الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الكتاب الثاني * في المسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام وما يتعلق به
(1) وفيه ثمانية عشر بابًا
الباب الأول في ذكر بنائه
(56/ ب):
* قَدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، وقيل: لليلتين خلتا منه، وقيل: لهلال ربيع الأول.
قال ابن الجوزي: والأول أصح، وجزم به ابن النجار، وزاد: حين اشتدَّ الصبح. وكذا جزم به النووي في زوائده من كتاب السِيَر من "الروضة".
وقيل: قدَمها لثمان خلون من ربيع الأول.
وفي "الإكليل" عن الحاكم: تواترت الأخبار بذلك.
وقيل: لثمان عشرة، وقيل: بضع عشرة ليلة. وعند البيهقي: لاثنتين وعشرين ليلة. وعند ابن حزم: "خرجنا من مكة وقد بقي من صفر ثلاث ليالٍ" وقال البرقي: قدمها ليلًا، وقيل: قدم لثلاث عشرة ليلة مضت منه. ولما ورَّخوا من الهجرة ردوا التاريخ إلى المحرَّم؛ لأنه أول السنة.
* ولما دخل صلى الله عليه وسلم المدينة مكث بقبا ثلاث ليالٍ ثم ركب يوم الجمعة فمرّ على بني سالم فجمَّع بهم فكانت أول جمعة صلّاها بالمدينة، ثم ركب من بني
(1) في "ق": "فيه بدل به".
سالم فجعل كلما مرّ على دار من دُور الأنصار يدعونه إلى المقام عندهم يقولون: يا رسول الله هلمّ إلى القوة والمنعة، فيقول: خلُّوا سبيلها، يعني: الناقة؛ فإنها مأمورة، وقد أرخى زمامها وما يحركها وهي تنظر يمينًا وشمالًا حتى إذا أتت إلى باب مسجده، وهو يومئذ مربد للتمر لسُهَيْل وسهل ابني رافع وعمرو بن مالك بن عباد ابن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، وقيل: في حجر معاذ بن عفراء، وقيل: لأبي أيوب. ثم ثارت وهو عليها حتى بركت على باب أبي أيوب الأنصاري، ثم ثارت منه وبركت في مبركها الأول وألقت جرانها بالأرض وأرزَمَتْ.
والجران: باطن العنق، وأرزمت الناقة: صوَّتت من غير أن تفتح فاها.
فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "هذا المنزل إن شاء الله تعالى"، واحتمل أبو أيوب رحله وأدخله بيته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (57/ أ) المرء مع رحله، فمضت مثلًا.
* وذكر ابن إسحاق فى "المبتدأ" أن هذا البيت الذي لأبي أيوب بناه تبَّع الأول، واسمه: تبَّان أسعد لمَّا مرّ بالمدينة، وترك فيها أربعمائة عالم، وكتب كتابًا للنبي صلى الله عليه وسلم ودفعه إلى كبيرهم وسأله أن يدفعه للنبي صلى الله عليه وسلم، فتداول الدار الملاك إلى أن صارت لأبى أيوب وهو من ولد ذلك العالم، قال وأهل المدينة الذين نصروه من ولد أولئك العلماء، فعلى هذا: إنما نزل في منزل نفسه لا في منزل غيره.
* وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملأ بني النجار بسبب موضع المسجد، فقال:"يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا"، فقالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. وحديث إرساله صلى الله عليه وسلم إلى بني النجار في "الصحيح"(1)،
(1) رواه البخاري (2779) ومسلم (524) من حديث أنس رضي الله عنه.
وظاهره: أنهم لم يأخذوا ثمنه. وذكر محمد بن سعد في "التاريخ الكبير"، عن الواقدي، عن معمر، عن الزُّهري: أنه صلى الله عليه وسلم اشتراه من بني عفراء بعشرة دنانير ذهبًا دفعها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فهذا من مراسيل الزُّهري، ومراسيله إذا صحَّت عنه: فهي من أضعف المراسيل، فكيف إذا انفرد بها الواقدي! !
فإن صحّ هذا؛ فهو دليل: على أن الغلامين كانا قد بلغا الحُلُم.
وروي عن الحسن أنهما وهباه للنبي صلى الله عليه وسلم فقبله.
ونقل ابن عقبة: أن أسعد عوَّضهما عن مربدهما نخلًا له في بني بياضة.
وذكر بعضهم: أن أسعد مات قبل أن يُبنَى المسجد، فابتاعه النبي صلى الله عليه وسلم من وليهما.
وعن أبي معشر: اشتراه أبو أيوب منهما، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبناه مسجدًا، فكان فيه خِرَبٌ ونخلٌ وقبور المشركين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقبور فنُبِشت، وبالخِرَب فسُوِّيَتْ، وبالنخل فقُطِع، فصفوا النخل قِبْلة له، وجعلوا عضادتيه (1) حجارة.
وعمل فيه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه الشريفة ترغيبًا لهم (2)، (57/ ب) حتى نقل بعضهم عن زيد قال "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه حجر، فلقيه أُسيْد بن حضير، فقال: يا رسول الله أعطنيه، فقال اذهب فاحْتَمِل غيره فلسْتَ بأفقر إلى الله تعالى مني".
(1) عضادت الباب: الخشبتان المنصوبتان عن يمين الداخل وشماله. (اللسان مادة "عضد").
(2)
"البخاري"(428)، و"مسلم"(524).
وبناه صلى الله عليه وسلم مربعًا، وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وجعل طوله: سبعين ذراعًا في ستين أو يزيد، وذكر بعضهم أن ذرعه كان من القبلة إلى حده الشامي: أربعة وخمسين ذراعًا وثُلثَي ذراع، ومن المشرق إلى المغرب: ثلاث وستون ذراعًا، فيكون ذلك مكسَّرًا: ثلاثة آلاف وأربعمائة وأربعة وأربعين ذراعًا، وهذا محمول على بنائه في المرة الأولى. فإنه صلى الله عليه وسلم بناه مرتين - كما قال المحب بن النجار في كتابه:"الدرة الثمينة في أخبار المدينة":
المرة الأولى: حين قدم أقل من مائة في مائة، فلما فتحت خيبر بناه وزاد عليه في الدُّور مثله، وكان قد جعل له ثلاثة أبواب: بابًا في مؤخره، وباب عاتكة وهو باب الرحمة، والباب الذي كان يدخل منه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو باب عثمان.
ولما صُرفت القبلة إلى الكعبة وكان قد أقام ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا: سدَّ الباب الذي كان خلفه وفتح بابًا حذاءه، فكان المسجد له ثلاثة أبواب: باب خلفه، وباب عن يمين المصلي، وباب عن يساره. وأقام رهطًا على زوايا المسجد ليعدل القبلة حين حُوَّلت، فأتاه جبريل عليه السلام وكشف له عن الكعبة، وقال: يا رسول الله ضع القبلة وأنت تنظر، فوضع وهو ينظر إلى الكعبة لا يَحُول دون نظره شيء فلما فرغ قال جبريل عليه السلام: هكذا، فأعاد الجبال والشجر والأشياء على حالها: فصارت قِبلتُه إلى الميزاب.
وذكر بعضهم: أنه بُني أولًا بالسميط لَبِنَة على لَبِنَة، ثم بالسعيدة لَبِنَة ونصف، ثم بالذكَر والأنثى وهي لبنتان مختلفتان، فجعلوا (58/ أ) خَشَبَهُ وسواريه جذوعًا، وظلَّلوه بالجريد، ثم بالخصف، فلما وَكَف عديهم: طينوه بالطين. وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسجد كذلك، ولم يزد أبو بكر رضي الله عنه في المسجد شيئًا لاشتغاله بالفتح ثانيًا، فلما وَلىَ عمر قال أني أزيد في
المسجد ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ينبغي أن يزاد في المسجد" ما زدت فيه شيئًا (1).
وروى الإمام أحمد: أن عمر زاد في المسجد من الاسطوانة إلى المقصورة. وزاد عثمان، فقال عمر: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ينبغي أن نزيد في مسجدنا" ما زدت فيه (2).
* وذكر ابن النجار وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومًا وهو في مصلَّاه في المسجد "لو زدنا في مسجدنا"، وأشار بيده الكريمة نحو القبلة (3). فلما وَلي عمر وأراد الزيادة أجلسوا رجلًا في المصلى ثم رفعوا يده وخفضوها، ثم جيء بمقاط، فوضعوا طرفه بيد الرجل ثم مدَّوه، فلم يزالوا يقدمونه ويؤخرونه حتى رأوا أن ذلك شبيه بما أشار به النبي صلى الله عليه وسلم، فكان موضع جدار عمر رضي الله تعالى عنه في القبلة. وجعل عمر طول المسجد: أربعين ومائة ذراع (4)، وعرضه: عشرون ومائة ذراع، وبدل أساطينه بأُخر من جذوع النخل- كما كانت على عهده عليه الصلاة والسلام وسقَفه بجريد وجعل له ستة أبواب: بابين عن يمين القبلة، وبابين عن يسارها، وبابين خلفها. ثم قال لما فرغ من زيادته: لو انتهى بناؤه إلى الجبَّانة لكان الكل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لو زيد فى هذا المسجد ما زِيد لكان الكل مسجدي".
(1)"الدرة الثمينة"(171)، "المسند"(1/ 47).
(2)
"المسند"(1/ 47).
(3)
"الدرة الثمينة"(171).
(4)
في "م""ذراعي".
وفي رواية: "لو بُني هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي، فلو مُدَّ إلى باب داري ما عددت الصلاة فيه"(1).
وعن ابن أبي ذئب (2): أن عمر بن الخطاب قال: لو مُدّ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذي (58/ ب) الحليْفة لكان منه.
وقال عمر ابن أبي بكر (3) الموصلي: بلغني عن ثقات: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما زيد في مسجدي فهو منه ولو بلغ ما بلغ"(4).
وفي "الصحيح" عن ابن عمر: أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيًّا باللبن، وسقفه الجريد، وعُمُده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر رضي الله عنه شيئًا، وزاد فيه عمر رضي الله عنه، وبناه على بنائه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد وأعاد عُمُده خشبًا، ثم غيَّره عثمان وزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقَصَّة وجعل عُمُده من حجارة منقوشة وسَقَفه بالساج (5) - انتهى.
"القَصَّة" بفتح القاف والصاد المهملة: الجَصّ.
و"الساج": بالسين المهملة والجيم: خشب أسود رزين يجلب من الهند ولا تكاد الأرض تُبليه.
* قال أهل السِّيَر: جعل عثمان رضي الله عنه طول المسجد: مائة وستين ذراعًا، وعرضه: مائة وخمسين، ولم يغيّر أبوابه عن ستة.
(1)"كنز العمال"(12/ 257، 237)، و"وفاء الوفاء"(2/ 497)، "الدرة الثمينة" (ص: 171).
(2)
في "م""عن أبي ذئب".
(3)
"بكر" سقطت من "ق".
(4)
"وفاء الوفاء"(2/ 497).
(5)
"البخاري"(446)، "مثير العزم الساكن"(2/ 259).
وكان بناؤه على المشهور: سنة ثلاثين، وقيل: في آخر سنة من خلافته. قال ابن حجر: ويمكن الجمع بأن الأول: كان تاريخ ابتدائه، والثاني: تاريخ انتهائه.
* وذكر ابن النجار: أن عمله في أول شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين، وفرغ منه لهلال المحرم سنة ثلاثين، وقيل: ليلة الجمعة لليلة بقيت من ذي الحجة، وقيل: يوم الجمعة ثاني عشر ذي الحجة سنة خمس وثلاثين.
ثم زاد فيه الوليد بن عبد الملك؛ فجعل طوله: مائتي ذراع، وعرضه في مقدَّمه: مائتين، وفي مؤخره: مائة وثمانين، وكانت زيادته على يد: عمر ابن عبد العزيز، وكان عامله على المدينة ومكة، وكان استعماله عليها سنة سبع وثمانين، وبعث إلى عمر بمالٍ، وقال له: "زد في المسجد ومن باعك فأعطه ثمنه، ومن أبى فاهدم عليه وأعطه المال، فإن أبي أن يأخذه فاصرفه إلى الفقراء.
* وأرسل إلى ملِك الروم أيضًا فقال إنا نريد أن نعمِّر مسجد (59/ أ) نبيِّنا الأعظم فأعنا بعمال وفسيفساء، فبعث إليه ثمانين عاملًا من الروم وأربعين من القُبط وثمانين ألف مثقال وأحمالًا من الفسيفساء وأحمالًا من سلاسل القناديل.
واشترى عمر بن العزيز الدُّور، وأدخلها مع حجرات النبي صلى الله عليه وسلم، وأدخل القبر الشريف فيه، وبناه بالحجارة المنقوشة المطابقة، وقَصَّه بطن نخلٍ، وعمله بالفسيفساء والمرمر، وعمل سقفه بالسَّاج وماء الذهب، واعتنى بتحسينه حتى كان العامل إذا عمل الشجرة الكبيرة من الفسيفساء فأحسن عمله نفله ثلاثين درهمًا.
ولما فرغ؛ أرسل إلى أبَان بن عثمان فحمل في كساء خزّ، فقال له عمر: أين هذا من بنيانكم؟ فقال: بنيناه بناء المساجد، وبنيتموه بناء الكنائس. ويقال: إن السائل له هو الوليد نفسه.
* ونقل السهيلي: أن الحُجَر والبيوت خلطت بالمسجد في زمن عبد الملك ابن مروان، ورجَّح في "تحقيق النصرة": الأول.
وقد قال عطاء الخراساني: أدركت حُجَر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من جريد النخل، على أبوابها المسوح من شعر أسود، كل مَسح ثلاثة أذرع في ذراع. وكان باب عائشة مواجه، الشام وكان بمصراع واحد من عرعر أو ساج.
قال عطاء: وحضرت كتاب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز يأمر فيه بإدخال حُجَر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، فما رأيت باكيًا أكثر من (1) ذلك اليوم.
وسمعت سعيد بن المسيَّب يقول يومئذ: والله لوددت لو تركوها على حالها؛ ينشأ ناس من المدينة ويقدُم القادم من الأفق: فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والفخر.
* قال أهل العلم: فبينا العمال من الروم يعملون يومًا وقد خلا المسجد لهم، فقال أحدهم لأصحابه: لأبولنَّ على قبر نبَيِّهم، فنهوه؛ فأبى، وتهيأ لذلك، فأُلقي على رأسه فانتثر دماغه، فأسلم بعض أولئك العمال (59/ ب) لذلك.
* وأول من أحدث الشرافات والمحراب: عمر بن عبد العزيز، ويقال: عملها عبد الواحد البصري وكان واليًا، وجعل للمسجد أربع منارات في كل ركن واحدة.
(1) في "ق": "منه".
* وكان هدمه للمسجد: سنة إحدى وتسعين، وقيل: سنة ثمان وثمانين، وفرغ منه سنة إحدى وتسعين.
قال في "تحقيق النصرة": وهو أشبه. وفيها حج الوليد، وقيل: هدمه سنة ثلاث وتسعين، ويضعِفه: أنها سنة عزل عمر عن المدينة.
* قال ابن النجار: وطول المسجد في السماء: خمس وعشرون ذراعًا،
ثم زاد فيه المهدي: مائة ذراع من جهة الشام فقط دون الجهات الثلاث.
* * *