الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
الم (1)
أعلم أن للناس في هذا وما يجرى مجراه من الفواتح مذهبين:
الأول أن هذا علم مستور، وسرّ محجوب، أستأثر الله تبارك وتعالى به فهو من المتشابه. ولم يرتض هذا كثير من المحققين وقالوا: لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوما للخلق. واحتجوا بأدله عقلية ونقلية، بسطها العلامة الفخر.
(المذهب الثاني) مذهب من فسرها، وتكلم فيما يصح أن يكون مرادا منها، وهو ما للجمهور. وفيه وجهان:(الأول) وعليه الأكثر: أنها أسماء للسور.
(الثاني) أن يكون ورود الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد: كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدّى بالقرآن وبغرابة نظمه، وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلوّ عليهم- وقد عجزوا عنه عن آخرهم- كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم، ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أن لم تتساقط مقدرتهم دونه، ولم تظهر معجزتهم عن أن يأتوا بمثله- بعد المراجعات المتطاولة- وهم أمراء الكلام، وزعماء الحوار، وهم الحراص على التساجل في اقتضاب الخطب، والمتهالكون على الافتنان في القصيد والرجز، ولم يبلغ من الجزالة وحسن النظم المبالغ التي بزت بلاغة كلّ ناطق، وشقت غبار كلّ سابق، ولم يتجاوز الحدّ الخارج من قوى الفصحاء، ولم يقع وراء مطامح أعين البصراء إلّا لأنه ليس بكلام البشر، وإنه كلام خالق القوى والقدر. قاله الزمخشريّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 2]
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)
أي: هذا القرآن لا شك أنه من عند الله تعالى كما قال تعالى في السجدة الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [السجدة: 1- 2] . قال بعض المحققين: اختصاص ذلك بالإشارة للبعيد حكم عرفيّ لا وضعيّ، فإن العرب تعارض بين اسمي الإشارة. فيستعملون كلا منهما مكان الآخر، وهذا معروف في كلامهم.
وفي التنزيل من ذلك آيات كثيرة. ومن جرى على أن ذلك إشارة للبعيد يقول: إنما
صحت الإشارة بذلك، هنا إلى ما ليس ببعيد، لتعظيم المشار إليه، ذهابا إلى بعد درجته وعلوّ مرتبته ومنزلته في الهداية والشرف.
والريب في الأصل: مصدر رابني إذا حصل فيك الريبة. وحقيقتها: قلق النفس واضطرابها. ثم استعمل في معنى الشك مطلقا، أو مع تهمة. لأنه يقلق لنفس ويزيل الطمأنينة.
وفي الحديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» «1» .
ومعنى نفيه عن الكتاب. أنه في علوّ الشأن، وسطوع البرهان، بحيث ليس فيه مظنة أن يرتاب في حقيقته، وكونه وحيا منزلا من عند الله تعالى. والأمر كذلك، لأن العرب، مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية، عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن. وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه، لا أنه لا يرتاب فيه أحد أصلا.
هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أي: هاد لهم ودالّ على الدين القويم المفضي إلى سعادتي الدارين.
قال الناصر في الانتصاف: الهدى يطلق في القرآن على معنيين (أحدهما) الإرشاد وإيضاح سبيل الحق. ومنه قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت: 17] . وعلى هذا يكون الهدى للضالّ باعتبار أنه رشد إلى الحق، سواء حصل له الاهتداء أو لا. و (الآخر) خلق الله تعالى الاهتداء في قلب العبد، ومنه أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] . فإذا ثبت وروده على المعنيين فهو في هذه الآية يحتمل أن يراد به المعنيان جميعا.
وعلى الأول، فتخصيص الهدى بالمتقين للتنويه بمدحهم حتى يتبيّن أنهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به، كما قال تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 45] .
وقال إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس: 11] . وقد كان، صلى الله عليه وآله وسلم، منذرا لكل الناس، فذكر هؤلاء لأجل أنهم هم الذين انتفعوا بإنذاره. وهذه الآية نظير آية: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44] ، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء: 82] . وكقوله
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك.