرًا خاضعًا خاشعًا.
(1)"الأعراف"(آية: 46).
(2)
في "الإصابة"(2/ 279)"يعلي بن الأشدق".
(3)
في "م، س": "حراد"، وفي "ق":"جراد". وهو الصواب كما في "تاريخ البخاري"(5/ 35)، و"الإصابة" لابن حجر (2/ 279).
ويقال في المثل:
"النفس عروف وَلِمَا حَمَّلْتَها تحْمِلُ"
قال الشاعر:
فَصَبَرْتِ عَارِفَةً لِذَاكَ (1) حُرَّةً
…
حَتَّى إذَا نَفْسُ الجَبَانِ تَقَطَّعُ
أي: نفسًا صابرة.
وقال ذو الرمَّة: عُروفٌ لما حَطَّتْ عَلَيْهِ المَقَادِرُ.
أي: صبور على قضاء اللَّه.
فسُمِّيا بهذا الاسم؛ لخضوع الحاج وتذللهم وصبرهم على الدعاء وأنواع البلاء واحتمال الشدائد والمشاق لإقامة هذه العبادة. والعارف: الخاضع.
* وأما عرفة؛ فقال الشيخان الموفَّق والمجْد.
حدُّ عرفة: من الجبل المشرف على عرفة إلى الجبال المقابلة له إلى ما يلي حوائط بني عامر.
وقال ابن عباس: حدُّ عرفة من الجبل المشرف على بطن عرنه إلى جبال عرفة إلى وصيق إلى ملتقى وصيق ووادي عرفة.
قوله: ووادي عَرَفة: ذكره بعضهم: بالفاء، وبعضهم: بالنون، ورد رواية النون في:"تحفة الكرام بأخبار البلد الحَرَام".
* وذكر بعضهم أن لها أربعة حدود:
أحدها: ينتهي إلى جادّة طريق السَّرف.
(1) في "ق": "لذلك".
والثانى: إلى حافات الجبل الذي وراء أرض عرفات.
والثالث: إلى البساتين التي تلي قرية عرفة. وهذه القرية على يسار مستقبل الكعبة إذا وقف بأرض عرفة.
والرابع: ينتهي إلى وادي عرنة، وليس من عرفات وادي عونة.
وقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية في "شرح العمدة":
عبارة كثير من أصحابنا: أن بطن عرنة ليس من عرفات، وعبارة بعضهم تقتضي: أنه من عرفات، وإنما استْثني من الوقوف. وهذه عبارة الشيخ.
ولعل حجة هذا القول: أنه قد روي في أحاديث كثيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس في عرفات، وإنما خطب ببطن عرنه.
والعبارة الأولى: أسدّ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم (43/ ب) قال في الأحاديث الصحيحة: "عرفة كلها موقف"(1).انتهى كلام الشيخ تقي الدين.
* وقال ابن عبد البرّ:
أجمع العلماء: على أن من وقف ببطن عرنة: لا يجزيه. وحُكي عن مالك: أنه يهريق دمًا، وحجُّه تام.
* واختلفوا في نَمِرة:
فقال البغوي والنووي والزركشي والشافعي: ليست من عرفة، وقاله الشيخ تقي الدين في "شرح العمدة"، وهو ظاهَر "المحرر"؛ لأنه قال: سار إلى نمِرة فأقام بها إلى (2) الزوال، ثم يجمع بين الصلاتين إن كان ممن يجوز
(1)"مسلم"(1218) من حديث جابر رضي الله عنه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
"إلى" سقطت من "م".
له الجمع ثم يأتي عرفة، وكذا قال في "التلخيص": أقام بنَمِرة، وقيل: بعرفة.
وقال في "المغني": فيقيم بنَمِرة، وإن شاء بعرفة.
وقال الزركشي في "شرح الخرقي": نَمِرة موضع بعرفة، وهو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم على يمينك إذا خرجت عن (1) مأزمي عرفة تريد الموقف، قاله المنذري، ثم قال عن قول صاحب "التلخيص": إنه ليس بجيد، يعني: في حكايته القولين: أن نَمِرة من عرفة. وكذلك قال صفي الدين في "شرح المحرر"؛ فإنه قال: يُفهم من كلام المصنف: أن نَمِرة ليست من أرض عرفة؛ لأنه قال بعد ذلك: ثم يأتي عرفة، وليس كذلك؛ فإن نمرة منها، وهي داخلة في تحديده، وكذا قال ابن الصباغ: هي من نمرة، وهي بفتح النون وكسر الميم، قال النووي: ويجوز إسكان الميم مع فتح النون وكسرها، فتبقى فيه ثلاثة أوجه كما في نظائرها.
* * *
(1) في "ق": "عند" وفي "ع""من".