الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذا ثبت هذا، فجميع ما تقدم جار على أن لكل موطن ما يناسبه إنزال القرآن، إجراؤه على البشارة والنذارة. وهو مقصوده الأصليّ، لأنّه أنزل لأحد الطرفين دون الآخر وهو المطلوب. وبالله التوفيق.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
ومن هنا يتصور للعباد أن يكونوا دائرين بين الخوف والرجاء. لأن حقيقة الإيمان دائرة بينهما. وقد دل على ذلك الكتاب العزيز على الخصوص. فقال: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إلى قوله: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ [المؤمنون: 57- 60] . وقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ [البقرة: 218] .
وقال: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ [الإسراء: 57] . وهذا على الجملة. فإن غلب عليه طرف الانحلال والمخالفة، فجانب الخوف عليه أقرب. وإن غلب عليه طرف التشديد والاحتياط فجانب الرجاء إليه أقرب. وبهذا كان عليه السلام يؤدب أصحابه.
ولما غلب على قوم جانب الخوف قيل لهم: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ
…
[الزمر: 53] الآية. وغلب على قوم جانب الإهمال في بعض الأمور فخوّفوا وعوقبوا. كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ
…
[الأحزاب: 57] الآية.
فإذا ثبت هذا من ترتيب القرآن ومعاني آياته، فعلى المكلف العمل على وفق ذلك التأديب.
فصل في أن الأحكام في التنزيل أكثرها كلية ولذا احتيج في الاستنباط منه إلى السنة
قال الشاطبيّ: تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلّي لا جزئيّ. وحيث جاء جزئيّا فمأخذه على الكلية، إما بالاعتبار أو بمعنى الأصل إلا ما خصه الدليل.
مثل خصائص النبي صلى الله عليه وسلم. ويدل على هذا المعنى، بعد الاستقراء المعتبر، أنه محتاج
إلى كثير من البيان. فإن السنة، على كثرتها وكثرة مسائلها، إنما هي بيان للكتاب.
كما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى. وقد قال الله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] .
وفي الحديث: «ما من الأنبياء نبيّ إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ. فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» «1» .
وإنما الذي أعطي القرآن، وأما السنة فبيان له. وإذا كان كذلك فالقرآن على اختصاره جامع. ولا يكون جامعا إلا والمجموع فيه أمور كليات. لأن الشريعة تمت بتمام نزوله لقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] الآية. وأنت تعلم أن الصلاة والزكاة والجهاد وأشباه ذلك لم يتبين جميع أحكامها في القرآن.
وإنما بينتها السنة. وكذلك العاديات من الأنكحة والعقود والقصاص والحدود وغيرها. وأيضا فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال، وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات ومكمل كل واحد منها. وهذا كله ظاهر أيضا. فالخارج من الأدلة عن الكتاب هو السنة والإجماع والقياس. وجميع ذلك إنما نشأ عن القرآن.
وقد عد الناس قوله تعالى: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النساء: 105] ، متضمنا للقياس.
وقوله: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر: 7] ، متضمنا للسنة.
وقوله: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 115] ، متضمنا للإجماع.
وهذا أهم ما يكون. وفي الصحيح عن ابن مسعود قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات «2» إلخ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ
(1) أخرجه البخاري في فضائل القرآن، باب كيف نزول الوحي، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
أخرجه البخاري في التفسير، سورة الحشر، باب وما آتاكم الرسول فخذوه: عن عبد الله قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيّرات خلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد. يقال لها أم يعقوب. فجاءت فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت. فقال:
وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هو في كتاب الله؟ فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول. قال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه. أما قرأت: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا؟ قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه. قالت: فإني أرى أهلك يفعلونه. قال: فاذهبي فانظري. فذهبت فنظرت فلم تر من حاجتها شيئا. فقال: لو كانت كذلك ما جامعتنا.
[.....]