المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثاني في ذكر بنائها: - تحفة الراكع والساجد بأحكام المساجد

[الجراعي]

فهرس الكتاب

- ‌نقد ورد

- ‌عملنا في الكتاب

- ‌ترجمة المصنف

- ‌مولده:

- ‌نسبه:

- ‌نشأته ورحلاله في طلب العلم:

- ‌شيوخه:

- ‌تلاميذه:

- ‌مصنفاته:

- ‌وفاته:

- ‌‌‌اسم الكتابونسبته إلى مؤلفه

- ‌اسم الكتاب

- ‌صحة نسبة الكتاب للمؤلف:

- ‌وصف النسخ الخطية المعتمدة

- ‌ النسخة الأولى *

- ‌ النسخة الثانية *

- ‌ النسخة الثالثة *

- ‌الفصل الأول من المقدمة في فضل المساجد

- ‌الفصل الثاني في فضل بنائها

- ‌الفصل الثالث في فضل حبها

- ‌الفصل الرابع في فضل السعي إليها

- ‌الفصل السادس في ذهاب الأرض كلها يوم القيامة إلا المساجد

- ‌ الكتاب الأول * في ذكر الكعبة زادها الله تعالى شرفًا وما يتعلق بها

- ‌الباب الأول في ذكر أسمائها

- ‌ الأول: الكعبة *

- ‌ الثاني: البيت العتيق *

- ‌ الثالث: البيت الحرام *

- ‌ الخامس: من أسمائها: بكَّة *

- ‌ السادس: قادس *

- ‌ السابع: بادر *

- ‌ الثامن: قبلة أهل الإسلام *

- ‌ التاسع: القربة القديمة *

- ‌ العاشر: الدُّوَّار *

- ‌ الحادي عشر: البنيَّة *

- ‌الباب الثاني في ذكر بنائها:

- ‌الباب الثالث في كيفية بناء المسجد الحرام:

- ‌الباب الرابع في فضل المسجد الحرام:

- ‌ فائدة

- ‌الباب الخامس في ذكر كسوة الكعبة، زادَها الله شرفًا:

- ‌الباب السادس في سدانة البيت:

- ‌الباب السابع في فضل الحجر الأسود وذكر أخذه وردَّه:

- ‌فصل

- ‌الباب الثامن فيما جاء في رفع الحجر الأسود:

- ‌الباب التاسع في ذكر الركن اليماني:

- ‌الباب العاشر في ذكر الحِجْر:

- ‌الباب الحادي عشر في ذكر الميزاب:

- ‌الباب الثاني عشر في ذكر الحطيم:

- ‌الباب الثالث عشر في فضل النظر إلى البيت ونزول الرحمة عليه:

- ‌الباب الرابع عشر في ذكر المواضع التي يُستجاب فيها الدعاء:

- ‌الباب الخامس عشر في ذكر طواف الحشرات بالبيت:

- ‌الباب السادس عشر في ذرع الكعبة من جهاتها الأربع وارتفاعها في السماء وذِكْر الشاذروان

- ‌تنبيه:

- ‌الباب السابع عشر في ذكر المقام:

- ‌الباب الثامن عشر في ذكر ابتداء زمزم وتجديدها بعد دثورها:

- ‌الباب التاسع عشر في ذكر الشرب من ماء زمزم والوضوء والغُسل وإزالة النجاسة به:

- ‌الباب العشرون في أسماء زمزم:

- ‌الباب الحادي والعشرون في غور الماء قبل يوم القيامة إلَّا زمزم وذكر ذرعها وغور مائها وفوره:

- ‌الباب الثاني والعشرون في حدِّ المسجد الحرام ومن هو حاضره:

- ‌الباب الثالث والعشرون في ذكر حال انتهاء البيت:

- ‌الباب الرابع والعشرون في أسماء مكة:

- ‌الباب الخامس والعشرون في فضل مكة:

- ‌الباب السادس والعشرون في فضل صوم رمضان بمكة:

- ‌الباب السابع والعشرون في أن الحسنات كلها تضاعف بمكة كالصلاة:

- ‌الباب الثامن والعشرون في أن السيئات تضاعَف فيها كما تضاعَف الحسنات وأنه يعاقَب عليها قبل فِعلها:

- ‌الباب التاسع والعشرون في بيان أن أهل مكة أهل الله تعالى:

- ‌الباب الثلاثون في ذكر حدود الحرم:

- ‌الباب الحادي والثلاثون في ذكر نُصُب حدود الحرم وأول مَن نصَبَها:

- ‌الباب الثاني والثلاثون في ذكر تعظيم حُرمة الحرَم:

- ‌الباب الثالث والثلاثون في ذرْع المسجد الحرام وعدد اسطواناته:

- ‌الباب الخامس والثلاثون في صفة أبواب المسجد وعددها وذرْعها:

- ‌الباب السادس والثلاثون في ذرع جدرات المسجد وعدد شرفاته:

- ‌الباب السابع والثلاثون في حكم بيع مكة وإجارتها:

- ‌الباب الثامن والثلاثون في ذكر مِنى:

- ‌الباب التاسع والثلاثون في ذكر مسجد الخيْف:

- ‌الباب الأربعون في ذكر آيات عظام بِمنى:

- ‌الباب الحادي والأربعون في ذكر المزدلفة:

- ‌ تنبيه:

- ‌الباب الثاني والأربعون في الطريق من المزدلفة إلى عرفة:

- ‌الباب الثالث والأربعون في ذكر عرَفة وحدودها:

- ‌الباب الرابع والأربعون في ذكر المجاورة بمكة شرَّفها اللَّه تعالى:

- ‌الباب الخامس والأربعون في كراهة نقل تراب الحرم وحجارته إلى الحلّ وعكسه

- ‌الباب السادس والأربعون في بيان الحجاز:

- ‌الباب السابع والأربعون في ذكر جزيرة العرب:

- ‌الباب الثامن والأربعون في ذكر خصائص البيت والمسجد الحرام وأحكامهما:

- ‌ تنبيه:

- ‌ الكتاب الثاني * في المسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام وما يتعلق به

- ‌الباب الأول في ذكر بنائه

- ‌الباب الثاني في فضله:

- ‌الباب الثالث في فضل الصلاة فيه:

- ‌الباب الرابع في ذكر منبر النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الباب الخامس في ذكر الروضة:

- ‌الباب السادس في حنين الجذع الَّذي كان في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الباب السابع في ذكر بناء الجدار الَّذي سقط في زمن الوليد بن عبد الملك:

- ‌الباب الثامن في ذكر آثار حسنة في المسجد الشريف:

- ‌الباب التاسع في فضل المدينة:

- ‌الباب العاشر في ذكر حدود الحرم:

- ‌الباب الحادي عشر فى أسماء مدينة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الباب الثاني عشر في ذكر خراب المدينة:

- ‌ الباب الثالث عشر في ذكر خروج النار التي أخبر عنها المختار:

- ‌الباب الرابع عشر فيما جاء أن المدينة أقل الأرض مطرًا:

- ‌الباب الخامس عشر هل المدينة حجازية أم شامية أم يمانية

- ‌الباب السادس عشر في ذكر جملة من الخصائص والأحكام والفضائل:

- ‌الباب السابع عشر في صفة قبر النبيُّ وقبر صاحبيه رضي الله عنهما:

- ‌الباب الثامن عشر في ذكر مسجد قباء وأهله:

- ‌ الكتاب الثالث * في ذكر المسجد الأقصى وما يتعلق به

- ‌الباب الأول في معنى اسمه وابتداء بنائه

- ‌الباب الثاني في فضله وفضل الصلاة فيه:

- ‌الباب الرابع في أسمائها:

- ‌الباب الخامس في ذكر جملة من خصائصه وأحكامه:

- ‌ الكتاب الرابع * في ذكر بقية المساجد وذكر طرف من أخبار المدارس

- ‌الباب الأول في ذكر أول مسجد بنُي في الإِسلام:

- ‌الباب الثاني في ذكر طرف من أخبار المدارس

- ‌الباب الثالث في ذكر أول مسجد وضع بالقاهرة:

- ‌الباب الرابع في ذكر أحكام تتعلق بسائر المساجد:

الفصل: ‌الباب الثاني في ذكر بنائها:

‌الباب الثاني في ذكر بنائها:

* اختلف العلماء في المبتدئ ببناء الكعبة على أربعة أقوال:

* أحدها: أن الله وضعها لا ببناء أحد.

وفي زمن وضعه قولان:

أحدهما: قبل خلق الدنيا، وقد تقدَّم عن ابن عباس وغيره.

وروى ابن الجوزي بسنده إلى ابن عباس أن رسول الله قال:

"كان البيت قبل هبوط آدم عليه السلام ياقوتة من يواقيت الجنَّة وكان له بابان من زمرِّد أخضر، باب شرقي وباب غربي، وفيه قناديل من الجنَّة، والبيت المعمور الذي في السماء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون فيه إلى يوم القيامة، حذاء الكعبة الحرام. وإن الله تعالى لما أهبط آدم عليه السلام إلى موضع الكعبة وهو مثل الفُلْك من شدة رعدته وأنزل عليه الحجر الأسود وهو يتلألأ كأنه لؤلؤة بيضاء، فأخذه آدم فضمه إليه اسئناسًا به ثم أخذ الله من بني آدم ميثاقهم، فجعله في الحِجْر ثم أنزل على آدم العصا ثم قال: يا آدم تخطَّا، فتخطَّا، فإذا هو بأرض الهند فمكث هنالك (1) ما شاء الله، ثم استوحش إلى البيت فقيل له أحجج (2) يا آدم، فأقبل يتخطَّا فصار موضع كل

(1) في "ق": "هناك".

(2)

في "ق": "حُجَّ".

ص: 56

قدم قرية وما بين ذلك مفازة حتَّى قدم مكة فلقيته الملائكة فقالت بُرَّ حَجُّك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام، فقال ما كنتم تقولون حوله؟ قالوا كنا نقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فكان آدم عليه السلام إذا طاف (8/أ) بالبيت قال هؤلاء الكلمات. وكان آدم عليه السلام يطوف بالبيت سبعة أسابيع، بالليل، وخمسة أسابيع بالنهار، فقال آدم عليه السلام. ربِّ اجعل لهذا البيت غُّمَّارًا يعمرونه من ذريتي، فأوحى الله تعالى إليه إني معمِّره نبيًّا من ذريتك اسمه إبراهيم، أتخذه خليلًا أقضي على يديه عمارته وأنبط له سقايته وأريه حِلَّه وحرمه ومواقفه. وأُعلِمه مشاعره ومناسكه، فإذا فرغ من بنائه ينادي إن لله بيتًا فحجُّوه فأسمع مَن بين الخافقين. فقال (1) آدم عليه السلام، يا رب أسألك من حج هذا البيت من ذريتي لا يشرك بك شيئًا أن تُلحقه بي في الجنَّة، فقال: يا آدم، من مات في الحرم لا يشرك بي شيئًا بعثته آمنًا يوم القيامة" (2).

والثاني: أنَّه أُهبط مع آدم عليه السلام، وقد تقدَّم ذكره عن قتادة:

وروى ابن أبي حاتم من طريق معمر عن قتادة قال:

"وضع الله تعالى البيت مع آدم لما أُهبط، ففقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فقال الله تعالى، يا آدم إني قد أهبطت بيتًا يُطاف به كما يُطاف حول عرشي فانطلق إليه، فخرج آدم إلى مكة وكان هبط بالهند ومدَّ له في خطْئه، فأتَى البيت فطافَ به"(3).

(1) في "ق": "قال".

(2)

"مثير العزم الساكن"(1/ 350).

(3)

"مثير العزم الساكن"(1/ 350).

ص: 57

* والقول الثاني: أن الملائكة بنته:

فروى جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي، قال:"لما قال الله تعالى للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (1) فقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} (1)، غضب عليهم فعاذوا بالعرش وطافوا حوله سبعة أطواف يسترضون ربهم، فَرَضي عنهم، وقال لهم: ابنوا لِي في الأرض بيتًا يعوذ به كل من سخطتُ عليه ويطوف حوله كما فعلتم بعرشي فبنوا هذا البيت"(2).

* والقول الثالث: أن آدم عليه السلام بناه، وقد تقدَّم ذكره عن ابن عباس (3).

وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء: أن آدم عليه السلام أول من بَنَى البيت (4).

وروى البيهقي في "الدلائل"، عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "بعث الله (8/ ب) جبريل إلى آدم عليهما السلام فأمره ببناء البيت ثم أُمر بالطواف به. وقيل له: أنت أول الناس وهذا أول بيت وُضع للناس (5).

وروى أيضًا في "الدلائل" عن عبد الله بن عمرو قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعث الله تعالى جبريل إلى آدم وحوّاء عليهم السلام، فقال لهما: ابنِيا لىَ بيتًا، فخطَّ لهما جبريل فجعل آدم عليه السلام يحفر وحوَّاء عليها السلام

(1)"البقرة"[آية: 30].

(2)

"مثير العزم الساكن"(1/ 352).

(3)

"مثير العزم الساكن"(1/ 352).

(4)

"ابن كثير"(1/ 177).

(5)

"دلائل النبوة"(2/ 45) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، و"ابن كثير"(1/ 383).

ص: 58

تنقل حتَّى أصابه (1) الماء نودي من تحت (2): حسبك يا آدم، فلما بنَياه أوحى الله تعالى إليه أن يطوف به، وقيل له: أنت أول الناس وهذا أول بيت، ثم تناسخت القرون حتَّى حجَّه نوح، ثم تناسخت القرون حتَّى رفع إبراهيم عليه السلام القواعد منه".

قال البيهقي: تفرَّد به ابن لهيعة هكذا مرفوعًا (3).

وروى محمد بن جرير الطبري، عن عطاء: أن آدم عليه السلام قال: أي ربِّ، إني لأسمع أصوات الملائكة، فقال اهبط إلى الأرض فابْنِ لىَ بيتًا ثم احفُف به كما رأيت الملائكة تحفُّ ببيتي الَّذي في السماء، قال فيزعم الناس أنَّه بناه من خمسة أجبل وأن الملائكة كانت تأتيه بالحجارة منها وهي: طور سيناء وطور زِيتا اللذين بالشام والجُوديَّ وهو بالجزيرة ولُبُنان وحِراء وهما في الحَرَم. كل ذلك بحكمة الله تعالى، كيف فعل بناءها من خمسة أجبل فشاكل ذلك معناها؛ إذ هي قبلة للصلوات الخمس وعمود الإسلام وقد بُني على خمس".

وروى عطاء، عن ابن عباس:"أن آدم عليه السلام بناه من خمسة أجبل: من لبنان وطور سيناء وطور زيتا والجودي وحراء".

قال عثمان بن ساج: حُدِّثت: أن آدم عليه السلام لما بنى البيت قال: "يا

(1) في "الدلائل والبداية": "أجابه".

(2)

في "ق": "حتَّى أصابه الماء من تحت نودي"، وفي "الدلائل"(2/ 45) كما في الأصل إلا كلمة تحت "تحته".

(3)

"دلائل النبوة"(2/ 45) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وقال: تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعًا، وقال: ابن كثير في "البداية"(2/ 277) قلت: وهو ضعيف ووقفه علي عبد الله ابن عمرو أقوى وأثبت والله أعلم.

ص: 59

ربِّ إن لكل عامل أجرًا وإن لي أجرًا؟ قال نعم، قال: تردَّني من حيث أخرجتني، قال ذلك لك، قال ومن خرج إلى البيت من ذريتي يُقرّ على نفسه (9/ أ) بمثل الَّذي أقررت به من ذنوبي أن تغفر له، قال نعم ذلك لك".

وقال عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء: أن آدم عليه السلام بناه من خمسة أجبل: حراء وطور زيتا وطور سيناء والجودي ولبنان وكان ربضته من حراء.

* والقول الرابع: أن أول من بَناه شيث ابن آدم عليهما السلام، ذكره وهب ابن منبه حكاه عنه ابن حجر، قال: أول من بناه شيث وكان قبل أن يبنيه خيمة من ياقوته حمراء يطوف بها آدم ويأنس بها لأنها نزلت من الجنَّة- وكذا قال السهيلي: أول مَن بناه شيث-، وقال وَهب من منبِّه: لما رفعت الخيمة التي وضعها الله تعالى لآدم مكان البيت ومات آدم، بنى بنو آدم من بعده مكانها بيتًا بالطين والحجارة فلم يَزل معمورًا يعمرونه هم ومَن بعدَهم حتَّى كان زمن نوح عليه السلام فنسفه الغرق.

قال مجاهد: وكان موضع البيت بعد الغرق أكمة حمراء لا تعلوها السيول وكان يأتيها المظلوم، ويدعو عندها المكروب فقلَّ من دعا عندها إلا استجيب له وكان الناس يحجون إلى موضع البيت حتَّى بوَّأ الله مكانه إبراهيم عليه السلام.

وروى عن ابن أبي حاتم، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: لما كان زمن الطوفان رُفع البيت وكان الأنبياء يحجونه ولا يعلمون مكانه حتَّى بوَّأه الله تعالى لإبراهيم عليه السلام وأعلمه مكانه.

قال العلماء: لما أُمر إبراهيم عليه السلام ببناء البيت، قال: يا ربِّ بيّن لي صفته؛ فأرسل الله تعالى سحابة على قدر الكعبة فسارت معه حتَّى قدم

ص: 60

مكة فوقفت في موضع البيت ونودي ابْنِ على ظلِّها ولا تزد ولا تنقص، فكان يبني وإسماعيل يناوله الحجارة فلما فرغ منه أوحى الله تعالى إليه أذِّن في الناس بالحج، فقال يا ربُّ: وما يبلغ صوتي، فقال: عليك الأذان وعلي البلاغ. فعلى (9/ ب) ثبيرًا ونادى: يا عباد الله إن لله بيتًا فحجوه. قال مجاهد، فلبَّى كل رطب ويابس وأسمع من بين المشرق والمغرب، فأجابوه من أصلاب الرجال:"لبيك اللَّهم لبيك"، فإنما يحجّ اليوم من أجاب يومئذ (1).

وروى الفاكهي من حديث علي: كان إبراهيم عليه السلام يبني كل يوم سافًا (2).

ومن حديث عبد الله بن عمر: وعنده وعند ابن أبي حاتم أنَّه بناه من خمسة أجبل: من حراء، وثبير، ولبنان، وجبل الطور، وجبل الخمَر.

قال ابن أبي حاتم: جبل الخمَر: بفتح الميم هو جبل بيت المقدس.

قلت: والمراد بالخَمَر بالتحريك الشجر.

وفي حديث أبي جهم: ذهب إسماعيل عليه السلام إلى الوادي يطلب حجرًا فنزل جبريل عليه السلام بالحجر الأسود، وقد كان رفع إلى السماء حين غرقت الأرض. فلما جاء إسماعيل فرأى الحجر الأسود، قال من أين هذا؟ مَن جاءَك به؟ قال إبراهيم عليه السلام: من لم يكلني إليك ولا إلى حجرك (3).

(1)"تفسير ابن أبي حاتم"(8/ 2485).

(2)

" أخبار مكة" الأزرقي (1/ 61).

(3)

"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 232)، "الدر المنثور"(1/ 306).

ص: 61

ورواه ابن أبي حاتم من طريق السُّدي نحوه (1)، وأنه كان بالهند وكان ياقوتة بيضاء مثل الثغامة، وهي بالمثلَّثة والمعجمة طير كبير.

وذكر ابن الجوزي: أن جبريل عليه السلام كان حين الغرق قد استودع أبا قبيس الحجر الأسود، فلما بنى إبراهيم عليه السلام أخرجه إليه.

وذكر ابن أبي حاتم بسنده إلى علباء (2) بن أحمد: أن ذا القرنين قدِم مكة فوجد إبراهيم وإسماعيل يبنيان قواعد البيت من خمسة أجبل، فقال ما لكما ولأرضي، فقالا نحن عبدان مأموران، أُمرنا ببناء هذه الكعبة. قال فهاتا بالبيِّنة على ما تدَّعيان فقامت خمسة أكبش فقلن نحن نشهد أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام عبدان مأموران أمرا ببناء هذه الكعبة فقال قد رضيت وسلَّمت ثم مضى (3).

وذكر الأزرقي: أن ذا القرنين طافَ مع إبراهيم عليه السلام بالبيت، وهذا (10/أ) يدل على تقدُّم زمانه (4)، والله أعلم.

وذكر النَّووي في شرح مسلم: أن البيت بُنِىَ خمس مرات: الملائكة ثم إبراهيم ثم قريش في الجاهلية وحضر النبي صلى الله عليه وسلم هذا البناء وله خمس وثلاثون سنة وقيل وعشرون (5)، ثم ابن الزبير، ثم الحجاج، واستمر إلى الآن.

* وقال السهيلي: كان بناؤها في الدهر خمس مرات:

الأولى: حين بناها شيث بن آدم.

(1)"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 232)، و"الدر المنثور"(1/ 309).

(2)

في "ق": "علي بن أحمد" وفي "تفسير ابن أبي حاتم": "علباء بن أحمر".

(3)

"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 233، 231)، و"الدر المنثور"(1/ 308).

(4)

"أخبار مكة"(1/ 74).

(5)

في "ق""عشرون".

ص: 62

الثانية: حين بناها إبراهيم عليه السلام على القواعد الأول.

الثالثة: حين بَنَتها قريش قبل الإسلام بخمسة أعوام.

والرابعة: حين احترقت في عهد ابن الزبير بشررة طارت من أبي قبيس فوقعت في أستارها فاحترقت. وقيل إن امرأة أرادت أن تجمِّرها فطارت شررة من الجمر في أستارها فاحترقت، فشاور ابن الزبير في هدمها من حضره فهابوا هدمها، وقالوا: نرى أن تصلح ما وهَى منها ولا تهدم فقال: لو (1) أن بيت أحدكم احترق لم يرضَ له إلَّا بأكمل إصلاح ولا يكمل إصلاحها إلا بهدمها، فهدمها حتَّى أفضى إلى قواعد إبراهيم عليه السلام فأمرهم أن يزيدوا في الحفر فحركوا حجرًا منها فرأوا تحته نارًا وهوْلًا فأفزعتهم، فأمرهم أن يُقِرُّوا القواعد ويبنوا من حيث انتهى الحفر. وفي الخبر: أنَّه سترها حين وصل إلى القواعد وطافَ الناس بتلك الأستار، فلما تمَّ بناؤها ألصق بابها بالأرض وعمَل لها خَلَفًا أي بابًا آخر من ورائها وأدخل الحِجْر فيها؛ لحديث خالته عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "ألم ترىْ قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم- الحديث (2).

الخامسة: عبد الملك بن مروان هدم ما بناه ابن الزبير وبناها على ما كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من بنائها جاءه الحارث بن ربيعة ومعه آخر فحدَّثاه (10/ ب) عن عائشة بالحديث الَّذي تقدَّمت الإشارة إليه. فظهر عليه آثار الندم وقال: وَدَدت أني لو (3) تركت ابن الزبير وما تحمَّل من ذلك.

(1)"فقالوا" في "م، ق" وفي "الروض الأنف" للسهيلي (1/ 220)"فقال: لو". وكذا في "ع".

(2)

رواه "البخاري"(1586) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

"لو" سقطت من "ق".

ص: 63

وحكى ابن عبد البر وتبعه عياض وغيره (1) عن الرشيد أو المهدي أو المنصور: أنَّه أراد أن يعيد الكعبة على ما فعله ابن الزبير فناشده مالك في ذلك وقال:

أخشى أنَّه تصير ملعبة للملوك فتركه

وروى إسحاق بن راهويه من طريق خالد، عن عروة (2)، عن علي: في قصة بناء إبراهيم عليه السلام البيت، قال: فمرَّ عليه الدهر فانهدم فبنته العمالقة، فمرَّ عليه الدهر فانهدم فبنته جرهُم، فمرَّ عليه الدهر فانهدم فبنته قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ شاب، فلما أرادوا أن يضعوا الحجر الأسود اختصموا فيه، فقالوا نحكِّم بيننا أول من يخرج من هذه السكَّة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أول مَن خرج منها، فحكم بينهم أن يجعلوه في ثوب ثم يرفعه من كل قبيلة رجل (3).

وذكر أبو داود الطيالسي في هذا الحديث أنهم قالوا أول مَن يدخل من باب بني شيبة وفيه: "وأمَرَ كلَّ فَخِذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب فرفعوه ثم أخذه فوضعه بيده"(4).

وذكر الفاكهي: أن الَّذي أشار عليهم أن يحكِّموا أول داخل: أبو أمية بن المغيرة المخزومي أخو الوليد.

(1) و"غيره" سقطت من "ق".

(2)

كذا "في جميع النسخ": "خالد عن عروة" والصواب: "خالد بن عُرعرة" كما في مصادر التخرج.

(3)

"المسند" لأبي داود الطيالسي (115) والبيهقي فى "الدلائل"(2/ 56) والحاكم في "المستدرك"(1/ 458).

(4)

"مسند الطيالسي"(115).

ص: 64

وروى ابن إسحاق وموسى بن عقبة أن قريشًا لما بَنَت الكعبة كان عُمْر النبي صلى الله عليه وسلم خمسًا وعشرين سنة.

وذكر ابن سعد في "الطبقات": أن سنَّه كان حينئذٍ خمسًا وثلاثين سنة.

فعلى هذا؛ يكون قد بُني سبع مرات.

وكذا ذكر ابن الجوزي: أن العمالقة بَنَته ثم جرهم ثم قريش، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان غلامًا (1)، وذُكِر عن الزُّهري أنَّه كان قد بلغ الحُلُم.

* والذي أدخله ابن الزبير من الحِجر في البيت؛ إنما هو ستة أذرع أو سبعة (11/ أ) لا أنَّه أدخل الحِجْر كله. والذي هدَّمه الحجَّاج من البيت بإشارة عبد الملك إنما هو الجدار الَّذي يلي الحِجْر وسدَّ الباب الغربي ورفع الباب (2) الشرقي لا أنَّه هدمه كله.

* قال ابن سعد: بناها ابن الزبير حين استقل سنة خمس وستين، وحكي عن الواقدي أنَّه ردَّ ذلك، وقال الأثبت أنَّه ابتدأ بناءها بعد رحيل الجيش بسبعين يومًا، والجيش هو جيش الحصين بن نمير، الأمير الَّذي كان يقاتل ابن الزبير من جهة يزيد ابن معاوية لما أتاهم موت يزيد بن معاوية في ربيع الآخر سنة أربع وستين.

وجزم الأزرقي أن ذلك كان في نصف جمادى الآخرة سنة أربع وستين.

* وكان طول الكعبة: ثمانية عشر ذراعًا، فزاد ابن الزبير في طولها عشرة أذرع واستمرت الزيادة في الطول وهي على ما بناها ابن الزبير والحجَّاج إلى اليوم، لكن وقع الترميم في جدارها غير مرة، وفي سقفها وفي سلِّم سطحها

(1)"مثير العزم الساكن"(1/ 354).

(2)

"الباب" سقطت من "ق".

ص: 65

وجدَّد فيها الرخام فوقع في جدارها الشامي ترميم في شهور سنة سبعين ومائتين، ثم في شهور اثنين وأربعين وخمسمائة، ثم في شهور اثنتي (1) عشرة وستمائة، ثم في سنة (2) ثمانين وستمائة، ثم في شهور سنة أربع عشرة وثمانمائة، إلى أن نُقِض سقفها في سنة سبع وعشرين وثمانمائة ثم جُدِّد أحد أركانها في سنة سبع وثلاثين وثمانمائة من جانب السلطان مراد رحمه الله تعالى وجدِّد وَرخم السطح ثم جدد في سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة.

ومما يُتعجب منه؛ أنَّه لم يتفق الاحتياج في الكعبة إلى الإصلاح إلَّا فيما صنعه الحجَّاج. إمَّا من الجدار الَّذي بناه من الجهة الشامية وإمَّا في السلَّم الَّذي جدَّده للسطح أو للعتَبة. وما عدا ذلك مما وقع فإنما هو لزيادة محضة أو لتحسين كالباب والميزاب، والله أعلم.

* وقال قاضي المالكية بمكة المشرفة تقي الدين أبو الطيَّب محمد بن شهاب الدين أحمد الشريف الفاسي (11/ ب) في كتابه "تحفة الكرام بأخبار البلد الحرام".

* ويتحصَّل من مجموع ما قيل في بناء البيت: أنَّه بني عشر مرات:

منها بناء الملائكة، ومنها بناء آدم عليه السلام، ومنها بناء أولاده، ومنها بناء الخليل عليه السلام، ومنها بناء (3) العمالقة، ومنها بناء جرهم، ومنها بناء قصي بن كلاب ومنها بناء قريش، ومنها بناء عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، ومنها بناء الحجَّاج بن يوسف الثقفي، والحجَّاج، إنما بنى الجدار الَّذي يلي الحِجْر وسدَّ الباب، وقد تقدَّم ذلك.

(1) في "م""أثني".

(2)

في "ق""في شهور سنة".

(3)

في "م" ومنها "العمالقة".

ص: 66

* قال في "الفنون": لا بأس بتغيير حجارة الكعبة إن عرض لها مرمَّة؛ لأن كل عصر احتاجت فيه إليه قد فُعل ذلك بها. ولم يظهر نكير لمن فعله. ولو تعينت الآلة لم يجز ذلك، كالحجر الأسود، فإنه لا يجوز نقله ولا يقوم غيره مقامه. ولا ينتقل النسك معه كآي القرآن لا يجوز نقلها عن سورة أو موضع هي فيه لأنه لم توضع موضعها إلا بنص من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"ضعوا آية كذا في صورة كذا"(1).

قال، وقال العلماء: مواضع الآي من كتاب الله تعالى كنفس الآي ولهذا حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادة التغيير على إدخال الحِجْر في البيت.

* ويكره؛ نقل حجارتها عند عمارتها إلى غيرها -كما لا يجوز صرف تراب المسجد للبناء به في غيره بطريق الأَوْلى.

قال: ولا يجوز أن يعلِّي (2) أبنيتها زيادة على ما وجد من علوُّها، وأنه يكره الصك فيها وفي أبنيتها إلا بقدر الحاجة.

قال في "الفروع": ويتوجه جواز بنائها على قواعد إبراهيم عليه السلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لولا المعارض في زمنه لفعله، كما ورد ذلك مصرَّحًا به في خبر عائشة، قال ابن هبَيْرة فيه: أنَّه يدل على جواز تأخير الصواب لأجل قالة الناس. وقد رأى مالك والشافعي أن تركه أوْلى؛ لِئلا يصير البيت مَلْعبة للملوك.

(1) رواه "أبو داود"(786) و"الترمذي"(3282) وقال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث عوف عن يزيد الفارسي عن ابن عباس.

(2)

في "ق""تعلى".

ص: 67