الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمروة لأسباب متعددة فنزلت في الكلّ. والله أعلم.
وجواب عائشة، رضي الله عنها، لعروة هو من دقيق علمها وفهمها الثاقب وكبير معرفتها بدقائق الألفاظ. لأنّ الآية الكريمة إنما دلّ لفظها على رفع الجناح عمّن يطوف بهما، وليس فيه دلالة على عدم وجوب السعي ولا على وجوبه. وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ، أي: من فعل خيرا فإنّ الله يشكره عليه ويثيبه به. ومعنى (تطوّع) أتى بما في طوعه أو بالطاعة، وإطلاقه على ما لا يجب عرف فقهيّ لا لغويّ.
و (الشكر) من الله تعالى المجازاة والثناء الجميل.
قال الراغب: الشكر، كما يكون بالقول، يكون بالفعل، وعلى ذلك قوله تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً [سبأ: 13] قال: وليس شكر الرفيع للوضيع إلّا الإفضال عليه وقبول حمد منه.
تنبيهات:
الأول: تمسّك بعضهم بقوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً على أنّ السعي سنّة، وأن من تركه لا شيء عليه. فإن كان مأخذه منها: إنّ التطوع التبرّع بما لا يلزم فقد قدّمنا أنه عرف فقهيّ لا لغويّ، فلا حجّة فيه. وإن كان نفي الجناح، فقد علمت المراد منه.
وممن ذهب إلى أنه سنّة، لا يجبر بتركه شيء، أنس فيما نقله ابن المنذر وعطاء. نقله ابن حجر في (الفتح) .
وقال الرازيّ: روي عن ابن الزبير ومجاهد وعطاء، أنّ من تركه فلا شيء عليه.
وأما
حديث «1» : اسعوا فإنّ الله كتب عليكم السعي رواه أحمد وغيره
، ففي إسناده عبد الله بن المؤمل، وفيه ضعف.
ومن ثمّ قال ابن المنذر: إن ثبت فهو حجّة في الوجوب. ذكره الحافظ ابن حجر في (الفتح) .
الثاني: صحّ
أنّه «2» صلى الله عليه وسلم طاف بين الصفا والمروة سبعا، رواه الشيخان وغيرهما
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند، جزء سادس صفحة 421. ونصه: عن حبيبة بنت أبي تجزئة قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة، والناس بين يديه. وهو وراءهم وهو يسعى. حتى أرى ركبتيه من شدة السعي، يدور به إزاره، وهو يقول «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» .
(2)
أخرجه البخاريّ في: الصلاة، باب قول الله، واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. ونصه: عن عمرو
عن ابن عمر.
وأخرج مسلم وغيره «1» من حديث أبي هريرة: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلى البيت ورفع يديه، فجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو.
وأخرج أيضا «2» من حديث جابر: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا دنا من الصفا قرأ: إنّ الصفا والمروة من شعائر الله. أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحّد الله وكبّره قال: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلّا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثمّ دعا بين ذلك، فقال مثل هذا ثلاث مرات، ثمّ نزل إلى المروة حتى إذا نصبت قدماه في بطن الوادي، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا
. وظاهر هذا أنه كان ماشيا.
وقد روى مسلم «3» في صحيحه عن أبي الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: طاف النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت، وبين الصفا والمروة، ليراه الناس، وليشرف وليسألوه، فإن الناس غشوه.
ولم يطف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلّا طوافا واحدا.
قال ابن حزم: لا تعارض بينهما، لأن الراكب إذا انصبّ به بعيره فقد انصبّ كلّه وانصبّت قدماه أيضا مع سائر جسده.
وعندي- في الجمع بينهما- وجه آخر أحسن من هذا وهو: أنه سعى ماشيا أوّلا، ثمّ أتمّ سعيه راكبا، وقد جاء ذلك مصرّحا به.
ففي صحيح مسلم «4» عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس: أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا، أسنّة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنّة! قال: صدقوا وكذبوا
…
! - قال- قلت: ما قولك صدقوا وكذبوا..؟ قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر
ابن دينار قال: سألنا ابن عمر عن رجل طاف بالبيت العمرة، ولم يطف بين الصفا والمروة، أيأتي امرأته؟ فقال: قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة. وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.
وأخرجه مسلم في: الحج، حديث 189
. (1) أخرجه مسلم في: الجهاد والسير، حديث 84.
(2)
أخرجه مسلم في: الحج، حديث 147.
(3)
أخرجه مسلم في: الحج، حديث 255.
(4)
أخرجه مسلم في: الحج، حديث 237 وهو الشطر الثاني من الحديث.
عليه الناس. يقولون: هذا محمد..! حتى خرج عليه العواتق من البيوت- قال- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه- فلمّا كثر عليه ركب. والمشي والسعي أفضل.
وفي الصحيحين «1» عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت وبين الصفا والمروة ليري المشركين قوّته
…
!
وعن كريب مولى ابن عباس: أنّ ابن عباس قال «2» : ليس السعي ببطن الوادي بين الصفا والمروة بسنّة، إنما كان أهل الجاهلية يسعونها ويقولون: لا نجيز البطحاء إلّا شدّا..! رواه البخاري تعليقا، ووصله أبو نعيم في مستخرجه. قال شرّاح الصحيح: المراد بالسعي المنفيّ هو شدّة المشي والعدو. فهو، رضي الله عنه، لم ينف سنية السعي المجرد، بل مجاوزة الوادي بقوّة وعدو شديد، إذ أصل السعي هديه صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
الثالث: في البخاريّ «3» عن ابن عباس في قصّة هاجر أم إسماعيل: إنّ الطواف بينهما مأخوذ من طوافها وتردادها في طلب الماء. ولفظه: وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوّى (أو قال، يتلبط) فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرّات.
قال ابن عباس: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: فذلك سعي الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا
…
الحديث.
قال ابن كثير: لما ترددت هاجر في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة، تطلب الغوث من الله تعالى متذللة، خائفة، مضطرة، فقيرة إلى الله عز وجل، كشف تعالى كربتها، وآنس غربتها، وفرج شدّتها، وأنبع لها زمزم التي طعامها طعام طعم،
(1) أخرجه البخاريّ في: المغازي، 43- باب عمرة القضاء، حديث 862. [.....]
(2)
أخرجه البخاريّ في: مناقب الأنصار، 27- باب القسامة في الجاهلية، حديث 1804.
(3)
أخرجه البخاريّ في: الأنبياء، 9- باب يزفون. النسلان في المشي حديث 1183.