الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المؤمن «1» مثل الزرع لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء» .
وقال عليه الصلاة والسلام (مثل المؤمن «2» كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح، تصرعها مرة وتعدلها مرة حتى تهيج)
فحال الشدة والبلوى مقبلة بالعبد إلى الله عز وجل. وحال العافية والنعماء صارفة للعبد عن الله تعالى وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس: 12] ، فلأجل ذلك تقللوا في المآكل والمشارب والمناكح والمجالس والمراكب وغير ذلك. ليكونوا على حالة توجب لهم الرجوع إلى الله تعالى عز وجل والإقبال عليه.
السابعة عشرة: الرضا الموجب لرضوان الله تعالى. فإن المصائب تنزل بالبرّ والفاجر. فمن سخطها فله السخط وخسران الدنيا والآخرة، ومن رضيها فله الرضا.
ولرضا أفضل من الجنة وما فيها. لقوله تعالى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72] ، أي من جنات عدن ومساكنها الطيبة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 158]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما، الصَّفا وَالْمَرْوَةَ: علمان لجبلين بمكة. ومعنى كونهما من شعائر الله: من أعلام مناسكه ومتعبّداته.
قال الرازيّ: كل شيء جعل علما من أعلام طاعة الله، فهو من شعائر الله. قال الله تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [الحج: 36]، أي: علامة للقربة.
وقال ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ [الحج: 32] ، وشعائر الحج معالم نسكه. ومنه المشعر الحرام. ومنه إشعار السنام- وهو أن يعلم بالمدية- فيكون ذلك علما على إحرام صاحبها، وعلى أنه قد جعله هديا لبيت الله. و (الشعائر) جمع شعيرة وهي
(1)
أخرجه الترمذيّ في: الأدب، 79- باب ما جاء في مثل المؤمن القارئ للقرآن، وغير القارئ: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمن كمثل الزرع، لا تزال الرياح تفيئه، ولا يزال المؤمن يصيبه بلاء. ومثل المنافق مثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد
. (2)
أخرجه البخاريّ في: التوحيد، 31- باب في المشيئة والإرادة. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مثل المؤمن كمثل خامة الزرع، يفيء ورقه من حيث أتتها الريح تكفئها. فإذا سكنت اعتدلت. وكذلك المؤمن يكفّأ بالبلاء. ومثل الكافر كمثل الأرزة. صمّاء معتدلة، حتى يقصمها الله، إذا شاء.
العلامة، مأخوذ من الإشعار الذي هو الإعلام، ومنه قولك: شعرت بكذا أي علمت انتهى.
و (الحجّ) في اللغة: القصد. و (الاعتمار) : الزيارة. غلبا في الشريعة على قصد البيت وزيارته، على الوجهين المعروفين في النسك. و (الجناح) بالضم: الإثم والتضييق والمؤاخذة. وأصل (الطواف) : المشي حول الشيء. والمراد: السعي بينهما.
وقد روي في سبب نزول الآية عدّة روايات:
ولفظ البخاريّ عن عروة قال «1» : سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها:
أرأيت قول الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما فو الله! ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة! قالت: بئسما قلت يا ابن أختي! إنّ هذه لو كانت كما أوّلتها عليه، كانت: لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار. كانوا قبل أن يسلموا يهلّون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المشلّل. فكان من أهلّ يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة. فلمّا أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ قالوا: يا رسول الله! إنّا كنّا نتحرّج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ
…
الآية.
قالت عائشة رضي الله عنها: وقد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما. فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما.
ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن فقال: إنّ هذا لعلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أنّ الناس- إلّا من ذكرت عائشة ممن كان يهلّ بمناة- كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن، قالوا: يا رسول الله! كنا نطوف بالصفا والمروة.
وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا. فهل علينا من حرج أن نطّوّف بالصفا والمروة؟ فأنزل الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ
…
الآية.
قال أبو بكر: فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما: في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا بالجاهلية بالصفا والمروة، والذي يطوفون ثمّ تحرّجوا أن يطوفوا
(1) أخرجه البخاريّ بنصه في: كتاب الحج، باب حدثنا أبو اليمان.
بهما في الإسلام. من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا، حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت.
وفي رواية معمر عن الزهريّ: إنا كنّا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة، أخرجه البخاريّ تعليقا، ووصله أحمد وغيره.
وأخرج مسلم «1» في رواية يونس عن الزهري عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا، هم وغسّان، يهلّون لمناة. فتحرّجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة، وكان ذلك سنّة في آبائهم: من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة. وإنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك حين أسلموا. فأنزل الله عز وجل في ذلك: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ.
وروي الفاكهيّ عن الزهريّ: أن عمرو بن لحيّ نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديد. فكانت الأزد وغسان يحجونها ويعظمونها، إذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات وفرغوا من منى أتوا مناة فأهلّوا لها. فمن أهلّ لها لم يطف بين الصفا والمروة.
قال: وكانت مناة للأوس والخزرج والأزد من غسان ومن دان دينهم من أهل يثرب.
وروى النسائيّ بإسناد قويّ عن زيد بن حارثة «2» قال: كان على الصفا والمروة صنمان من نحاس يقال لهما «إساف ونائلة» كان المشركون إذا طافوا تمسّحوا بهما
…
الحديث.
وروى الطبراني وابن أبي حاتم في التفسير بإسناد حسن من حديث ابن عباس قال: قالت الأنصار: إن السعي بين الصفا والمروة من أمر الجاهلية. فأنزل الله عز وجل إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ
…
الآية.
وروى الفاكهيّ وإسماعيل القاضي في «الأحكام» بإسناد صحيح عن الشعبيّ قال: كان صنم بالصفا يدعى «إساف» ، ووثن بالمروة يدعى «نائلة» ، فكان أهل الجاهلية يسعون بينهما. فلما جاء الإسلام رمى بهما وقالوا: إنما كان ذلك يصنعه أهل الجاهلية من أجل أوثانهم، فأمسكوا عن السعي بينهما، قال: فأنزل الله تعالى:
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ
…
الآية.
وقد استفيد من مجموع هذه الروايات أنه تحرّج طوائف من السعي بين الصفا
(1) أخرجه مسلم بنصه في: الحج، حديث 263.
(2)
أخرجه ابن ماجة في الطهارة.