الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هَلْ يَنْظُرُونَ): ينتظرون، (إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ): إلا إتيان الساعة، وأن تأتيهم بدل من الساعة، (بَغْتَةً): فجأة، مفعول مطلق، (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) لإنكارهم، أو لانهماكهم في دنياهم، يعني: أنها تأتيهم لا محالة، فكأنهم ينتظرونها، (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) يومئذ ظرف، عدو والفصل بالمبتدأ غير مانع، (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) فإن محبتهم تبقى.
* * *
(يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ
(68)
الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)
سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
* * *
(يَا عِبَادِ): حكاية لما يُنَادَى به المتحابون المتقون، (لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ): منصوب على المدح، (آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ): المؤمنات، (تُحْبَرُونَ)، تسرون، (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ): جمع صحفة (مِنْ ذَهَبٍ وَأَكوَابٍ): جمع كوب وهو كوز لا عروة له، (وَفِيهَا): في الجنة، (مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ): بمشاهدته، وكأنه لم يعتد بمستلذات السمع والشم والذوق في جنب مستلذات العين فلم يذكرها، (وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وهو من أتم النعم، (وَتِلْكَ): الجنة المذكورة، (الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، والجنة إما خبر، والَّتِي أُورِثْتُمُوهَا صفة لها، أو صفة
والتي خبر، أو هما صفتان والظرف خبر، (لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ): يبقى بعضها، أبدًا لا تجد شجرة عريانة من الثمرة، (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ): لا يخفف ولا ينقص، (وَهُمْ فِيهِ)، في العذاب، (مُبْلِسُونَ): ساكتون سكوت يأس، (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ): على أنفسهم، (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ): من قضى عليه، إذا أماته وهو تمني الموت من فرط شدتهم وحيرتهم، وهذا الكلام والنداء قبل الإبلاس وقبل أن يقال لهم:(اخسئوا فيها ولا تكلمون)[المؤمنون: 108]، (قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ): المكث يشعر بالانقطاع ولا انقطاع ففيه استهزاء، (لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ): جواب من الله تعالى بعد جواب الملك، أو في قال ضمير يرجع إلى الله تعالى، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ أَمْ أَبْرَمُوا): أحكموا، (أَمْرًا)، في رد الحق بحيل ومكر، (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ): كيدَنا في مجازاتهم، (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ): ما يخفون من الغير، (وَنَجْوَاهُمْ): ما تكلموا به فيما بينهم، (بَلَى): نسمعهما، (وَرُسُلُنَا): أي الحفظة، (لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ): ذلك، (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ
الْعَابِدِينَ)، لذلك الولد جعل ثبوت الولد ملزومًا لأمر منتف محال في اعتقاده، وهو عبادته للولد، لكن اللازم منتف فكذا الملزوم، والغرض نفي الولد على أبلغ وجه قال تعالى:" لو أراد الله أن يتخذ ولدًا "[الزمر: 4] وعن بعضهم معناه: إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول الموحدين لله تعالى فإن من عبد الله تعالى فقد دفع أن يكون له ولد، أو معناه: فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد، المنكرين لما قلتم، يقال: عَبِد يَعْبَد: إذا اشتد أنفه أو إن نافية، أي: ما كان له ولد، فأنا أول من قال بذلك (1)، (سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ): من كونه ذا ولد، (فَذَرْهُم يَخُوضُوا): في الباطل، (وَيَلْعَبُوا): في الدنيا، (حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي: القيامة، (وَهُوَ الذِى فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِى الْأَرْضِ إِلَهٌ) أي: هو إله فيهما، فالظرف متعلق بأل لما فيه من معنى الوصفية، أو لأنه بمعنى المعبود بالحق، (وَهُوَ الْحَكِيمُ): في التدابير، (الْعًلِيمُ)، بكل شيء فلا يحتاج إلى ولد، (وَتَبَارَكَ
(1) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه:
اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ ظَنُّوا أَنَّ قَوْلَهُ قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ لَوْ أَجْرَيْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي وُقُوعَ الشَّكِّ فِي إِثْبَاتِ وَلَدٍ لله تَعَالَى، وَذَلِكَ مُحَالٌ فَلَا جَرَمَ افْتَقَرُوا إِلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ مَا يُوجِبُ الْعُدُولَ عَنِ الظَّاهِرِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ قَوْلَهُ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ وَالْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ قَضِيَّتَيْنِ خَبَرِيَّتَيْنِ أَدْخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا حَرْفَ الشَّرْطِ وَعَلَى الْأُخْرَى حَرْفَ الْجَزَاءِ فَحَصَلَ بِمَجْمُوعِهِمَا قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَمِثَالُهُ هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّ قَوْلَهُ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ قَضِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ قَضِيَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: قَوْلُهُ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ، وَالثَّانِيَةُ:
قَوْلُهُ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ ثُمَّ أَدْخَلَ حَرْفَ الشَّرْطِ وَهُوَ لَفْظَةُ إِنَّ عَلَى الْقَضِيَّةِ الْأُولَى وَحَرْفَ الْجَزَاءِ وَهُوَ الْفَاءُ عَلَى الْقَضِيَّةِ الثَّانِيَةِ فَحَصَلَ من مجموعهما قضية الأولى واحدة، وهو الْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ لَا تُفِيدُ إِلَّا كَوْنَ الشَّرْطِ مُسْتَلْزِمًا للجزاء، وليس فيه إِشْعَارٌ بِكَوْنِ الشَّرْطِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا أَوْ بِكَوْنِ الْجَزَاءِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا، بَلْ نَقُولُ الْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ الْحَقَّةُ قَدْ تَكُونُ مُرَكَّبَةً مِنْ قضيتين حقيتين أَوْ مِنْ قَضِيَّتَيْنِ بَاطِلَتَيْنِ أَوْ مِنْ شَرْطٍ بَاطِلٍ وَجَزَاءٍ حَقٍّ أَوْ مِنْ شَرْطٍ حَقٍّ وَجَزَاءٍ بَاطِلٍ، فَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ الْحَقَّةُ مُرَكَّبَةً مِنْ شَرْطٍ حَقٍّ وَجَزَاءٍ بَاطِلٍ فَهَذَا مُحَالٌ.
وَلْنُبَيِّنْ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، فَإِذَا قُلْنَا إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ حَيَوَانًا فَالْإِنْسَانُ جِسْمٌ فَهَذِهِ شَرْطِيَّةٌ حَقَّةٌ وهي مركبة من قضيتين حقيتين، إِحْدَاهُمَا قَوْلُنَا الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ، وَالثَّانِيَةُ قَوْلُنَا الْإِنْسَانُ جِسْمٌ، وَإِذَا قُلْنَا إِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ زَوْجًا كَانَتْ مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ فَهَذِهِ شَرْطِيَّةٌ حَقَّةٌ لَكِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ قَوْلِنَا الْخَمْسَةُ زَوْجٌ، وَمِنْ قَوْلِنَا الْخَمْسَةُ مُنْقَسِمَةٌ بِمُتَسَاوِيَيْنِ وَهُمَا بَاطِلَانِ، وَكَوْنُهُمَا بَاطِلَيْنِ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ اسْتِلْزَامُ أَحَدِهِمَا للآخر حقا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَضِيَّةَ الشَّرْطِيَّةَ لَا تُفِيدُ إِلَّا مُجَرَّدَ الِاسْتِلْزَامِ وَإِذَا قُلْنَا إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ حَجَرًا فَهُوَ جِسْمٌ، فَهَذَا جِسْمٌ، فَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ لَكِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ شَرْطٍ بَاطِلٍ وَهُوَ قَوْلُنَا الْإِنْسَانُ حَجَرٌ، وَمِنْ جُزْءٍ حَقٍّ وَهُوَ قَوْلُنَا الْإِنْسَانُ جِسْمٌ، وَإِنَّمَا جَازَ هَذَا لِأَنَّ الْبَاطِلَ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ فرض وقوعه وقوع حق، فإنا فَرَضْنَا كَوْنَ الْإِنْسَانِ حَجَرًا وَجَبَ كَوْنُهُ جِسْمًا فهذا شرط باطل يستلزم جزءا حَقًّا.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ تَرْكِيبُ قَضِيَّةٍ شَرْطِيَّةٍ حَقَّةٍ مِنْ شَرْطٍ حَقٍّ وَجَزَاءٍ بَاطِلٍ، فَهَذَا/ مُحَالٌ، لِأَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُ الْحَقِّ مُسْتَلْزِمًا لِلْبَاطِلِ وَذَلِكَ مُحَالٌ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُ الْبَاطِلِ مُسْتَلْزِمًا لِلْحَقِّ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُحَالٍ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْآيَةِ فَنَقُولُ قَوْلُهُ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ حَقَّةٌ مِنْ شَرْطٍ بَاطِلٍ وَمِنْ جَزَاءٍ بَاطِلٍ لِأَنَّ قَوْلَنَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ بَاطِلٌ، وَقَوْلَنَا أَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لِذَلِكَ الْوَلَدِ بَاطِلٌ أَيْضًا إِلَّا أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَاطِلًا لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ اسْتِلْزَامُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ حَقًّا كَمَا ضَرَبْنَا مِنَ الْمِثَالِ فِي قَوْلُنَا إِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ زَوْجًا كَانَتْ مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا امْتِنَاعَ فِي إِجْرَائِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لِذَلِكَ الْوَلَدِ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ إِذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَكَمَا يَجِبُ عَلَى عَبْدِهِ أَنْ يَخْدِمَهُ فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْدِمَ وَلَدَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِإِثْبَاتِ وَلَدٍ أَمْ لَا.
وَمِمَّا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] فَهَذَا الْكَلَامُ قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ وَالشَّرْطُ هُوَ قَوْلُنَا فِيهِما آلِهَةٌ وَالْجَزَاءُ هُوَ قولنا لَفَسَدَتا فَالشَّرْطُ فِي نَفْسِهِ بَاطِلٌ وَالْجَزَاءُ أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا آلِهَةٌ، وَكَلِمَةُ لَوْ تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ بِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ لِأَنَّهُمَا مَا فَسَدَتَا ثُمَّ مَعَ كَوْنِ الشَّرْطِ بَاطِلًا وَكَوْنِ الْجَزَاءِ بَاطِلًا كَانَ اسْتِلْزَامُ ذَلِكَ الشَّرْطِ لهذا الجزاء حقا فكذا هاهنا، فإن قالوا الفرق أن هاهنا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الشَّرْطِيَّةَ بِصِيغَةِ لَوْ فَقَالَ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ وَكَلِمَةُ لَوْ تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا إِنَّمَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى كَلِمَةَ إِنْ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ لَا تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ، بَلْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ تُفِيدُ الشَّكَّ فِي أَنَّهُ هَلْ حَصَلَ الشَّرْطُ أَمْ لَا، وَحُصُولُ هَذَا الشَّكِّ لِلرَّسُولِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، قُلْنَا الْفَرْقُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ صَحِيحٌ إِلَّا أَنَّ مَقْصُودَنَا بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ من كون الشرطية صادقة كون جزءيها صَادِقَتَيْنِ أَوْ كَاذِبَتَيْنِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ أَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ لَفْظَةَ إِنْ تُفِيدُ حُصُولَ الشَّرْطِ هَلْ حَصَلَ أَمْ لَا، قُلْنَا هَذَا مَمْنُوعٌ فَإِنَّ حَرْفَ إِنْ حَرْفُ الشَّرْطِ وَحَرْفُ الشَّرْطِ لَا يُفِيدُ إِلَّا كَوْنَ الشَّرْطِ مُسْتَلْزِمًا لِلْجَزَاءِ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ مَعْلُومُ الْوُقُوعِ أَوْ مَشْكُوكُ الْوُقُوعِ، فَاللَّفْظُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَيْهِ الْبَتَّةَ، فَظَهَرَ مِنَ الْمَبَاحِثِ الَّتِي لَخَّصْنَاهَا أن الكلام هاهنا مُمْكِنُ الْإِجْرَاءِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِيهِ الْبَتَّةَ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ لِذَلِكَ الْوَلَدِ وَأَنَا أَوَّلُ الْخَادِمِينَ لَهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ بَيَانُ أَنِّي لَا أُنْكِرُ وَلَدَهُ لِأَجْلِ الْعِنَادِ وَالْمُنَازَعَةِ فَإِنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْوَلَدِ كُنْتُ مُقِرًّا بِهِ مُعْتَرِفًا بِوُجُوبِ خِدْمَتِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْوَلَدُ وَلَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِهِ الْبَتَّةَ، فَكَيْفَ أَقُولُ بِهِ؟ بَلِ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ قَائِمٌ عَلَى عَدَمِهِ فَكَيْفَ أَقُولُ بِهِ وَكَيْفَ أَعْتَرِفُ بِوُجُودِهِ؟ وَهَذَا الْكَلَامُ ظَاهِرٌ كَامِلٌ لَا حَاجَةَ بِهِ الْبَتَّةَ إِلَى التَّأْوِيلِ وَالْعُدُولِ عَنِ الظَّاهِرِ، فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَنُقِلَ عَنِ السُّدِّيِّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا مُمْكِنٌ وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَالتَّقْرِيرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي/ قَالَهُ هُوَ الْحَقُّ، أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ من التأويل فَقَدْ ذَكَرُوا وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ كَثُرَتِ الْوُجُوهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْأَقْوَى أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فِي زَعْمِكُمْ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أَيِ الْمُوَحِّدِينَ لله الْمُكَذِّبِينَ لِقَوْلِكُمْ بِإِضَافَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِنْ يَثْبُتْ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَأَنَا أَوَّلُ الْمُنْكِرِينَ لَهُ أَوْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ إِنْ يثبت لكم ادعاء أن لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا فَأَنَا أَوَّلُ الْمُنْكِرِينَ لَهُ، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الرَّسُولِ مُنْكِرًا لَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ إِنْ كَانَ الشَّيْءُ ثَابِتًا فِي نَفْسِهِ فَأَنَا أَوَّلُ الْمُنْكِرِينَ يَقْتَضِي إِصْرَارَهُ عَلَى الْكَذِبِ وَالْجَهْلِ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالرَّسُولِ، وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّهُمْ سَوَاءٌ أَثْبَتُوا لله وَلَدًا أَوْ لَمْ يُثْبِتُوهُ لَهُ فَالرَّسُولُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ الْوَلَدِ، فَلَمْ يَكُنْ لِزَعْمِهِمْ تَأْثِيرٌ فِي كَوْنِ الرَّسُولِ مُنْكِرًا لِذَلِكَ الْوَلَدِ فَلَمْ يَصْلُحْ جَعْلُ زَعْمِهِمْ إِثْبَاتَ الْوَلَدِ مُؤَثِّرًا فِي كَوْنِ الرَّسُولِ مُنْكِرًا لِلْوَلَدِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالُوا مَعْنَاهُ: إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ الْآنِفِينَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ عَبِدَ يَعْبَدُ إِذَا اشْتَدَّتْ أَنَفَتُهُ فَهُوَ عَبِدٌ وَعَابِدٌ، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ (عبدين).
واعلم أن السؤال المذكور قائم هاهنا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ: إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَأَنَا أَوَّلُ الْآنِفِينَ مِنَ الْإِقْرَارِ بِهِ، فَهَذَا يَقْتَضِي الْإِصْرَارَ عَلَى الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فِي زَعْمِكُمْ وَاعْتِقَادِكُمْ فَأَنَا أَوَّلُ الْآنِفِينَ، فَهَذَا التَّعْلِيقُ فَاسِدٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَنَفَةَ حَاصِلَةٌ سَوَاءٌ حَصَلَ ذَلِكَ الزَّعْمُ وَالِاعْتِقَادُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّعْلِيقُ جَائِزًا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ بعضهم إن كلمة إن هاهنا هِيَ النَّافِيَةُ وَالتَّقْدِيرُ مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ لَا وَلَدَ لَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْتِزَامَ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْبَعِيدَةِ إِنَّمَا يَكُونُ لِلضَّرُورَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ الْبَتَّةَ فَلَمْ يَجُزِ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ (مفاتيح الغيب 27/ 645 - 647)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)، لا عند غيره، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ): للجزاء، (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دونِهِ) أي: آلهتهم، (الشَّفَاعَةَ): كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله، (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ): بالتوحيد، (وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، حقيقة ما شهدوا به ولا يكونون منافقين، والاستثناء متصل، أي: لا يملكها أحد من المعبودين إلا الموحدين كالملائكة، وعيسى، فإن لهم الشفاعة بإذنه لمن ارتضى أو منقطع أي: متعلق الذين بالأصنام، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ): يصرفون من عبادته إلى عبادة غيره، (وَقِيلِه): بالنصب مفعول مطلق أي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قيله أي: شكى إلى ربه شكواه من قومه فقال: (يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ)، أو عطف على سرهم ونجواهم أو على معنى وعنده علم الساعة أي: يعلم الساعة، و " قيله " وبالجر عطف على الساعة أي: عنده علم قيله، (فَاصْفَحْ): أعرض، (عَنْهُمْ)، ولا تجادلهم بمثل ما يخاطبونك من الكلام السيء، (وَقُلْ سَلَامٌ) أي: أمري وشأني تَسلُّم ومسالمة منكم، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ): غِبَّ ما فعلوا، فهذا وعيد أكيد لهم، ومن قرأ بالتاء فهو أيضًا من مقول قل.
والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *