الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال القاضي: ولما صدّر قصتهم بالأمر بذكر النعم والقيام بحقوقها، والحذر عن إضاعتها والخوف من الساعة وأهوالها- كرر ذلك وختم به الكلام معهم، مبالغة في النصح وإيذانا بأنه فذلكة القضية والمقصود من القصة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 124]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ لما عاب سبحانه أهل الضلال، وكان جلهم من ذرية إبراهيم عليه السلام، وجميع طوائف الملل تعظمه ومنهم العرب، وبيته الذي بناه أكبر مفاخرهم وأعظم مآثرهم- ذكّر الجميع ما أنعم به عليه تذكيرا يؤدي إلى ثبوت هذا الدين باطلاع هذا النبي الأميّ، الذي لم يخالط عالما قط، على ما لا يعلمه إلّا خواص العلماء. وذكر البيت الذي بناه فجعله عماد صلاحهم، وأمر بأن يتخذ بعض ما هناك مصلّى، تعظيما لأمره وتفخيما لعليّ قدره. وفي التذكير بوفائه بعد ذكر الذين وفوا بحق التلاوة، وبعد دعوة بني إسرائيل عامة إلى الوفاء بالشكر- حثّ على الاقتداء به. وكذا في ذكر الإسلام والتوحيد، هزّ لجميع من يعظمه إلى اتباعه في ذلك. ذكره البقاعيّ.
وإِذِ منصوب على المفعولية بمضمر مقدم خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين أي واذكر لهم وقت ابتلائه عليه السلام، ليتذكروا بما وقع فيه من الأمور الداعية إلى التوحيد، الوازعة عن الشرك، فيقبلوا الحق ويتركوا ما هم فيه من الباطل، ولا يبعد أن ينتصب بمضمر معطوف على اذْكُرُوا خوطب به بنو إسرائيل ليتأملوا فيما يحكى، عمن ينتمون إلى ملته من إبراهيم وبنيه عليهم السلام، من الأفعال والأقوال، فيقتدوا بهم ويسيروا سيرتهم. أي واذكروا إذ ابتلى أباكم إبراهيم، فأتم ما ابتلاه به. فما لكم أنتم لا تقتدون به فتفعلوا عند الابتلاء فعله، في إيفاء العهد والثبات على الوعد، لأجازيكم على ذلك جزاء المحسنين؟ والابتلاء، في الأصل، الاختبار. أي تطلّب الخبرة بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه، غالبا، فعله أو تركه. والاختيار منّا لظهور ما لم نعلم. ومن الله لإظهار ما قد علم. وعاقبة الابتلاء ظهور الأمر الخفيّ في الشاهد والغائب جميعا، فلذا تجوز إضافته إلى الله تعالى. وقوله تعالى بِكَلِماتٍ أي بشرائع: أوامر ونواه. وللمفسرين أقاويل فيها وفي تعدادها. قال ابن جرير: ولا يجوز الجزم بشيء مما ذكروه منها أنه المراد على
التعيين، إلا بحديث أو إجماع. قال: ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له. انتهى.
وعندي أن الأقرب في معنى الكلمات هو ابتلاؤه بالإسلام، فأسلم لرب العالمين وابتلاؤه بالهجرة. فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله.
وابتلاؤه بالنار فصبر عليها. ثم ابتلاؤه بالختان فصبر عليه. ثم ابتلاؤه بذبح ابنه فسلم واحتسب.
كما يؤخذ ذلك من تتبع سيرته في التنزيل العزيز وسفر التكوين من التوراة.
ففيهما بيان ما ذكرنا في شأنه عليه الصلاة والسلام. من قيامه بتلك الكلمات حق القيام. وتوفيتهن أحسن الوفاء. وهذا معنى قوله تعالى فَأَتَمَّهُنَّ كقوله تعالى:
وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: 37] والإتمام التوفية.
قالَ جملة مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الكلام. فكأنه قيل: فما جوزي على شكره؟ قيل: قال له ربه إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً أي قدوة لمن بعدك.
والإمام اسم لمن يؤتم به. ولم يبعث بعده نبيّ إلا كان مأمورا باتباع ملته، وكان من ذريته. كما قال تعالى وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ [العنكبوت: 27] قالَ أي إبراهيم: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي واجعل من ذريتي أئمة قالَ لا يَنالُ أي قد أجبتك وعاهدتك بأن أحسن إلى ذريتك. لكن لا ينال عَهْدِي أي الذي عهدته إليك بالإمامة الظَّالِمِينَ أي منهم. لأنهم نفوا أنفسهم عنك في أبوة الدين. ففي قوله لا يَنالُ
…
إلخ إجابة خفية لدعوته عليه السلام. وعدة إجمالية منه تعالى بتشريف بعض ذريته بنيل عهد الإمامة. كما قال تعالى: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ [العنكبوت: 27] وفي ذلك أتم ترغيب في التخلق بوفائه، لا سيما للذين دعوا قبلها إلى الوفاء بالعهد. وإشارة إلى أنهم إن شكروا أبقى رفعتهم كما أدام رفعته، وإن ظلموا لم تنلهم دعوته، فضربت عليهم الذلة وما معها، ولا يجزى أحد عنهم شيئا ولا هم ينصرون. وقرئ (الظالمون) على أن عَهْدِي مفعول مقدم اهتماما ورعاية للفواصل.
وقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الظالم ليس بأهل للإمامة. والكشاف أوسع المقال، في ذلك، هنا، وأبدع في إيراد الشواهد. كما أن الشيعة استدلت بها على صحة قولهم في وجوب العصمة في الأئمة، ظاهرا وباطنا. على ما نقله الرازيّ عنهم وحاورهم.